هذه سلسلة من دروس عقائدية تهم كل شاب وشابة على شكل حوار
وبأسلوب مبسط يتمكن خلالها القارئ العزيز فهم وإدراك عقائده وآمل من المشرفين القائمين على هذا القسم بتثبيتها نظرا لما أرى فيها من الفائدة للإخوة الأعضاء وأبدأ كل يوم إذا وفقني الله تعالى بذكر حوارية في عقائدنا .
الدرس الأول
حوارية التقليد
قال أبي ـ وهو يبدأ حوارية التقليد ـ :
دعني أشرح لك أولاً معنى التقليد.
التقليد: أن ترجع إلى عالم مجتهد لتطبيق فتواه، فتفعل ما انتهى رأيه إلى فعله، وتترك ما انتهى رأيه إلى تركه، من دون إعادة نظر وتمحيص، فكأنك وضعت عملك في رقبته (كالقلادة) محملاً إياه مسؤولية عملك أمام الله.
ـ ولماذا نقلّد ..؟
ـ عرفت في ما مضى أن الشارع المقدس قد أمرك، ونهاك.. أمرك بواجبات يتحتم عليك أن تؤديها، ونهاك عن محرمات يتحتم عليك أن تمتنع عنها، ولكن بماذا أمرك وعن ماذا نهاك. بعض ما أمرك به تستطيع ـ ربما ـ من خلال ما ربّتك عليه بيئتك الملتزمة أن تشخصه، وبعض ما نهاك عنه تستطيع ـ ربما ـ من خلال تنشئتك المحافظة أن تميزه. والكثير الكثير ما بين هذه وتلك من الواجبات والمحرمات، ستبقى مجهولة لك غائبة أو غائمة.
أضاف أبي:
ـ أنت تعرف أن الشريعة الإسلامية قد ألمّت بجميع جوانب حياتك المختلفة، فوضعت لكل واقعة منها حكماً. فكيف ستعرف حكمك الشرعي وأنت تمارس نشاطاتك الحياتية المختلفة. كيف ستعرف أن هذا الفعل يحله الشارع المقدس فتباشره، وأن هذا العمل يحرمه الشارع المقدس فتنأى عنه وتجانبه. تُرى هل يمكنك أن ترجع في كل صغيرة وكبيرة إلى الأدلة الشرعية لتستخرج منها حكمك الشرعي؟
ـ ولم لا؟
ـ لقد بعدت الشقة يا بني بين عصرك وعصر التشريع، وقد أضفى هذا البعد مع ضياع كثير من النصوص الشرعية، وتغير لغة وأساليب وأنماط التعبير، مع وجود الوضّاعين الذين اختلقوا أحاديث كثيرة وسرّبوها مع أحاديثنا الصحيحة صعوبات ومعوقات عسرت عملية استخراج الحكم الشرعي.
ثم أضافت مشكلة وثاقة ناقلي الروايات لذلك عقدة أخرى في طريق الساعين لذلك. ثم لنفترض أنك استطعت أن تتحقق بشكل ما من وثاقة رواة النص، وصدقهم، ودقتهم في ما ينقلون، وضبطهم؛ وأنك استطعت أن تختزل الزمن لتضبط نبض إيقاع المفردات في دلالتها على معانيها، فهل ستستطيع أن تهضم علماً عميقاً، واسعاً، متشعباً يحتاج إلى مقدمات طويلة، وسبر أغوار عميقة؟! لتحصل منه بعد ذلك أو لا تحصل على ما أنت بصدد معرفته، والبحث عنه واستبيانه.
ـ وكيف العمل إذاً ؟
ـ ترجع إلى المتخصصين في هذا العلم، فتأخذ أحكامك منهم.. (تقلدهم). ليس هذا في مجال علم الفقه فقط، بل في كل علم. لقد أنتجت الحضارة الحديثة مبدأ التخصص في العلوم، فقد غدا لكل علم رجاله ومتخصصوه يُرجع إليهم كلما طرأت حاجة ما لشأن من شؤون ذلك العلم.
واستطرد أبي قائلاً:
لنأخذ مثلاً لذلك من علم الطب.. فلو مرضت ـ عافاك الله ـ فماذا ستفعل؟
ـ أراجع الطبيب، وأعرض عليه حالتي المرضية ليشخّص وليصف لي الدواء المناسب.
ـ ولماذا لا تشخّص أنت بنفسك مرضك وتصف الدواء؟
ـ لست طبيباً .
ـ كذلك الحال في علم الفقه أنت محتاج إلى مراجعة الفقيه المتخصص لمعرفة أمر الله ونهيه، أو لعرض مشكلتك الشرعية عليه، كاحتياجك إلى مراجعة الطبيب المختص، لمعرفة أمر طبي ما، أو لعرض حالتك المرضية.
فكما أنك محتاج إلى (تقليد) الطبيب في مجال اختصاصه، أنت محتاج إلى (تقليد) الفقيه المجتهد في مجال اختصاصه.
