بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وال محمد الطاهرين
(التوبة)، وهي الرجوع من الذنب القولي والفعلي والفكري، وبعبارة أخرى: هي تنزيه القلب عن الذنب والرجوع من البعد إلى القرب،
وبعبارة أخرى: ترك المعاصي في الحال والعزم على تركها في الاستقبال وتدارك ما سبق من التقصير. وكما أن الإصرار على العصيان من رذائل قوتي الغضب والشهوة، فالرجوع عنه وتركه من فضائلهما،
بمعنى أن العزم على ترك كل معصية يكون من عمل كليهما أو إحداهما، ومن فعل النفس بإعانتهما وانقيادهما للعاقلة، وأن كان الباعث على الرجوع وتهيج النفس والقوتين على مباشرة الرجوع والترك هو معرفة عظم ضرر الذنوب، وكونها حجابا بين العبد وبين المحبوب، ويمكن أن يقال: إن التوبة هو الرجوع عن الذنب، وهو من ثمرات الخوف والحب، فإن مقتضى الحب أن يمتثل مراد المحبوب ولا يعصى في شيء مما يريده ويطلب من الحب، فتكون من فضائل القوتين
أيضا. ويمكن أن يقال: أن التوبة عبارة عن مجموع العلم بضرر الذنوب، وكونها حجابا بينه وبين الله والندم الحاصل منه، والقصد المتعلق بالترك حالا واستقبالا، والتلافي للماضي والندم، والقصد بالترك والتلافي من فعل القوتين أو فعل النفس بواسطة القوتين وانقيادهما للعاقلة، والعلم المذكور من العاقلة، فتكون التوبة من فضائل القوى الثلاث. وتوضيح حقيقة التوبة: أنه إذا علم العبد علما يقينيا أن ما صدر عنه من الذنوب حائلة بينه وبين محابه، ثار من هذا العلم تألم القلب بسبب فوات المحبوب، وصار متأسفا على ما صدر عنه من الذنوب، سواء كانت أفعالا أو تروكا للطاعات، ويسمى تألمه - بسبب فعله أو تركه المفوت لمحبوبه - ندما. وإذا غلب هذا الندم على القلب، انبعثت منه حالة أخرى تسمى إرادة وقصدا إلى فعل له تعلق بالحال بترك الذنب الذي كان ملابسا له، وبالاستقبال بعزمه على ترك الذنب المفوت لمحبوبه إلى آخر عمره، وبالماضي بتلافيه ما فات بالجبر والقضاء. فالعلم -
أعني اليقين بكون الذنوب سموما مهلكة - هو الأول، وهو مطلع البواقي، إذ مهما أشرق نور هذا اليقين على القلب أثمر نار الندم على الذنب، فيتألم به القلب، حيث ينظر بإشراق نور الإيمان واليقين أنه صار محجوبا عن محبوبه، كمن يشرق عليه نور الشمس وقد كان في ظلمة، فيسطع النور عليه بانقشاع سحاب أو انحسار حجاب، فيرى محبوبه قد أشرف على الهلاك، فتشتعل نيران الحب في قلبه وتنبعث بتلك النيران إرادته للانتهاض للتدارك. فالعلم، والندم، والقصد المتعلق بالترك في الحال والاستقبال والتلافي للماضي؟؟؟
التوبة عن الذنوب بأسرها واجبة: الإجماع، والنقل، والعقل،: أما الإجماع - فلا ريب في انعقاده. وأما النقل - فكقوله تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) . وقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم) ومعنى النصوح: الخالص لله خاليا عن شوائب الأغراض، من مال أو جاه أو خوف من سلطان أو عدم أسباب، والأمر للوجوب، فتكون التوبة واجبة بمقتضى الآيتين. وأما العقل - فهو أن من علم معنى الوجوب ومعنى التوبة فلا يشك في ثبوته لها. (بيان ذلك): أن معنى الواجب وحقيقته هو ما يتوقف عليه الوصول إلى سعادة الأبد والنجاة من هلاك السرمد، ولولا تعلق السعادة والشقاوة بفعل الشيء وتركه لم يكن معنى لوجوبه، فالواجب ما هو وسيلة وذريعة إلى سعادة الأبد. ولا ريب في أنه لا سعادة في دار البقاء إلا في لقاء الله والأنس به، فكل من كان محجوبا عن اللقاء والوصال محروما عن مشاهدة الجلال والجمال، فهو شقي لا محال، محترق بنار الفراق ونار جهنم. ثم لا مبعد عن لقاء الله إلا اتباع الشهوات النفسية والغضب والأنس بهذا العالم الفاني،
ووجوب التوبة يعم الأشخاص والأحوال،
فلا ينبغي أن ينفك عنه أحد في حالة، قال الله تعالى -: (وتوبوا إلى الله جميعا) . وهو يعم الكل في الكل. ومما يدل على وجوبها على الكل: إن كل فرد من أفراد الناس إذا بلغ سن التمييز والتكليف قام القتال والنزاع في مملكة
بدنه،
بين الشهوات جنود الشياطين، وبين العقول أحزاب الملائكة: إذ لا تكمن غريزة العقل في أحد إلا بعد كمال غريزة الشهوة والغضب وسائر الصفات المذمومة، وإذا قام القتال بينهما لا بد بحكم العقل والشرع والشرع أن يغلب جنود الله على جنود الشيطان بقمعها بكسر الشهوات، ورد النفس على سبيل القهر والغلبة على الصفات المحمودة والعبادات، ولا معنى لوجوب التوبة إلا هذا. مما يدل على وجوبها على الدوام وفي كل حال هو أن كل عبد لا يخلو عن معصية بجوارحه، فإن خلا في بعض الأحوال عن معصية الجوارح فلا يخلو عن رذائل النفس والهم بالذنوب بالقلب فإن خلا عن ذلك أيضا فلا يخلو عن وسوسة الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله، فإن خلا عنه فلا يخلو عن غفلة وقصور في العلم بالله وصفاته وآثاره، وكل ذلك نقص يجب الرجوع عنه وهو معنى التوبة. ولعدم خلو أحد من الخلق من نوع هذا النقص وأصله في حالة، وإن تفاوتوا في المقادير، يلزم وجوب التوبة على كل عبد في كل حالة، ولو خلا عن التوبة عن جميع الذنوب في لحظة واختطفه الموت، لزم خروج روحه بلا توبة، ولعدم انفكاكه قبل موته ولو بلحظة عن فرد من المعاصي المذكورة فالتوبة واجبة على كل عبد سالك في كل نفس من أنفاسه،
قال بعض العرفاء: (لو لم يبك العاقل فيما بقي من عمره إلا على فوت ما مضى من عمره في غير طاعة الله، لكان حقيقا أن يخزيه ذلك إلى الممات، فكيف من يستقبل ما بقي من عمره بمثل ما مضى من جهله)