و قد سئل بعض أساتيذنا رحمة الله عليه: عن تقريب دلالة على عصمة الإمام .
فأجاب: أن الناس بحسب القسمة العقلية على أربعة أقسام: من كان ظالما في جميع عمره، و من لم يكن ظالما في جميع عمره ، و من هو ظالم في أول عمره دون آخره ، و من هو بالعكس هذا.
و إبراهيم (عليه السلام) أجل شأنا من أن يسأل الإمامة للقسم الأول و الرابع من ذريته، فبقي قسمان و قد نفى الله أحدهما ، و هو الذي يكون ظالما في أول عمره دون آخره ، فبقي الآخر، و هو الذي يكون غير ظالم في جميع عمره انتهى و قد ظهر مما تقدم من البيان أمور:
الأول: إن الإمامة لمجعولة .
الثاني: أن الإمام يجب أن يكون معصوما بعصمة إلهية .
الثالث: أن الأرض و فيه الناس ، لا تخلو عن إمام حق .
الرابع: أن الإمام يجب أن يكون مؤيدا من عند الله تعالى .
الخامس: أن أعمال العباد غير محجوبة عن علم الإمام .
السادس: أنه يجب أن يكون عالما بجميع ما يحتاج إليه الناس في أمور معاشهم و معادهم .
السابع: أنه يستحيل أن يوجد فيهم من يفوقه في فضائل النفس .
فهذه سبع مسائل هي أمهات مسائل الإمامة: تعطيها الآية الشريفة بما ينضم إليها من الآيات و الله الهادي(انتهى)
وقال السيد محمد حسين الحسيني (معرفة الامام ج1ص217 دار المحجة البيضاء مجلد1 ) في هذه المسائل المستدله من القرآن ما يلي .
المسألة الاولى : انّ الإمامة ليست قابلة للاختيار و الانتخاب ، بل هي مجعولة بجعلٍ الهيّ يُعلن للناس من قبل النبّي او الإمام السابق ، او باتّضاح الإمام نفسه للناس بواسطة النصوص و المعجزات ، لأنّه
أولاً ـ و كما قلنا ـ فانّ الله سبحانه و تعالى يعرّف هذا المنصب في القرءان الكريم بعنوان (الجعل و التنصيب الالهيّ) ، حيث ورد :
قَالَ إِنّى جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَامًا (سورة البقرة / الآية 124) .
و يقول أيضاً : (( وَ جَعَلْنَا مِنْهُم أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُوا ...)(سورة السجده / الآية 24) .
و يقول أيضاً (( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ...))(سورة الأنبياء / الآية 73 ) .
و في جميع هذه الآيات التي ذكرت منصب الإمامة ، فإنها أوردت عنوان الجعل الالهيّ .
ثانياً : انّ الإمامة قوّة الهيّة في نفس الإمام يحصل بواسطتها على الاطّلاع على ملكوت و نفوس الأشياء و يسيطر عليها ، كما هو مستفاد من جملة يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ، فمن كانت فيه هذه القوّة كان هو الإمام ، و من خلا منها لم يكن إماماً .
و لا دخل للاختيار و الانتخاب في هذا الأمر ، ليس لجهة قولنا انّ الناس باعتبار جهلهم بالملكوت و بمقام العصمة لا يمكنهم معرفة الامام ، ولذا فانّ انتخابهم و اختيارهم ليس صحيحاً ، بل اننا لو فرضنا انّ جميع الناس صار لهم اطّلاع على ملكوت الأشياء و روحها ، و انّ الله قد أعطاهم نوراً يمكنهم به تشخيص مقام العصمة ، فانّ الإمامة ـ مع ذلك ـ لن تكون قابلة للانتخاب ، لأنها ـ و كما قلنا سابقاً ـ ملكة الهيّة و قوّة قدسيّة موجودة في نفس الإمام ، و ليس هناك من معنى للقول بأنّ الانسان ينتخب موجوداً خارجياً ، فالموجود الخارجي موجود و لا يحتاج الى انتخاب الانسان ليوجد . أمن الصحيح أن نقول للعالِم الذي صارت لديه مَلَكة استنباط الأحكام : انّنا ننتخب اجتهادك ؟ أو نقول للبطل الفائز في المسابقات والذي وصلت القدرة في بدنه الى الفعليّة : انّنا ننتخب قوّتك ؟ أو نقول لحافظ القرءان الكريم : انّنا ننتخب حفظك ؟! كلّا بالطبع ، فهذا الكلام ليس صحيحاً أبداً .
انّ الانتخاب يحصل في الأمور الاعتباريّة التي دورانها بيد الاعتبار والانتخاب ، و التي توجد بواسطة الانتخاب و تفنى بعدمه . امّا في الأمور التكوينيّة و الواقعيّة التي وجدت قبل مرحلة الانتخاب و امتلكت وجودها ، فانّ الانتخاب ليس له مجال فيها أبداً .
المسألة الثانية : انّ الإمام يجب حتماً ان يكون معصوماً بعصمة الباري جلّ و عزّ ، و قد استنتجنا بعض الاستنتاجات في هذا الباب من ءايات : لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظّلِمِينَ . و جملة : يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا و جملة : وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيرَاتِ ؛ و أصبح معلوماً أنّ الإمام حينما عبر جميع مراحل النفس و تحقّق بوجود حضرة الحقّ ، و تحكّمت في وجوده إرادة و مشيئة الحقّ دون تدخّل النفس الأمّارة ، و صار فعله نفس وحي الله ، لذا فانّ ذلك الإمام معصوم و منزّه عن كلّ دنس نفسي ، و هذا هو معنى العصمة .
