اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
إنّ ما يعطي الإنسان ارتياحاً واطمئناناً في مواجهته للإنسان الآخر هو الأمن الّذي يتولّد من صدق المعاملة ووضوح الصورة، فعندما تتعامل مع إنسانٍ يقدّم لك وضوحاً في تصرّفاته وسلوكه ـ بحيث تكون هذه التصرّفات مملوءةً بالصدق والمحبّةـ فإنّك تبادل هذا الإنسان أمناً وأماناً وراحةً وارتياحاً.
وعلى نقيض هذا الأمر عندما يحصل نوعٌ من الخداع والمماراة بحيث يتمّ إظهار شيءٍ وإخفاء شيءٍ آخر، فإنّ العلاقة حينئذٍ تكون في شكلها مأمونةً، إلا أنهّا في واقعها متزعزعةٌ ومرتبكةٌ، ولذلك يقول الأمير(ع): >ما أقبح بالإنسان أن يكون ذا وجهين(1).
وهذه الحالة هي حالة النفاق الّتي يعيشها بعض الأشخاص، وهي ممارسةٌ خلقيّةٌ سيّئةٌ تعتمد على إظهار الموافقة وإخفاء المخالفة، وعلى إظهار الإيمان وإبطان الكفر، وكأنّ صاحبها يشقّ له نفقاً في الأرض للاستتار من الأعداء(2)، يقول المولى سبحانه حاكياً حال هؤلاء: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَّ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}(3).
ويقول عنهم رسول الله(ص): >من خالفتْ سريرتُه علانيتَه فهو منافقٌ كائناً من كان(5)، وعنه أيضاً(ص): >تجدون شرّ الناس ذا الوجهين، الّذي يأتي هؤلاء بوجهٍ، وهؤلاء بوجهٍ<(6 ).
خطورة المنافق:
خطورة المنافق أشدّ من خطورة الكافر؛ وذلك أنّ الكافر عداؤه واضحٌ، وهذا الوضوح يوفّر استعداداً وحذراً يعطي قوّةً في المواجهة، وتحديد حجم الخطورة، بينما المنافق يعطيك صورةً تجعلك في أمانٍ واستئمانٍ، ويفاجئك بعد ذلك بطعناتٍ عديدةٍ ترهق جسمك، ولربما تقضي عليه، بل تُقبره!! ويأخذ هو بالبكاء عليك.
وما يزيد المنافق خطورةً عندما يمارس خبثه بحِرَفِيّةٍ عاليةٍ، تجعل من طعناته طعناتٍ غير محسوسةٍ، بل تجعلك تعيش حالةً من الوهم والجهل بأنهّا كجراح الطبيب الّذي يريد أن يعالجك، تحت مسمّياتٍ جميلةٍ مقبولةٍ، كمسمّى >النقد البنّاء<، و>الرأي الآخر< ونحوه.
أدوات المنافق وصفاته:
يعتمد المنافق على إظهار صدق الصورة الظاهرة، ويحاول أن يعيش التكتّم على الباطن، وفي ذلك يعمد إلى استخدام الأدوات التالية:
الكذب:
ليحافظ على صورته مشرقةً، وليقدّم للناس بياضاً ناصعاً، هذا هو الهدف والوجه الذي يجاهد المنافق لإبقائه طويلاً، فيعمد إلى الكذب كثيراً ليبرّر مواقفه، أملاً في نيل مبتغاه، فعن أمير المؤمنين(ع): >بالكذب يتزيّن أهل النفاق<(7).
عذوبة اللسان:
اصطناع القناعات والمواقف والبطولات ضرورةٌ يلجأ لها المنافق دوماً لتحسين الصورة؛ وتقوية وجوده بين المؤمنين؛ وتعزيز تواجده كقيادةٍ يمكن التعويل عليها، وهذه البطولات لا بدّ لها من حاكٍ يحكيها، وهو لسانه العليم، الّذي لا يفتأ يحكي القصص ويفبركها، يقول الرسول الأكرم(ص): >أتخوّف عليكم منافقاً عالم اللسان، يقول ما تعرفون، ويعمل ما تنكرون<(8)، وعنه(ص): >إنّ أخوف ما أخاف عليكم بعدي كلّ منافقٍ عَليم اللسان(9).
المدح ظاهراً والغيبة باطناً:
ما يغيض المنافق أن تتعالى شخصياتٌ إيمانيّةٌ كفوءةٌ عالياً، ويحترق قلبه غيظاً وحقداً عندما يجد الشخصيّة المناسبة في المكان المناسب، فتراه في حركةٍ دائمةٍ لإسقاط الشخصيّات الإيمانيّة أينما كانت باعتماد أسلوب >المدح ظاهراً والطعن باطناً<، يقول الإمام الباقر(ع): >بئس العبد عبدٌ يكون ذا وجهين وذا لسانين، يطري أخاه شاهداً ويأكله غائباً، إن أُعطي حسده، وإن ابتُلي خذله(10).
ونحن نعلم أنّ الغيبة تمارس دور الإسقاط للشخصيّات بصورةٍ فعّالةٍ، وما نهي الشريعة عنها إلا لذلك، وتعاظم النهي عنها حتّى غدت من الكبائر ليس اعتباطيّاً لاغياً، فتقطيع العلاقات وحبائل الودّ والمحبّة، وهدم الثقات بين أفراد المجتمع بعضهم البعض في غاية الخطورة، يقول المولى سبحانه وتعالى: {وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}(11).
ولكن أين المجيب لنهي الله؟!
فالمشكلة في ممارسة هذه الأداة الفتّاكة لا يقتصر على المنافقين وحدهم، بل يتعدّاه للفئات الإيمانيّة، وهنا المصيبة الكبرى!!
