بين يديكم "رصيف الزعتر" في فصول...وهذه قصة منقولة للأمانة
فليست من كتاباتي الخاصة ...
"شجار على رصيف الزعتر"
شمس شتاء كانون الأول تداعب الأبدان المرتعشة من خلال نافذة صغيرة سمحت بها الغيوم ، البحث عن أشعة الشمس يكوم الطالبات على رصيف الزعتر ، الأكياس البلاستيكية و بقايا الشطائر و علب العصير الكرتونية ترسم لوحة عبثية على أرض الساحة المقابلة للرصيف ، و بعض الطالبات تنشدن الدفء في الحركة النملية بين العلب و الأكياس ، بينما تقف سلال القمامة المبطنة بالأكياس السوداء خاوية البطن ، تستجدي كرم الطالبات فلا يجيبها إلا لمما غاضبة على الأرض ، هذه الزمرة الغاضبة ترفض أن تفلت بقاياها لتلتقفها الأرض ، ففي اعتقادهن أن رمي الفضلات على الأرض يعكس صورة سيئة عن أخلاقهن و يزيد من تعب عاملتي النظافة المسكينتين ، إذ لا تكاد آخر طالبة تدخل إلى الفناء الداخلي إلا و خرجتا يجمعان المخلفات و يحولان تلك الرسمة الطفولية إلى صفحة من البلاط الذي غيرت لونه الشمس...
كانت "هدى علي" ذات قوام رشيق و بشرة فاتحة و خدين مشربين بالحمرة ، يقسم صفحة وجهها الطولي أنفٌ طويل ، يبدأ من عينين حوراويتين واسعتين و ينتهي بفم لا بالقصير و لا بالطويل و يكمل لوحة وجهها قد رقيق ، كان وجهها ينم عن فتاة لم تخضع لخيط التنظيف قط ، يتكاثف الشعر فوق فمها ، و تتحدر من رأسها ظفيرة سوداء طويلة لتلامس ظهرها المستند إلى الحائط العجوزالذي يغالب نفسه ليقاوم جميع عوامل التعرية ، بين تفاوت حرارة الصيف و الشتاء و بين الأمطار الموسمية التي تسقط في شهرين فتكون كالمعاول التي تعمل على مدار العام و أقلام العابثات منذ افتتاح المدرسة و مع تعاقب الأجيال ، لم يتعرض هذا الحائط إلى أي إعادة بناء منذ إنشاء المدرسة عام 1391 هـ ، لكنه خضع لاجتهادات و عمليات تجميل كثيرة من إدارة المدرسة ، وكان العامل الوحيد الذي يكلف دائما بسد الثقوب في الجدارهو حارس المدرسة "أبو هلال" حيث يصنع خليطه الإسمنتي و يلطخ به الجدار و لا يمر شهر إلا و قد تشقق و تعرض مرة أخرى لعملية سد المسامات ، تراقب "هدى" التكوم البشري على الرصيف و هي تفرك يديها الواحدة بالأخرى ، تنقل بصرها من حلقة إلى أخرى ، تلاحظ المعاطف التي تميز الطالبات عن بعضهن البعض ، فواحدة ترتدي معطفا خفيفا من الجينز و تخفي كفيها في مخابئه الجانبية ، و أخرى تلبس سترة قطنية بيضاء ، و ثالثة تقاوم البرد بضم اليدين تارة و بث الحرارة من الفم إلى الكف تارة أخرى...
شرد فكر "هدى" و هي تراقب الغيم المتكتل بكثافة في السماء ، تسلل فكرها إلى المنزل ليراجع دوامة الصراخ و الجو المشحون الذي خلقه أخاها الأصغر "حسين"...
ضربتها "أمل جاسم" على كتفها فانتفضت كأنها تزيل الثلج عن جسدها ، هتفت مرتعبة:
- ما بكِ أخفتيني...ضحكت "أمل" و هي تقول:
- لو نظرتِ لنفسك في المرآة!... كأنك تناقشين شيئا ما... كان وجهك يتلون و تقطبين جبينك و ترخينه...
سكن روع "هدى" ، سألت:
- منذ متى و أنتِ هنا؟؟.. لم ألحظ وجودك...
- منذ أن أفلتِ من يدك علبة العصير...
تطلعت "هدى" ليدها وفغرت فاهها..
- متى سقط من يدي...
- تقريبا.. منذ خمس دقائق.. ألم أقل لك أنك كنت تناقشين أمرا ما... هيا أخبريني؟؟؟ ماذا يشغل فكرك؟؟
حركت "هدى" رأسها كمن يطرد فكرة ما و قالت:
- لا شيء... لاشيء على الإطلاق...