كما اننا استفدنا المصونيّة و العصمة من ءاية : (( ... فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ))(سورة الجن / الآية 27 ) .
بحيث أوضحت الآيات القرآنية هذه الحقيقة بشكل كامل .
المسألة الثالثة: ان الامام يجب ان يكون مؤيّداً من عند الله ، أي انّ علومه و إدراكاته تحصل في نفسه بواسطة اليقين و الإلهامات الغيبيّة ، ويكون الله هو المتكفّل بأموره ، و قد أستفيد هذا الأمر من جملة : وَ أَوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ (الانبياء 73) ، و جملة : لَمّا صَبَرُوا وَ كَانُوا بآيتنا يُوقِنُونَ (السجده/ 24) ، و جملة : يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا (السجده/24) ، لإنّ الإمامة تستلزم امتلاك مقام اليقين ، و مقام اليقين كما ذُكر ليس ميسوراً دون انكشاف الملكوت و حقيقة الأشياء و بناءً على هذا فانّ الله سبحانه و تعالى يؤيّده كلّ لحظة بانكشاف الملكوت و الهداية بأمر الله .
المسألة الرابعة : انّ الأرض و جميع الأفراد الذين يعيشون عليها لهم إمام في كلّ زمان ، و لا يمكن أن تخلو الأرض عن حجّة الله أبداً ، و قد استفيد هذا الأمر أيضاً من ءاية (( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ...))(سورة الإسراء / الآية 71 ) ، لأن الله سبحانه و تعالى يدعو جميع أفراد بني ءادم الى الحشر يوم القيامة بإمامهم ، فلا يوجد فردٌ من البشر إلّا و له إمام ، و لا يوجد فردٌ على الأرض بدون إمام ، كما انّه ورد في روايات كثيرة انّه لو لم يبقَ على الأرض الّا نفرين ، لكان أحدهما إماماً للأخر ، و لو لم يوجد الّا شخص واحد لوجب أن يكون الإمام نفسه .
المسألة الخامسة: انّ الامام يعلم بجميع أعمال و أقوال و سيرة وملكات عباد الله ، و ليس هناك علمٌ غائب أو مخفٍ عن نظر الإمام ،...، لأنّ الامام له سيطرة على نفوس و ملكوت الموجودات ، و مع هذه الملكة فانّ جميع الأرواح و النفوس و روح الأعمال ستكون في مشهد الإمام و في حضور الولاية ، كما انّ موجودات عالم الطبيعة مشهودة عند الشخص البصير و غائبة عند الأعمى .
و بالرغم من أنّ ملكوت كثير من الأعمال و الأقوال و النفوس سينكشف لدى الأفراد الذين لم يصلوا بعدُ الى مرحلة الإمامة ، و بالرغم من انّ هذا المعنى سيتّضح لديهم اثر التقوى و العبادة و مخالفة النفس الأمّارة وجاهدتها ، الّا انّهم لن يمتلكوا السيطرة الكليّة على جميع الأرواح والنفوس أو هداية كلّ منهما الى كماله ، كلّاً حسب دوره و بقدر ظرفيّته ، لكنّ هذه الدرجة من البصيرة هي بصيرة القلب التي لا توجد لدى الأخرين ، الّا ان هذه البصيرة و الرؤية قويّة و نافذة لدى الإمام بحيث لا يخفى عنه شي ء من الملكوت في كلّ ءان و في أيّ مكان .
المسألة السادسة : انّ الإمام يعلم جميع الأمور التي يحتاجها العباد في معاشهم أو معادهم ، لأنّه ـ و حسب الفرض ـ فانّ الإمام يهدي النفوس الى الحقّ من ملكوتها ، و يوصلها الى كمالها ، فكيف يمكن أن يكون نفسه جاهلاً بما يحتاجه العباد في أمور تكاملهم ؟ و هذه الخاصيّة تتّضح أيضاً من الآية القرآنية : يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ، و من أفضليّة مقام الإمامة على النبوّة حسب مفاد خطاب حضرة الحقّ لإبراهيم الخليل . و علاوةً على ذلك ، فلأن فعل الإمام و قوله منطبق على الحقّ بتمام معنى الكلمة ، و لأنّ الإمام قد خطا في مقام العبوديّة و التقرّب الى مرحلةٍ بعيدة بحيث انّ الله نفسه سيكون هو الأمر و الناهي في وجوده ، و سيكون فعل الإمام هو عين وحي الله ، فكما انّ ما يحتاجه العباد ليس خافياً على الله ، فانّه لن يكون خافياً على الإمام الذي هو المجلى الأتمّ و المجرى الكامل لإفاضات الحضرة الأحديّة الى الموجودات ، و هذا الأمر ليس خافياً على الامام ، بل انّ علم الامام هو عين علم الله تعالى ، و ليس هناك أي تفاوت في أصل المعنى .
المسألة السابعة : انّ الامام هو أعلى من جميع أفراد البشر من حيث الفضائل النفسانيّة و الملكات الالهيّة ، و من المستحيل أن يكون هناك شخص أفضل من الإمام في محاسن الاخلاق و الملكات الانسانيّة ، لأنّه ـ و كما فرضنا ـ فانّ الطريق الى الله عن طريق ملكات و صفات النفس . ولأنّ الامام أعلى و أرفع من سائر الأفراد في هذه المرحلة ، لذا فانّه يهديهم عن طريق الملكوت الى الحقّ ، و اذا ما وجد في هذه الحالة شخصان أحدهما يفوق الأخر في هذا المعنى ، فانّ الشخص المتفوّق سيكون حتماً إماماً للآخر ، لإنّ الذي أفق ملكوته و نفسه أنور و أكثر مضاءً و بصيرة سيستطيع أن يدعو الى منزله و محلّه الشخص الأخر الذي ليس في مستوى أفقه ، و في هذه الحالة فانّه سيكون هو الإمام ، خلافاً للشخص الضعيف الذي لن يستطع تحريك القوي أو تحمّل ثقله .
