|
عضو برونزي
|
رقم العضوية : 82198
|
الإنتساب : Aug 2015
|
المشاركات : 840
|
بمعدل : 0.25 يوميا
|
|
|
|
كاتب الموضوع :
صدى المهدي
المنتدى :
منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
بتاريخ : 10-08-2022 الساعة : 09:17 AM
المحور الثالث: إتمام أداء الرسالة
إنّ القضية الحسينية قضية ليست كأية قضية، والملحمة الحسينية فريدة لا واقعة تضاهيها، وشخصية الإمام الحسين(عليه السلام) ليست كبقيّة الشخصيات التاريخية الأُخرى، فقد مثّل الإمام الحسين(عليه السلام) جميع الأنبياء والمرسلين، حاملاً إرث رسالاتهم الإلهية إلى الإنسانية، فلا تقتصر معرفته على قومية معيّنة، وإنّ حديث الإمام وعمله وروحه وواقعه وكلّ شيء فيه، عبارة عن حركة وثورة معطاء تنبض حياة ودروساً وعبرة وتدفّقاً للقوّة[42]. فلم يُقتل الحسين من أجل حداد الأُمّة إلى أبد الآبدين، وإنّما قدّم نفسه وضحّى بروحه ليُحيي الأُمّة ويُجري في عروقها روح الحريّة والعزة.
إنّه خرج للإصلاح في أُمّة جدّه، ألم يقل: (إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي)؟ ألم يقل: (لكم بي أُسوة)، إنّه أُسوة في الإصلاح ومقارعة الظلم، وليس ذريعةً لالتزام الرثاء والبكاء فقط، وتهميش أهداف عاشوراء الحقيقية[43]. فالعلّة الأساسيّة لثورة عاشوراء هي تطهير أنواع الانحرافات التي كانت موجودة، وهذه الانحرافات لم توجد في المجتمع الإسلامي إلّا بواسطة أجهزة بني أُميّة، بدءاً بخلافة عثمان، ووصولاً إلى خلافة يزيد بن معاوية. وقد عبَّر الإمام الحسين(عليه السلام) في خطبته ببعض العبارات التي تدلّ على هذا الفهم، وذلك حين استخدم عبارة الإصلاح[44].
وقد علمت السيّدة زينب أنّ عليها إتمام ما بدء به الإمام الحسين وأهل بيته(عليهم السلام) من رسالة، والمتمثّلة بخدمة الدين والإصلاح ونصرة الحق والوقوف بوجه الظلم. وهنا ندرس دور السيّدة زينب(عليها السلام) بعد واقعة عاشوراء، وسبي النساء وحملهن من كربلاء إلى الكوفة، ومرورهن بأجساد الضحايا وهي مقطعة قطعاً، وجسد الإمام الحسين(عليه السلام) العاري، ثمّ دخولهم مجلس ابن زياد، وما حدث فيه، ثمّ دخولهم الشام، وكذلك دخولهم المدينة[45].
1ـ الدكتورة بنت الشاطئ
ترسم الدكتورة عائشة صورة للسيدة زينب(عليها السلام) بأنّها مثّلت رمزاً للشجاعة والإباء، لا يقلّ عن دور الإمام الحسين(عليه السلام)، فتجد السيّدة زينب(عليها السلام) على الرغم من وقع المعركة وفقدها الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه(عليهم السلام)، إلّا أنّها بدت قوية صابرة محتسبة راضية بقضاء الله، لم تظهر ضعفاً قط؛ إذ كرهت أن تلقى عدوّ الله وعدوّها منكسرة، وكان دفاعها عن الإمام الحسين(عليه السلام) دفاعاً يؤكّد صلابتها، سواء أكان في الكوفة أَم في الشام[46]، وعلى الرغم من أنّ بنت الشاطئ رسمت صورة أدبية، إلّا أنّها حاولت الاقتراب من الحقيقة التاريخية.
كما أشارت كذلك إلى دفاعها عن السيّدة فاطمة بنت الحسين(عليها السلام) في مجلس يزيد الملعون، وكذلك موقفها حين كشف يزيد رأسَ الإمام(عليه السلام)، قاصداً بهذا المنظر زعزعة السيّدة زينب(عليها السلام)، إلّا أنّها ازدادت قوةً وإيماناً، وبيّنت احتقارها لطغيانه، وفضحت ضعفه وهوانه، أمام الاستعراض الذي أُعدّ له، وأبكت جميع النساء دون أن تبكي، بل ردّت عليه بجوابها الذي أخرسه في خطبتها المعروفة[47].