أصرت "أمل" على أن تبوح لها "هدى" بما ينغص عيشها ويكدر صفوها:
- من يشرد ذهنه هكذا... لابد أن به شيئا ما... هل نقصتِ درجة و لست مقتنعة؟؟؟
- لا...
- إذاً... تعرضتِ لموقف ما أحرجكِ؟؟
- لا...
- ثمة أمر في المنزل؟؟
- ها؟؟ لا... ليس أمرا مهما...
- أمكِ من جديد؟؟
- نعم.. أمي..
- لابد أنك نسيتِ غسل الصحون...
- لا.. الأمر لا يخصني...
- إذاً.. يخص من؟؟
- يخص "حسين"... المراهق..
- ماذا فعل؟؟
- يريد سيارة... تخيلي... "حسن" في الجامعة لا يملك سيارة... و "حسين" يريد سيارة... إنه يهددنا بترك الدراسة...
- ألم يكن عاقلا...
- كان فعل ماض...إنه يتصرف بأنانية ، لا يراعي ظروف أبي و عمله...
- و ماذا فعلت أمك؟؟
- قلبت المنزل إلى صفيح من نار ، لم نسلم من صراخها ، ولم تدع جانباً إلا و طرقته ، وعندما عاد أبي أخبرته فأخرج الخيزران و ضرب "حسين"...
- آها..
- تلوى جسمه تحت وطأة العصا ، لم يتوقف عن ضربه إلا وقد تمزق ظهره و تلون جسده...
- مسكين... في هذا الشتاء؟؟؟
- أخشى أن يفر من المنزل و لا يعود...
- لن يفر بإذن الله...
كان نظر "أمل" يتنقل في زوايا الساحة المدرسية ، إذ ثبتت نظرها على امتداد المساحة التي تفصلها عن ركن البيتزا و هتفت...
- انظري من القادم...
نظرت "هدى" إلى حيث تشير "أمل" ، وضعت يدها على قلبها ، قالت:
- ماذا تريد قليلة الحياء هذه؟؟
- سترك يا أرحم الراحمين...
- أرى حركاتها هذه الأيام في ازدياد...
كانت فتاة رشيقة بيضاء ، ذات وجه دائري و خدين تبرز فيهما غمازتان ، و عينين عسليتين متوسطتي الحجم ، بشرة صافية ، حاجبين مرسومين بدقة ، و شعر أسود مائلٍ للبني متموج يصل إلى أذنها، تشق طريقها نحو "هدى" و "أمل" ، تحمل في كفها عصير الفواكه الطبيعية المشكلة ، و يتبعها على بعد خطوات مجموعة من الفتيات ترتسم على وجوههن ابتسامات شامتة ، كانت "عبير سمير" الملقبة بين الطالبات بالزعيم ، وقد وصلت إلى "هدى" و انحنت لتضع العصير على الأرض ، ثم بحثت في مخابئ معطفها برهة و أخرجت علبة سجائر و قداحة ، وضعت سيجارة في فم "هدى" و هتفت و هي تقدح اللهب...
- هل تريد أن أشعلها لك يا حاج؟؟؟
حولت "هدى" السيجارة إلى حطام ثم ركلت علبة العصير الذي وضعته "عبير" و انقضت على شعر "عبير" كأنها أسد غاضب ، فالتحمت معها "عبير" في معركة ضارية ، و تجمهرت الفتيات حولهما بينما علا الصفير من صديقات "عبير" و ارتفع الصراخ و أصوات التشجيع من كل حدب و صوب إلى أن تدخلت "أمل" و أوقفت المعركة على وقع صافرة انتهاء الفسحة المدرسية ، فهتفت "عبير" و هي تحاول استعادة أنفاسها ممسكة شعرها بكلتا يديها...
- سترين... يا فلاحة (1) ...
أمسكت "أمل" كف "هدى" و انسلت بها من بين الجمع فتفرقت الفتيات على صوت المعلمة المناوبة أبلة "سعاد" ، و لم يبق في الساحة إلا "عبير" و صديقاتها فلفتن نظر المعلمة التي أمسكت بـ "عبير"...
- مالذي فعل بك هذا؟؟
- هه؟؟ .. كنت أمزح مع صديقتي و تبعثر شعري فقط...
- متأكدة؟؟؟
- إذا لم تصدقي... اسألي البنات..
- إذن... رتبي مظهرك و أسرعي إلى الفصل... الحصة الرابعة بدأت..
- إن شاء الله معلمة...