التذبذب وصفٌ ملازمٌ لحالة النفاق الّتي يعيشها المنافق، فهو يحاول أن يعيش مع كلّ الأطراف المتناقضة في قناعاتهم، ويبدي القناعة لطرحهم ولمواقفهم، ويسخر من مواقف وقناعات الطرف الآخر، وإذا جلس مع الطرف الآخر عاش معهم قناعاتهم ومواقفهم، وسخر من الطرف الأوّل، ممارسة الخداع بتعدّد الوجوه، بوجهين أو أكثر لا مشكلة، ما دامت المسألة لا تتطلب أكثر من تبديل الأقنعة والوجوه، فتبديل الأوّل إلى الثاني يتمّ بسرعةٍ فائقةٍ ومن دون أيّة مشكلةٍ.
هكذا حالهم، جمالٌ في المظهر، ولكن فقدانٌ للروح والقلب، فهم كالخشبة المسنّدة الّتي لا روح فيها.
ما الّذي يفضح المنافق؟
المنافق لا بدّ وأن يقع في مزالق وأخطاء تفضح سريرته وخبث باطنه، ولكن على رجال الله المخلصين أن يكونوا أذكياء بما يكفي لمعرفة هؤلاء.
أقوالٌ ولا عملٌ:
مشكلة المنافق تكمن في أنّه يتحدّث كثيراً ولا يفعل شيئاً مما قد أمر به ودعا إليه، يقول الأمير(ع): >أظهر الناس نفاقاً من أمر بالطاعة ولم يعمل بها، ونهى عن المعصية ولم ينتهِ عنها<(18)، فما أكثر الأقوال والادّعاءات، ولكن في الواقع العمليّ لا شيء، فهم أفضل مصداقٍ للمثل الذي يقول: >أسمع جعجعةً ولا أرى طحناً<.
يحكي لنا القرآن الكريم في هذه الآيات المباركات قصّة مسجد ضرارٍ، وتبدأ قصّة هذا المسجد، أنّ شخصاً يُدعى بأبي عامر دعا المنافقين إلى بناء مسجدٍ، في حين سيتوجّه هو لقيصر الروم لطلب النصرة على رسول الله(ص)، وما أجمل من بناء المساجد، فهو عملٌ بحسب ظاهره ولا أحسن منه، ولكنّ بواطن الدعوة لبنائه ليست كذلك؛ إذ كان الهدف من بناء هذا المسجد التجسّس على المسلمين عندما يجتمعون فيه، ومن جهةٍ أخرى تقوية شوكة المنافقين بإيجاد أتباعٍ لهم وتفريق المسلمين.
وفعلاً تمّ بناء المسجد، وحان وقت مباركة القيادة له بالصلاة فيه، فتوجّهوا لرسول الله(ص) يدعونه لذلك، فما كان إلا أن أنزل الله سبحانه جبرائيل(ع) على نبيّه(ص) يخبره بملابسات المسألة وبهلاك أبي عامر قبل وصوله لملك الروم، وعندئذٍ أمر الرسول الأكرم(ص) بهدْم هذا المسجد وإحراقه واتخّاذ أرضه كناسةً تُلقى فيها الجيف.
ومن هذه القصة تتعرّف على أسلوب النفاق بالتلبّس بالمواقف الحقّة، والدعوة لله بحسب حسن الظاهر، وإبطان عكس ذلك تماماً، وعملهم هذا الظاهريّ لم يتمتّع بأيّ قيمةٍ أخرويةٍ، كما لم يتمتّع بأيّ قيمةٍ دنيويّةٍ، فالمسجد عندما انقلب وكراً لمحاربة الله ورسوله(ص) فَقَدَ كلّ قيمته!
معركة أحدٍ:
علم الرسول الأعظم(ص) بتجهّز المشركين وخروجهم من مكّة تجاه المدينة للُقْيا المسلمين، وعندها جمع رسول الله(ص) أصحابه يشاورهم في الأمر، فأشار عليه جمعٌ من أصحابه أن يبقى في المدينة فيلقى المشركين فيها بزعم أنّ ذلك أمكن للمسلمين على المشركين، ولكن قامت فئةٌ من الصحابة التوّاقة للشهادة يشيرون على رسول الله(ص) بالخروج خارج المدينة ولقاء المشركين، وتعالتْ أصواتهم عالياً مملوءةً بالحماس والشجاعة، حتّى انقلب الرأي لهم واستحسن رسول الله(ص) ذلك.
من ذلك كلّه كان رأس النفاق عبد الله بن أُبيّ يقف بجانب من دعا إلى البقاء في المدينة، وكان غرضه من ذلك أن ينقلب على رسول الله(ص) عندما يجدّ الجدّ، ولكن خاب أمله، ولكن لم يكتفِ بذلك، بل قام وخرج مع رسول الله(ص) هو وأتباعه، وفي الطريق دعاهم للتّخلّف بحجّة أن بيوتهم عورةٌ لا حامي لها، وكان غرضه تثبيط همم المسلمين وذبّ الخلاف والفرقة بينهم، ولكنّ الجيش سار للمعركة وخاضها.
وبعدما هُزم المسلمون جاء دور المنافقين في إثارة البلبة، وكأنّ الهزيمة كلّها ما جاءت إلا لمخالفة مشورتهم، {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(21).
هكذا هي أساليب النفاق، وهي صورٌ تبقى تتكرّر في المجتمعات الإسلاميّة، تنخر في جسدها، وتفتّ من وحدتها وتماسكها، ليبقى الوعي بخطورة هؤلاء ومحاربتهم والحذر منهم هو الأمل في بقاء الشوكة والعزّة للإيمان والمؤمنين، يقول المولى سبحانه: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}(22).