|
عضو برونزي
|
رقم العضوية : 82198
|
الإنتساب : Aug 2015
|
المشاركات : 1,339
|
بمعدل : 0.38 يوميا
|
|
|
|
المنتدى :
منتدى القرآن الكريم
الفرق بين هدى للناس، للمتقين، للمؤمنين.. إلخ
بتاريخ : اليوم الساعة : 12:53 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذي أُنْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ)[1].
الفرق بين هدى للناس، للمتقين، للمؤمنين.. إلخ
وفي الآية الكريمة بصائر كثيرة نقتصر ههنا على واحدة منها وهي: أن وصف القرآن الكريم بكونه هدى ورد بأنحاء متنوعة في القرآن الكريم فقد عُدّيَ تارة للناس: (هُدىً لِلنَّاسِ) كما في الآية الكريمة، وأخرى اضيف إلى المتقين (هُدىً لِلْمُتَّقينَ)[2] كما في قوله تعالى: (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)[3]، وثالثة جاء بصيغة (هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنينَ)[4]، كقوله تعالى: (هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[5] ورابعة بصيغة للمؤمنين كقوله تعالى (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنين)[6] وبصيغة (هُدىً وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ)[7]، وبنحو آخر: (هُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُون)[8].
وفي اختيار هذه الألوان، حِكمة وفكرة وبصيرة ووجهٌ وعُمقٌ، ولعلنا نتطرق لذلك في بحث قادم بإذن الله تعالى.
والحديث يدور في ضمن فصول:
نماذج من الأجر العظيم على الشهر الفضيل
الفصل الأول: فلسفة الأجر العظيم المذهل على إدراك الشهر الفضيل وعلى كل عمل من أعماله.. فإن المتتبع في الروايات يجد انها تذكر من الثواب ما لا يحلّق إليه الخيال مهما جنّح، ولنذكر نموذجاً منها ثم نستعرض بعض وجوه الحكمة الكامنة في ذلك
عن سعيد بن جبير قال: ((سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: مَا لِمَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَعَرَفَ حَقَّهُ؟ قَالَ: تَهَيَّأْ يَا ابْنَ جُبَيْرٍ حَتَّى أُحَدِّثَكَ بِمَا لَمْ تَسْمَعْ أُذُنَاكَ وَلَمْ يَمُرَّ عَلَى قَلْبِكَ! فَرِّغْ نَفْسَكَ لِمَا سَأَلْتَنِي عَنْهُ، فَمَا أَرَدْتَهُ إِلَّا عِلْمَ الْأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ فَتَهَيَّأْتُ لَهُ مِنَ الْغَدِ، فَبَكَّرْتُ إِلَيْهِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَصَلَّيْتُ الْفَجْرَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ.
فَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَيَّ فَقَالَ: اسْمَعْ مِنِّي مَا أَقُولُ! سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: لَوْ عَلِمْتُمْ مَا لَكُمْ فِي رَمَضَانَ لَزِدْتُمْ لِلَّهِ شُكْراً:
إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْهُ، غَفَرَ اللَّهُ لِأُمَّتِيَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا، سِرَّهَا وَعَلَانِيَتَهَا، وَرَفَعَ لَكُمْ أَلْفَيْ أَلْفِ دَرَجَةٍ وَبَنَى لَكُمْ خَمْسِينَ مَدِينَةً.
وَكَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يَوْمَ الثَّانِي بِكُلِّ خُطْوَةٍ تَخْطُونَهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عِبَادَةَ سَنَةٍ وَثَوَابَ نَبِيٍّ، وَكَتَبَ لَكُمْ صَوْمَ سَنَةٍ،
وَأَعْطَاكُمُ اللَّهُ يَوْمَ الثَّالِثِ بِكُلِّ شَعْرَةٍ عَلَى أَبْدَانِكُمْ قُبَّةً فِي الْفِرْدَوْسِ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ فِي أَعْلَاهَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ بَيْتٍ مِنَ النُّورِ، فِي كُلِّ بَيْتٍ أَلْفُ سَرِيرٍ، عَلَى كُلِّ سَرِيرٍ حَوْرَاءُ، يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفُ مَلَكٍ، مَعَ كُلِّ مَلَكٍ هَدِيَّةٌ،
وَأَعْطَاكُمُ اللَّهُ يَوْمَ الرَّابِعِ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ سَبْعِينَ أَلْفَ قَصْرٍ، فِي كُلِّ قَصْرٍ سَبْعُونَ أَلْفَ بَيْتٍ، فِي كُلِّ بَيْتٍ خَمْسُونَ أَلْفَ سَرِيرٍ، عَلَى كُلِّ سَرِيرٍ حَوْرَاءُ، وَمَعَ كُلِّ حَوْرَاءَ أَلْفُ وَصِيفَةٍ، خِمَارُ إِحْدَاهُنَّ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا))[9].