كانت "هدى" منذ طفولتها هادئة الطبع في المدرسة ، تتحاشى الصدام مع الأخريات ، تجلس في المقاعد الأولى في بحث دائم عن التفوق الدراسي ، وقد نمت في شبه عزلة عن الطالبات تقريبا ، فالطالبة المتفوقة الصامتة عادة ما تكون محط حسد أترابها و غيرتهن و حنقهن ، لاسيما أنها تستأثر بورقتها لنفسها و لا تلتفت لتوسل من تكون خلفها في الاختبارات ، فلم تستحوذ على إعجاب أي زميلة من زميلاتها ، و لم تلتحق بأي جماعة من الجماعات المختلفة ، كانت تثير منافساتها بإجاباتها النموذجية ، فكن يحدثنها و يلاطفنها و يتقربن منها ثم يكدن لها المكائد و يثرن حولها الشائعات من ورائها ، و قد انتشرت عنها في المرحلة المتوسطة أكذوبة التجسس ، و تأكدت الأكذوبة عندما شاهدنها بعض الطالبات تخرج من غرفة المدرسات بعد أن سلمت دفترها الرياضيات إلى المعلمة ، و قد صادف أن استدعت الإدارة سرب من المشاغبات إحداهن "عبير" ، و منذ ذلك اليوم أعلنت "عبير" عداوتها لـ "هدى"...
كانت "أمل" السمراء المكتنزة ذات الشعر الأسود الفحمي الناعم ، و الوجه الدائري و العينين الضيقتين و الأنف المعتدل و الفم الصغير هي الوحيدة التي تنظر لـ"هدى" بعين الشفقة ، تشعر أنها تتعرض لظلم لا تستحقه ، و قد راقبتها كثيرا و هي تتجرع المضايقات من الطالبات ، ثم تجرأت و أعلنت دفاعها عن "هدى" و استماتت في إقناع بعض الطالبات بخطأ اعتقادهن ، و تصدت لأخريات بلسان لاذع حتى تضاءلت المضايقات و اقتصرت على "عبير" و صديقاتها فقط بعد أن اكتشف الجميع الجاسوسة الحقيقية و هي تدخل الإدارة ليتم استدعاء الطالبات من جديد ، و تكونت صداقة "هدى" و "أمل" منذ اللحظة ذاتها التي دافعت فيها "أمل" عن "هدى" ، إذ أصبحت "هدى" تركض لتحتمي بـ "أمل" متى أحست بأن مضايقات ستعترض طريقها ، و لم تعد "أمل" مجرد محامية بل أصبحت الصديقة التي تختزن عندها أسرارها و تفتح لها قلبها و تبثها أحلامها و آلامها ، و مع مرور الأيام وجدت "هدى" نفسها تتحدث مع "أمل" في الهاتف ساعات مطولة ، وتقضي معها بعض ليالي الجمعة ، فتعمقت علاقتهما مع نموهما كما نمت مضايقة "عبير" لـ "هدى" التي تبدل سببها إلى تسلية فقط ، كان من سوء طالع "هدى" أنها التحقت بالثانوية نفسها التي التحقت بها "عبير" ، و الأسوأ أن حظها فرق بينها و بين "أمل" في المرحلتين الأولى و الثانية مما يضطرها لقضاء وقت من الفسحة في انتظار و ترقب إلى أن تلتقي بـ "أمل"...
_____________
1) نسبة لمن يعمل بالفلاحة ولم يكن تعبير دقيق من عبير
ترتدي المدرسة الثانوية الأولى ثوبها الأصفر الباهت لتخبر من يمر شرقها على طريق الإمام علي عليه السلام متجها جنوبا و مخلفا وراءه قرية البحاري بأنها أقدم مدرسة ثانوية بنيت في القطيف ، تربض في تلك البقعة النخيلية الزائلة كأنها كلب حراسة بليد يغفو أمام البوابة الشمالية لبيوتات حي الوسادة ، و تجاورها التربة المثكولة على امتداد سورها الشمالي و الغربي ، و رغم أن سورها الغربي هو الوحيد الذي لم يسمح بفتح باب خلاله إلا أن الجهة الجنوبية فقط تشرع بوابتها لاستقبال الطالبات في الصباح و توديعهن عند الظهر ، يقع ركن البيتزا في الزاوية الشمالية الغربية حيث يتوارى ذلك الجزء عن الأنظار قليلا و لكي تنتقل الطالبة من ركن البيتزا إلى رصيف الزعتر عند الجدار الشرقي من سور المدرسة عليها أن تمشي بامتداد المبنى الدراسي عرضيا ثم تتجشم قطع ساحة الطابور الصباحي متخطية جميع الحصون البشرية المتفرقة على أرض تلك الساحة ، و هذا ما أعاق حركة "عبير" و أفشل خطتها المباغتة ، فوقفت بعد ردة فعل "هدى" و مقاومتها غير المسبوقة منصدمة من تجرؤ "هدى" و هجومها..
