على علي الاسواري، قال: كان ليحيى بن خالد مجلس في داره يحضره المتكلمون من كل فرقة وملة يوم الأحد، فيتناظرون في أديانهم ويحتج بعضهم على بعض، فبلغ ذلك الرشيد، فقال ليحيى بن خالد: يا عباسي ما هذا المجلس الذي بلغني في منزلك يحضره المتكلمون؟ فقال: يا أمير المؤمنين! ما شئ مما رفعني به أمير المؤمنين وبلغ من الكرامة والرفعة أحسن موقعا عندي من هذا المجلس، فإنه يحضره كل قوم مع اختلاف مذاهبهم، فيحتج بعضهم على بعض، ويعرف المحق منهم، ويتبين لنا فساد كل مذهب من مذاهبهم.
قال له الرشيد: فأنا أحب أن أحضر هذا المجلس وأسمع كلامهم من غير أن يعلموا بحضوري فيحتشمون ولا يظهرون مذاهبهم، قال: ذلك إلى أمير المؤمنين متى شاء. قال: فضع يدك على رأسي ولا تعلمهم بحضوري، ففعل.
وبلغ الخبر المعتزلة فتشاوروا فيما بينهم وعزموا أن لا يكلموا هشاما إلا في الإمامة لعلمهم بمذهب الرشيد وإنكاره على من قال بالإمامة.
قال: فحضروا وحضر هشام وحضر عبد الله بن يزيد الإباضي - وكان من أصدق الناس لهشام بن الحكم وكان يشاركه في التجارة - فلما دخل هشام سلم على عبد الله بن يزيد من بينهم، فقال: يحيى بن خالد لعبد الله ابن يزيد: يا عبد الله! كلم هشاما فيما اختلفتم فيه من الإمامة، فقال هشام:
أيها الوزير! ليس لهم علينا جواب ولا مسألة، هؤلاء قوم كانوا مجتمعين معنا على إمامة رجل، ثم فارقونا بلا علم ولا معرفة، فلا حين كانوا معنا عرفوا الحق ولا حين فارقونا علموا على ما فارقونا! فليس لهم علينا مسألة ولا جواب.
فقال بيان - وكان من الحرورية -: أنا أسألك يا هشام! أخبرني عن أصحاب علي يوم حكموا الحكمين: أكانوا مؤمنين، أم كافرين؟
قال هشام: كانوا على ثلاثة أصناف: صنف مؤمنون، وصنف مشركون، وصنف ضلال. فأما المؤمنون: فمن قال مثل قولي، الذين قالوا: إن عليا إمام من عند الله ومعاوية لا يصلح لها، فآمنوا بما قال الله عز وجل في علي وأقروا به. وأما المشركون: فقوم قالوا: علي إمام ومعاوية يصلح لها فأشركوا إذ أدخلوا معاوية مع علي. وأما الضلال: فقوم خرجوا على الحمية والعصبية للقبائل والعشائر لم يعرفوا شيئا من هذا وهم جهال.
قال: وأصحاب معاوية من كانوا؟ قال: كانوا ثلاثة أصناف: صنف كافرون، وصنف مشركون، وصنف ضلال. فأما الكافرون: فالذين قالوا:
إن معاوية إمام وعلي لا يصلح لها، فكفروا من جهتين: أن جحدوا إماما من الله، ونصبوا إماما ليس من الله. وأما المشركون: فقوم قالوا: معاوية إمام وعلي يصلح لها، فأشركوا معاوية مع علي عليه السلام. وأما الضلال فعلى سبيل أولئك خرجوا للحمية والعصبية للقبائل والعشائر.
فانقطع بيان عند ذلك.
فقال ضرار: فأنا أسألك يا هشام! في هذا، فقال هشام: أخطأت، قال:
ولم؟ قال: لأنكم مجتمعون على دفع إمامة صاحبي وقد سألني هذا عن مسألة وليس لكم أن تثنوا بالمسألة علي حتى أسألك يا ضرار عن مذهب في هذا الباب، قال ضرار: فسل.
