الرحمة عاطفة
إنسانية راقية مركبة، ففيها الحب، و فيها التضحية،
و فيها إنكار الذات، و
فيها التسامح، و فيها العطف، و فيها العفو، و فيها الكرم.
و كلنا قادرون على الحب بحكم الجبلة البشرية.
و قليل منا هم القادرون على الرحمة.
ذكر الحب في القرآن مرة واحدة فى قصة امرأة العزيز التي شغفها فتاها ( يوسف ) حبّا
وقال نسوة في المدينة امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً."
فماذا فعلت امرأة العزيز حينما تعفف يوسف الصدّيق؟ و ماذا فعلت حينما
دخل عليهما الزوج؟ لقد طالبت بإيداع يوسف السجن و تعذيبه.
(( قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) )) ( يوسف )
و ماذا قالت لصاحباتها و هي تروي قصة حبها؟
((
وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ
مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) )) (
يوسف )
إن عنف حبها اقترن عندها بالقسوة و السجن و التعذيب.
و ماذا قال يوسف الصدّيق؟
(( قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ (33) )) ( يوسف )
لأنه أدرك ببصيرته أن الحب سجن، و أن
الشهوة قيد إذا استسلم له الرجل
أطبق على عنقه حتى الموت.. و رأى أن مكثه
في السجن عدة سنوات،
أرحم من الخضوع للشهوة التي هي سجن مؤبد إلى آخر
الحياة.
إن الحب
لا يظل حبا صافيا رفافا شفافا، و إنما ما يلبث بحكم الجبلة البشرية
أن
يصبح جزءا من ثالوث هو: الحب و الجنس و القسوة،
و هو ثالوث متلاحم يقترن
بعضه ببعض على الدوام.
و لهذا لا يصلح هذا الثالوث أن يكون أساسا لزواج.. و لا يصلح لبناء البيوت،
و لا يصلح لإقامة الوشائج الثابتة بين الجنسين.
و من دلائل عظمة القرآن و إعجازه أنه حينما ذكر الزواج،
لم يذكر الحب و إنما ذكر المودة و الرحمة و السكن.
سكن النفوس بعضها إلى بعض.
و راحة النفوس بعضها إلى بعض.
و قيام الرحمة و ليس الحب.. و المودة و ليس الشهوة.
إنها الرحمة و المودة.. مفتاح البيوت.
و الرحمة تحتوي على الحب بالضرورة.. و الحب لا يشتمل على الرحمة،.
و الرحمة أعمق من الحب و أصفى و أطهر.
و لذلك جاء كتاب الحكمة الأزلية الذي تنزل علينا من الحق.
. يذكرنا عند الزواج بالرحمة و المودة و السكن
و الذين خبروا الحياة و باشروا حلوها و مرّها، و تمرسوا بالنساء
يعرفون مدى عمق و أصالة و صدق هذه الكلمات المنزلة.
و إنما الإنسان وحده هو الذي امتاز بهذا
الإطار من المودة و الرحمة و الرأفة،
لأنه هو وحده الذي استطاع أن يستعلي
على شهواته؛
فيصوم و هو جائع و يتعفف و هو مشتاق.
و الرحمة ليست ضعفا و إنما هي غاية القوة،
لأنها استعلاء على الحيوانية و البهيمية و الظلمة الشهوانية.
الرحمة هي النور و الشهوة هي النار.
و أهل الرحمة هم أهل النور و الصفاء و البهاء، و هم الوجهاء حقا.
و الرحماء قليلون، و هم أركان الدنيا و أوتادها التي يحفظ بها الله الأرض و من عليها.
و لا تقوم القيامة إلا حينما تنفد الرحمة من القلوب،
و يتفشى الغلّ، و تسود المادية الغليظة، و تنفرد
الشهوات بمصير الناس، فينهار بنيان الأرض
و تتهدم هياكلها من القواعد.