و هذه المسائل السبع هي من أصول مسائل الإمامة ، و سائر المسائل الأخرى متفرّعة عنها (انتهى).(معرفة الامام ج1ص217 لمحمد حسين الحسيني دار المحجة البيضاء مجلد1).
وقال السيد محمد حسين الطباطبائي(تفسير الميزان ج1 ص154 )
فإن قلت: لو كانت الإمامة هي الهداية بأمر الله تعالى: و هي الهداية إلى الحق الملازم مع الاهتداء بالذات كما استفيد من قوله تعالى: ((أ فمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع)) الآية , كان جميع الأنبياء أئمة قطعا ، لوضوح أن نبوة النبي لا يتم إلا باهتداء من جانب الله تعالى بالوحي ، من غير أن يكون مكتسبا من الغير، بتعليم أو إرشاد و نحوهما ، و حينئذ فموهبة النبوة تستلزم موهبة الإمامة ، و عاد الإشكال إلى أنفسكم . قلت: الذي يتحصل من البيان السابق المستفاد من الآية أن الهداية بالحق وهي الإمامة تستلزم الاهتداء بالحق ، و أما العكس وهو أن يكون كل من اهتدى بالحق هاديا لغيره بالحق ، حتى يكون كل نبي لاهتدائه بالذات إماما ، فلم يتبين بعد ، و قد ذكر سبحانه هذا الاهتداء بالحق ، من غير أن يقرنه بهداية الغير بالحق في قوله تعالى (( وهبنا له إسحاق و يعقوب كلا هدينا و نوحا هدينا من قبل، و من ذريته داود و سليمان و أيوب و يوسف و موسى و هرون و كذلك نجزي المحسنين. و زكريا و يحيى و عيسى و إلياس كل من الصالحين، و إسمعيل و اليسع و يونس و لوطا و كلا فضلنا على العالمين. و من آبائهم و ذرياتهم و إخوانهم و اجتبيناهم و هديناهم إلى صراط مستقيم. ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده، و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون أولئك الذين آتيناهم الكتاب و الحكم و النبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين. أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ))(سورة الأنعام / الآية 90) ، و سياق الآيات كما ترى يعطي أن هذه الهداية أمر ليس من شأنه أن يتغير و يتخلف ، و أن هذه الهداية لن ترتفع بعد رسول الله عن أمته ، بل عن ذرية إبراهيم منهم خاصة ، كما يدل عليه قوله تعالى: (( و إذ قال إبراهيم لأبيه و قومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين . و جعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون))(سورة الزخرف /الآية 28) ، فأعلم قومه ببراءته في الحال و أخبرهم بهدايته في المستقبل ، و هي الهداية بأمر الله حقا ، لا الهداية التي يعطيها النظر والاعتبار، فإنها كانت حاصلة مدلولا عليها بقوله (( إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني)) ، ثم أخبر الله: أنه جعل هذه الهداية كلمة باقية في عقب إبراهيم ، و هذا أحد الموارد التي أطلق القرآن الكلمة فيها على الأمر الخارجي دون القول ، كقوله تعالى: (( و ألزمهم كلمة التقوى و كانوا أحق بها))(سورة الفتح / الآية 26) .
و قد تبين بما ذكر: أن الإمامة في ولد إبراهيم بعده ، و في قوله تعالى: (( قال و من ذريتي . قال لا ينال عهدي الظالمين)) إشارة إلى ذلك ، فإن إبراهيم (عليه السلام) إنما كان سأل الإمامة لبعض ذريته لا لجميعهم ، فأجيب: بنفيها عن الظالمين من ولده ، و ليس جميع ولده ظالمين بالضرورة حتى يكون نفيها عن الظالمين نفيا لها عن الجميع ، ففيه إجابة لما سأله مع بيان أنها عهد ، و عهده تعالى لا ينال الظالمين(انتهى).
قال العلامه جار الله الزمخشري (الكشاف باب124 ج1ص124):
(( وَمِن ذُرّيَتِى )) عطف على الكاف ، كأنه قال : وجاعل بعض ذريتي ، كما يقال لك : سأكرمك ، فتقول : وزيداً (( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين )) وقرئ : «الظالمون» ، أي من كان ظالماً من ذرّيتك ... لا يناله استخلافي وعهدي إليه بالإمامة ، وإنما ينال من كان عادلاً بريئاً من الظلم وقالوا : في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة .
وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته . ولا تجب طاعته ؛ ولا يقبل خبره ، ولا يقدّم للصلاة . وكان أبو حنيفة رحمه الله يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن عليّ رضوان الله عليهما ، وحمل المال إليه ، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة ، كالدوانيقي وأشباهه . وقالت له امرأة : أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابني عبد الله بن الحسن حتى قتل . فقال : ليتني مكان ابنك . وكان يقول في المنصور وأشياعه : لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على عدّ آجره لما فعلت . وعن ابن عيينة : لا يكون الظالم إماماً قط . وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة ، والإمام إنما هو لكف الظلمة . فإذا نصب من كان ظالماً في نفسه فقد جاء المثل السائر : من استرعى الذئب ظلم (انتهى).
