وصلى الله على محمد وأهل بيته الطاهرين..
أما بعد؛
فقد نظرت في كتاب: "
لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة " لإمام الحرمين عبد الملك الجويني حول مسألة الإمامة، فأردت التنبيه على بعض النقاط، وتدوين بعض الملاحظات على هذا الفصل الذي يعتبر فاصلاً بين المذاهب.
أقول: هذه تنبيهات خاطفة وملاحظات عابرة، والرسالة تتألف من طرفين:
يقول: يعني عبد الملك الجويني.
أقول: علي الفاروق.
يقول: "
إمامة المسلمين وأمير المؤمنين من بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم عمر الفاروق بعده ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين ".
أقول: إنّ هذا الترتيب جميل المظهر، حسن الهيئة، إلاّ أنّا إذا توغلنا في صميم ذلك، وبحثنا أكثر نجدُ أنَّ الخلافة التي كان يريدها (ص) لا يمكن أن تُعتبر على هذا الشكل، وسيأتي بيان ذلك.
يقول: "
وما نصَّ النبي عليه السلام على إمامة أحد بعده وتوليته إذا لو نص على ذلك لظهر وانتشر كما اشتهرت تولية رسول الله صلى الله عليه وسلم سائر ولاته وكما اشتهر كل أمر خطير ".
أقول: هل استقصى الجويني جميع الأخبار استقراءاً تامّاً ؟!!
وإنْ كان كلامك التالي يُعتبر مبرِراً لذلك، إلاّ أنّ المقدّم مخدوش، لأنّ رسول الله (ص) قد نصّ على أنّ هناك اثنا عشر إماماً من بعده، والرواية موجودة في الصِحاح والسنن والمسانيد والمجاميع وغيرها.
وكما أنّه قد نصّ على إمامة الإمام علي (ع) في حديث الغدير والدار والمنزلة وغيرها من الأحاديث.
فكيف لك أن تعتقد أنّ ذلك ليس نصّاً ؟!!
أليس قوله (ص): " من كنت مولاه فهذا علي مولاه " دليل واضح، ونصّ جلي على خلافته وولايته من بعده ؟!!
أليس قوله (ص) لعلي (ع): " أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه ليس نبي بعدي "، وهذا تصريح على أنّ الخليفة من بعده هو علي بن أبي طالب (ع).
فإنْ لم يُعتبر هكذا نصوص أدلّة على الخلافة، فكيف تريدون أنّ ينصب (ص) علياً (ع) خليفة من بعده ؟
فأيّ الألفاظ تحبّذون، وأي المفردات تحبّون، وأي العبارات تودّون ؟!!
وأمّا بالنسبة لعدم انتشار مسألة النص إن وجد !!، فهذا أمرٌ غريب، ولا سيما من إمام الحرمين !!
مسألة النص على الخلافة لعلي (ع) كانت من المسلّمات والمسائل البديهية، فلم يشكّ بذلك أحد، والروايات على ذلك مستفيضة ومشهورة، بل متواترة، منها:
يقول عبد الله بن أحمد بن حنبل: " حدثنا علي بن حكيم الأودي ، نا شريك ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، قال :ما زال علي رضي الله عنه يذكر ما لقي حتى بكى ".
ويقول البلاذري: " حدثني روح بن عبد المؤمن، عن أبي عوانة، عن خالد الحذاء عن عبد الرحمن بن أبي بكرة: أن علياً أتاهم عائداً فقال: ما لقي أحد من هذه الأمة ما لقيت، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أحق الناس بهذا الأمر؛ فبايع الناس أبا بكر، فاستخلف عمر، فبايعت ورضيت وسلمت، ثم بايع الناس عثمان فبايعت وسلمت ورضيت، وهم الآن يميلون بيني وبين معاوية ".
ويقول ابن حجر: " كثير بن يحيى بن كثير صاحب البصري: شيعي نهى عباس العنبري الناس عن الأخذ عنه وقال الأزدي: عنده مناكير ثم ساق له عن أبي عوانة عن خالد الحذاء عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه سمعت علياً رضي الله عنه يقول: ولي أبو بكر رضي الله عنه وكنت أحق الناس بالخلافة قلت: هذا موضوع علي أبي عوانة ولم اعرف من حدث به عن كثير انتهى وقد روى عنه عبد الله بن أحمد وأبو زرعة وغيرهما قال أبو حاتم: محله الصدق وكان يتشيع وقال أبو زرعة: صدوق وذكره ابن حبان في الثقات فلعل الآفة ممن بعد ".
ويقول ابن الأعرابي: " نا محمد بن الحسين بن أبي الحنين الكوفي ، نا عمرو أظنه ابن حماد ، نا أسباط يعني ابن نصر ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن عليا كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يقول : أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم والله لا انقلبنا على أعقابنا بعد إذ هدانا ، والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت ، والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه فمن أحق به مني ".
ومناشدات الإمام علي (ع) مذكورة في الكتب الحديثية، وغيرها من الروايات.
فإن لم يكن الأدلة تلك، فأيّ نوع من الأدلة تطلب ؟!!
