القلب قلعة أخذ عدو الإنسان القديم ـ الشيطان الخبيث ـ على عاتقه بكل ما أوتي من إمكانيات النفوذ إليه، والسعي للإستلاء عليها والتحكم فيها. والشخص الوحيد القادر على حفظ هذه القلعة من سيطرة الشيطان عليها هو المستيقظ الدائم والمنشغل بحمايتها وحراسة أبوابها وطرقها وفجواتها. ومن لم يستطع معرفة طرق وأبواب نفوذ الشيطان المفسد لا يتمكن من حماية هذه القلعة.
يجب على كل مكلف حفظ القلب وحمايته من الأساليب الشيطانية المفسدة، ويجب أيضاً تهيئة المقدمات، وبالنتيجة يكون معرفة طرق نفوذ الشيطان لحفظ القلب وحمايته من المخاطر واجب أيضاً.
1- الحرص والحسد
إن الشيطان المطرود لا يغفل عن أي اسلوب أو وسيلة تمكنه من احتلال القلب والسيطرة عليه للتحكم بمخزن ومنبع الفيوضات الإلهية، وابداله إلى حظيرة لتربية أنواع الرذائل والخبائث، وتقييد قلوب البشر وأسرها، وجعلها هدفاً لسهامه السامة والمهلكة.
وهناك طريقان ومدخلان كبيران يستطيع الشيطان من خلالهما ـ وبكل سهولة ـ من السيطرة على القلب والتحكم فيه وهما: الحرص والحسد.
ومتى ما حرص الإنسان على شيئ ـ والحرص من أوصاف الشيطان ـ فإن حرصه هذا سيعميه عن رؤية الحقيقة، وسيصمه عن سماع الأمور الواقعية، وكما يقول النبي الأعظم|:> حب الشئ يُعمي وُصم<([162]) .
ويستطيع الإنسان معرفة طرق نفوذ الشيطان من خلال انعكاس نور البصيرة المشع، ومتى ما منع حجاب الحرص والحسد شعاع هذا النور المعنوي يحرم الإنسان من رؤية ما يجب أن يراه، وحينئذ يستغل الشيطان اللعين هذه الفرصة ليزين للإنسان العوامل التي تؤدي به إلى الحرص على الشهوات الحيوانية، وعندما تتهيأ أرضية الحرص للإنسان بسبب الإغواءات الشيطانية يقدم على ارتكاب أي ذنب أو معصية.
نعم، وعندما يخرج نور البصيرة من القلب ويحل الحرص ـ هذه الرذيلة الشيطانية ـ محله يصبح مصير هذا القلب معلوماً.
وقد جاء في تفسير بعض آيات القرآن الكريم:
إنه لما أراد النبي نوح× ركوب السفينة أمره الله تعالى أن يحمل فيها من كل مخلوق زوج، وفجأة رأى شيخاً كبير السن أمامه لم يعرفه!! فسأله: من جاء بك إلى السفينة؟ فأجاب : جئت بنفسي لأتمكن من قلوب أصحابك، لتكون أبدانهم معك وقلوبهم عندي، فصرخ نوح × في وجهه وقال: أخرج من سفينتي يا عدو الله ، فإنك موجود قد طرده الخالق من دائرة رحمته ومغفرته.
فقال ابليس لنوح×:إن هناك خمسة خصال تؤدي إلى هلاك الناس، سأعلمك بثلاث منها وسأحتفظ باثنتين لإنهما وسيلتي لإغواء ذرية آدم.
فأوحى الله سبحانه وتعالى لنوح بالقول: إنك لست بحاجة لذكر الخصال الثلاث، ولكن اطلب منه بيان الخصلتين؟ فقال ابليس: هناك برنامجان لا يكذباني، ولا يخالفا أوامري، يا نوح الحرص والحسد هو سبب هلاك الناس، فإياك والحسد فنارها أتت على حرق جميع عبادتي وصرت ملعوناً، وبسببها طردت من محبة الحق، وإياك والحرص فإن آدم أبيح له الجنة ونُهِيَ عن شجرةٍ واحدة، فحمله حرصه أن يأكل منها، فحرم من الجنة فإخرج منها. وبها قد تحقق هدفي.
فالحرص والحسد هما السبب في حصول التعاسة والشقاوة، ومكانهما القلب، والشيطان يتحكم في القلب من خلال هذين الطريقين، وبالنتيجة سوف يجر جميع الأعضاء والجوارح ـ الخاضعة لقيادة القلب ـ إلى التلوث بالمعاصي.
2- الغضب والشهوة
وهناك طريقان آخران تمكن الشيطان من السيطرة على قلب الإنسان ـ هذا العرش الإلهي الطاهر ـ وهما الغضب والشهوة.
فالغضب هو قاطع طريق العقل، وغول شديد الخطورة على الباطن الطاهر للإنسان، ومع ضعف جنود العقل تبدأ جنود الشيطان بالنشاط والعمل ، والشيطان يتلاعب بالإنسان وسعادته عند الغضب كما يتلاعب الطفل بالكرة.