قال: أتقول: إن الله عدل لا يجور؟ قال: نعم هو عدل لا يجور تبارك وتعالى، قال: فلو كلف الله المقعد المشي إلى المساجد والجهاد في سبيل الله وكلف الأعمى قراءة المصاحف والكتب أتراه كان عادلا أم جائرا؟ قال ضرار: ما كان الله ليفعل ذلك، قال هشام: قد علمنا أن الله لا يفعل ذلك، ولكن على سبيل الجدل والخصومة إن لو فعل ذلك أليس كان في فعله جائرا؟ وكلفه تكليفا لا يكون له السبيل إلى إقامته وأدائه؟ قال: لو فعل ذلك لكان جائرا.
قال: فأخبرني عن الله عز وجل كلف العباد دينا واحدا لا اختلاف فيه لا يقبل منهم إلا أن يأتوا به كما كلفهم؟ قال: بلى، قال: فجعل لهم دليلا على وجود ذلك الدين، أو كلفهم ما لا دليل على وجوده فيكون بمنزلة من كلف الأعمى قراءة الكتب والمقعد المشي إلى المساجد والجهاد؟
قال: فسكت ضرار ساعة، ثم قال: لا بد من دليل وليس بصاحبك، قال: فضحك هشام! وقال: تشيع شطرك وصرت إلى الحق ضرورة!
ولا خلاف بيني وبينك إلا في التسمية.
قال ضرار: فإني أرجع إليك في هذا القول: قال: هات! قال ضرار:
كيف تعقد الإمامة؟ قال هشام: كما عقد الله النبوة، قال: فإذا هو نبي؟!
قال هشام: لا لأن النبوة يعقدها أهل السماء والإمامة يعقدها أهل الأرض فعقد النبوة بالملائكة وعقد الإمامة بالنبي والعقدان جميعا بإذن الله عز وجل.
قال: فما الدليل على ذلك؟ قال هشام: الاضطرار في هذا، قال ضرار:
وكيف ذلك؟ قال هشام: لا يخلو الكلام في هذا من أحد ثلاثة وجوه: إما أن يكون الله عز وجل رفع التكليف عن الخلق بعد الرسول صلى الله عليه وآله فلم يكلفهم ولم يأمرهم ولم ينههم وصاروا بمنزلة السباع والبهائم التي لا تكليف عليها، أفتقول هذا يا ضرار: إن التكليف عن الناس مرفوع بعد رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: لا أقول هذا، قال هشام: فالوجه الثاني ينبغي أن يكون الناس المكلفون قد استحالوا بعد الرسول علماء في مثل حد الرسول في العلم حتى لا يحتاج أحد إلى أحد فيكونوا كلهم قد استغنوا بأنفسهم وأصابوا الحق الذي لا اختلاف فيه، أفتقول هذا: إن الناس قد استحالوا علماء حتى صاروا في مثل حد الرسول في العلم حتى لا يحتاج أحد إلى أحد مستغنين بأنفسهم عن غيرهم في إصابة الحق؟ قال: لا أقول هذا ولكنهم يحتاجون إلى غيرهم.
قال: فبقي الوجه الثالث، لأنه لا بد لهم من علم يقيمه الرسول لهم، لا يسهو ولا يغلط ولا يحيف، معصوم من الذنوب، مبرأ من الخطايا، يحتاج إليه ولا يحتاج إلى أحد، قال: فما الدليل عليه؟ قال هشام: ثمان دلالات: أربع في نعت نسبه، وأربع في نعت نفسه.
فأما الأربع التي في نعت نسبه: بأن يكون معروف الجنس، معروف القبيلة، معروف البيت، وأن يكون من صاحب الملة والدعوة إليه إشارة، فلم ير جنس من هذا الخلق أشهر من جنس العرب الذين منهم صاحب الملة والدعوة الذي ينادى باسمه في كل يوم خمس مرات على الصوامع:
أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فتصل دعوته إلى كل بر وفاجر وعالم وجاهل ومقر ومنكر في شرق الأرض وغربها، ولو جاز أن يكون الحجة من الله على هذا الخلق في غير هذا الجنس لأتى على الطالب المرتاد دهر من عصره لا يجده، ولو جاز أن يطلبه في أجناس هذا الخلق من العجم وغيرهم لكان من حيث أراد الله أن يكون صلاحا يكون فسادا، ولا يجوز هذا في حكم الله تبارك وتعالى وعدله أن يفرض على الناس فريضة لا توجد.