وقال الشيخ علي الرباني (حينما تطرق الى الحديث النبوي المعروف (من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهليه)) :
استدل متكلموا اهل السنه بهذا الحديث على وجوب الإمامة , ذلك ان وجوب معرفة الامام دون وجوده امر متعذر . طالع في هذا الصدد : شرح المقاصد ج5 ص239 , شرح العقائد النسفيه ص110 ت (انتهى)
وقال الشيخ علي الرباني :
وطبعا ليس المراد بمنصب الإمامة الذرية ، الكريمة والذي أعطاه الله سبحانه وتعالى لإبراهيم عليه السلام هو منصب النبوة أو الرسالة فإن منصب النبوة هو منصب تحمل الوحي ، ومنصب الرسالة هو منصب إبلاغه للناس ، وقد كان الخليل عليه السلام قائما بوظائفهما سنين طويلة قبل أن يعطى منصب الإمامة الذي هو منصب القيادة وتنفيذ الشريعة في المجتمع بقوة وقدرة ، أما هذا المنصب " الإمامة - فقد أعطي إياه في أخريات عمره ، يدل على ذلك أنه طلب هذا المنصب لبعض ذريته ، ومعلوم أنه(ع) رُزق الذرية في الكبر (( الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء ))(سورة إبراهيم / الآية 39 )
وقد كان نبيا رسولا قبل أن يرزق الذرية ، فطلبه هذا المنصب لبعض ذريته يدل على وجود خلف وذرية له (قواعد العقائد ـ تحقيق علي الرباني ج5ص34)
في الكافي ، عن الامام جعفر الصادق (عليه السلام): أن الله عز و جل اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا ، و أن الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا، و أن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا، و أن الله اتخذه خليلا قبل أن يتخذه إماما، فلما جمع له الأشياء قال: "إني جاعلك للناس إماما" قال (عليه السلام): فمن عظمها في عين إبراهيم قال: و من ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين قال: لا يكون السفيه إمام التقي .
قال القرطبي :
وقوله: (( قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ))الآية , لما جعل الله إبراهيم إمامًا ، سأل الله أن تكون الأئمةُ من بعده من ذريته ، فأجيب إلى ذلك وأخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون ، وأنه لا ينالهم عهد الله ، ولا يكونون أئمة فلا يقتدى بهم ، والدليل على أنه أجيب إلى طَلِبَتِهِ قول الله تعالى في سورة العنكبوت: (( وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ))(سورة العنكبوت / الآية 27 ), فكل نبي أرسله الله وكل كتاب أنزله الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه وعليهم أجمعين .
قال البيضاوي
ولمّا جعله الله(ابراهيم) إماماً طلب ذلك لأولاده فقال : (( ومن ذريتي )) فاجعل أئمة ، قال الحق تعالى : (( لا ينال عهدي )) أي : لا يلحق عهدي بالإمامة (( الظالمين )) منهم ، إذ لا يصلح للإمامة إلا البررة الأتقياء ، لأنها أمانة من الله وعهد ، والظالم لا يصلح لها ، وفيه تنبيه على أنه قد يكون من ذريته ظلمة لا يستحقون الإمامة ، وفيه دليل على عصمة الأنبياء قبل البعثة ، وأن الفاسق لا يصلح للإمامة . (قاله البيضاوي ).
وقال الشيخ الطوسي في تفسيره التبيان :
واستدل اصحابنا بهذه الآية على ان الامام لا يكون إلا معصوما من القبائح ، لان الله تعالى نفى ان ينال عهده - الذي هو الامامة – ظالم ، ومن ليس بمعصوم فهو ظالم: إما لنفسه ، أو لغيره .
فان قيل: انما نفى ان يناله ظالم - في حال كونه كذلك - فاما اذا تاب وأناب ، فلا يسمى ظالما ، فلا يمتنع أن ينال .
قلنا: اذا تاب لا يخرج من أن تكون الآية تناولته - في حال كونه ظالما - فاذا نفي ان يناله ، فقد حكم عليه بانه لا ينالها ، ولم يفد انه لا ينالها في هذه الحال دون غيرها ، فيجب ان تحمل الآية على عموم الاوقات في ذلك ، ولا ينالها وإن تاب فيما بعد .
واستدلوا بها ايضا على أن منزلة الامامة منفصلة من النبوة ، لان الله خاطب ابراهيم (ع) وهو نبي ، فقال له: انه سيجعله إماما جزاء له على اتمامه ما ابتلاه الله به من الكلمات ، ولو كان إماما في الحال ، لما كان للكلام معنى ، فدل ذلك على ان منزلة الامامة منفصلة من النبوة .
(التبيان في تفسير القرآن / للشيخ محمد بن الحسن الطوسي
385 - 460 هـ / تحقيق وتصحيح أحمد حبيب قصير العاملي / ج1ص444)
وقال أحمد بن محمد بن عجيبة الحَسَنِي :
إذا أراد الله تعالى أن يجعل وليّاً من أوليائه إماماً يُقتدى به ، وداعياً يدعو إليه ، ابتلاه ، فإن صبر ورضي اصطفاه ، ولحضرته اجتباه ، فيكون إماماً يُقتدى به ، وداعياً يُهتدى به ، وهذه سنة الله تعالى في أصفيائه يبتليهم الله تعالى بتسليط الخلق عليهم وأنواع من البلايا ، فإذا نقوا من البقايا ، وتكلمت فيهم المزايا ، أظهرهم للخلق داعين إلى الله ومرشدين إلى طريق الله ، وقد تبقى الإمامة ذريتهم إن ساروا على هديهم ، ومَن لم يسلك به هذا المسلك فلا يصلح للإمامة ، وإن توجه إليها كان ناقصّا في الدعوة ، ولذلك قال بعضهم : ( من ادّعى شهود الجمال قبل تأدبه بالجلال ، فارفضه فإنه دجال ) . وكل من اتصف بشيء من ظلم العباد لا ينال عهد الإمام في طريق الإرشاد ، وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق (انتهى).( البحر المديد في تفسير القرآن المجيد باب 124 ج1ص100 ـ معتمد فيه على : تفسير البيضاوي وأبي السعود ، وحاشية سيدي عبد الرحمن الفاسي ، وشيء من تفسير ابن جزي والثعلبي والقشيري . الاحد 6/ ربيع / 1221 هج ، لأحمد بن محمد بن عجيبة الحَسَنِي )
ونقل لي احد اساتذة الحوزة هذا الحوار الذي جرى بين رئيسي قبيلتين الاول موالي لمدرسة اهل البيت والثاني موالي لمدرسة الصحابه .
