اسمه ونسبه :
أبو الفضل ، العباس بن الإمام علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) .
ألقابه :
نذكر منها ما يلي : السقَّاء ، قمر بني هاشم ، باب الحوائج ، سَبع القنطرة ، كافل زينب ، بطل الشريعة .
أُمّه :
السيّدة فاطمة بن حزام العامرية الكلابية ، المعروفة بأمِّ البنين ( عليها السلام ) .
ولادته :
ولد العباس في الرابع من شعبان 26 هـ .
زواج الإمام علي ( عليه السلام ) لأجله :
روي أنّ الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال لأخيه عقيل ـ وكان نسّابة عالماً بأخبار العرب وأنسابهم ـ : ( أبغي امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب ؛ لأتزوّجها فتلد لي غلاماً فارساً ) ، فقال له : أين أنت عن فاطمة بنت حزام الكلابية العامرية ، فإنّه ليس في العرب أشجع من آبائها ولا أفرس ، فتزوّجها أمير المؤمنين (2) ، فولدت له وأنجبت ، وأوّل ما ولدت العباس ( عليه السلام ) ، وبعده عبد الله ، وبعده جعفراً ، وبعده عثمان .
صفاته :
كان العباس رجلاً وسيماً جسيماً ، يركب الفرس المطهَّم ، ورجلاه تخطَّان في الأرض (3) .
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( كان عمُّنا العباس بن علي نافذ البصيرة ، صلب الإيمان ، جاهد مع أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، وأبلى بلاءً حسناً ، ومضى شهيداً ) (4) .
وقد كان صاحب لواء الحسين ( عليه السلام ) ، واللِّواء هو العلم الأكبر ، ولا يحمله إلاَّ الشجاع الشريف في المعسكر .
ترحّم الإمام عليه :
قال الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : ( رحم الله العباس ، فلقد آثر وأبلى ، وفدى أخاه بنفسه حتّى قطعت يداه ، فأبدله الله عزّ وجل بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة كما جعل لجعفر بن أبي طالب ، وإنّ للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة ) (5) .
عدم قبوله أمان ابن زياد :
لمَّا أخذ عبد الله بن حزام ابن خال العباس ( عليه السلام ) أماناً من ابن زياد للعباس وأخوته من أُمِّه ، قال العباس وأخوته : ( لا حاجة لنا في الأمان ، أمانُ الله خير من أمان ابن سمية ) .
ولمَّا نادى شمر : أين بنو أختنا ؟ أين العباس وأخوته ؟ فلم يجبه أحد ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : ( أجيبوه وإن كان فاسقاً ، فإنَّه بعض أخوالكم ) (6) .
فأجابه العباس ( عليه السلام ) : ( ماذا تريد ) ؟ فقال : أنتم يا بني أُختي آمنون ، فقال له العباس ( عليه السلام ) : ( لعنك الله ، ولعن أمانك ، أتؤمِّننا وابن رسول الله لا أمان له ) ؟! وتكلَّم أخوته بنحو كلامه ، ثمَّ رجعوا .
موقفه يوم العاشر :
أتى أمر من عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد يستحثه على المنازلة ، فركبوا خيولهم وأحاطوا بالحسين ( عليه السلام ) وأهل بيته وأصحابه ، فأرسل الحسين ( عليه السلام ) أخاه العباس ومعه جملة من أصحابه ، وقال : ( سلهم التأجيل إلى غد إن استطعت ) (7) ، فذهب ( عليه السلام ) إلى قادة العسكر وتكلّم معهم على التأجيل فأجّلوه .
موقفه يوم العاشر (8)
وذاب قلب أبي الفضل أسىً وحزناً ، وودّ أن المنيّة قد اختطفته ، ولا يشاهد تلك الكوارث والخطوب التي تذهل كل كائن حيّ ، وتميد بالصبر ، ولا يقوى على تحملها أي إنسان إلاّ أولي العزم من أنبياء الله الذين امتحن الله قلوبهم للاِيمان واصطفاهم على عباده.