والحديث طويل يذكر فيه أجراً عظيماً مذهلاً على كل يوم يوم.. حتى يصل إلى يوم الثلاثين فيقول: ((فَإِذَا تَمَّ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ بِكُلِّ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكُمْ ثَوَابَ أَلْفِ شَهِيدٍ وَأَلْفِ صِدِّيقٍ، وَكَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ عِبَادَةَ خَمْسِينَ سَنَةً، وَكَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ بِكُلِّ يَوْمٍ صَوْمَ أَلْفَيْ يَوْمٍ، وَرَفَعَ لَكُمْ بِعَدَدِ مَا أَنْبَتَ النِّيلُ دَرَجَاتٍ، وَكَتَبَ لَكُمْ بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ وَجَوَازًا عَلَى الصِّرَاطِ وَأَمَانًا مِنَ الْعَذَابِ...
فَمَنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَفِي أَيِّ شَهْرٍ يُغْفَرُ لَهُ؟ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ))[10].
ويكفي أن نتصور بعض أنواع الأجر السابقة:
1- ((وَرَفَعَ لَكُمْ أَلْفَيْ أَلْفِ دَرَجَةٍ)) أي مليونا درجة.. ومن البيّن أن الفاصل بين درجة ودرجة هو أكثر من الفاصل بين الأرض والسماء... وكلها مراتب فضل ومِنَح وعطايا ربانية.
2- ((وَبَنَى لَكُمْ خَمْسِينَ مَدِينَةً)) والمدينة تستوعب ما شاء الله من القصور.. والقصر الواحد وردت في سعته وفخامته وأنواع النعيم فيه روايات لا تخطر مضامينها على عقل بشر.
3- ((وَكَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يَوْمَ الثَّانِي بِكُلِّ خُطْوَةٍ تَخْطُونَهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عِبَادَةَ سَنَةٍ)) فلنتصور كم من الخطوات نخطوها ونحن صائمون! فلنا بكل خطوة نخطوها ثواب عبادة سنة! ومن الواضح ان المقصود عبادة سنة مقبولة.. وعبادتنا ما أندر ما يقبل منها لكثرة ما يفسدها من عجب ورياء وسمعة وغير ذلك.. وكل صائم في شهر رمضان يحصل بكل خطوة على أجر عبادة سنة مقبولة!.
4- (( وَثَوَابَ نَبِيٍّ (عليه السلام))) وهذا عجيب حقاً، ولقد سبق الجواب عن الشبهة الواردة على أشباهه بأن الثواب ثوابان: ثواب الأصل وثواب الفضل، والمراد ههنا ثواب الأصل[11] فلا يتنافى مع العدل.
5- وأعداد الحوريات مذهل إلى أبعد الحدود، والأعجب ان خمار إحداهن (الوصائف) خير من الدنيا وما فيها!.. هذه الدنيا التي نتنازع على شبر منها أو على دنانير ودكاكين وبساتين.. وكم يعصى الله فيها مع أن الأرض كلها أقل شأناً ووزناً وقيمة، من خِمار إحدى تلك الوصائف اللاتي يتجاوز عددهن الملايين!!.
ما الحِكمة في منح الله تعالى الثواب المذهل؟
فما هو السر في هذا الأجر المذهل ههنا وفي سائر النظائر؟ مضت الإجابة في بحث سابق ونضيف إجابة أخرى مبتكرة على ضوء إحدى قوانين الفيزياء.