فلما لم يجز ذلك لم يجز إلا أن يكون إلا في هذا الجنس لا تضاله بصاحب الملة والدعوة، ولم يجز أن يكون من هذا الجنس إلا في هذه القبيلة لقرب نسبها من صاحب الملة، وهي قريش، ولما لم يجز أن يكون من هذا الجنس إلا في هذه القبيلة لم يجز أن يكون من هذه القبيلة إلا في هذا البيت لقرب نسبه من صاحب الملة والدعوة، ولما كثر أهل هذا البيت وتشاجروا في الإمامة لعلوها وشرفها ادعاها كل واحد منهم، فلم يجز إلا أن يكون من صاحب الملة والدعوة إليه إشارة بعينه واسمه ونسبه لئلا يطمع فيها غيره.
وأما الأربع التي في نعت نفسه: أن يكون أعلم الناس كلهم بفرائض الله وسننه وأحكامه حتى لا يخفى عليه منها دقيق ولا جليل، وأن يكون معصوما من الذنوب كلها، وأن يكون أشجع الناس، وأن يكون أسخى الناس، قال: من أين قلت: إنه أعلم الناس؟ قال: لأنه إن لم يكن عالما بجميع حدود الله وأحكامه وشرائعه وسننه لم يؤمن عليه أن يقلب الحدود، فمن وجب عليه القطع حده ومن وجب عليه الحد قطعه، فلا يقيم لله حدا على ما أمر به، فيكون من حيث أراد الله صلاحا يقع فسادا.
قال: فمن أين قلت: إنه معصوم من الذنوب؟ قال: لأنه إن لم يكن </span>
معصوما من الذنوب دخل في الخطأ فلا يؤمن أن يكتم على نفسه ويكتم على حميمه وقريبه، ولا يحتج الله عز وجل بمثل هذا على خلقه.
قال: فمن أين قلت: إنه أشجع الناس؟ قال: لأنه فئة للمسلمين الذين يرجعون إليه في الحروب وقال الله عز وجل: " ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله " فإن لم يكن شجاعا فر، فيبوء بغضب من الله، فلا يجوز أن يكون من يبوء بغضب من الله حجة لله على خلقه.
قال: فمن أين قلت: إنه أسخى الناس؟ قال: لأنه خازن المسلمين، فإن لم يكن سخيا تاقت نفسه إلى أموالهم فأخذها، فكان خائنا، ولا يجوز أن يحتج الله على خلقه بخائن.
فقال عند ذلك ضرار: فمن هذا بهذه الصفة في هذا الوقت؟ فقال:
صاحب العصر أمير المؤمنين! وكان هارون الرشيد قد سمع الكلام كله فقال عند ذلك: أعطانا والله من جراب النورة! ويحك يا جعفر - وكان جعفر ابن يحيى جالسا معه في الستر - من يعني بهذا؟ قال: يا أمير المؤمنين يعني موسى ابن جعفر، قال: ما عنى بها غير أهلها، ثم عض على شفته وقال: مثل هذا حي ويبقى لي ملكي ساعة واحدة؟ فوالله للسان هذا أبلغ في قلوب الناس ما مائة ألف سيف!
وعلم يحيى أن هشاما قد أتى فدخل الستر، فقال: ويحك يا عباسي! من هذا الرجل؟ فقال: يا أمير المؤمنين تكفى تكفى!
ثم خرج إلى هشام، فغمزه فعلم هشام أنه قد أتي، فقام يريهم أنه يبول أو يقضي حاجة، فلبس نعليه وانسل ومر ببنيه وأمرهم بالتواري، وهرب، ومر من فوره نحو الكوفة ونزل على بشير النبال - وكان من حملة الحديث من أصحاب أبي عبد الله عليه السلام فأخبره الخبر، ثم اعتل علة شديدة، فقال له </span>
بشير: آتيك بطبيب؟ قال: لا أنا ميت.
فلما حضره الموت قال لبشير: إذا فرغت من جهازي فاحملني في جوف الليل وضعني بالكناسة واكتب رقعة وقل: هذا هشام بن الحكم الذي طلبه أمير المؤمنين مات حتف أنفه! وكان هارون قد بعث إلى إخوانه وأصحابه، فأخذ الخلق به، فلما أصبح أهل الكوفة رأوه! وحضر القاضي وصاحب المعونة والعامل والمعدلون بالكوفة، وكتب إلى الرشيد بذلك، فقال: الحمد لله الذي كفانا أمره فخلى عمن كان أخذ به .
البحار: ج 48 ص 197 - 203 عن إكمال الدين
</span></span>