وجاء في رواية تتضمن مطالب مهمة في هذا الموضوع تحتاج إلى دقة وتأمل حيث تقول:> لقي إبليس موسى× فقال له: أنت الذي اصفاك الله برسالته، وكلمك تكليماً، أذنبتُ وأنا أريد أن أتوب، فاشفع لي إلى ربي أن يتوب علي، فدعا موسى ربه، فقيل له: يا موسى قد قضيتُ حاجتك، فلقي موسى إبليس وقال: قد أمرتَ أن تسجد بقبر آدم ويتاب عليك، فاستكبر وغضب وقال: لم أسجد له حياً، أسجد له ميتاً؟ ثم قال إبليس: يا موسى إنّ لك عليّ حقاً بما شفعتَ لي إلى ربك، فاذكرني عند ثلاث لا أهلكك فيمن أهلك:
1- اذكرني حين تغضب فإني أجري منك مجرى الدم.
2- واذكرني حين تلقى الزحف فإني آتي ابن آدم حين يلقى الزحف، فأذكره ولده وزوجته حتى يولي.
3- وإياك أن تجالس امرأة ليست بذات محرم، فإني رسولها إليك ورسولك إليها<([163]).
أشار الشيطان اللعين في هذه القصة العجيبة إلى ثلاث خطط خطيرة يتحرك من خلالها لإغواء الإنسان وجره إلى الهلاك: الغضب والحرص والشهوة، ولا شك أن فرار الإنسان من الجهاد يعود في أصله إلى الحرص على الدنيا، وأمتناع إبليس من السجود لآدم منشؤه الحسد لا غير، والحسد باب كبير ينفذ الشيطان من خلاله للسيطرة والتحكم بالقلب.
ويقال: إن بعض الأنبياء^ سأل ابليس: بأشيئ تغلب الإنسان؟ فقال: بالحرص وهوى النفس.
ويقال: إن الشيطان ظهر يوماً أمام عبد من عباد الله الخالصين، فسأل هذا العبد اليقظ الشيطان: أي خلق من أخلاقيات الإنسان التي تنفذ من خلالها وتؤثر بشكل أكبر في جر الإنسان إلى الشقاء والهلاك؟
قال: الغضب، لأن الإنسان عندما يغضب اتحكم بقواه وأتلاعب به كما يتلاعب الطفل بالكرة.
3- عشق ملذات الدنيا
ومن جملة الطرق التي يستخدمها الشيطان في السيطرة على القلب عشق الإنسان بسبب ميوله وشهواته للزينة واللباس الفاخر، وجمع الأثاث، وبناء البيوت. ومتى ما استحكم حب الإنسان لهذه الأمور في قلبه، استغل الشيطان هذه الحالة فيستمر في دعوة الإنسان وترغيبه في الإستزادة وطلب الأفضل والأجمل في لون البيت والنقوش المزينة له في السقف والجدران وسعته وتقسيمه ....حتى يصل إلى حد الإفراط، وبعدها ينتقل إلى ثيابه ومركبه وكل ما يرتبط بشؤون حياته المادية، لا يكتفى ولا يقنع ويشتد ذلك يوماً بعد يوم، فينشغل طول حياته بتلبية تلك الشهوات والرغبات، فيغرق في أمور الدنيا وملذاتها، كما يحصل لدودة الحرير فكلما ازدادت على نفسها لفاً صعب عليها الخروج منه حتى تموت. وحينها يكون الإنسان قد أزهق نفسه في طريق الشيطان وهوى النفس، واستحق الشقاء والخسران الأبدي، لهذا يستوحش أكثر أهل العلم من سوء العاقبة.
4- كثرة الأكل
إن كثرة الأكل والشبع هي من طرق سيطرة الشيطان على القلب، حتى وإن كان الطعام حلالاً، لإن كثرة الأكل والشبع تزيد في شهوة الإنسان، والشهوة من أنجح أسلحة إبليس الملعون.
روي عن أبي عبدالله× قال: > ظهر إبليس ليحيى بن زكريا× وإذا عليه معاليق من كل شيئ، فقال له يحيى: ما هذه المعاليق يا إبليس؟ فقال: هذه الشهوات التي أصبتها من ابن آدم، قال: فهل لي منها شيئ؟ قال: ربما شبعت فثقلتك عن الصلاة والذكر، قال يحيى: لله علي أن لا أملأ بطني من طعام أبداً، وقال إبليس: لله علي أن لا أنصح مسلماً<([164]) .
5- الطمع
إن الطمع من جملة الطرق التي يسيطر بها الشيطان على القلب، فعندما يغلب الطمع على القلب يرغّب الشيطان الإنسان للتصنع في العمل والأخلاق والتظاهر بالحسن حتى يطمع الآخرين به، ويلفت نظرهم إليه، فينجر الإنسان بسببها إلى الرياء والمكر والحيلة والخديعة والتلبيس، فيصبح الإنسان الطامع فيه معبود له.