1- لأن جُوده تعالى لا حدّ له
أما الإجابة السابقة فإيجازها: انّ كرم الله تعالى لا يقاس بغيره.. فإنه جواد كريم وهّاب.. وقد قيّدت حكمته كرمه في الحياة الدنيا.. أما الآخرة فهي مجلى كرمه وعظمته.. وبعبارة أخرى: كما انه جل اسمه لا متناهي ولا محدود فكذلك عطاؤه لا متناهي ولا محدود وقد قال تعالى: (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ)[12]، بل انه تعالى فوض إلى نبي من أنبيائه (عليهم السلام) العطاء بغير حساب (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ)[13] فما بالك بجوده وكرمه جل اسمه؟.
2- ولقاعدة القصور الذاتي الفيزياوية، بعد تكييفها
وأما الإجابة الجديدة فهي إجابة تعتمد على قانون من قوانين علم الفيزياء وهو قانون القصور الذاتي الذي يعدّ القانون الأول لنيوتن وهو: انه يظل الجسم في حالة سكون، أو يستمر في الحركة بخط مستقيم وبسرعة ثابتة، ما لم تؤثر عليه قوة خارجية تغير حالته.
فهنا حالتان:
- إذا كان الجسم ساكنًا، فإنه يظل في حالة السكون ما لم تؤثر عليه قوة خارجية.
- إذا كان الجسم متحركًا، فإنه يواصل حركته بنفس الاتجاه وبالسرعة نفسها ما لم تؤثر عليه قوة خارجية، مثل الاحتكاك أو الجاذبية، تؤدي إلى تغيير سرعته أو اتجاهه.
أمثلة من الحياة اليومية:
الشاحنة أو السيارة أو الدراجة المتوقفة: فإنها تظل متوقفة في مكانها حتى تُؤثّر عليها قوة، إما من خلال دفعها أو عبر تشغيل المحرك.
الكرة المتدحرجة: عندما تُرْمَى كرة على سطح الأرض، فإنها سوف تستمر في التدحرج إلى الأبد إذا لم يوجد معوّق خارجي، لكنها تتباطء وتتوقف في النهاية بفعل قوى الاحتكاك مع الأرض ومقاومة الجاذبية.
الركاب في السيارة: عندما تتوقف السيارة فجأة، يندفع الركاب إلى الأمام بسبب القصور الذاتي، الذي يجعل أجسامهم تندفع إلى الأمام.
العوامل المرتبطة بالقصور الذاتي:
الكتلة: كلما زادت كتلة الجسم، زادت مقاومته للتغيير ساكناً كان أم متحركاً. على سبيل المثال، من الأسهل دفع صخرة صغيرة مقارنةً بصخرة ضخمة، وذلك لأن الكبيرة لها كتلة أكبر، وبالتالي قصور ذاتي أكبر.
أهمية القاعدة: تُعد قاعدة القصور الذاتي من المبادئ الفيزياوية الأساسية التي تفسّر العديد من الظواهر الثابتة والمتحركة في الطبيعة. وهي حجر الزاوية لفهم قوانين الحركة التي صاغها إسحاق نيوتن، مما يجعلها ضرورية في العديد من مجالات العلوم التطبيقية مثل الهندسة، وعلم الفضاء، وتصميم الآلات.
وبعبارة أخرى: القصور الذاتي هو خاصية فيزياوية للأجسام تُعبّر عن ميلها للمقاومة تجاه أي تغيير. فعندما يكون الجسم ساكنًا، يميل للبقاء ساكنًا، وعندما يكون في حركة، يميل للاستمرار في حركته بنفس السرعة والاتجاه ما لم تؤثر عليه قوة خارجية.
الملخّص: ان العوامل المؤثرة في القصور الذاتي هي:
أ- الكتلة: كما سبق.
ب- القوة الخارجية: يحتاج الجسم إلى قوة خارجية (كالاحتكاك، الجاذبية، أو الدفع) لتغيير حالته الحالية (من سكون أو حركة) إذا لم توجد قوة تؤثر عليه، فإن الجسم سيظل في حالته الحالية.
