الكاتب: الشيخ نزار آل سنبل
ورد عندنا في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) مما يرتبط بوراثته للأنبياء ثلاثة تعبيرات:
التعبير الأول: أنه وارث الأنبياء (عليهم السلام)، ففي كتاب المزار: "السلام عليك يا وارث الأنبياء، السلام عليك يا وصي الأوصياء".
التعبير الثاني: أنه وارث علم الأنبياء، ففي بحار الأنوار للعلامة المجلسي: "يا وارث علم الأنبياء".
التعبير الثالث: تفصيل ما أجمل في وراثته للأنبياء، بمعنى ذكر أنبياء بأشخاصهم وأنه وارثهم، كما في زيارة وارث المعروفة، وكما في هذين النصين الآتيين: "السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله، السلام عليك يا وارث نوح نبي الله، السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله، السلام عليك يا وارث إسماعيل ذبيح الله، السلام عليك يا وارث موسى كليم الله، السلام عليك يا وارث عيسى روح الله".
وفي رواية التهذيب: "السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله، السلام عليك يا وارث نوح نبي الله، السلام عليك يا وراث ابراهيم خليل الله، السلام عليك يا وراث موسى كليم الله، السلام عليك يا وراث عيسى روح الله، السلام عليك يا وارث محمد حبيب الله، السلام عليك يا وارث وصي رسول الله، السلام عليك يا وارث الحسن الزكي، السلام عليك ايها الشهيد الصديق الاكبر".
والوراثة في التعبيرات الثلاثة مطلقة من حيث اللفظ، أي غير مقيدة بقيد وليست محددة بشيء معين، فتدل على أن وراثته (عليه السلام) للأنبياء مطلقة، فتشمل الأمور المادية والمعنوية.
ربما يُسأل: كيف يرث النبي إبراهيم (عليه السلام) مثلاً مادياً، والبعد الزمني بينهما طويل جداً، بحيث لا تبقى الأموال المادية عادة في طول هذا الفاصل الزمني الكبير.
فلنا حق الإجابة في القول: بأن هناك من الأمور المادية ما يبقى ويحتفظ به، بل تحيطه العناية الإلهية، لأنه ـ في نفس الوقت ـ من الأمور المهمة جداً، بل من الأمور المتصلة بالغيب، فيمكن القول بأنه وارث لقميص النبي إبراهيم (عليه السلام) الذي كان عليه يوم كانت النار برداً وسلاماً على إبراهيم، فإن في هذا القميص ميزة خاصة تميزه على سائر القمصان، فلا مانع من توارث هذا القميص بين أولاد النبي إبراهيم (عليه السلام) وأحفاده المصطفين، وهكذا الحال بالنسبة إلى عصى موسى، وقميص يوسف الذي ألقي على يعقوب فارتدّ بصيراً، فإن جميع ذلك أمور مادية، لكن لها شأنا عند الأنبياء والمرسلين بحيث يحتفظون بها.
نعود للبحث فنقول: إن مقتضى إطلاق الوراثة في ما تقدم أنه وارث لهم في كل ما يقبل الوراثة من الأمور المادية والمعنوية، فيرث ما عند آدم، وما عند نوح، وما عند إبراهيم الخليل، وما عند موسى بن عمران، وما عند عيسى بن مريم، وما عند خاتم الأنبياء، وفي كل وراثة من هذا التراث بحث وتفصيل، ولكن ما نريد التركيز عليه في هذا المقال المختصر وراثته للأنبياء في الجانب العلمي، فإن مقتضى إطلاق لفظ الوراثة ـ كما قلنا ـ تشمل الأمور المعنوية، ومن أهم تلك الأمور الجانب العلمي الذي به يرتقي الإنسان إلى أوج الكمال، لاسيما بالنسبة إلى العلوم الحقيقية الواقعية التي لا خطأ فيها، وهي العلوم المتصلة بالعالم المطلق وهو الله تعالى، وبالعلم يتفاضل بنو آدم. قال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ).
وقد بيّن الأئمة (عليهم السلام) وراثتهم العلمية للأنبياء بشكل واضح وصريح في روايات متعددة، فمنها على سبيل المثال:
1. ما رواه الصفار في بصائر الدرجات:
عن أبى بصير عن أبى جعفر (عليه السلام) قال: "سُئل علي (عليه السلام) عن علم النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال: علم النبي علم جميع النبيين، وعلم ما كان وعلم ما هو كائن إلى قيام الساعة"، ثم قال: "والذى نفسي بيده، إني لأعلم علم النبي (صلى الله عليه وآله) وعلم ما كان وما هو كائن فيما بيني وبين قيام الساعة".