وبعد وصول السيّدة زينب والإمام زين العابدين وأهل البيت(عليهم السلام) إلى المدينة مدينة جدّهم(صلى الله عليه واله) لم يُتركوا بسلام؛ لأنّ هذا الأمر أقلق بني أُمية أصحاب الجريمة، فقد كانت السيّدة زينب(عليها السلام) ومَن معها من أهل بيتها يقصّون على المؤمنين ما جرى على الإمام الحسين وأهل بيته(عليهم السلام) في الطف، والوحشية والقسوة التي عامل بها الظالمون أهل بيت رسول الله(صلى الله عليه واله). واعتبرت بنت الشاطئ أنّ هذا الأمر لم يرق ليزيد؛ لأنّ وجود السيّدة في المدينة كفيل أن يُلهب حماس القوم ويُؤلّب الرأي العام ضدّ بني أُمية وسياستهم التعسفيّة، وحسبما تَذْكُر: كاد الأمر يفسد على بني أُمية، فكتب واليهم في المدينة إلى يزيد: (إنّ وجودها بين أهل المدينة مهيّج للخواطر، وإنّها فصيحة عاقلة لبيبة، وقد عزمت هي ومَن معها الأخذ بثأر الحسين)[48]؛ فأمر يزيد أن يُفرّق البقيّة الباقية من آل البيت(عليهم السلام) في الأقطار والأمصار، وطلب من السيّدة زينب(عليها السلام) مغادرة المدينة[49].
وهنا تقع بنت الشاطئ في تناقض، فقد ذكرت أنّه بعد خروج السيّدة زينب(عليها السلام) من بلاد الشام، فإنّ يزيدَ دعا الإمام زين العابدين(عليه السلام)، فقال له مودّعاً بعد لعنه ابن زياد: (أَما والله، لو أنّي صاحب أبيك ما سألني خصلةً أبداً إلّا أعطيته إيّاها، وَلَدفعتُ الحتف عنه بكلّ ما استطعت، ولو بهلاك بعض ولدي)[50]، وسأله أن يكتب إليه إذا احتاج شيئاً[51].
ونجد هذا الكلام يُخالف ما تقدّم، فأفعال وتصرّفات يزيد (لعنة الله عليه) تعكس خلاف ذلك، ولو كان لديه أدنى قدر من الندم، لم يستكمل إجراءات تنكيله ومحاربته لآل الرسول(عليهم السلام)، ولبقايا أسرة الحسين المثقلة بالهموم والمثخنة بالجراح، ولم يكن يطلب من أهل بيت النبوة مغادرة مدينة رسول الله(صلى الله عليه و اله)، بل على العكس من ذلك نجده في كلّ موقف من مواقفه كانت قسوته وكفره يبرّران له أعماله خوفاً على مصالحه.
هذا، وقد توجّهت السيّدة زينب(عليها السلام) حسب ما ذكرته بنت الشاطئ إلى مصر، ووصلت إليها سنة (61هـ)، واحتشدت جموع من الناس لاستقبالها، وبقيت في مصر إلى أن توفيت في شهر رجب سنة (62هـ) ودُفنت هناك[52].
2ـ آمنة الصدر بنت الهدى
عدَّت بنت الهدى خطبة السيّدة زينب(عليها السلام) في الكوفة الشرارة الأُولى للأخذ بالثأر، والصرخة الموقظة لحركة التوّابين، واستمرّت السيّدة زينب(عليها السلام) تدعو لرسالة الإسلام على يقين وبصيرة، ولم تقعد بها الشدائد عن المضي قدماً في طريق الدعوة والهداية، وكانت امتداداً لنهضة الإمام الحسين وآل محمد(عليهم السلام). وترسم لنا بنت الهدى هذه الصورة للسيّدة زينب(عليها السلام)، وتعدّها قوةً وطاقةً يجب علينا الاقتباس من نورها؛ لنحتفظ بكياننا الاجتماعي الذي بنته لنا تحت راية الإسلام الشامخة[53]. فالسيّدة زينب خرجت من الطف وهي أرفع ما تكون روحاً، وأرسخ ما تكون عقيدةً وثباتاً[54].