ومن بين تلك الكوارث المذهلة التي عاناها أبو الفضل عليه السلام أنّه كان يستقبل في كل لحظة شاباً أو غلاماً لم يراهق الحلم من أهل بيته قد مزّقت أشلاءهم سيوف الاَمويين وحرابهم ، ويسمع صراخ بنات الرسالة ، وعقائل النبوة ، وهنّ يلطمن وجوههن ، ويندبن بأشجى ما تكون الندبة أُولئك البدور الذين تضمخوا بدم الشهادة دفاعاً عن ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله ... ومن بين المحن الشاقة التي عاناها أبو الفضل عليه السلام أنّه يرى أخاه ، وشقيق روحه الاِمام الحسين عليه السلام قد أحاطت به أوغاد اهل الكوفة لتتقرّب بقتله إلى سليل الاَدعياء ابن مرجانة ، وقد زادته هذه المحن إيماناً وتصميماً على مناجزة أعداء الله ، وبذله حياته فداءً لسبط رسول الله صلى الله عليه وآله .
العباس مع اخوته
وانبرى بطل كربلاء إلى أشقّائه بعد شهادة الفتية من أهل البيت عليهم السلام فقال لهم :
" تقدّموا يا بني أمّي حتى أراكم نصحتم لله ولرسوله ، فانه لا ولد لكم..." (9).
لقد طلب من اخوانه الممجدين أن يقدموا نفوسهم قرابين لدين الله ، وأن ينصحوا في جهادهم لله ورسوله ، ولم يلحظ في تضحيتهم أي اعتبار آخر من النسب وغيره ، والتفت أبو الفضل إلى أخيه عبدالله فقال له: "تقدّم يا أخي حتى أراك قتيلاً ، واحتسبك.." (10).
واستجابت الفتية إلى نداء الحق فهبّوا للدفاع عن سيّد العترة وإمام الهدى الحسين عليه السلام .
قول رخيص
ومن أهزل الاَقوال ، وأبعدها عن الحق ما ذكره ابن الاَثير إنّ العباس عليه السلام قال لاَخوته: " تقدّموا حتى أرثكم ، فانه لا ولد لكم.." (11).
لقد قالوا بذلك ، ليقلّلوا من أهمية هذا العملاق العظيم الذي هو من ذخائر الاِسلام ، ومن مفاخر المسلمين ، وهل من الممكن أن يفكّر فخر هاشم في الناحية المادية في تلك الساعة الرهيبة التي كان الموت المحتم منه كقاب قوسين أو أدنى ، مضافاً إلى الكوارث التي أحاطت به ، فهو يرى أخاه قد أحاطت به جيوش الاَمويين ، وهو يستغيث فلا يغاث ، ويسمع صراخ عقائل النبوة ومخدرات الرسالة ، فقد كان همّه الوحيد الرحيل من الدنيا ، واللحوق بأهل بيته الذين حصدتهم سيوف الاَمويين ، وبالاضافة لهذا كله فان السيدة أم البنين أم السادة الاَماجد كانت حيّة فهي التي تحوز ميراث أبنائها لاَنها من الطبقة الاَولى لو كان لاَبنائها أموال فان أباهم الاِمام أمير المؤمنين قد انتقل من هذه الدنيا ولم يخلف صفراءً ولا بيضاء ، فمن أين جاءت أبناءه الاَموال... ومن المحتمل قوياً أن يكون الوارد في كلام سيّدنا أبي الفضل عليه السلام "حتّى أثأركم.." أي أطلب بثاركم فحرّف كلامه.