وكما أنك ستبحث عن طبيب فاضل، عالم في مجال اختصاصه ولا سيما إذا كان مرضك خطيراً؛ فأنت ملزم بالبحث عن مجتهد عالم في مجال اختصاصه (لتقلّده) وتأخذ منه حكمك الشرعي، كلما استدعتك الظروف المعيشة لاستيضاح حكم شرعي ما فيها.
ـ وكيف أعرف أن هذا الرجل مجتهد؟ أو أنه أعلم المجتهدين وأفضلهم؟
قال أبي مجيباً:
دعني أسألك.. كيف تعرف أن هذا الطبيب فاضل أو أنه أفضل الأطباء في مجال اختصاصه، لتراجعه، وتسلمه جسدك يفعل به ما يراه مناسباً لعلاجه.
قلت:
أعرف ذلك من سؤال المهتمين بشؤون الطب، العارفين به، ممن لهم علم، ومعرفة، ودراية، و(خبرة)، وتجربة فيه؛ أو أعرفه لشهرته بين الناس و(شيوع) وانتشار، وذيوع اسمه في هذا الحقل العلمي.
ـ بالضبط.. وكذلك تعرف المجتهد، أو المجتهد الأعلم.
تسأل رجلاً ملتزماً ثقة صالحاً لأداء مثل هذه الأمانة.. تتوفر فيه المعرفة بآراء العلماء و (الخبرة) على تمييز المستوى العلمي للأشخاص في مجال الاختصاص.
أو أن (يشيع) ويشتهر ويذيع بين الناس: اجتهاد شخص، أو أعلميته في الاجتهاد، بحيث تجعلك تلك الشهرة الواسعة وذلك الذيوع والانتشار، و(الشيوع) متأكداً من اجتهاده، أو أعلميته في الاجتهاد.
ـ وهل هناك شروط أخرى في من يجب علينا تقليده، بعد أن نصل إلى سن البلوغ عدا شرط الاجتهاد؟
ـ أن يكون مقلدك: [رجلاً، طاهر المولد]، عاقلاً، مؤمناً، على درجة عالية من التقوى والعدالة يتحصّن بها عن الوقوع في أية معصية، ولو وقعت منه نادراً لأسرع إلى التوبة والإنابة إلى الله.
ـ ها أنذا قد بلغت مبلغ الرجال، وقد عرفت منك شيئاً عن التقليد، فماذا يجب علي أن أفعل الآن؟
ـ تقلّد أعلم المجتهدين، وتلتزم بما يفتي به في عباداتك المختلفة.. في أحكام وضوئك ـ مثلاً ـ وغسلك، وتيممك، وصلاتك، وصومك، وحجّك، وخمسك، وزكاتك، وغيرها، كما تقلدّه في معاملاتك .. في أحكام بيعك ـ مثلاً ـ وشرائك، وحوالتك، وزواجك، وزراعتك، وإجارتك، ورهنك، ووصيتك، وهبتك، ووقفك...
ورحت اُعدد مع أبي:
وأمرك بالمعروف، ونهيك عن المنكر، وإيمانك بالله، وأنبيائه ورسله و..
ـ لا .. الإيمان بالله وتوحيده، ونبوة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله)، وإمامة الأئمة الإثني عشر (عليهم السلام)، والمعاد.. هذه أمور لا يجوز التقليد فيها، فهي من أصول الدين، ولا يجوز التقليد في أصول الدين. بل يجب أن يعتقد كل مسلم بها اعتقاداً جازماً لا شك فيه، ولا شبهة ولا ضبابية ولا التواء واصلاً إلى إيمان قاطع بالله، باحثاً عنه بجهودك، مسخراً ما منحه الله من طاقات فكرية فيه منتهياً من خلال ذلك كله إلى قناعة تامة راسخة لا تتزعزع به.
ـ طيب ألا يحق لي أن أقلد مجتهداً مع وجود مجتهد أعلم منه في مجال اختصاصه؟
ـ لا يمكنك ذلك [إذا توقعت وجود الاختلاف بين فتاوى مقلدك وفتاوى المجتهد الأعلم في مسائلك التي تحتاجها لتعمل بها].
ـ أستطيع حين أراجع الطبيب أن أعرف رأيه في حالتي الصحية لو استدعت صحتي مراجعته، فكيف أستطيع أن أعرف فتوى مقلَّدي في مسائلي الشرعية؟ كيف أصل إلى فتاواه لأطبّقها؟ هل أراجعه في كل مسألة؟
ـ تستطيع معرفة فتاواه .. بسؤاله مباشرة عنها، أو بسؤال من تثق بنقله ومعرفته وأمانته في نقل تلك الفتاوى، أو مراجعة كتبه الفقهية كرسالته العملية الممضاة من قبله.
ـ أو بسؤالك أنت.
ابتسم أبي بوقار رزين، واعتدل في جلسته بينما راحت عيناه تومئ بوميض موعد جلسة قادمة في حوارية النجاسة .