وترى بنت الهدى أنّ السيّدة زينب(عليها السلام) قد اضطلعت بأروع مهمّة تاريخية، وهي تركيز نداء الحقّ الذي استُشهد لأجله آل البيت الميامين، فهي(عليها السلام) قد خرجت من المعركة بعد أن فقدت فيها أعزّ ما يُفقد شامخة كالطود، راسخة كالجبل الأشم، تخاطب يزيد، فتقول: (أظننت يا يزيد، حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء؛ فأصبحنا نُساق كما تُساق الأسارى، أنّ بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة؟! وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده؟! فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأُمور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، مهلا مهلا، أنسيت قول الله تعالى: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ)، أمِن العدل يابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهنّ، وأبديت وجوههنّ، تحدو بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهنّ أهل المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد، والدنيّ والشريف، ليس معهنّ من رجالهنّ ولي، ولا من حماتهنّ حمي، وكيف يُرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه بدماء الشهداء؟!)[55].
3ـ الشيخ مرتضى مطهّري
اختلفت قراءة مطهّري عن قراءة بنت الشاطئ وبنت الهدى؛ إذ ركّز على قضية أُخرى، اكتشف فيها أنّ أوّل مَن أقام العزاء على الإمام الحسين(عليه السلام) هي السيّدة زينب(عليها السلام)، في يوم الحادي عشر من المحرّم[56]، ولا بدّ من التنويه إلى أنّ أهمّ معطيات مجالس العزاء منذُ تأسيسها وحتّى وقتنا الحاضر، هو دورها السياسي، وأنّ مراسم العزاء يمكنها وبشكل جيّد أن تؤدّي دور مؤتمر ديني ودنيوي، فكان الطابع السياسي متناسباً مع الظروف وتقلّباتها وفقاً للمرحلة الأُولى، ونظراً لطبيعة هذه المرحلة التأسيسية، يمكن اعتبار دعوة السيّدة زينب(عليها السلام) وبعدها الأئمة(عليهم السلام) إلى إقامة مجالس العزاء، موقفاً سياسيّاً في قبال محاولات الأُمويين والعباسيين لقمع الشيعة والعلويين، وتهميش دور أتباع أهل البيت(عليهم السلام)، فجاءت المجالس لتسدّ الفراغ وتمدّ الجسور، كأداة فاعلة بيد الأئمة في توجيه شيعتهم، فهي المنبر الناطق والوسيلة الإعلامية الفاعلة في تلك الأجواء الموبوءة بالصراع ومناوأة التشيّع.
والهدف من هذه المجالس هو التأكيد على بيان ثلاثة محاور، هي: ذكر فضائل أهل البيت(عليهم السلام) ومناقبهم والإعلان عن مظلوميّتهم، والعمل على سلب الشرعية من النظام الحاكم، ورواية مصائب الأئمة وحقوقهم المغتصبة. وثمّة مؤشرٌ آخر على الصبغة السياسية لمجالس العزاء والمواكب الحسينية، وهو اختيارهم لعنصر تحريك العواطف والأحاسيس اختياراً موفّقاً، بوصفه عاملاً مساعداً في تحقيق بعض المرامي السياسية، فبشكل عامّ يمكن اعتبار المجالس في هذه المرحلة الملاذَ والكهف الحصين لأتباع أهل البيت(عليه السلام)، المناهضين لحكم الدولة الأُموية والعباسية فيما بعد؛ وذلك عبر النشاطات السرّية في مقارعة الظلم من جانب، والحفاظ على مبادئ الإسلام العلوي في مقابل الإسلام الأُموي من جانب آخر، وفضلاً عن الاستفادة من استمالة الأحاسيس الصادقة والعاطفة الدينية [57]، نجد أنّ السيّدة زينب(عليها السلام) قد جسّدت هذا الكلام في يوم الحادي عشر من المحرّم، عند حمل ركب السبايا، فطلبن من العدو أن يمرّ بهنّ على مصرع الإمام الحسين(عليه السلام)، وما إن وصلت القافلة حتّى نزلن جميعاً عن دوابهن، وصرن يبكين ويضربن على وجوهنّ، وتنطلق السيّدة زينب(عليها السلام) نحو جسد الإمام الحسين(عليه السلام)، فتراه جسداً مقطع الأعضاء، مرمّلاً بالدماء، مسلوب الثياب، فتقترب منه وتعتنقه، وتقول: (بأبي المهموم حتّى قضى، بأبي العطشان حتّى مضى...)