مصارع اخوة العباس ع
واستجاب السادة اخوة العباس إلى نداء أخيهم فهبّوا للجهاد ، ووطّنوا نفوسهم على الموت دفاعاً عن أخيهم ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقد برز عبدالله ابن أمير المؤمنين عليه السلام والتحم مع جيوش الامويين وهو يرتجز:
شيخي علي ذو الفخار الاَطول هذا حسين بـن النبي المرسل تفديه نفســي من أخ مبجّل من هاشم الخير الكريم المفضل عنه نحامـي بالحسام المصقل يا رب فامنحنـي ثواب المنزل
لقد أعرب بهذا الرجز عن اعتزازه وافتخاره بأبيه الامام أمير المؤمنين عليه السلام باب مدينة علم النبيّ صلى الله عليه وآله ووصيه ، كما اعتزّ بأخيه سيّد شباب أهل الجنّة الاِمام الحسين عليه السلام ، وقد أعلن أنّه انّما يدافع عنه لاَنّه ابن النبيّ صلى الله عليه وآله ويلتمس بذلك أن يمنحه الله الدرجات الرفيعة.
ولم يزل الفتى يقاتل أعنف القتال وأشدّه حتى شدّ عليه رجس من أرجاس أهل الكوفة وهو هاني بن ثبيت الحضرمي فقتله (12).
وبرز من بعده أخوه جعفر ، وكان له من العمر تسعة عشر سنة فجعل يقاتل قتال الاَبطال فبرز إليه قاتل أخيه فقتله (13).
وبرز من بعده أخوه عثمان وهو ابن إحدى وعشرين سنة فرماه خولي بسهم فأضعفه ، وشدّ عليه رجس من بني دارم وأخذ رأسه ليتقرّب به إلى ابن الاَمة الفاجرة عبيدالله بن مرجانة (14).
لقد سمت أرواحهم الطاهرة إلى الرفيق الاَعلى ، وهي أنضر ما تكون تفانياً في مرضاة الله ، وأشدّ ما تكون إيماناً بعدالة تضحيتهم التي هي من أنبل التضحيات في العالم.
ووقف أبو الفضل على اشقّائه الذين مزّقت أشلاءهم سيوف الاَعداء فجعل يتأمّل في وجوههم المشرقة بنور الاِيمان ، وأخذ يتذكّر وفاءهم ، وسموّ آدابهم ، وأخذ يذرف عليهم أحرّ الدموع ، وتمنّى أن تكون المنيّة قد وافته قبلهم ، واستعدّ بعد ذلك إلى الشهادة ، والفوز برضوان الله.
مصرع أبي الفضل العباس ع
ولما رأى أبو الفضل عليه السلام وحدة أخيه ، وقتل أصحابه ، وأهل بيته الذين باعوا نفوسهم لله انبرى إليه يطلب الرخصة منه ليلاقي مصيره المشرق فلم يسمح له الاِمام ، وقال له بصوت حزين النبرات: "أنت صاحب لوائي..".
لقد كان الاِمام يشعر بالقوّة والحماية ما دام أبو الفضل فهو كقوة ضاربة إلى جانبه يذبّ عنه ، ويردّ عنه كيد المعتدين ، وألحّ عليه أبو الفضل قائلاً: " لقد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين ، وأريد أن آخذ ثأري منهم..".
لقد ضاق صدره ، وسئم من الحياة حينما رأى النجوم المشرقة من أخوته ، وأبناء عمومته صرعى مجزرين على رمضاء كربلاء فتحرّق شوقاً للاَخذ بثأرهم والالتحاق بهم.
وطلب الاِمام منه أن يسعى لتحصيل الماء إلى الاَطفال الذين صرعهم العطش فانبرى الشهم النبيل نحو أولئك الممسوخين الذين خلت قلوبهم من الرحمة والرأفة فجعل يعظهم ، ويحذّرهم من عذاب الله ونقمته ، ووجّه خطابه بعد ذلك إلى ابن سعد: "يا بن سعد هذا الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله قد قتلتم أصحابه وأهل بيته ، وهؤلاء عياله وأولاده عطاشى فاسقوهم من الماء ، قد احرق الظمأ قلوبهم ، وهو مع ذلك يقول: " دعوني أذهب إلى الروم أو الهند ، وأخلّي لكم الحجاز والعراق..".