قال الثاني للأول : لماذا اتبعت علي وفضلته على الثلاثة , فقال الثاني : انني عطشان وعند علي قدح طاهر منذ ان خلق الله علي وفيه ماء , اما الثلاثة فعندهم قدح ولكنه كان نجسا في بادئ الامر ثم تطهر وفيه ماء , فاني رأيت القدح الذي لم يتنجس قط وبقي طاهرا اولى بان اشرب منه الماء , فابتهج الثاني بهذا الدليل الفطري (اقول : ان دل هذا على شيء فانما يدل على ان الحق واضح ابلج , تخشع له الفطرة السليمة) .
نقل عبدالله بن عجلان عن ابي جعفر ( ع ) في هذه الآية : هم الائمة ومن تبعهم ، قال ابراهيم : ومن ذريتي ، ومن للتبعيض ليعلم ان فيهم من يستحقها ومن لا يستحقها ومستحيل أن يدعو إلا من هو مثله في الطهارة لقوله ( لا ينال عهدي الظالمين ) وقال ومن تبعني فانه منى ، فيجب أن
يكونوا معصومين ، ولما سأل الرزق قال (( وارزق أهله من الثمرات )) سال عاما ولما سأل الامامة سأل خاصا قال (( ومن ذريتي )) قال الصادق ( ع ) في قوله ( : وجعلها كلمة باقية في عقبه ) أي الامامة إلى يوم القيامة . قال السدي : عقبه آل محمد .
جهة الخبر بالتمسك بهم على الاطلاق فاقتضى ذلك عصمتهم ..(مناقب آل ابي طالب ج1ص254)
حَدَّثَنَا أَبِي ،حدثنا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، حدثنا مَرْوَانُ، حدثنا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ (( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )) ، يَقُولُ: لا يَنَالُ طَاعَتِي عَدُوٌّ لِي وَلا أُنْحِلُهَا إِلا وَلِيًّا لِي يُطِيعُنِي ، وَرُوِيَ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ نَحْوُ ذَلِكَ
وقال ابن كثير ( تفسير بن كثير ج1ص 405 , للشيخ إسْماعيلَ بْنِ عُمَرَ بْنِ ضَوْءِ بْنِ كَثيرٍ القُرَشِيِّ الشَّافِعِيِّ الدّمَشْقِيِّ ):
سأل الله أن تكون الأئمةُ من بعده من ذريته (رسول الله ابراهيم الخليل(ع)) ، فأجيب إلى ذلك وأخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون ، وأنه لا ينالهم عهد الله ، ولا يكونون أئمة فلا يقتدى بهم ، والدليل على أنه أجيب إلى طَلِبَتِهِ قول الله تعالى في سورة العنكبوت: (( وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ))(سورة العنكبوت / الآية 27 ), فكل نبي أرسله الله وكل كتاب أنزله الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثني أبي ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا شريك ، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: (( وَمِنْ ذُرِّيَّتِي )) قال: أما من كان منهم صالحًا فسأجعله إمامًا يقتدى به ، وأما من كان ظالما فلا ولا نُعْمَةَ عَيْنٍ .
وقال سعيد بن جبير: (( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )) المراد به المشرك ، لا يكون إمام ظالم . يقول : لا يكون إمام مشرك .
وقال ابن جُرَيج ، عن عطاء ، قال: (( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي )) فأبى أن يجعل من ذريته إمامًا ظالمًا . قلت لعطاء : ما عهده ؟ قال: أمره .
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا عمرو بن ثور القيساري فيما كتب إلي، حدثنا الفريابي، حدثنا إسرائيل، حدثنا سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال الله لإبراهيم: (( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي )) فأبى أن يفعل، ثم قال: (( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ))
وقال العوفي ، عن ابن عباس: (( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )) قال: يعني لا عهدَ لظالم عليك في ظلمه ، أن تطيعه فيه.
وقال ابن جرير: حدثنا المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله، عن إسرائيل ، عن مسلم الأعور، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال: (( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )) قال: ليس للظالمين عهد ، وإن عاهدته فانتقضه .
وروي عن مجاهد ، وعطاء ، ومقاتل بن حيان ، نحو ذلك .
وقال الثوري ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه ، قال: ليس لظالم عهد .
وقال جويبر، عن الضحاك: لا ينال طاعتي عدو لي يعصيني ، ولا أنحلها إلا وليًّا لي يطيعني .
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن سعيد الأسدي ، حدثنا سليم بن سعيد الدامغاني ، حدثنا وَكِيع ، عن الأعمش ، عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي بن أبي طالب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: (( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )) قال: "لا طاعة إلا في المعروف" (البخاري في صحيحه برقم (7257)) .