[58]، وأبكت كلّ عدوٍّ وصديقٍ، كما أنّها في الوقت ذاته لم تهمل أو تغفل عن واجباتها الأُخرى، كرعاية الإمام زين العابدين(عليه السلام)، فهي عندما نظرت إليه(عليه السلام) ورأته في حالة من الأسى والحزن الشديد، شرعت وهي في تلك الظروف بتهدئة خاطر ابن أخيها، ومواساة روحه، ونقلت له حديث أُمّ أيمن وروايتها التي جاء فيها: أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) لم يُقتل هكذا عبثاً، بل إنّ مقتله ضمن حسابات المصلحة العليا، وأنّ دمه هذا لن يذهب هدراً، وأنّه سيُدفن في هذا الموقع الذي صُرع فيه هكذا بدون كفن، وأنّ قبره سيتحوّل إلى مطاف للزائرين على مرّ الأيام[59]. والسيّدة زينب(عليها السلام) هنا لا تبكي أخاً فقط، بل إنّها تبكي سبط رسول الله(صلى الله عليه و اله) وسيد شباب أهل الجنة، تبكي إماماً معصوماً مفترض الطاعة[60].
وعليه؛ فإنّ الشعائر التي أُقيمت على الإمام الحسين(عليه السلام)، وتحت لواء الثورة الحسينية، كان منها المنطلق والمنهل الأساس في ديمومة عطاء الإسلام، فما كان لثورة الإمام أن تصل إلينا إلّا عبر هذه الشعائر، وهي التي حفّزت في نفوس الشيعة روح المقاومة، وميزتهم عن سائر الفرق والمذاهب الأُخرى، وهذه الشعائر إرث رسالي يستقي ويتصل بمنهج موضوع من أهل البيت(عليهم السلام) وتحت رعايتهم، من أجل بثّ القيم التي نادوا بها في نفوس أشياعهم[61].
وصلت السيّدة(عليها السلام) إلى الكوفة، وها هي(عليها السلام) صاحبة الشخصية الفريدة تورد خطبتها الشهيرة أمام الملأ، فقد كانت(عليها السلام) تنتظر تلك اللحظة، (وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدّت الأنفاس، وسكنت الأجراس)[62]، وهكذا تكون الشخصية التاريخية؛ إذ بإيماءة منها سكت الجميع وهدأ الكلّ. نعم، هي زينب(عليها السلام) التي خطبت في الناس، وكانت في منتهى الحياء والعفة والعظمة، وبذلك تكون قد عجنت في شخصيتها حياء الزهراء(عليها السلام)، وشجاعة الإمام علي(عليه السلام)، وعندما خطبت(عليها السلام) تبادرت إلى أذهانهم خُطب الإمام علي(عليه السلام)[63].
ويعتمد مطهّري في النهاية على عنصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تحليل الحدث، ويرى أنّ الإمام الحسين كان مناهضاً للدولة الفاسدة في زمانه، فهو ثائر وثوري[64]، وأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الفرائض الأسمى والأشرف، وقد جاء في الحديث: (إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة تُقام بها الفرائض)[65]، وفي حديث آخر: (إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء)[66]. وإحياء شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمثّل أعظم جهاد، ولا سيّما أمام فساد حكومة بني أُمية وظلمها، وانحرافاتها الفكرية والعملية التي كانت مخبّأة تحت عنوان الخلافة وتولي أُمور المسلمين، بل تعدّ وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنزلة الحارس الإجرائي، والضامن للعمل بالأحكام الأُخرى، وتعمل على تقوية مبدأ رقابة المجتمع على نفسه، ومنع أفراده من الانحراف والتلوّث بالمعاصي، ويمكن لهذه الفريضة أن تهدي المجتمع الإسلامي إلى السعادة والكمال.