إضافة إلى ذلك فإن قاعدة القصور الذاتي لا تقتصر على تفسير السكون أو الحركة البسيطة، بل تمتد لتفهمنا العديد من الظواهر الطبيعية التي تواجهنا يوميًا. من خلال تطبيق هذه القاعدة، يمكننا أن نفسر بشكل أعمق كيفية حركة الأجسام، تأثير القوى عليها، وأهمية فهم هذه المبادئ في تصميم الأجهزة الهندسية والآلات، وذلك كله بحسب علماء الفيزياء.
الاستصحاب يكشف عن قاعدة القصور الذاتي
أقول: وهذا القانون هو المسمى عندنا بالاستصحاب سواء للموضوعات (وهي تكوينية) أم للأحكام (وهي من عالم التشريع) حيث انه يعتمد على المعادلة نفسها إذ ورد في صحيحة زرارة ((لِأَنَّكَ كُنْتَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ طَهَارَتِكَ ثُمَّ شَكَكْتَ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْقُضَ الْيَقِينَ بِالشَّكِّ أَبَداً))[14].
كيف تكافح المثوبات المذهلة العادات الراسخة وقوة إبليس؟
كما ان هذا القانون الفيزياوي يجري في عالم الميتافيزيقيا والغيب وفي أفق النفس الإنسانية أيضاً، لكن بلون آخر مع الحفاظ على جوهره كما هو وذلك ان خالق المادة والطاقة والجسم والنفس والغيب والشهادة، واحد، لذا فإن قوانينه العامة سيالة في كل العوالم.
ومحط الاهتمام الآن ومحور البحث هو دائرة النفس الإنسانية وصفاتها وعاداتها على ضوء قاعدة القصور الذاتي:
إن العادات الراسخة والإدمان على الغيبة أو التهمة أو إيذاء الأولاد والزوجة أو الجيران أو الموظفين أو الزملاء أو الرشوة أو الربا أو الغش والاحتيال أو غير ذلك، تمتلك قوة ذاتية كبيرة جداً على البقاء والاستمرار.. كما يزيدها إبليس وشياطينه قوة على قوة ورسوخاً على رسوخ كما تزيد الأهواء والشهوات الإنسان اندفاعاً أكبر نحو تلك المعاصي.
ومما يماثل زيادة كتلة الجسم التي تزيد قصوره الذاتي، عمق رسوخ العادات وشدة قوة الشياطين والغرائز والأهواء والشهوات وتعاضدها جميعاً ولذا ورد:
إني بُلِيتُ بأربَعٍ ما سُلِّطوا --- إلا لطُولِ شقاوتي وعنائي
إبليسَُ والدنيا ونفسي والهوى --- كيفَ الخَلاصُ وكلُّهُمْ أعدائي
فهنا يجري كلا طرفي قاعدة القصور الذاتي: 1- في البقاء على نفس الحالة السابقة، التي أدمن عليها، والذي يعادل سكون الجسم الذي يظل ساكناً إلا ان تؤثر قوة معاكسة عليه 2- وفي الاندفاع نحو المعاصي بسرعة كبيرة والذي يعادل حركة الجسم الذي يستمر في حركته بالاتجاه نفسه وبالسرعة نفسها حتى تؤثر عليه قوة خارجية معاكسة.
ومن هنا نستكشف بعض الحكمة في لطف الله تعالى الكبير بمنحنا الأجر العظيم المذهل على الطاعات وعلى ترك المحرمات.. حيث ان هذا الأجر العظيم يشكل القوة المعاكسة لقوة الدفع الشيطانية والحافز المضاد الذي يحمل طاقة كبيرة لمكافحة الإدمان.. وذلك على حسب مستوى عامة الناس الذين يتعاملون بمنطق التجار.. ولقد كان الأجر عظيماً جداً جداً لأنه غير مرئي ولا ملموس ولا محسوس وقد تُسوّل للإنسان نفسه ويوسوس له شيطانه بأنه مجرد وعد خيالي، لذا لم يكف الأجر العادي في الحث والتحريض.. بل كان لا بد من هذا الأجر العظيم الذي يداعب القوة المتخيلة بقوة كبيرة جداً فيزداد حافز الإنسان إلى أبعد الحدود. ويكون خير تعويض عن ضعف الاحتمال، لدى البعض، بأن يعوّض بقوة المحتمل وعظمته.