ثانيا ـ قوله تعالى : (( ... قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قال لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ))
1ـ معنى العهد في الآية المباركة
قال محمد الطاهر بن عاشور :
{ ينال } مضارع نال نيلاً بالياء إذا أصاب شيئاً والتحق به أي لا يصيب عهدي الظالمين أي لا يشملهم ، فالعهد هنا بمعنى الوعد المؤكد ..
(التحرير والتنوير باب 124 ج1ص465 )
قال ابو السعود في تفسيره:
إنما أوثِرَ النيلُ على الجعلِ إيماءً إلى أن إمامة الأنبياءِ عليهم السلام من ذريته عليه السلام كإسماعيلَ وإسحقَ ويعقوبَ ويوسفَ وموسى وهارونَ وداودَ وسليمانَ وأيوبَ ويونسَ وزكريا ويحيى وعيسى وسيدِنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً ليست بجعل مستقل بل هي حاصلة في ضمن إمامة إبراهيمَ عليه السلام تنال كلا منهم في وقت قدّره الله عز وجل ، وقرىء الظالمون على أن ( عهدي ) مفعولٌ قُدم على الفاعل اهتماماً ورعايةً للفواصلِ وفيه دليلٌ على عصمةِ الأنبياءِ عليهم السلام من الكبائر على الإطلاق وعدم صلاحية الظالمِ لِلإمامة (انتهى) .(تفسير ابي السعود ج1ص198)
العهد : لغة
قال الخليل بن احمد البصري (العين ج1 ص15)
العَهْدُ: الوَصِيِّةُ والتقَدُّمُ إلى صاحبك بشيء ، ومنه اشتُقَّ العَهْدُ الذي يكتب لِلْوُلاةِ ، ويُجْمَعُ على عُهودٍ . وقد عَهِدَ إليه يَعْهَدُ عَهْداً . والعَهْدُ: المَوْثِق وجمعُه عُهُود . والعَهْدُ : الالْتِقاءُ والإلمامُ الإلتقاءُ والإلمامُ يقال: مالي عَهْدٌ بكذا ، وإنَّه لقريبُ العَهْد بهِ . والعَهْدُ : المنزلُ الذي لا يكادُ القوم إذا انْتَأوْا عنه رجَعُوا إليه .. والتعاهُدُ: الاحتفاظ بالشيء ، وإحداثُ العَهْدِ بِه ، وكذلك التَّعَهُّدُ والاعْتِهاد ، قال الطرماح :
ويَضِيعُ الذي قد أوجَبَهُ الله عليه فليس يُعْتَهَدُ
وأعْهَدْتُهُ: أعْطَيْتُهُ عَهْداً .
وفي اساس البلاغة باب عود ج 1ص324
عهد إليه . واستعهد منه إذا وصّاه وشرط عليه .
والرجل العهد : المحب للولايات والعهود ..
وفي( الصحاح في اللغة باب عهد ج2 ص2)
العَهْدُ : الأمانُ ، واليمينُ ، والموثقُ ، والذمّةُ ، والحِفاظُ ، والوصيةُ . وقد عَهِدْتُ إليه ، أي أوصيته . ومنه اشتُقَّ العَهْدُ الذي يكتب للوُلاةِ . وتقول : عليَّ عَهْدُ الله لأفعلنَّ كذا...
اصطلاحا:
في مجمع البيان (( لا ينال عهدي الظالمين )) قال مجاهد : العهد الامامة ، وهو المروى عن الامام محمد الباقر والامام جعفر الصادق (عليهما السلام) .
قال محمد الطاهر بن عاشور : .. فالعهد هنا بمعنى الوعد المؤكد ..
(التحرير والتنوير باب 124 ج1ص465 )
وقال ابن جُرَيج ، عن عطاء ، قال : (( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي )) فأبى أن يجعل من ذريته إمامًا ظالمًا . قلت لعطاء : ما عهده ؟ قال : أمره .
قال القرطبي في تفسيره عند مروره بهذه الآية الكريمة
قوله تعالى : (( لا ينال عهدي الظالمين )) اختلف في المراد بالعهد
فروى أبو صالح عن ابن عباس أنه : النبوة
وقاله السدي و مجاهد : الإمامة
قتادة : الإيمان , عطاء : الرحمة , الضحاك : دين الله تعالى
وقيل : عهده أمره ..
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد، (( قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )) قال: لا يكون لي إمام ظالم [يقتدى به] . وفي رواية: لا أجعل إمامًا ظالمًا يقْتَدَى به .
وقال سفيان ، عن (او(سفيان بن)) منصور، عن مجاهد في قوله تعالى: (( قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )) قال: لا يكون إمام ظالم يقتدى به.
وقال ابن جُرَيج ، عن عطاء ، قال : (( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي )) فأبى أن يجعل من ذريته إمامًا ظالمًا .
قلت لعطاء : ما عهده ؟ قال : أمره ....
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس : (( قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )) يخبره أنه كائن في ذريته ظالم لا ينال عهده - ولا ينبغي [له] أن يوليه شيئا من أمره وإن كان من ذرية خليله - ومحسن ستنفذ فيه دعوته ، وتبلغ له فيه ما أراد من مسألته .