كما يمكن أن يُعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحد دوافع نهضة عاشوراء[67]، فما كان من الحسين(عليه السلام) إلّا أن يرفع راية الحرب عليهم؛ حتّى يضع قانوناً عامّاً للرقابة، أي: تفعيل واجب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) الذي كان قد أُهمل ونُسي بين الناس، وبإعادته يمنح الأُمّة الشجاعة والإحساس بالمسؤولية، ويعرّفهم تكليفهم الديني في كلّ الظروف؛ لذلك بيّن الإمام الحسين(عليه السلام) هدفه بقوله: (أُريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر)[68].
وقيام السيّدة زينب(عليها السلام) بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد واقعة كربلاء، كان بمنزلة المحرّك والباعث والواعز الداخلي للحركة الحسينية، وأنّ الوجود المقدّس للإمام الحسين(عليه السلام) بحدّ ذاته في هذه النهضة يُعتبر عملياً، حضوراً مباشراً للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الأول في هذه الواقعة، وبعد استشهاده(عليه السلام) مباشرة في هذه الواقعة أخذ الطابع الأوسع في ترجمة هذا الأصل والمبدأ أهل بيته(عليهم السلام)؛ إذ تحوّلوا إلى مجموعة عمل فاعلة لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم(عليهم السلام) لم يظهروا كمجموعة منكسرة؛ إذ إنّهم كانوا مثل الإمام الحسين(عليه السلام)، لا يرون خواتيم الأعمال في بقاء الإنسان حياً على قيد الحياة أو ميتاً، بل ظلّوا يتابعون المسيرة الحسينية في نفس السياق، وأنّ استشهاد الإمام(عليه السلام) كان بالنسبة لهم في أحد جوانبه بداية للنشاط والعمل، وليس خاتمة المطاف لهذه المسيرة.
وفي الحقيقة، فإنّ الإنسان عندما يُحلّل تلك الصورة يجد نفسه يقف حائراً متعجباً أمام تلك القوّة والطاقة الروحية، وذلك الإيمان واليقين، فلا يملك سوى أن يخرّ متواضعاً منبهراً بمَن اختارهم الله لأعلى المقامات، فقد قاموا بتبليغ القضية الحسينية حتّى اللحظة الأخيرة من حياتهم، ونهوا عن المنكر وأمروا بالمعروف، ودعوا إلى الإسلام حتّى الرمق الأخير.
ويُشير مطهّري إلى أنّه في بلاد الشام لم يكن أحد من الناس يُكنّ للإمام علي(عليه السلام) الحبّ، ولا حتّى يعرف مَن هو علي؟ ولا مَن هم أهل البيت؟ وإن كان أحد قد عرفهم، فقد عرفهم بصورة بالغة السوء[69].
يمكن تصوّر وضع السيّدة زينب(عليها السلام) وأسرى أهل البيت(عليهم السلام) بعد كلّ تلك المعاناة الروحية والجسمية، وقد أُدخلوا على مجلس ابن زياد. تدخل السيّدة(عليها السلام) ذلك المجلس المعادي الجائر مرتفعة الجلال وحسب تعبير البعض (حفّ بها إماؤها)[70]، نعم، واصطلاح الإماء هنا، ليس بالمعنى المجازي؛ إذ إنّ جميع النساء اللواتي اشتركن في معركة الطف، ورافقن السيّدة إلى الكوفة، يعترفن بالسيادة والزعامة والقيادة للعقيلة زينب(عليها السلام). هذا، وإنّها عندما دخلت مجلس دار الإمارة لم تسلّم على الأمير، ولم تكترث بطغيانه؛ لذلك انزعج كثيراً وأحسّ بروح المقاومة العالية لدى السيّدة(عليها السلام)، وأنّ تصرّفها هذا يدلّ على أنّها تقول له: إنّ إرادتنا نحن أهل البيت لا تزال حيّة لم تمت، ولسنا نكترث بمكانك وموقعك، ولا تزال روح الحسين في أبداننا، وكانت على قدر كبير من الشجاعة في الردّ عليه من خلال خطبتها، والتي مثلّت الإيمان العملي بعزّتها الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر.
والسيّدة زينب(عليها السلام) على الرغم مما مرّ عليها في أسر أولئك الظالمين، ومع كلّ تلك المعاناة الروحية والجسمية، إلّا أنّها واجهت يزيد، وردّت عليه ردّاً شافياً فاضحاً لسياسة بني أُمية. وعلى هذا الأساس؛ لا بدّ من النظر إلى النهضة الحسينية من زاوية كونها نهضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا سيّما في بلاد الشام التي انقلبت انقلاباً شاملاً بعد ورود آل البيت(عليهم السلام) إليها[71].