ومن هنا نكتشف أيضاً بعض الحكمة في قاعدة التسامح إذ ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((مَنْ بَلَغَهُ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) شَيْءٌ فِيهِ الثَّوَابُ فَفَعَلَ ذَلِكَ طَلَبَ قَوْلِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) كَانَ لَهُ ذَلِكَ الثَّوَابُ وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) لَمْ يَقُلْهُ))[15].
فالأجر العظيم مقتضى الحكمة ومقتضى العدل
وذلك أيضاً مقتضى عدل الله تعالى[16].. إذ انه منح الشيطان سلطة كبيرة (اغوائية – لا جبرية) كبرى جداً على الإنسان إذ يجري من الإنسان مجرى الدم من ابن آدم.. إضافة إلى انه كان معلِّم الملائكة وقد عمّر ألوف السنين التي تعرّف فيها على الكثير الكثير الكثير جداً من الحيل وألوان الخداع التي يمكن أن يخدع بها بني آدم كما انه أصبح متخصصاً، بل وأشهر متخصص، في صناعة ألوان الشباك التي يصطاد بها بني آدم.
وأنّى لابن آدم المسكين أن يواجه بمفرده إبليس وجنوده وهو يمتلك تلك القوة الرهيبة؟.. لذلك وفي المقابل، ولإيجاد التوازن مع نوازع الشر الكبرى هذه، كان من الضروري بالنظر إلى الحكمة، إعطاء ذلك الأجر العظيم الكبير المذهل.. كي تتكافأ الكفتان وتتوازن كفّتا الميزان في الإنسان الذي خلقه الله تعالى مخيّراً وأراه الطريقين بـ (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ)[17]، و(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)[18].
وذلك منطق التجار
وكما سبق فإن هذا هو منطق التجار الذي يحمله غالب الناس، إن لم يكن كلهم، في أعماقهم، وهناك أيضاً منطق العبيد الذين لا يستثيرهم الأجر العظيم فكان لا بد إلى جوار ذلك من العذاب الإليم.. ومن هنا نجمت فلسفة أنواع العذاب الغليظ الشديد.. حيث انه لما كان العذاب من الغيب كان غير زاجر، للعديد من الناس، إلا إذا زادت درجة العقوبة إلى درجات رهيبة..
ولكنّ ذلك في غير الأوحدي من الناس أي في غير أعاظم الأولياء الذين يعبدون الله تعالى لا لطمع تجاري ولا لخوف ناري بل كما قال الإمام علي (عليه السلام): ((مَا عَبَدْتُكَ طَمَعاً فِي جَنَّتِكَ وَلَا خَوْفاً مِنْ نَارِكَ وَلَكِنْ وَجَدْتُكَ أَهْلًا لِلْعِبَادَةِ فَعَبَدْتُكَ))[19]
شهر رمضان معسكر تدريبي مميّز
الفصل الثاني: ان شهر رمضان الكريم مادام كمعسكر للتدريب أو كدورة مكثفة روحية – معنوية – تربوية، ومادامت الأجواء العامة فيه شديدة الروحانية: فمن تلاوة القرآن الكريم آناء الليل وأطراف النهار إلى دعاء السحر الذي يصدح بصوت شجي من المشاهد المشرفة والمساجد والحسينيات ويملأ البيوت والسكك والقرى والأرياف والجامعات والحوزات والأسواق والشوارع والمدن كلها.. ومن عبق السحور والفطور إلى خشوع النفس وصقل الروح الذي ينجم عن كسر شهوات البطن والفرج.. إلى غير ذلك.. فهذه الأجواء المثالية تعدّ خير حافز وأفضل مشجع وباعث على تغيير الذات نحو الأفضل وعلى اقتلاع جذور العادات السيئة وإحلال العادات الحسنة محلها، خاصة وأنّ ثلاثين يوماً تعدّ فترة قياسية لتغيير حالات الإدمان.. خاصة مع أجواء هذه الدورة المكثفة.. إذ يقال أن المرء بحاجة إلى ما بين 20 يوماً إلى 40 يوماً للإقلاع عن الإدمان و30 هي المتوسط.
