|
عضو برونزي
|
رقم العضوية : 82198
|
الإنتساب : Aug 2015
|
المشاركات : 1,236
|
بمعدل : 0.36 يوميا
|
|
|
|
المنتدى :
منتدى القرآن الكريم
﴿وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ ﴿وَتَطْمَئِنُّ﴾ .. كيفيَّة الجمع
بتاريخ : 29-12-2024 الساعة : 07:31 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾(1) وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾(2) كيف نجمع بين الاطمئنان بذكر الله تعالى والوجل عند ذكر الله تعالى رغم أنَّ الاطمئنان والوجل حالتان متنافيتان؟
الجواب:
الوجه الأول للجمع بين مفاد الآيتين:
ليس بين الآيتين تنافٍ وذلك لاختلاف حيثيتي الاطمئنان والوجل في الآيتين، فاطمئنان قلوب المؤمنين بذكر الله تعالى معناه يقينهم الراسخ بوجوده وتوحيده وكماله وجلاله وجمال صفاته، واليقين بطبعه ينتج الاستقرار والسكون والثبات، وهذا هو معنى الاطمئنان المقابل للتردُّد والشك والارتياب المفضي بطبعه للقلق والاضطراب، فالمؤمنُ إذا استحضر في قلبه ذكر الله لا ينتابه شكٌّ أو تردُّد في وجوده وحكمته المطلقة ورحمته الواسعة وقدرته على كلِّ شيء، ولا تعتريه شبهةٌ في ذلك كما لا تعتريه شبهةٌ في صدق ما جاء به نبيُّه (ص) بل يجدُ نفسه مُذعنةً بكلِّ ذلك، وهذا هو معنى اطمئنان قلوب المؤمنين بذكر الله تعالى.
وأمَّا معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ فهو أنَّ المؤمن الصادق في إيمانه إذا استحضر ذكر الله وعظيمَ شأنِه في قلبِه ساورتْه العديدُ من المخاوف، فهو يخشى -مثلاً- أنْ لا يكون قد أدَّى حقَّ الله تعالى عليه فيُوجب ذلك خذلانه له، ويخشى أنْ يكون قد ارتكب معاصيَ ثم نسيَها فلم يتداركْها بتوبةٍ فيكون بذلك في حيِّز المسخوطِ عليهم، ويخشى أنْ ينتابَه ضعفٌ أو تعتريه شبهةٌ فينحرف عن صراط الله القويم فيخسر إيمانَه، ولذلك أدَّب اللهُ عبادَه وحضَّهم على الدعاء بقوله: ﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾(3) ويخشى المؤمن أنْ تصيبه مصيبةٌ فيجزع ولا يصبر ولا يثبتُ على الإيمان فيتَّهم اللهَ تعالى في عدلِه وحكمته، لذلك أدَّبَ اللهُ عباده المؤمنين بهذا الدعاء: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾(4) وكذلك فإنَّ المؤمنَ يخشى أن يُخالط نيته الرياءُ أو العُجب أو الشعور بالامتنان على الله تعالى فلا يحظى عمله بالقبول مِن الله ولذلك وصف اللهُ المؤمنين بقوله جلَّ وعلا: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾(5) فهم يُنفقون ويأتون بالصالحات ولكنَّهم يشعرون بالوجل والخشية مِن أنْ لا تكون أعمالُهم مقبولة لله تعالى.
فمعنى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ هو أنَّ المؤمن إذا استحضر ذكر الله تعالى في قلبِه تساوره العديد من المخاوف فهو يخشى من خذلان الله، ويخشى من سخط الله ومن عقابه، ويخشى من الانحراف عن صراط الله القويم، ويخشى من عدم القبول لعملِه، وهذا هو معنى الوجل عند ذكر الله تعالى، وذلك لا ينافي بل هو منسجمٌ مع الاطمئنان واليقين بوجود الله تعالى وعظيمِ شأنه وصدقِ ما جاء به نبيُّه (ص). فهو إنَّما يخشى -مثلاً- من سخط الله وخذلانه لأنَّه موقِنٌ ومطمئنٌ بوجود الله وحقِّه في العبوديَّة وقدرته غير المتناهية على نفعِه وضرِّه.
والمتحصل ممَّا ذكرناه أنَّه لا تنافي بين الاطمئنان بذكر الله جلَّ وعلا والوجل عند ذكر الله تعالى، وذلك لاختلاف الحيثية في كلٍّ منهما، فحيثية الاطمئنان ومتعلَّقه هو اليقين بوجود الله وعظيم شأنه وكمال عدلِه وحكمته وحقِّه المطلق في العبوديَّة وصدقِ ما جاء به نبيُّه (ص) من أصول العقيدة والشريعة، فهذا هو متعلَّق الاطمئنان الذي مدح الله به المؤمنين بقوله جلَّ وعلا: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ وقد استعمل القرآن مادَّة الاطمئنان في معنى اليقين والاعتقاد في مثل قوله تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾(6) يعني أُكره على قول كلمة الكفر ولكنَّ قلبَه متيقنٌ ومعتقِدٌ بأصول الإيمان، وكذلك هو معنى الاطمئنان في قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ / قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا﴾(7) فهم يطلبون بواسطة رؤية المعجزة تحصيل الاطمئنان يعني اليقين الكامل بوجود الله وصدق نبيِّ الله عيسى (ع)، وهكذا هو معنى قوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ / ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾(8) فالنفسُ المطمئنة هي الواجدة لصفة اليقين بوجود الله تعالى وسائر أصولِ العقيدة.