وساد صمت رهيب على قوّات ابن سعد ، ووجم الكثيرون ، وودّوا أن الاَرض تسيخ بهم ، فانبرى إليه الرجس الخبيث شمر بن ذي الجوشن فردّ عليه قائلاً: يا بن أبي تراب ، لو كان وجه الاَرض كلّه ماءً ، وهو تحت أيدينا لما سقيناكم منه قطرة إلاّ أن تدخلوا في بيعة يزيد . . .
لقد بلغت الخسّة ، ولؤم العنصر ، وخبث السريرة بهذا الرجس إلى مستوى ما له من قرار... وقفل أبو الفضل راجعاً إلى أخيه فأخبره بعتوّ القوم وطغيانهم ، وسمع فخر عدنان صراخ الاَطفال ، وهم يستغيثون ، وينادون: " العطش العطش..".
ورآهم أبو الفضل قد ذبلت شفاهم ، وتغيّرت ألوانهم ، وأشرفوا على الهلاك ، من شدّة العطش ، وفزع أبو الفضل ، وسرى الاَلم العاصف في محيّاه ، واندفع ببسالة لاِغاثتهم ، فركب فرسه ، وأخذ معه القربة ، فاقتحم الفرات ، فانهزم الجيش من بين يديه ، واستطاع أن يفكّ الحصار الذي فرض على الماء ، فاحتلّه ، وكان قلبه الشريف كصالية الغضا من شدّة العطش ، فاغترف من الماء غرفة ليشرب منه ، إلاّ أنه تذكّر عطش أخيه ، ومن معه من النساء والاَطفال ، فرمى الماء من يده ، وامتنع أن يروي غليله ، وقال: يَا نفسُ مِن بعد الحُسين هوني هَذا الحسينُ وَارِدَ المَنونِ ومِن بعدِهِ لا كُنتِ أن تَكُوني وتشرَبينَ بَاردَ المَعينِ تاللهِ مَا هَذي فِعَال دِيني
إنّ الاِنسانية بكل إجلال واحترام لتحيّي هذه الروح العظيمة التي تألّقت في دنيا الفضيلة والاِسلام وهي تلقي على الاَجيال أروع الدروس عن الكرامة الاِنسانية.
ان هذا الاِيثار الذي تجاوز حدود الزمان والمكان كان من أبرز الذاتيات في خلق سيّدنا أبي الفضل ، فلم تمكّنه عواطفه المترعة بالولاء والحنان أن يشرب من الماء قبله ، فأي إيثار أنبل أو أصدق من هذا الاِيثار ، ... واتجه فخر هاشم مزهواً نحو المخيم بعدما ملاَ القربة ، وهي عنده أثمن من حياته ، والتحم مع أعداء الله وأنذال البشرية التحاماً رهيباً فقد أحاطوا به من كلّ جانب ليمنعوه من إيصال الماء إلى عطاشى آل النبيّ صلى الله عليه وآله ، وأشاع فيهم القتل والدمار وهو يرتجز:
لا أرهبُ الموتَ إذا الموتُ رَقَا نفسي لنفسِ المُصطَفَى الطُّهر وَقَا حتّى أواري في المصَاليتِ لُقَى إنّي أنا العبَّاس أغدو بالسقَا ولا أخافُ الشرَّ يوم المُلتَقَى (15) .
لقد أعلن بهذا الرجز عن شجاعته النادرة ، وانّه لا يخشى الموت ، وانّما يستقبله بثغر باسم دفاعاً عن الحق ، وفداءً لاَخيه سبط النبيّ صلى الله عليه وآله .. وانه لفخور أن يغدو بالسقاء مملوءً من الماء ليروي به عطاشى أهل البيت.