والرواية وإن كانت تتحدث عن الإمام الباقر (عليه السلام)، إلا أن الإمام الحسين (عليه السلام) ـ الذي هو محل بحثنا الآن ـ مشمول لمضمون هذه الرواية، لأن علم الإمام الباقر (عليه السلام) بهذه العلوم من جهة كونه إماماً ووصياً للنبي (صلى الله عليه وآله)، وهذا الميزان يشمل الإمام الحسين (عليه السلام)، بل علم الإمام الباقر (عليه السلام) علم وراثي جاء له عن طريق أبيه عن الإمام الحسين (عليه السلام)، ويؤيد هذا الذي قلناه الرواية الأخرى التي لم تستثن أحداً من الأئمة (عليهم السلام) في هذا الجانب من العلوم الإلهية العظيمة.
2. ففي بصائر الدرجات: عن معاوية بن وهب قال: استأذنتُ على أبي عبد الله (عليه السلام) فأذن لي، فسمعته يقول في كلام له: "يا من خصنا بالوصية، وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقى، وجعل أفئدة من الناس تهوى إلينا، وجعلنا ورثة الأنبياء".
وفيه أيضاً:
3. عن عبد الرحمن بن أبي نجران قال: كتب أبو الحسن الرضا (عليه السلام) رسالة وأقرأنيها، قال: "قال علي بن الحسين (عليه السلام): إن محمداً (صلى الله عليه وآله) كان أمين الله في ارضه، فلما قُبض محمّد (صلى الله عليه وآله) كنا اهل البيت ورثته، ونحن اُمناء الله في ارضه، عندنا علم البلايا والمنايا وانساب العرب ومولد الاسلام، وانا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الايمان وحقيقة النفاق، وان شيعتنا لمكتوبون بأسمائهم واسماء آبائهم، اخذ الله علينا و عليهم الميثاق، يردون موردنا ويدخلون مدخلنا.
نحن النجباء، وافراطنا افراط الأنبياء، ونحن ابناء الاوصياء، ونحن المخصوصون في كتاب الله، ونحن اولى الناس بالله، ونحن اولى الناس بكتاب الله، ونحن أولى الناس بدين الله، ونحن الذين شرع لنا دينه، فقال في كتابه: (شرع لكم) يا آل محمد (من الدين ما وصى به نوحا)، وقد وصانا بما أوصى به نوحا (والذى اوحينا اليك) يا محمد (وما وصينا به ابراهيم واسماعيل وموسى وعيسى).
فقد علمنا وبلغنا ما علمنا واستودعنا علمهم، نحن ورثة الأنبياء ونحن ورثة أولي العزم من الرسل".
فمن هذا يتضح أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ورثة الأنبياء في علومهم، مع ما عليه الأنبياء من العلم والمعرفة التي لا تضاهى، بل بعض الرويات واستناداً إلى الآيات تكشف عن أمر أهم من هذا بكثير، وهو أن علومهم فاقت علوم الأنبياء (عليهم السلام)، وحسبنا ذكر رواية واحدة تدل على ذلك، وفيها من الاستدلال بالقرآن الكريم ما يلجم به المنكرين والمتعجبين:
ورد في بصائر الدرجات: عن عبد الله بن الوليد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): "ما يقول اصحابك في امير المؤمنين (عليه السلام) وعيسى وموسى انهم اعلم"؟
قال: قلتُ: ما يقدمون على اُولى العزم أحدا.
قال: "اما انك حاججتهم بكتاب الله لحججتهم".
قال: قلت: واين هذا في كتاب الله؟
قال: "إن الله قال في موسى: (وكتبنا له في الالواح من كل شئ موعظة) ولم يقل كل شئ، وقال في عيسى: (ولأبين لكم بعض الذى تختلفون)، ولم يقل كل شئ، وقال في صاحبكم (كفى بالله شهيدا بينى وبينكم ومن عنده علم الكتاب)".
وفي رواية أخرى يرويها الكافي ما تدل على مدى علوم أهل البيت (عليهم السلام) بحيث لا يقاس بهم أحد، ففيها: "إن الله يقول: (وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين)، ثم قال: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)، فنحن الذين اصطفانا الله (عزّ وجل) وأورثنا هذا الذي فيه تبيان كل شئ".
فعلومهم التي لا يمكن لمطلق الإنسان أن يعرفها تتصل بالله تعالى، وسعتها تتضح من جهتين:
الأولى: أن الله (سبحانه وتعالى) قال: (وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين).
الثانية: أن الله تعالى يقول: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء)، وهم الذين أورثوا الكتاب كما في قوله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا).
وقال تعالى أيضاً: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ).
فهم المصطفون الذين أورثوا الكتاب الذي فيه تبيان كل شيء، وصدورهم هي صدور من أوتوا العلم، فما هي سعة علم من كان بيده تبيان كل شيء؟!