يقول: "
وإذا ثبت أن الإمامة لم تثبت نصا لأحد دل أنها ثبت اختيارا ".
أقول: إنّ الخلافة ثبتت بالنصّ الجلي، والدليل العقلي قائم على ذلك أيضاً، وكذا الفطرة و..الخ.
فالنصّ: لا يشكك به إلاّ مكابر، فحديث الثقلين والغدير والمنزلة والدار والـ..الخ. ثابتة في التاريخ ولا يشكك بذلك إلا معاند.
وكما أن دلالة هذه الأحاديث صريحة ولا يمكن تأويلها إلى غيرها.
والعقل: وذلك على مستويات:
الأول: إنّ العقل يختارُ الخليفة: المعصوم، والأعلم، والأفضل، والأشجع، والأعدل.
فإنْ توفّر المعصوم لا يحكم العاقل العدول عنه إلى غير المعصوم.
وإن وجدَ الأعلم، اتّبع العقل الأعلم، وكذا الأفضل والأشجع والأعدل.
وبينما نجد أنّ جميع هذه الصفات الخمس غير موجودة في الخلفات الثلاثة.
أمّا العصمة فلا أحد يدّعيها، بل يقول أبو بكر: " إن لي شيطاناً يعتريني "، والأعلمية: فهي منفيّة عنهم، لوجود الروايات التاريخية التي تؤكّد أنهم كانوا يرجعون إلى علي (ع) في المسائل العقدية والفقهية، حتّى قال عمر في مواطن كثيرة جداً: " لولا علي لهلك عمر "، و " لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبا الحسن " و..الخ. وأمّا بالنسبة إلى الأفضلية، فكان علي أفضل الصحابة بلا منازع، فالآيات الواردة فيه، والفضائل الواردة في حقّه، حتى قال علماء العامّة أنّه لم يأتِ لأحد من الصحابة فضائل ممّا جاء في علي (ع)، يقول ابن حجر: " ومناقبه كثيرة حتى قال الإمام أحمد: لم ينقل لأحد من الصحابة ما نقل لعلي، وقال غيره: وكان سبب ذلك بغض بني أمية له فكان كل من كان عنده علم من شيء من مناقبه من الصحابة يثبته وكلما أرادوا إخماده وهددوا من حدث بمناقبه لا يزداد إلا انتشارا.
وقد ولد له الرافضة مناقب موضوعة هو غنى عنها وتتبع النسائي ما خصّ به من دون الصحابة فجمع من ذلك شيئا كثيرا بأسانيد أكثرها جياد ".
فهذا أحمد بن أحمد والعسقلاني والنسائي وغيرهم كثيرون قد جمعوا فضائله (ع) فلم يبلغ فضائل أحد من الصحابة مما بلغ من ذلك في علي (ع).
حتّى أنّ بعض الصحابة قالوا: لعلي فضائل لو كانت واحدة منها لنا لكانت أحب إلينا من حمر النِعم.
وأمّا بالنسبة للشجاعة: فمن المسلّمات أنّ عليّاً (ع) هو الذي قتل مرحب الخيبري، وعمرو بن ودّ العامري، وقلع باب خيبر، ونام في فراش رسول الله (ص)، أمّا الثلاثة فقد ورد في التاريخ أنّهم فرّوا من الزحف، وهروبهم من مرحب الخيبري ورجعتهم خائبين.
وأمّا العدالة: فقد ورد بأنّ علي أعدل الناس، فمن خلال مطالعة السيرة نجد أنّ علياً (ع) لا يأكل خيفة وجود جائع، وكان في الليل البهيم يذهب إلى بيوت الناس ويعطيهم الطعام، وكلّما امتلاءت خزنة بيت المال كان ينفقها جميعها ثم يكنسها ويصلي ركعتين.
الثاني: إنّ من خلال النظرة السريعة إلى السيرة النبوية نجد أنّه (ص) كلما كان يخرج إلى غزوة كان يضع والياً مؤقتاً على المدينة إلى حيثما يعود، لكن لماذا ؟!
وجوابه: لكي يخمد الفتن، ويحرس المسلمين، ويحل النزاعات والاختلافات.
نقول: إذا كان (ص) يذهب إلى غزوة أقل من سنة واحدة ويضع خليفة خيفة الاختلافات والنزاعات، فهل يمكن أن يذهب من الدنيا دون أن يضع خليفة من بعده ؟!!
وكما أنّ مسألة الإمامة لا يمكن أن تكون اختياراً بيد الأمة، فهذه مسألة تتعلق بأمر الله ، حيث يقول في كتابه الكريم: " إني جاعلك للناس إماما "، فهذا الجعل من الله تعالى، وليس باختيار من الناس.
يقول: "
ثم المسلمون أجمعوا على إمامة أبي بكر رضي الله عنه وانقادوا بأجمعهم له من غير مخالفة ".
أقول: عن أيّ اجماع تقول، وقد تخلّف عن بيعة أبي بكر كبار الصحابة ؟!!