وقع الاشتباك على بعد خطوات من منزل حارس المدرسة في طرف رصيف الزعتر الجنوبي ، وعندما سحبت "أمل" "هدى" من ساحة المعركة ظلت "عبير" تتحسس آلامها وسط حلقة من المتجمهرات بينما توقفت "هدى" خارجها لتسترد أنفاسها و تصلح من هندامها ثم أمسكت "أمل" يدها و ضغطت عليها بحنان و سارتا مشية الهوينة إلى البوابة الكبيرة للمبنى المطلة على الشرق و بين اللحظة و اللحظة تتلفت "هدى" إلى الخلف ثم تواصل المسير و قد زال عنها الخوف بعد أن اجتازتا غرف الأعمال اليدوية و ارتقتا السلم المجاور لغرفة المديرة لتصلا للطابق الأول حيث فصول القسم العلمي من الصف الثاني الثانوي ، و أمام فصل ثاني ثاني وقفتا لتلقيا نظرة على الطالبات المندفعات إلى صحن المبنى مع انتهاء فترة الفسحة المدرسية ، ثم ودعت "هدى" "أمل" و دخلت الفصل...
كانت "هدى" أول من دخل الفصل المؤلف من اثنتين و أربعين طالبة توزعن على سبعة صفوف طولية إذ يلتصق صفان بالجدار الأيمن و صفان بالجدار الأيسر و تلتحم ثلاثة صفوف في وسط الفصل ، لتستقر في مقرها الواقع في أول الصف الثالث من الجهة اليمنى ، ولم تنته من التجهيز لدرس الحصة الرابعة و إخراج كتاب مادة الأحياء إلا و قد تدفقت الطالبات إلى الفصل و لم تمر بها طالبة إلا و ألقت عليها نظرة أسى أو كلمة مواساة ، كانت طبيعة "هدى" الصامتة تمنع زميلاتها من كسر الحواجز النفسية التي بنيت مع الأيام بينها و بينهن ، إذ لم تكن علاقتها معهن أكثر من زمالة عابرة يسودها في كثير من الأحيان صمت طويل يزداد كلما اتسع قطر الدائرة الذي يحيطها ، كانت تجلس إلى يسارها فتاة سمراء ذات ملامح جذابة و سجية هادئة اسمها "زهراء محمد" و قد مرّ عليهما قرابة شهر و هما متجاورتين و لم تتحدثا مع بعضهما إلا بالتحية المقتضبة ، أما في الجانب الآخر لـ "زهراء" فتجلس "زهراء محمد" أخرى لكنها فاتحة البشرة مكتنزة اللحم خفيفة الظل ، لم تر مقطبة قط ، بل أن شعارها الذي لا تفتأ ترديده "دع الأيام تفعل ما تشاء" ، فهي رغم ذكائها و حماسها في مادتي الرياضيات و الفيزياء إلا أنها نادرا ما أحضرت الواجب لبقية المواد ، أما على يمين "هدى" فتتجاور "زينب علي" و "سكينة حسن" و تربطهما علاقة نسب قريبة جدا مما جعلهما منغلقتين إلى حد ما على بعضهما و متشابهتين كثيرا بجسمهما النحيل المقارب للمرض و فكيهما البارز ، أما خلف "هدى" فتجلس عريفة الفصل "فاطمة حسين" و مساعدتها "عقيلة سعيد" و صديقتهما "مريم حسن" و هؤلاء الثلاث دائما ما يحكمن سيطرتهن على طالبات الفصل ، فإن رضين عن طالبة فهي في عيشة راضية و إن سخطن عليها فأمها هاوية ، و هن جزء من مجموعة طالبات مبعثرة في الفصول يلبسن ثوبا رصاصيا (1) موحد التصميم و أحذية موحدة الشكل و اللون و يتفقن على تسريحة شعر موحدة كل يوم ...
كانت السبورة الإيضاحية تحتل الجزء الأكبر من الحائط الأمامي ، أما الجدار الأيسر فيقسمه مكيفان إلى ثلاثة أقسام ، يغطي الجزء الخلفي لوحات لمواد مختلفة ، و تملأ أربع نوافذ مظللة الجزء الأوسط ، بينما يبقى الجزء الأمامي يغطيه غبار الأقلام الجيرية (2) ، و يقف الباب الحديدي الأصفر الذي تتوسطه زجاجة شفافة في مقدمة الحائط الأيمن ثم تمتد اللوحات لتغطيه بالكامل و في الجدار الخلفي ثبتت ساعة عقارب دائرية طالما ثار جدلٌ بين الطالبات و المعلمات لنقلها إلى الأمام فوق السبورة إلا أن المعلمات يرفضن بشدة خوفا من تشتت ذهن الطالبات...