أن نتخندق عند نقاط ضعفنا ونعسكر
فذلك كله وإن كان لكذلك ولكن.. لكي يكون مفعول الشهر الكريم والأجر العظيم تاماً كاملاً شاملاً فلا بد من ضميمة مهمة وهي (أن نتخندق عند نقاط ضعفنا وأن نعسكر عندها وأن نضاعف من حركة قوات الطوارئ، ومكافحة الشغب الشيطاني لمدة شهر كامل).
وتوضيح ذلك: ان العدو يتسلل إلى البلاد عادة عبر أضعف النقاط الحدودية أو يهاجم من هنالك.. فهنالك ينبغي إرسال المزيد من التعزيزات.. وكما الدول فكذلك الأشخاص إذ كل شخص له نقاط ضعف.. وهو عادة عارف بها إذ (بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)[20] وهي متنوعة فقد تكون نقطة ضعفه إدمان الغيبة، أو النميمة وقد تكون تفجّر القوة الغضبية بسبب أو بغير سبب والصراخ على هذا أو ذاك وسب هذا أو ذاك والنزاع مع هذا أو ذاك.. وقد تكون ضراوة قوته الشهوية.. إلى غير ذلك.. ومن هنا فإن عليه، في الشهر الفضيل خاصة، أن يستنهض قواه الذاتية لتغيير هذه العادات وللإقلاع عن هذا الإدمان وبتركيز شديد كيما يفلح وينجح.
متى يضمن لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) الجنة؟
وقد ورد في الروايات الشريفة ان شخصاً وأشخاصاً وقوماً وأقواماً، في قضايا متعددة، طلبوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يضمن لهم الجنة، فاشترط على بعضهم شرطاً وعلى آخر شرطين وعلى آخر أكثر.. كما انه (صلى الله عليه وآله) كان يبتدأ أحياناً بذكر انه يضمن الجنة لمن التزم بكذا وبكذا..
والحكمة في اشتراط الرسول (صلى الله عليه وآله) شرطاً واحداً على أحدهم وشرطين على آخر.. وأكثر على آخرين.. وكذا الحكمة في تنويع الشروط فعلى هذا شرط وعلى ذلك شرط آخر وهكذا، هي ما سيأتي الإشارة إليه، ولكن بعد أن نستعرض عدداً من الروايات التي تشير إلى أنواع الشروط التي كان يشترطها الرسول (صلى الله عليه وآله) كضمان لدخول الجنة.
1- فمن دائرة الشرط الواحد، ما ورد عن الإمام الإمام الصادق (عليه السلام) قال: ((إِنَّ قَوْماً أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اضْمَنْ لَنَا عَلَى رَبِّكَ الْجَنَّةَ؟.
قَالَ: فَقَالَ: عَلَى أَنْ تُعِينُونِي بِطُولِ السُّجُودِ. قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَضَمِنَ لَهُمْ الْجَنَّةَ.
قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ قَوْماً مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَتَوْهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اضْمَنْ لَنَا الْجَنَّةَ.
قَالَ: عَلَى أَنْ لَا تَسْأَلُوا أَحَداً شَيْئاً. قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَضَمِنَ لَهُمُ الْجَنَّةَ، فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَسْقُطُ سَوْطُهُ وَهُوَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَنْزِلُ حَتَّى يَتَنَاوَلَهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَسْأَلَ أَحَداً شَيْئاً، وَإِنَّهُ كَانَ الرَّجُلُ لَيَنْقَطِعُ شِسْعُهُ فَيَكْرَهُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ أَحَدٍ شِسْعاً))[21].
وقال: ((وَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) يَوْماً لِأَصْحَابِهِ أَلَا تُبَايِعُونِّي فَقَالُوا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: تُبَايِعُونِّي عَلَى أَنْ لَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئاً، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ تَقَعُ الْمِخْصَرَةُ مِنْ يَدِ أَحَدِهِمْ فَيَنْزِلُ لَهَا، وَلَا يَقُولُ لِأَحَدٍ نَاوِلْنِيهَا))[22].
2- ومن دائرة الثلاثة شروط: ما ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: ((قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي عَمَلًا لَا يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ.