وانهزمت الجيوش من بين يديه يطاردها الفزع والرعب ، فقد ذكرهم ببطولات أبيه فاتح خيبر ، ومحطّم فلول الشرك ، إلاّ ان وضراً خبيثاً من جبناء أهل الكوفة كمن له من وراء نخلة ، ولم يستقبله بوجهه ، فضربه على يمينه ضربة غادرة فبراها ، لقد قطع تلك اليد الكريمة التي كانت تفيض برّاً وكرماً على المحرومين والفقراء ، والتي طالما دافع بها عن حقوق المظلومين والمضطهدين ، ولم يعن بها بطل كربلاء وراح يرتجز:
واللهِ إن قَطعتُمُ يمينــــي إنّي أُحامِي أَبَداً عن دِيني
وعنْ إمامٍ صَادِقِ اليَقِينِ نَجْلِ النّبيِّ الطــاهِرِ الأَمينِ
ودلل بهذا الرجز على الاَهداف العظيمة ، والمثل الكريمة التي يناضل من أجلها فهو انّما يناضل دفاعاً عن الاِسلام ، ودفاعاً عن إمام المسلمين وسيّد شباب أهل الجنّة.
ولم يبعد العباس قليلاً حتى كمن له من وراء نخلة رجس من أرجاس البشرية وهو الحكيم بن الطفيل الطائي فضربه على يساره فبراها ، فقال ( عليه السلام ) :
يا نفسُ لا تَخشَيْ منَ الكُفّارِ وأبشـِري برحــمةِ الجبّارِ
معَ النّبيِّ المصْطَـفى المخْــتارِ قدْ قَطَعُوا بِبَغْيِهم يَساري
فأَصْلِهِم يا ربِّ حَرَّ النّارِ
وحمل القربة بأسنانه ـ حسبما تقول بعض المصادر ـ وجعل يركض ليوصل الماء إلى عطاشى أهل البيت عليهم السلام وهو غير حافل بما كان يعانيه من نزف الدماء وألم الجراح ، وشدّة العطش ، وكان ذلك حقّاً هو منتهى ما وصلت إليه الاِنسانية من الشرف والوفاء والرحمة... وبينما هو يركض وهو بتلك الحالة إذ أصاب القربة سهم غادر فأريق ماؤها ، ووقف البطل حزيناً ، فقد كان إراقة الماء عنده أشدّ عليه من قطع يديه ، وشدّ عليه رجس فعلاه بعمود من حديد على رأسه الشريف ففلق هامته ، وهوى إلى الاَرض ، وهو يؤدّي تحيّته ، ووداعه الاَخير إلى أخيه قائلاً: "عليك منّي السلام أبا عبدالله...".
وحمل الاَثير محنته إلى أخيه فمزّقت قلبه ، ومزّقت أحشاءه ، وانطلق نحو نهر العلقمي حيث هوى إلى جنبه أبو الفضل ، واقتحم جيوش الاَعداء ، فوقف على جثمان أخيه فألقى بنفسه عليه ، وجعل يضمخه بدموع عينيه ، وهو يلفظ شظايا قلبه الذي مزّقته الكوارث قائلاً: " الآن انكسر ظهري ، وقلّت حيلتي ، وشمت بي عدويّ...".
وجعل إمام الهدى يطيل النظر إلى جثمان أخيه ، وقد انهارت قواه ، وانهدّ ركنه وتبددت جميع آماله ، وودّ أن الموت قد وافاه قبله ، وقد وصف السيّد جعفر الحلّي حالته بقوله:
فمشى لمصرعه الحسين وطرفه * بيـن الخيـام وبينـه مـتقسم
ألفـاه محجـوب الجمال كـأنّه * بـدر بمنحطـم الـوشيج ملثم
فأكب منحنيـاً عليـه ودمعـه * صبـغ البسيط كأنّما هـو عندم
قـد رام يلثمه فلم يـر موضعاً * لـم يدمه عـضّ السلاح فيلثم
نـادى وقد ملاَ البوادي صيحة * صـم الصخـور لهولهـا تتألّم
أأخـي يهنيك النعيم ولـم أخل * ترضى بأن أرزى وأنت مـنعم
أأخي مـن يحمي بنـات محمد * اذ صرن يسترحمن من لا يرحم
مـا خلت بعدك أن تشلّ سواعدي * وتكف بـاصرتي وظهري يقصم