كلما حاولت "هدى" طرد مخاوفها عادت لتتسلل إليها من جديد ، وقد جاهدت لتستمع لشرح معلمة الأحياء دون طائل ، و بينما هي في محاولاتها الفاشلة إذ لمحت "عبير" من خلال النافذة الزجاجية في الباب تمشي في الدهليز المؤدي إلى فصلها فاستعاذت بالله من شرها و ركزت نظرها على السبورة...
في بقعة على وجه الأرض تحتضن القطيف حيّا من أحيائها الحائرة بين الحداثة و القدم اسمه الوسادة ، و قد وهبته موقعا حنونا كما تهب الأم أصغر أبنائها ، فعلى الجانب الشرقي من هذا الحي يمتد شارع الإمام علي الذي يبدأ من سوق القطيف المركزية في مياس(1) ليمر بالمدارس و المدني و باب الشمال ليفصل بين البستان و الوسادة و يكمل مشواره ليجاور البحاري و القديح ثم يخترق العوامية و يقف عند الحدود الشمالية لصفوى ، وقد قدر لهذا الطريق أن يكون تجاريا زراعيا سكنيا في أغلب مسيرته و صناعيا في الجزء المحادي للبحاري و بعض القسم المخترق لصفوى ، و رغم أن هذا الطريق يخدم شريحة كبيرة من السكان إلا أنه يرفض التوسع إلا عندما تفتح له صفوى قلبها ، أما على الجانب الغربي لحي الوسادة فيختال طريق الملك "" المشجر الواسع الذي يبدأ مسيره من القديح و البحاري ليحد الوسادة ثم يفصل التوبي عن سوق الخميس و يكمل مسيره نحو الدمام مارّا بسيهات ، ولهذين الطريقين أثرهما في جعل حي الوسادة استراتيجيا ، إذ لا تفصل القاطنين لهذا الحي عن مياس أو سوق الخميس إلا مسافة قصيرة يستطيع من يمشي الهوينة أن يقطعها في بضع دقائق ، و تربض - كما أسلفنا – المدرسة الثانوية الأولى للبنات بالقطيف شمال الحي و تحرسه في الجنوب مدرسة القطيف الثانوية للبنين ، و لأن هذه البقعة من القطيف تحب العلم و التعليم فقد وهبت ثلاث قطع من جسدها لإقامة مدارس ، فبالإضافة لشمالها و جنوبها تحتل مساحة كبيرة في مركز الحي المدرسة الابتدائية الثانية للبنات بالقطيف ، و عندما تطل المدرسة الأولى للبنات على أرض خالية شمالا فإن شارعين يصلان شارع الإمام علي بطريق الملك "" أحدهما يحدها من الجنوب مارّا بمدرسة القطيف الثانوية و الآخر يشق الوسادة من المنتصف مارّا بالمدرسة الابتدائية و من هذا الطريق تتفرع أزقة صغيرة يقود الزقاق الثاني المتجه جنوبا منها إلى بيت يفترش الأرض النخيلية وحيدا لا يسند ظهره لأي منزل ، و لا تفصله عن مدرسة القطيف الثانوية سوى خطوات جنوبية ، و عن مدرسة البنات الابتدائية غير خطوات غربية ، كان هذا المنزل (2) يضم بين جنباته أسرة "أبي حسن" .
لم يحط بالمنزل منذ بنائه أي سور أو سياج بل كان ينفتح الباب الرئيس المفتوح على الشرق على دهليز ضيق يشق طريقه بين بركة صغيرة تحت السلم و جدار المجلس إلى صالة الجلوس و المطبخ ، إذ يطل باب الصالة على أول درجة للسلم إلى يمين الداخل في نهاية الدهليز ، أما المطبخ فيقع في نهاية الدهليز تماما ، بينما تقود الدرجة إلى غرفة نوم "أبي حسن" فقط .
و ينفتح من الصالة ثلاثة أبواب يتوسط الأول شمالها ليقود إلى غرفة "هدى" و ينزوي الثاني في ممر شمال شرق الصالة لينفتح على غرفة "حسن" و "حسين" أما الباب الثالث فكان على يسار الخارج من غرفة الصبيين شرق الصالة يؤدي إلى دورة المياه ، أما الجهة الغربية فتنفتح فيها نافذة صغيرة مسيجة بقضبان تحرزية ويبرز إلى يمين النافذة مكيف بغلاف بني ، يساند المكيف مروحة تنحدر من مركز السقف بثلاثة أطراف ، تقف مكتبة خشبية تحمل في بطنها تلفزيونا متوسط الحجم مخشب الإطار ، و جهاز فيديو أسود و تبرز من فتحاتها بعض التحف الفخارية...