وأمَّا حيثيَّة الوَجل ومتعلَّقه فهو يتَّصل بمشاعر الخشية والتوجُّس التي تُساور قلب المؤمن عند ذكر الله تعالى فالمؤمنُ الصادق دائمُ التوجُّس من أنْ لا يحظى برضوان الله أو يكون من المغضوب عليهم أو يُبتلى بما ينتهي به إلى الضلال بعد الهدى، ولذلك فهو دائمُ الدعاء في صلاته بقوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ / صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾(9) وورد في الدعاء المأثور: "اللهمَّ مقلب القلوب والأبصار! ثبِّت قلبي على دينِك ولا تزغْ قلبي بعد إذا هديتني"(10).
الوجه الثاني للجمع بين مفاد الآيتين:
وثمة وجهٌ آخر لبيان عدم التنافي بين اطمئنان قلوب المؤمنين بذكر الله ووَجَلِها عند ذكر الله تعالى، وحاصل هذا الوجه أنَّ الاطمئنان والوجل حالتنان تتواردان على قلب المؤمن، فحين يذكر رحمة الله الواسعة وعفوه ومغفرته ونعيمه وفضله وإحسانه ووعده بالثواب على طاعتِه تسكنُ نفسُه وينشرح قلبُه، وكذلك حين يُبتلى بمصيبةٍ فيذكر أنَّ الله وعد الصابرين أجرهم بغير حساب فإنَّ قلبه يسكن لذلك ويستشعر البشرى، وهكذا حين يُصيبه الإعياء والنصب لمكابدته عناءَ الجهاد ومشقَّة الطاعة فيذكر أنَّ ذلك بعين الله وفي سبيله فإنَّ قلبَه يسكنُ ويشعر بالنشاط والانبساط. وهذا هو المراد من الاطمئنان في الآية.
وأمَّا حين يذكرُ الله ووعيده بمساءلة العُصاة وايقاع العقوبة عليهم فإنَّه يستشعر الخوف والوجل وأنَّه قد يكون من هؤلاء العصاة الذين سينالُهم من عقاب الله ما لا طاقة له على احتماله، وكذلك حين يذكر اللهَ ويذكر أنَّه تعالى لا يقبلُ طاعةً إلا من المتَّقين ويخشى أنْ لا يكون على حظٍّ كافٍ من التقوى والإخلاص لله لذلك فهو يستشعرُ الوجَل والتوجُّس.
والمتحصَّل من هذا الوجه أنَّ الاطمئنان والوجَل وإن كانتا حالتين متنافيتين ولكنَّهما لا تَعرضان القلب في آنٍ واحد بل تتواردان وتتعاقبان عليه، فحيناً يستشعر الاطمئنان إذا استحضر -مثلاً- عفوَ الله ومغفرته لعبادة وأنَّ رحمته قريبٌ من المؤمنين، وحيناً آخر يستشعر القلق والوجل والتوجُّس إذا استحضر -مثلاً- أنَّ الله لا يُغادر صغيرةً ولا كبيرة إلا أحصاها، وأنَّه لا يتجاوزُ عن مظلمةٍ وإنْ حقرت.
الوجه الثالث للجمع بين مفاد الآيتين:
وثمة وجهٌ ثالث لبيان عدم التنافي بين اطمئنان القلب بذكر الله تعالى وبين وجل القلوب عند ذكر الله تعالى، وحاصله أنَّ قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ وإنْ سِيق مساقَ الإخبار والمدح للمؤمنين ولكنَّ الغاية من ذلك هو الإنشاء والطلب، وكذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ فإنَّه طلبٌ ولكنَّه بلسان الثناء والمدح.
فمفادُ الآية الأولى أنَّه ينبغي للمؤمن أنْ يطمئن قلبُه لأمر الله ويستشعر التسليم والتفويض لقضاء الله وقدره ويثقُ بحكمة الله المطلقة فيما شرَّع لعباده وفرضَ عليهم، ويستشعر التصديق المطلق لما جاء عن الله وأخبر عنه رسولُ الله (ص) كما قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾(11).
ومفاد الآية الثانية هو أنَّه ينبغي للمؤمن أنْ يستشعر الخوف والمهابة من الله، ويستشعرُ الخوف من وعيد الله تعالى وعقابه ونكالِه بالعصاة والمفرِّطين والمسرفين على أنفسِهم كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾(12) فالخوف يُصنَّف بأنَّه خوفُ العظمة، وخوفُ العقوبة، ويُعبَّر عن الأول بالهيبة التي تستحكمُ في القلب عند إدراك عظمة الله وجلاله، وهذا النحو من الخوف هو الذي أشار إليه قولُه تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾(13) وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾(14) فهم يخشونَ الله لمعرفتهم بعظيم شأنه، فخوفهم من الله مِن خوفِ العظمة. وأمَّا خوف العقوبة فأُشير إليه بمثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ﴾(15) وقوله تعالى: ﴿لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾(16).
وبناءً على هذا الوجه لا يكون ثمة تنافٍ بين الأمر بالاطمئنان والأمر بالوَجل، وذلك لاختلاف متعلَّق الاطمئنان وحيثيَّته عن متعلَّق الوجل وحيثيَّته كما اتضح مما ذكرناه.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
18 / جمادى الأولى / 1446ه
21 / نوفمبر / 2024م
1- سورة الرعد / 28.
2- سورة الأنفال / 2.
3- سورة آل عمران / 8.
4- سورة البقرة / 250.
5- سورة المؤمنون / 60.
6- سورة النحل / 106.
7- سورة المائدة / 112-113.
8- سورة الفجر / 27-28.
9- سورة الفاتحة / 6-7.
10- مصباح المتهجد -الطوسي- ص83.
11- سورة النساء / 65.
12- سورة إبراهيم / 14.
13- سورة النازعات / 40.
14- سورة فاطر / 28.
15- سورة هود / 103.
16- سورة الزمر / 16.
|
|
|
|
|