لسـواك يـلطم بـالاَكف وهـذه * بيض الضبا لك فـي جبيني تلطم
ما بين مصرعك الفضيع ومصرعي * إلاّ كمـا أدعـوك قبـل وتنعـم
هـذا حسامك من يذلّ بـه العـدا * ولـواك هـذا مـن بـه يتقـدم
هونت يا باابن أبي مصارع فتيتي * والجـرح يسكنـه الذي هـو آلم
وهو وصف دقيق للحالة الراهنة التي حلّت بسيّد الشهداء بعد فقده لاَخيه ووصف شاعر آخر وهو الحاج محمّد رضا الاَزري وضع الاِمام عليه السلام بقوله:
وهـوى عليـه مـا هنـالك قائلاً * اليوم بان عـن اليميـن حسـامها
اليـوم سـار عـن الكتائب كبشها * اليوم بـان عـن الهـداة امـامها
اليـوم آل إلـى التفـرق جمعنـا * اليـوم حلّ عـن البنود نـظامها
اليوم نـامت أعيـن بـك لـم تنم * وتسهّـدت أخـرى فعـز منامها
اشقيق روحي هل تراك علمت ان * غـودرت وانثالت عليك لئـامها
قد خلت اطبقت السماء على الثرى * أو دكـدكت فـوق الربى أعلامها
لكـن أهـان الخطب عندي انني * بك لاحق أمـراً قضـى علامهـا
ومهما قال الشعراء والكتّاب فانهم لا يستطيعون أن يصفون ما ألمّ بالاِمام من فادح الحزن ، وعظيم المصاب ، ووصفه أرباب المقاتل بأنّه قام من أخيه وهو لايتمكّن أن ينقل قدميه ، وقد بان عليه الانكسار ، وهو الصبور ، واتجه صوب المخيّم ، وهو يكفكف دموعه ، فاستقبلته سكينة قائلة: " أين عمّي أبو الفضل..".
فغرق بالبكاء ، واخبرها بنبرات متقطّعة من شدّة البكاء بشهادته ، وذعرت سكينة ، وعلا صراخها ، ولما سمعت بطلة كربلاء حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله بشهادة أخيها الذي ما ترك لوناً من ألوان البرّ والمعروف إلاّ قدّمه لها أخذت تعاني آلام الاحتضار ، ووضعت يدها على قلبها المذاب ، وهي تصيح: " وا أخاه ، واعبّاساه ، وا ضعيتنا بعدك...".
يالهول الفاجعة. يالهول الكارثة.
لقد ضجّت البقعة من كثرة الصراخ والبكاء ، وأخذت عقائل النبوة يلطمن الوجوه وقد أيقن بالضياع بعده ، وشاركهنّ الثاكل الحزين أبو الشهداء في محنتهنّ ومصابهنّ ، وقد علا صوته قائلاً: "واضيعتنا بعدك يا أبا الفضل...".
لقد شعر أبو عبدالله عليه السلام بالضيعة والغربة بعد فقده لاَخيه الذي ليس مثله أخ في برّه ووفائه ومواساته ، فكانت فاجعته به من أقسى ما مُني به من المصائب والكوارث.
وداعاً يا قمر بني هاشم.
وداعاً يا فجر كل ليل.
وداعاً يا رمز المواساة والوفاء.
سلام عليك يوم ولدت ، ويوم استشهدت ، ويوم تُبعث حيّاً.
====
المصادر والأدلة:
1ـ أُنظر : أعيان الشيعة 7 / 429 .
2ـ عمدة الطالب : 357 .
3ـ مقاتل الطالبيين : 56 .
4ـ عمدة الطالب : 356 .
5ـ الأمالي للشيخ الصدوق 548 .
6ـ عمدة الطالب : 357 .
7ـ أبصار العين : 31 .
8 ـ العبّاس بن علي عليهما السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام : باقر شريف القرشي ، ص 216 ـ 226.
9 ـ الارشاد: 269.
10 ـ مقاتل الطالبيين: 82.
11 ـ تأريخ ابن الاَثير 3: 294.
12ـ حياة الاِمام الحسين 3: 262.
13 ـ الاِرشاد: 269.
14 ـ مقاتل الطالبيين: 83.
15ـ مقتل الحسين : 179 . ومع السلامة.