**********
يتساقط المطر رذاذا يثير الغبار و يداعب هواجس الناس ، الرذاذ في القطيف لا يبشر بجذب أو رخاء ، هو فقط رذاذ أو قطرات مطر تسقط لتخيف الشيوخ و الأطفال ، الفقراء و المساكين و العاملين في الهواء الطلق ، تخيف الطلاب و الطالبات ، و تصنع الحوادث المرورية ، غول مخيف يداهم قلوب الكثيرين ، الغيوم وحدها تنذر بوابل و تخبر أن هذا الرذاذ ماهو إلا رسول ، بدأت الطالبات بالانتشار خارج سور المدرسة الثانوية ، من لاذت بركوب الباص تراقب الأخريات ، و الماشيات يجدن في السير ، و انهمر السيل السماوي ، قرع المطر يثير الرعب في نفوس مستقلات الباص ، و يشل تفكير من تبللت عباءاتهن و سد طريقهن ، أطلت "هدى" و"أمل" من بوابة المبنى الداخلية ، كان المطر يضرب أرض الساحة الخالية أمامهما و يرتد إلى الهواء ثم يسقط مرة أخرى ، انضمتا إلى من حبسهن المطر عن الخروج ، كان السرب الذي يشاهد المطر تحت حماية المبنى يأمل أن يقف المطر أو يخفف من وطأته ، كلما تسرب الوقت تسربت الطالبات يأسا من هدوء المطر ، هتفت "أمل":- أرى أن المطر لن يتوقف... أنا ذاهبة..
- لا.. لا أستطيع... سأنتظر حتى يهدأ
- مع السلامة
- مع السلامة
و تسرب اليأس إلى صدر "هدى" ، لم يبق في السرب أكثر من عشر طالبات ، هيأت نفسها لخوض مغامرة المشي تحت المطر و فوق الطين ، حملت حقيبتها على كتفها ، أخفت طرفا تحت الآخر و أمسكت بالطرف الخارج بقوة ، خطت خطوتها الأولى بحذر ، رفعت رجلها الأخرى بآلية بطيئة ، ثم ركضت على قمم أصابعها إلى باب السور الخارجي ، و اندفعت مسارعة خطواتها ، لتشق عباب الطين شقا...
الأزقة الوعرة تزداد وعورة عندما يهطل المطر ، الإسفلت المهترئ يستسلم لوطأة القطرات الغاضبة كما يستسلم الزجاج للجماهير الغاضبة ، سلكت "هدى" طرقا ملتوية قادتها إلى طرقا ملتوية ، و المطر يهاجمها أينما يممت وجهها ، وقفت أمام الباب في شلل تام ، البركة التي أحاطت بالباب تعيقها عن الولوج ، سارع المطر هطوله فأصبح "العدو من أمامكم و البحر من ورائكم" ، قفزت ثلاث خطوات متباعدة ، تطاير الماء فلطّخ عباءتها بينما هي مندفعة إلى المنزل ، كانت "أم حسن" تقف في المطبخ تراقب القدر الخاضع للنار ، فأطلت من الباب و هي تهتف:
- انزعي حذاءك قبل أن تدخلي بكل...
توقفت الكلمات في فيها ، كانت "هدى" قد وصلت باندفاعها إلى نهاية الدهليز ، جمدت أمام نظرات أمها الحادة كالبركان الذي سيثور ، تشهدت و قرأت السورة الفاتحة، صرخت "أم حسن" في وجهها...
- ما هذا؟؟ انظري إلى حالك!... أ هذا منظر فتاة عاقلة؟؟ كأنك طفلة لعبت في الوحل ، ثم ما هذا؟؟ لماذا وصلتِ إلى هنا؟؟ لماذا لم تنزعي وحلك هذا من أقدامكِ؟ وسختي أرض الدهليز...
- توجد بركة على الباب ، و المطر يهطل بغزارة...
- و إن هطل المطر بغزارة تقفزين إلى المنزل كالمجنونة؟؟ ما هذا؟؟ لابد أنك عدتِ إلى طفولتكِ... كلا... في طفولتكِ لم تفعليها... ربما هي طفولة متأخرة... انظري... انظري إلى عباءتكِ... أ هذه عباءة فتاة في الثانوية؟؟؟ لقد تزوجت أبيكِ و أنا أصغر منك بسنين ، عندما كنت في عمرك كنت أربيكِ أنت و أخاك "حسن"... لماذا أنت واقفة؟.. انزعي عباءتك و اغسلي الأرض قبل أن..