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه : حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن سعيد الأسدي ، حدثنا سليم بن سعيد الدامغاني ، حدثنا وَكِيع ، عن الأعمش ، عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي بن أبي طالب ، عن النبي صلى الله عليه(وآله) وسلم ، قال: (( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )) قال: "لا طاعة إلا في المعروف" (قال البخاري في صحيحه برقم (7257): حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة ، عن زيد ، عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم بعث جيشا وأمر عليهم رجلا ، فأوقد نارا وقال: ادخلوها ، فأرادوا أن يدخلوها ، وقال آخرون: إنما فررنا منها ، فذكروا للنبي صلى الله عليه(وآله) وسلم ، فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: "لو دخلوها لم يزالوا فيها إلى يوم القيامة". وقال للآخرين: "لا طاعة في المعصية ، إنما الطاعة في المعروف". فهذا هو أصل هذا الحديث من دون ذكر الآية، والله أعلم..
2 ـ مصاديق الظالمين في الآية المباركة
الظالم:
قال الشيخ ناصر مكارم الشيرازي (الامثل ج 1ص366) :
المقصود من «الظلم» في التعبير القرآني: ((لاَ يَنَالُ عهدِي الظَّالِمِينَ)) لا يقتصر على ظلم الآخرين، بل الظلم (مقابل العدل)، وقد استعمل هنا بالمعنى الواسع للكلمة ، ويقع في النقطة المقابلة للعدل: وهو وضع الشيء في محله.
فالظلم إذن وضع الشخص أو العمل أو الشيء في غير مكانه المناسب .
ولما كانت منزلة الإِمامة والقيادة الظاهرية والباطنية للبشرية منزلة ذات مسؤوليات جسيمة هائلة عظيمة ، فإن لحظة من الذنب والمعصية خلال العمر تسبب سلب لياقة هذه المنزلة عن الشخص .
.. روى هشام بن سالم عن الإِمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) قال: «قَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ نَبِيّاً وَلَيْسَ بِإِمَام، حَتِّى قَالَ اللهُ: (إنّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً، قَالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، فَقَالَ اللهُ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، مَنْ عَبَدَ صَنَماً أَوْ وَثَناً لاَ يَكُونُ إِمَاماً»( أصول الكافي، ج 1، باب «طبقات الأنبياء والرسل» حديث 1).
وفي حديث آخر عن عبد الله بن مسعود عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنَّ اللهَ قَالَ لإِبْرَاهِيمَ: «لاَ أَعْطِيَكَ عَهْداً لِلظَّالِمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ ، قَالَ: يَا رَبِّ وَمَنِ الظَّالِمُ مِنْ وَلِدي الَّذِي لا يَنَالُ عَهْدَكَ ؟ قَالَ: مَنْ سَجَدَ لِصَنَم مِنْ دُونِي لاَ أَجْعَلُهُ إِمَاماً أَبَداً ، وَلاَ يَصْلَحُ أن يكون إِمَاماً»( أمالي الشيخ المفيد ، ومناقب ابن المغازلي).
ومن الجدير بالذكر أن صاحب «المنار» نقل عن أبي حنيفة قوله: أن الخلافة لا تليق إلاّ بالعلويين، ومن هنا أجاز الخروج على حكومة العباسيين ، ومن هنا أيضاً رفض منصب القضاء في حكومة خلفاء بني العباس.
ويقول صاحب المنار أيضاً: إن أئمة المذاهب الأربعة كانوا معارضين لحكام زمانهم ، وكانوا يعتبرون أولئك الحكام غير لائقين لزعامة المسلمين، لأنهم ظالمون(المنار، ج 1، ص 457 ـ 458).
فالمراد بالظالم في الآية الكريمة مطلق من اتصف بهذه الصفة ولو في آن من آنات حياته ، فمن تلبس بالظلم ولو في آن ما فإنه لا يصلح أن يتولى منصب الإمامة حتى لو تاب من ظلمه .
قال الشيخ علي الرباني :
فإن قيل: إنّما نفى أن يناله ظالم في حال ظلمه ، فإذا تاب لا يسمّى ظالماً فيصح أن يناله .
فالجواب: أنّ الظالم وإن تاب فلا يخرج من أن تكون الآية قد تناولته في حال كونه ظالماً ، فإذا نفى أن يناله فقد حكم عليه بأنّه لا ينالها ، والآية مطلقة غير مقيدة بوقت دون وقت ، فيجب أن تكون محمولة على الأوقات كلّها فلا ينالها الظالم وإن تاب فيما بعد.
..وعليه فإن الآية تدل على أن الإمام يجب أن يكون معصوما لأن الذي لا يمارس ظلما ولا يتلبس به هو المعصوم .
قال القرطبي في تفسيره : واستدل جماعة من العلماء بهذه الآية على أن الإمام يكون من أهل العدل والإحسان والفضل مع القوة على القيام بذلك وهو الذي أمر النبي صلى الله عليه و سلم ألا ينازعوا الأمر أهله على ما تقدم من القول فيه فأما أهل الفسوق والجور والظلم فليسوا له بأهل لقوله تعالى : (( لا ينال عهدي الظالمين )) ولهذا خرج ابن الزبير والحسن بن علي رضي الله عنهم وخرج خيار أهل العراق وعلماؤهم على الحجاج وأخرج أهل المدينة بني أمية وقاموا عليهم فكانت الحرة التي أوقعها بهم مسلم بن عقبة
وقال ابن خويز منداد : وكل من كان ظالما لم يكن نبيا ولا خليفة ولا حاكما ولا مفتيا ولا إمام صلاة ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة ولا تقبل شهادته في الأحكام ...(تفسير القرطبي)
وقال سعيد بن جبير: (( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )) المراد به المشرك ، لا يكون إمام ظالم . يقول: لا يكون إمام مشرك
قال سعيد بن جبير : الظالم هنا المشرك وقرأ ابن مسعود وطلحة بن مصرف لا ينال عهدي الظالمون برفع الظالمون الباقون بالنصب وأسكن حمزة وحفص وابن محيصن الياء في عهدي وفتحها الباقون
وقال السيوطي في الدر المنثور:
أخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله (( لا ينال عهدي الظالمين )) قال : لا اجعل اماماً ظالماً يقتدى به .