يتّفق مطهّري مع الرأي الذي يؤكّد أنّ تاريخ كربلاء إنّما أحياه وخلّده الأسرى، أي: إنّهم تمكّنوا من المحافظة على هذا التاريخ، وأنّ جهاز الحكم الأُموي ارتكب خطأً بالغاً في أسر أهل البيت(عليهم السلام)، والانتقال بهم من ساحة المعركة إلى الكوفة، ثمّ إلى الشام، ولو لم يرتكبوا مثل هذا الخطأ، لكان بإمكانهم ربما دفن تاريخ وقصة هذه النهضة، أو الحدّ من تأثيراتها، لكنّهم هيّأوا الفرصة السانحة بأيديهم أمام أهل بيت النبي؛ ليقوموا بدور المسجّل والمدوّن لهذه الواقعة الكبرى، ولم يكن يخطر في بال جهاز الحكم الأُموي أصلاً بأنّ هؤلاء الصبية والنساء المروّعين والمفجوعين بتلك الواقعة المأساوية، سيتمكنون من استغلال تلك الفرصة أقصى استغلال، ويقومون بدورهم التبليغي على أحسن وجه[72].
يشير مطهّري إلى عدد من الموضوعات المطروقة في خطبة السيّدة زينب(عليها السلام) في الكوفة منها[73]:
1ـ العتاب:
(يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر، أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة، إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم، أَلا وهل فيكم إلّا الصلف والنطف)[74].
2ـ تنبيههم على أخطائهم:
(أتبكون؟ إي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنآنها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً، وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم الأنبياء، وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجّتكم، ومدرة سنتكم)[75].
3ـ تحريك عواطف المعسكر الآخر إزاء ما فعلوه مع النبي(صلى الله عليه و اله):
(ويلكم يا أهل الكوفة، أيّ كبدٍ لرسول الله فريتم؟! وأيّ كريمةٍ له أبرزتم؟! وأيّ دمٍ له سفكتم؟! وأيّ حرمةٍ له انتهكتم؟!)[76].
4ـ النقمة الإلهية المتوقّعة:
(فلا يستخفنّكم المهل، فإنّه لا تحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثأر، وإنّ ربكم لبالمرصاد)[77].
عدّ مطهّري حمل الإمام الحسين(عليه السلام) لأهله وعياله في القافلة الحسينية، وبهذه الطريقة، تخطيطاً إلهياً، يكون الإمام فيه قد استخدم العدو استخداماً غير مباشر، بفرض هؤلاء الناس كحركة تبليغية ورُسُل دعاية للإسلام الحسيني ضدّ يزيد والإسلام اليزيدي[78]. واعتبر مطهّري أنّ من شروط نجاح أية رسالة في التبليغ، هو أن تكون غنية المحتوى، ولا بدّ من استخدام الوسائل المشروعة، واجتنابها لاستخدام الوسائل المضادة، ولا بدّ من استخدام المنهج والطريقة الصحيحين، وأخيراً لا بدّ من جدارة الشخصية الحاملة للرسالة، وبخاصّة دور السيّدة وأهل بيت الإمام الحسين(عليهم السلام).
وحول تأثير شخصية السيّدة زينب(عليها السلام) في التبليغ الذي حمل دورين، دور التعريف بالإسلام، ودور إعلام الناس ووضعهم في الصورة الصحيحة عمّا كان يجري من أحداث[79]؛ لذلك علينا الإشارة إلى الأرضية التي اعتمدها بنو أُمية وأتباعهم، والحُجُب التي وضعوها أمام أعين الناس، والانطباع المعين الذي أرادوا للناس أن تخرج به عن مجريات الأمور، وكيف تمكّنت السيّدة وأهل البيت(عليهم السلام) من تمزيق حُجُب النفاق؟ فهذا ابن زياد مثلاً يخاطب السيّدة زينب(عليها السلام) في المجلس بقوله: (الحمد لله الذي قتلكم وفضحكم وأكذب أُحدوثتكم)[80]، فهو يريد أن يقول: أليس ما حصل لكم دليلاً على كون ابن زياد مع الحقّ، وأنّ الحكم في النهاية من مسؤوليتنا؟! وإلّا لما جعلت الغلبة لنا، وهذا على كلّ حال هو منطق الذين يرون الحق إلى جانب الواقع المعاش باستمرار، فيزعمون أنّه تعالى لو لم يكن راضياً على ما يجري لما ترك الأُمور تحصل كما حصلت، ولما كانت قد وقعت، فكان ردّ السيّدة زينب(عليها السلام): (إنّما يفتضح الفاسق، ويكذّب الفاجر، وهو غيرنا. فقال ابن زياد: كيف رأيتِ صُنع الله بأخيك وأهل بيتكِ؟ فقالت: ما رأيت إلّا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل؛ فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجّ وتُخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذٍ، ثكلتك أُمك يابن مرجانة)[81].
يُشير مطهّري إلى أنّ ابن زياد أراد أن يُبرهن على صحّة ما فعله من خلال الاستناد إلى الفلسفة الجبرية الملازمة للعدل، وكلّ حركة سياسية لا بدّ وأن تستند في أعمالها إلى فلسفة وخلفية فلسفية تبرّر لها أعمالها، وما الحرب الدعائية إلّا عبارة عن المواجهة بين الفلسفات المتعارضة أو المتحاربة، وكان أهمّ شيء فعلته السيّدة زينب(عليها السلام)، وهو من أهم آثار وجودهم؛ كونهم لم يتركوا مجالاً لفلسفة العدو الإقناعية بأن تأخذ مجالها في التأثير، والعمل الآخر للسيدة وأهل بيت الإمام الذي تمكّنوا من إنجازه هو تحقيق الاتصال الجماهيري، والتحدّث إلى الجمهور العام من على منبر العدو نفسه، في الوقت الذي لم يكن مثل ذلك الأمر ممكناً قبل الحادثة، أو أثنائها لخوف الناس، وعدم جرأتهم على الاتصال بآل البيت بسهولة؛ وبهذا تكون العقيلة زينب(عليها السلام) وسائر أهل البيت(عليهم السلام)، قد نقلوا الحرب إلى داخل بيت العدو، واستطاعت السيّدة(عليها السلام) استغلال الفرصة المناسبة للتعريف بالشخصية الواقعية والحقيقية للإمام وأهل بيته(عليهم السلام)؛ الأمر الذي حوّل أهل الكوفة إلى معسكر للثورة، وصار أهل الكوفة يقولون عن آل البيت(عليهم السلام): (كهولهم خير الكهول وشبابهم خير شباب)[82].
وبشكل عامّ، فإن الكوفة وبلاد الشام قبل دخول آل البيت(عليهم السلام) إليها هي غيرها بعد دخولهم إليها، وقد تطورت الأُمور في الكوفة إلى الدرجة التي ظهر فيها مَن عُرفوا فيما بعدُ بالتوّابين، بل إنّ الكوفة هذه نفسها قامت ضدّ الشام وابن زياد، وقد قُتل الأخير في الحرب التي أعلنها الكوفيون ضدّه، كما أنّ تأثير أهل البيت(عليهم السلام) على وضع الشام والشاميين قد امتدّ حتّى وصل إلى المسجد الأُموي هناك، وما يقال عن تغيير يزيد الملعون سياسته في الفترة الأخيرة، إنّما يبيّن علامات الضعف والانهزام التي بدأت تظهر عليه[83].
أشار مطهّري إلى التحوّل في سياسة يزيد تجاه السيّدة زينب(عليها السلام)وأهل بيت النبوة، ويُعلّل سبب ذلك وهو أقرب للصواب بقوله: (هل تعرفون السبب الكامن وراء ذلك؟ فهل يُعقل أنّ يزيد قد تحوّل إلى رجل شريف مثلاً؟ أو أنّ نفسية يزيد قد تغيّرت؟ أبداً، كلّ ما هنالك أنّ الأجواء والأوضاع المحيطة قد تحوّلت، وسبب ذلك التحوّل، هو [أنّ] السيّدة والإمام زين العابدين(عليهما السلام)، كانا قد قلبا أوضاع الشام وأحوالها رأساً على عقب)[84].
|
|
|
|
|