و رفعت "أم حسن" يدها بكف مضمومة...
- ... أدخل النار بسببك...
كانت "هدى" تستمع إلى صراخ أمها ، وذهنها يحسب حساباته المختلفة ، ها هي أعمال إضافية قد سجلت نفسها في جدولها لهذا اليوم ، عباءتها التي تشجرت بالوحل يستحيل الذهاب بها إلى المدرسة قبل إخضاعها إلى عمليتي الغسيل و النشر ، أرض الدهليز الملطخ بما حمل حذائها ، أعمالها الإصلية التي تستغرق أغلب عصرها ، نزعت عباءتها و ألقتها في الحمام و لم تدخل غرفتها حتى عادة تحمل مريولها و رمته إلى جانب العباءة بوجه محمل بكل تعابير الغضب و الاعتراض ، حملت طشتها و أدوات التنظيف و خرجت إلى الدهليز ، لم تبدأ الغسل حتى صرخت "أم حسن" في وجهها...
- متى ستتقنين أعمالكِ... ضعي شيئا من سائل الغسيل...
دخلت "هدى" المطبخ لتجلب علبة الغسيل فأوقفتها "أم حسن"...
- الغذاء جاهز... إذا قدم أخويك ضعيه لهما... أنا سأذهب إلى جارتنا "أم عباس" ، سيأتيها ضيوف و أريد أن أساعدها...
- إن شاء الله...
عادت "هدى" تسكب و تشطب المزيج الذي ألفته من الغسيل و الماء ، كانت تدعو أن يتوقف المطر إلى الأبد ، خرجت "أم حسن" بعباءتها ، توقفت عند "هدى"...
- أريد أن أرى البيت نظيفا عندما أعود ، رتبي غرفة أخويك و غرفتك ، و إذا أتيا ضعي لهما الغذاء ، و لا تنسي أن تغسلي الملابس و الصحون ، و إذا أتى "حسين" راجعي معه دروسه..
- لن يقبل ذلك...
- إذا لم يراجع معك فالعصا بانتظاره...
- إن شاء الله...
- و حافظي على نظافة المنزل..
- إن شاء الله..
فتحت "أم حسن" باب المنزل فتوقفت أمام البركة التي تكونت من المطر ، كان المطر قد خفف وطأته و شارف على الوقوف ، فعادت لتكمل تعليماتها..
- ضعي قطعت سجاد إضافية أمام الباب قبل أن يأتي أخواكِ أو أبوك و يصنعان مثلما صنعتِ..
- إن شاء الله..
- و لا تنسي أن تحافظي على المنزل نظيفا...
- إن شاء الله..
و خرجت "أم حسن" و لم تكد تفعل ذلك فوقفت "هدى" و تنفست الصعداء ثم هتفت:
- آه... أخيرا خرجت...
انتهت "هدى" من غسيل الأرضية المتسخة و دخلت تبحث عن قطعة السجاد التي أوصت بها أمها ، وقفت حائرة أي قطعة سجاد قصدت والدتها؟ ترفع السجادة الزرقاء الطويلة فينتابها شك بأنها لا تناسب عرض الدهليز فتطرحها ، تهم بحمل الخضراء فتسمع داخلها من يناديها بأن هذه عزيزة على قلب أمك و لا يمكن أن تضحي بها ، أجالت بصرها تحاول أن تتذكر قطعة تناسب المكان و الزمان ، تشعر أن قلبها يتخطف لعجزها عن التصرف في هذا الموقف ، أجالت كفها على شعرها ، كان صوت أخيها "حسن" يناديها من أمام المطبخ:
- "هدى"... لقد اتسخت أرضية الدهليز..
هرولت إلى الدهليز ، عاد كما كان قبل تنظيفه و أكثر ، أمسكت رأسها بكفها الأيمن ، ووضعت يدها الأخرى على خاصرتها ، أمارات القهر الممزوج بالضعف تعلو وجهها ، نقلت بصرها بين أخيها و بين أرض الدهليز ، كان يضع كفه على رأسه كمن يبرر شيئا ما ، تمتم:
- لم أنتبه لكل تلك الأوساخ التي في حذائي...
نظرت إلى رجليه ، كان لا يزال ينتعل الحذاء المليء بالطين و الوحل ، سألته بسخرية غاضبة:
- نعم... سمعي اليوم يخذلني... ماذا قلت؟؟ ربما لم تنتبه أنها تمطر...
- صدقيني... لم أنتبه...
- لماذا لا تخلع نعليك و تصوم عن الحديث برهة...
خلفته يخلع نعليه و دخلت تجلب أدوات الغسيل من جديد...