ومن هنا يصرف الإنسان كل همه في جذب المحبين والمعجبين، فيتوسل بكل عمل يحقق له هذا الغرض وإن استدعى فعل القبيح من الأعمال، والمصيبة التي يقع فيها هذا الإنسان كحد أدنى هي المدح والثناء الذي يلاقيه من دون مناسبة من جهة ومن جهة أخرى التساهل في معالجة الأخطاء، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
نقل أن إبليس تمثل لعبد الله بن حنظلة، وقال احفظ عني شيئاً أعلمكه، قال: لا حاجة لي به، قال: تنظر فإن كان خيراً قبلت، فإن كان شراً رددت، يا ابن حنظلة: لا تسأل أحداً غير الله سؤال رغبة، وانظر كيف تكون إذا غضبت !!.
6- العجالة وترك الإستقامة
ومن طرق نفوذ الشيطان إلى القلب العجلة وترك الإستقامة في الأمور.
يقول النبي الأعظم|: > الأنَاةُ مِنَ اللهِ وَالعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ<([165]). والقرآن الكريم يقول: ژ ﭣ ﭤ ﭥ ٹ ژ ([166]). ويقول في موضع آخر: ژ ﮀ ﮁ ﮂ ژ ([167]). وفي موضع آخر يخاطب الله سبحانه وتعالى نبيه|:ژ پ پ پ پ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ژ ([168]).
نعم ، يجب أن تكون أعمال الإنسان مبنية على الوعي والبصيرة والمعرفة، والبصيرة والمعرفة تحتاج إلى تأمل في العمل وتأني، وبدون شك فإن العجلة تمنع الإنسان من الإستفادة من بصيرته ومعرفته. ويستغل إبليس الخائن عجلة الإنسان ومن دون أن يشعر ليفتح حبائل ومصائد شره .
وروي أن عند ولادة النبي عيسى× سقطت رؤوس التماثيل والأصنام فذهب أبناء إبليس إلى أبيهم يستوضحون الأمر، فأجابهم بداية: لا أعلم، فذهب ثم عاد بعد أن علم بولادة النبي عيسى× وقال: لقد انتهت مرحلة عبادة الأصنام والأوثان، فانفذوا في تضليل الإنسان وغوايته من طريق العجلة واستثقال العمل.
7- مال الدنيا
ومن الطرق التي يستغلها الشيطان ويسيطر بها على قلب الإنسان طريق الدرهم والدينار، الذهب والفضة وتوابعهما، فيعلق قلب الإنسان بالمال ويربطه إلى الحد الذي يبذل فيه الإنسان كل همه وإرادته ومحبته وعشقه في جمعه وتحصيله فقط لاغير، ويصرف جميع أوقات عمره الثمين في هذا الطريق، حتى إذا أبصر وجد نفسه في قعر جهنم!! .
8- الخوف من الفقر
ومن الأبواب التي ينفذ من خلالها الشيطان إلى قلب الإنسان البخل والخوف من الفقر، لإن البخل إذا تمكن من الإنسان فإنه يحرمه من الإنفاق في طريق الحق تعالى، فالبخيل يسعى لجمع المال وتكديسه بكل ما أوتي من قوة ونشاط.
ونقل أن الشيطان قال: إنني أتغلب على الإنسان بشكل حتمي في ثلاث مواضع:
- في كسب المال غير المشروع.
- في صرف المال في غير محله.
- في منعه للحقوق.
وقالوا : إن الشيطان لا يملك سلاحاً أفضل من سلاح الخوف من الفقر في تضليل البشر. لإن البخل والخوف من الفقر إذا سيطر على الإنسان فلن يتجنب كسب المال من الطريق الحرام، وسيأبى عن دفع الحقوق المستحقة عليه، وسيتكلم بما يمليه عليه هواه وهواجسه، وسيؤدي به ذلك إلى سوء الظن بالله تعالى.
أيها العزيز: إن جميع ما قرأته في السطور السابقة بعنوان مخاطر القلب وعلل فساده تؤدي بحسب ما قاله الإمام الصادق× إلى وقف القلب، وهذا يعني قطع القلب عن المنافع الحقيقية للدنيا والآخرة، وحرمان القلب من الرحمة اللامتناهية لله سبحانه وتعالى، وأن جميع الطرق والأساليب التي قرأتها في المباحث السابقة هي بسسب غفلة القلب عن حضرة المعبود، وعندما يصاب القلب بالغفلة ينفتح للشيطان الطريق للسيطرة عليه والتحكم فيه، فيصبح مهيئا للتلوث بجميع الرذائل > وَوَقْفُ الْقَلْبِ فِي الْغَفْلَةِ عَنِ الله <.
.
> أَلا تَرَى أَنَّ العَبْدَ إذَا ذَكَرَ اللّهَ تَعالى بِالتَّعْظِيم خالِصاً ارْتَفَعَ كُلُّ حِجَابٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللّهِ مِنْ قَبلِ ذَلِك<
إن المستفاد من الآيات القرآنية والروايات الإسلامية أن الذكر القلبي هو من أهم الأذكار وأكثرها تأثيراً
طرق نفوذ الشيطان إلى القلب
العرض العادي