قَالَ: لَا تَغْضَبْ، وَلَا تَسْأَلِ النَّاسَ شَيْئاً، وَارْضَ لِلنَّاسِ مَا تَرْضَى لِنَفْسِكَ))[23].
ومن دائرة الشروط الابتدائية:
أ- اشتراط شرطين، فقد ورد انه: ((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): مَنْ ضَمِنَ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ ضَمِنْتُ لَهُ الْجَنَّةَ))[24]
ب- اشتراط أربعة شروط، كما فيما جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام): ((إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ضَمِنَ لِلْمُؤْمِنِ ضَمَاناً قَالَ: قُلْتُ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: ضَمِنَ لَهُ إِنْ هُوَ أَقَرَّ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَلِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) بِالنُّبُوَّةِ وَلِعَلِيٍّ (عليه السلام) بِالْإِمَامَةِ وَأَدَّى مَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ، أَنْ يُسْكِنَهُ فِي جِوَارِهِ))[25]
وفي حديث المعراج: ((يَا أَحْمَدُ، وَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا مِنْ عَبْدٍ ضَمِنَ لِي بِأَرْبَعِ خِصَالٍ إِلَّا أَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ: يَطْوِي لِسَانَهُ فَلَا يَفْتَحُهُ إِلَّا بِمَا يَعْنِيهِ، وَيَحْفَظُ قَلْبَهُ مِنَ الْوَسْوَاسِ، وَيَحْفَظُ عِلْمِي وَنَظَرِي إِلَيْهِ، وَيَكُونُ قُرَّةُ عَيْنَيْهِ الْجُوعَ))[26]
وورد أيضاً عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((مَنْ يَضْمَنُ لِي أَرْبَعَةً بِأَرْبَعَةِ أَبْيَاتٍ فِي الْجَنَّةِ؟ أَنْفِقْ وَلَا تَخَفْ فَقْراً، وَأَفْشِ السَّلَامَ فِي الْعَالَمِ، وَاتْرُكِ الْمِرَاءَ وَإِنْ كُنْتَ مُحِقّاً، وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ))[27]
ج- اشتراط خمسة شروط، كما فيما جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((مَنْ يَضْمَنْ لِي خَمْساً أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ، قِيلَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: النَّصِيحَةُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالنَّصِيحَةُ لِرَسُولِهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِدِينِ اللَّهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ))[28].
السر في تنويع شروط ضمان النبي (صلى الله عليه وآله) للجنة
ولنعد إلى السؤال السابق: ما هو السبب في هذا التنوع والاختلاف؟
نقول: لعل السبب في اشتراط شرط على رجل وشرطين على آخر وكونها من نوع ونوع آخر وثالث ورابع..، ان تلك الأمور كانت تشكّل نقطة ضعف هذا الرجل أو ذاك، كما لو كان ممن يلقي كَلّه على الناس، كعادة بعض الناس إذ يلقي بجميع ثقله على زوجته وأولاده أو على موظفيه وخدمه.. وكان الآخر مبتلى بشدة القوة الغضبية وكانت تشكل نقطة ضعفه الكبرى.. وهكذا فبحسب أنواع نقاط الضعف وأنواع مداخل الشيطان إلى تسخير هذا أو ذاك وبحسب تعددها تعدد الشرط كما تغير نوعه.
.. وههنا العبرة لنا جميعاً.. وهي أن على كل واحد منّا أن يقوم برصد نقاط ضعفه والمواضع التي يمكن أن تزلّ فيها قدمه وأن يستحوذ عليه الشيطان.. فيعسكر هنالك ويحارب بشدة ويكافح بقوة.. مستثمراً شهر رمضان المبارك، أو سائر المواسم العبادية كشهر رجب وشعبان وشهر ذي الحجة، أو أشهر الشعائر الحسينية كشهري محرم وصفر والفاطمية، ومستعيناً بطاقة التركيز الكبيرة، ومستثيراً جميع طاقاته الكامنة.. كي يتغلب في الشهر الفضيل، أو غيره، على نقاط ضعفه.. ويستبدل عاداته السيئة بعادات حسنة، ويقضي على إدمانه على هذا المعصية أو تلك أو هذه الرذيلة أو تلك
|
|
|
|
|