تسكب محلول الغسيل و فكرها يشتعل غضبا على كل شيء ، المطر الذي أضاف لها مهام إضافية ، و القدر الذي وهبها أخوين مهملين و لم يرزقها أخت أخرى تساعدها ، ينتابها الشعور بالظلم لأنها فتاة ، ولأنها وحيدة ، و لأنها تبذل جهدا لتصلح ما يفسده الآخرون ، انفتح الباب الخارجي ليطل وجه "حسين" المترقب ، هتفت قبل أن يضع رجله اليمنى على الأرض:
- أين؟ أين؟...
تسمر مكانه ، و ضع يده على قلبه و هو يقول :
- بسم الله الرحمن الرحيم.. ما بك؟ هل غيروا المنزل؟
- لا.. لكن لم يجلب أبوك خادمة لتغسل الأرض التي تتسخ بحذائك..
- آها... هل أمي في المنزل؟
- لن أخبرك قبل أن تخلع حذائك...
خلع نعليه و هو يهتف:
- ها قد خلعته... أين أمي؟
- أمك.. ليست في المنزل..
- هذا رائع...
و اندفع إلى الداخل مشيعا بنظرات "هدى" ، و لم تكد تعود إلى الغسيل حتى مرّ إلى جانبها طيف "حسين" ، رفعت رأسها و إذا به قد وصل إلى الباب ، و لا جدوى من العدو خلفه ، صرخت:
- توقف..
استدار ليقابلها:
- ماذا هناك؟ أتريدين أن ألبس حذائي؟
- لا... أريدك أن تبقى في المنزل... لكي تسترجع دروسك...
- و هل أصبحتِ صاحبة أمري؟؟
- لا..
- مع السلامة
و قفت تندب حظها ، من سينجدها من غضب أمها؟ لم تكن خطيئتها لكن من سيقنع أمها ، تمسك بعصى الشاطفة حائرة في أمرها ، مشدودة الأعصاب ، لا تقوى على التفكير ، إذ أطل عليها "حسن" برأس لا تنقصه الابتسامة وهو يهتف:
- ما زلتِ تشطفين؟ سأموت من الجوع...
- الغذاء في القدر...
- لكن من يخرج الغذاء يشطف الأرض..
- لن أضع لك شيء... استخدم أناملك الرقيقة..
انتهت من الشطف و دخلت دورة المياه تفرز الثياب ، فأطل عليها "حسن" بملامح تحدٍ ، أظهر من خلفه فردة حذاء متسخة ، هو يهتف:
- متى ستضعين الغذاء؟
وقفت تنظر إليه برهة ، تتمنى أن تنقلب إلى لبوة فتنشب أظافرها في حلقه ، ضربت برجلها الأرض ، و خرجت إلى المطبخ و هي تدعو عليه بشتى المصائب ، وضعت له الغذاء فهتف بسخرية:
- شكرا لكِ يا آنسة...
- الله يحرق قلبك و يضعك في مصيبة لا تعرف لها حل..
أكمل سخريته :
- في أي المجموعات الرياضية؟
كانت خطوات في الدهليز تنبئها بأن ما تعبت في سبيله قد أفسد ببضع خطوات ، اندفعت إلى الدهليز ، وضعت كفها على رأسها ، قسمات وجهها تخبر عن قرب انهيار ، وقف والدها منشدها ، برهة من الصمت مزقها سؤال أبيها:
- ما بكِ؟
- لا شيء؟
- ما بكِ يا بنية؟
- لم أكد أنتهي من غسيل الدهليز..
نظر إلى الطين العالق في حذاءه ، عاد بصره إلى خطواته ، هتف:
- سامحيني يا بنيتي... لم أنتبه فالخبر الذي جئت به يهز الجبال...
- ماذا الخطب؟
- أين "حسن"؟
- لابد أنه يسمعك.. فهو في الصالون يتغذى..
أطل "حسن" بقسمات مرتعبة ، سأل"
- ما هو هذا الخبر؟
- غير ملابسك و البس البياض..
- لماذا؟
- صديقك "مصطفى"...
- ...
- توفي في حادث قبل قليل..
- ...
جرت دموع "هدى" الأنثوية ، أسندت رأسها إلى الحائط ، هتف "أبو حسن":
- إنا لله و إنا إليه راجعون... غير ملابسك و هيا بنا إلى المسجد ننتظر قدوم الجسد..
بعد خروج "حسن" مع أبيه ، كان إحساس داخل "هدى" يشعرها بالذنب ، لم تقصد أن يفقد "حسن" أحد أصدقائه ، ربما كانت غاضبة لكنها لم تقصد أن تقتل فتى في ريعان الشباب ، دخلت غرفتها و أغلقت الباب غارقة في بحر من الدموع