أين سعد بن عبادة ؟! وأين علي بن أبي طالب (ع) طيلة ستّة أشهر ؟!! وأين سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (ع)، فهل بايعت أبي بكر ؟!! أين بني هاشم ؟!! أين.. وأين.. ؟!!
فعن أي اجماع تتحدث، وأي اتفاق تتدعي ؟ واي انقياد ؟!!!
وقد قال عمر عن خلافة أبي بكر: " كانت فلتة وقى الله شرّها ".
وقد كنت قد كتبت رسالة مختصرة في هذا الشأن، تجدونه على هذا الرابط:
هل خلافة أبو بكر مجمع عليها ؟
يقول: "
وكذلك جرى الأمر في زمن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ومعاوية وإن قاتل عليا فإنه كان لا ينكر إمامته ولا يدعيها لنفسه وإنما كان يطلب قتلة عثمان رضي الله عنه ظانا أنه مصيب وكان مخطئا وعلي رضي الله عنهم وعنه 122 ومتمسك بالحق ".
أقول: اتدعي اجماع الناس واختيارهم لابن الخطّاب ؟!!
عمر كان منصّباً نصّاً من أبي بكر !!
أمّا عثمان فقد قُتل، فأي اجماع تقول ؟!!
فقد حصروه عشرة أيام في بيته، ومنع عن طلحة والزبير الماء، وقد قتله أحد الصحابة !!
وأمّا بالنسبة إلى الاجماع على خلافة معاوية فهو مضحك، فمعاوية جعل نفسه خليفة وقد أنكر خلافة الامام علي (ع)، وعندما عزله الامام (ع) عن الشام لم ينعزل، وإنما بقى متمسّكاً بذلك، وقول عمرو بن العاص في قصيدته الجلجلية واضحة:
خلعتُ الخلافة من حيدر * كخلع النعال من الأرجل
وألبستها فيك بعد الآياس * كلبس الخواتيم في الأنمل
ورقّيتك المنبرَ المشمخرّ * بلا حدِّ سيف ولا منصل
فهذه أبيات واضحة جليّة لا ينكرها إلاّ معاند، ولا يجحدها إلا مكابر.
يقول: "
الخلفاء الراشدون لما ترتبوا في الإمامة فالظاهر ترتيبهم في الفضيلة فخير الناس بعد رسول الله أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين ".
أقول: إنْ كان كذلك، فلماذا نبي الله آدم (ع) ليس أفضل من محمد (ص) ؟!!
أليس هو أبو البشر ؟! أليس هو أول الأنبياء ؟!! فلماذا محمد (ص) أفضل من آدم (ع) ؟!
لماذا نبي الله إبراهيم (ع) أفضل من آدم (ع) ؟!!
يقول: "
إذ المسلمون كانوا لا يقدمون للإمامة أحدا تشهيا منهم وإنما قدموا من قدموه لاعتقادهم كونه أفضل وأصلح للإمامة من غيره ".
أقول: كما يظهر بأنّ اختيار الله تعالى لا يكون حكيماً، واختيار الناس!! حكيماً وصواباً.
اختيار الناس ليس تشهيّاً وتقديمهم لأبي بكر يدل على أفضليته.
وتقديم الله تعالى آدم (ص) على محمد (ص) في النبوة ليس بأفضل ؟!!
يقول: "
لا يصلح للإمامة إلا من تجتمع فيه شرائط أحدها أن يكون قرشيا فإن رسول الله عليه السلام قال الأئمة من قريش والآخر أن يكون مجتهدا من أهل الفتوى وأن يكون ذا نجدة وكفاية وتهد لسياسة الأمور وإيالتها وأن يكون حرا ورعا في دينه وكل هذه الشرائط كانت موجودة في خلفاء رسول الله عليه السلام وقد قال عليه السلام سنة الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا عضوضا وكانت أيام الخلفاء هذا القدر والله الهادي ".
أقول: إنّ جملة من الشرائط غير متوفّرة في الخلفاء !!
فالاجتهاد غير موجود فيهم، وإنما كان علي (ع) كان يحلّ مسائلهم المعقدّة، وأسئلتهم المستعصية.
وأمّا بالنسبة للسياسة، فالسياسة هي إدارة البلاد والعباد، وليست سياسة البطش والظلم والقهر كما كانت سياستهم.
والورع: كما انّها لم توجد فيهم هذه الخصلة لمن اطّلع على التاريخ بدقّة.
وادعائه ـ الجويني ـ بأنّ هذه الشرائط موجودة مجانب للصواب، ومغاير للحقيقة.
وأمّا بالنسبة لرواية الملك العضوض فهي رواية موضوعة، إذ أنّها تخالف مع حديث " الأئمة من قريش " لأنّ تتمة الرواية تقول بأنّ: " الخلفاء من بعدي اثنا عشر ".
وقد تقدّم بأنّه لم يمرّ في الثلاثين سنة إلاّ خمسة خلفاء، فهذا تناقض ظاهر.
ورواية الملك العضوض رواية آحاد، ورواية الائمة في قريش مستفيضة إن لم تكن متواترة.