وأخرج ابن إسحق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : يخبره أنه كائن في ذريته ظالم لا ينال عهده ، ولا ينبغي له أن يوليه شيئاً من أمره .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (( لا ينال عهدي الظالمين )) قال : ليس لظالم عليك عهد في معصية الله أن تطيعه .
وأخرج وكيع وابن مردويه عن علي بن أبي طالب « عن النبي صلى الله عليه(وآله) وسلم في قوله (( لا ينال عهدي الظالمين )) قال : لا طاعة إلا في المعروف » .
وأخرج عبد بن حميد عن عمران بن حصين « سمعت النبي صلى الله عليه (وآله)وسلم يقول
لا طاعة لمخلوق في معصية الله ) .
وأخرج عبد بن حميد عن إبراهيم قال : لا طاعة مفترضة إلا لنبي .
(الدر المنثور في التفسير المأثور / للسيوطي / باب 124 ج 1ص228 / 898 هجـ )
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي
..قوله: " الظَّالِمِينَ " اختلف في تفسيره على أوجه: فمنهم من فسره على الشرك. حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ، حدثنا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ ، حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، "فِي قَوْلِ اللَّهِ: (( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )) ، قَالَ: الظَّالِمُ فِي هَذِهِ الآيَةِ الْمُشْرِكُ لا يَكُونُ إِمَامًا ظَالِمًا، يَقُولُ: لا يَكُونُ إِمَامًا مُشْرِكًا".
وَالوجه الثَّانِي: مَنْ فَسَّرَهُ عَلَى أَنَّهُ عَدُوُّ اللَّهِ .
عن أَبِي ، قال حدثنا الْهَيْثَمُ بْنُ يَمَانٍ ، حدثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ ،"فِي قَوْلِهِ: (( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )) ، قَالَ: لا يَنَالُ طَاعَتِي عَدُوِّي ، وَلا أُنْحِلُهَا إِلا وَلِيًّا لِي ".
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ ، حدثنا إِسْحَاقُ الأَزْرَقُ ، حدثنا سُفْيَانُ ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ،"فِي قَوْلِهِ: " لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ " ، قَالَ: لَيْسَ لِظَالِمٍ عَلَيْكَ عَهْدٌ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ أَنْ تُطِيعَهُ"، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ نَحْوُ ذَلِكَ (تفسير أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ج1 ص329 المتَوَفَّى سنة 327 هجرية)
(الدرر الملتقطة في تفسير الآيات القرآنية ج4ص13)
قال البيضاوي بعد قوله تعالى في قصة خليله ـ عليه السلام ـ لا ينال عهدي الظالمين » :
فيه تنبيه على انه قد يكون من ذريته ظلمة ، وانهم لا ينالون الامامة ؛ لأنها امانة من الله وعهده ، والظالم لا يصلح لها ، وانما ينالها البررة الاتقياء منهم (انوار التنزيل : 1 / 54) .
وجاء في التوراة ( في الإصحاح 17 من التكوين ) :
«ظهر الرب لإبرام أي إبراهيم» وقال له : أنا الله القدير سرْ أمامي وكن كاملاً فأجعل عهدي بيني وبينك وأكثرك كثيراً جداً وفي فقرة 20 وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً» . وذكر عبد الحق الإسلامي السبتي الذي كان يهودياً فأسلم هو وأولاده وأهله في سبتة وكان موجوداً بها سنة 736 ست وثلاثين وسبعمائة في كتاب له سماه «الحسام المحدود في الرد على اليهود» : أن كلمة كثيراً جداً أصلها في النص العبراني «مادا مادا» وأنها رمز في التوراة لاسم محمد بحساب الجمَّل لأن عدد حروف «مادا مادا» بحساب الجُمَّل عند اليهود تجمع عدد اثنين وتسعين وهو عدد حروف محمد اه وتبعه على هذا البقاعي في «نظم الدرر»(نفس المصدر ص484)
وفي تفسير نور الثقلين (للشيخ عبد على بن جمعة العروسي الحويزى
المتوفى سنة 1112 هج , ج2)
في امالي الشيخ الطوسي بإسناده إلى عبدالله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله : أنا دعوة ابي ابراهيم ، قلنا : يارسول الله وكيف صرت دعوة ابيك ابراهيم ؟ قال : اوحى الله عزوجل إلى ابراهيم : " اني جاعلك للناس اماما " فاستحق ابراهيم الفرح فقال : يارب " ومن ذريتي " ائمة مثلي فأوحى الله عز وجل ان يا ابراهيم اني لا أعطيك عهدا لا اوفي لك به ، قال : يارب ما العهد الذي لا تفي لي به قال : لا اعطيك لظالم من ذريتك ، قال : يارب ومن الظالم من ولدي الذي لا ينال عهدك ؟ قال : من سجد لصنم من دوني لا أجعله اماما ابدا ، ولا يصح أن يكون اماما ، قال ابراهيم : " واجنبني وبني ان نعبد الاصنام رب انهن اضللن كثيرا
من الناس " قال النبي صلى الله عليه واله : فانتهت الدعوة الي والى أخي علي ، لم يسجد أحد منا لصنم قط ، فاتخذني الله نبيا ، وعليا وصيا (انتهى).
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير الخلق محمد المصطفى وآله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين .