بسم الله الرحمن الرحيم،، بسم الله على قلبي ونفسي،،
بسم الله على ديني وعقلي،، بسم الله على ما أعطاني ربي
اللهم صلِّ وسلم وزد وبـارك على محمد ٍ وعلى المستحفظين من آل محمد
اللهم صل على محمد وال محمد وعجل فرجهم والعن عدوهم
اللهم صل على فاطمة وابيها وبعلها وبنيها
والسر المستودع فيها بعدد مااحاط به علمك,,,
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
مقدمة كتاب
ليالي « بيشاور »
سفر قيّم ، يضمّ مناظرات وحوار في مواضيع خلافية عديدة ، أهمّها إمامة وولاية أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام وخلافته الشرعية للرسول الأمين صلى الله عليه وآله بلا فصل ، والاستدلال عليها من الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة الشريفة ، وعقائد الإمامية ، والأدلة العقلية والنقلية لإِثباتها .
جرت هذه المناظرات الودّية المبنية على النقاش العلمي ، والمنطق البعيد عن التعصّب والمجرّد عن التقليد والأهواء ، بين أحد علماء الإماميّة ـ المصنّف قدس سره عندما كان في الثلاثين من عمره ـ وبين محاوريه من كبار علماء العامّة المعاصرين له ، وبحضور جموع غفيرة من أبناء الطائفتين في دار أحد وجهاء مدينة « بيشاور » الباكستانيّة ، وبحضور ما يقرب من 200 كاتب من الفريقين للتدوين والتوثيق وتسجيل ما يجري من حوار ومسائل وأجوبة وردود وشبهات ، وكذلك أربعة من الصحفيّين لكتابة ما يدور في هذه المجالس من المناقشات بكلّ جزئيّاتها ونشره في اليوم التالي في الصحف والمجلات الصادرة هناك في ذلك الوقت .
أُقيمت هذه المجالس ـ بناءً على طلب بعض علماء العامّة وكبار شخصياتهم ـ لمدّة 10 ليالٍ ، من ليلة الجمعة 23 رجب سنة 1345 هـ إلى ليلة الأحد 3 شعبان من السنة نفسها؛ وعقب انتهائها أعلن عدّة من الحاضرين تشـيّعهم والتزامهم بمذهب الحقّ مذهب أهل البيت عليهم السلام .
كان قد صدر الكتاب سابقاً بالفارسية .
ترجمة وتحقيق : السـيّد حسين الموسوي .
صدر في بيروت سنة 1419 هـ .
مقدمة المترجم
جدير بأن نسمي عصرنا بعصر الحوار والتفاهم .
لقد حان الوقت ليتصارح المسلمون بأمورهم العقائدية حتى يظهر الحق وتتوحد كلمتهم عليه ، فإن الوحدة الإسلامية ، أمنية جميع المسلمين .
ولأننا لمسنا أن التفرقة هي بغية أعدائهم ، وهي الوسيلة التي استعملها أعداء الدين والمستعمرون لفرض سيطرتهم على البلاد الإسلامية ونهب خيراتها وبث مبادئ الكفر والإلحاد والضلال والفساد بين أبناء الإسلام الحنيف .
وبما أن الوحدة الإسلامية ضرورة ملحة ، وهي لا تتم إلا بالصدق والحوار الإيجابي البناء بلا تعصب ولا عناد مع تحكيم القرآن والعقل والوجدان الحر ، في اختيار أحسن القول ، كما أمر بذلك رب العباد في قوله العزيز : ( فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) (الزمر آية 18) ، فيلزم على المسلم الكامل والإنسان العاقل ، أن يكون بصيرا في أمر دينه ، عالما بقضايا مذهبه ، لا يقبل قولا ولا يتمسك به إلا عن دليل وبرهان ، حتى يصبح في أمره على يقين وإيمان .
لأنه إذا سلك طريقا وتمسك بعقائد ومبادئ بغير علم يسنده ولا دليل يعضده وبرهان يرشده ، فسيكون كمن أغمض عينيه ولزم طريقا طويلا يمشي فيه على أمل أن يوصله إلى مقصده ومنزله ، حتى إذا أصاب رأسه الحائط ، فأبصر وفتح عينيه ، فإنه سوف يرى نفسه بعيدا عن مقصده ، تائها ضالا عن سواء الصراط .
فمن لم يحقق في الأمور الدينية ولم يدقق في القضايا المذهبية ، بل ذهب إلى مذهب آبائه ولزم سبيل أسلافه ، فربما فتح عينيه بعد جهد طويل ، فيرى نفسه تائها قد ضل السبيل .
ولذا عبر الله العزيز الحكيم عن هكذا إنسان بالأعمى فقال : ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ) (الإسراء 72) .
ولإنقاذ المسلمين من العناد والتعامي قدمت على تعريب هذا الكتاب القيم من اللغة الفارسية إلى العربية ، لعله يحقق شيئا من هذا الهدف السامي . راجيا أن يترك في المسلمين أثرا إيجابيا ، فيقرب قلوبهم ويوحد صفوفهم وكلمتهم ، ويجمعهم على كلمة الله سبحانه بالحق والإصلاح ، والسعادة والفلاح ، ولقد أدركت مؤلف هذا الكتاب المرحوم آية الله السيد محمد ( سلطان الواعظين ) وحضرت مجلسه وسمعت حديثه ومواعظه .
فلقد كان رحمة الله عليه رجلا ضخما في العلم والجسم ، ذا شيبة وهيبة ، وكان جسيما وسيما ذا وجه منير ، قل أن رأيت مثله ، وكان آنذاك يناهز التسعين عاما من عمره الشريف ، ولقد شاركت في تشييع جثمانه الطاهر في مدينة طهران ، حيث عطلت أسواق عاصمة إيران لوفاته وخرجت حشود عظيمة في مواكب عزاء حزينة وكئيبة ، ورفعت الرايات والأعلام السوداء معلنة ولائها وحبها لذلك العالم الجليل والسيد النبيل .
ولا أذكر تاريخ وفاته بالضبط ، ولكن كان في العقد الأخير من القرن الرابع عشر الهجري ، واشهد الله العزيز أني لما بدأت بتعريب هذا الكتاب رأيت ذلك السيد العظيم مرتين في الرؤيا ، وكان مقبلا عليا مبتسما ضاحكا في وجهي ، وكأنه يشكرني على هذا العمل .
فأسأل الله تبارك وتعالى أن يتغمده برحمته الواسعة وان يتقبل هذا المجهود منه ومنا ويجعله ذخيرة لآخرتنا ولكل من ساعد وسعى في نشر هذا الكتاب ، إنه سميع الدعاء .
قم المقدسة
حسين الموسوي
28 شوال 1419هـ
الموافق 14 فبراير 1999م
تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد رسوله المصطفى ، وعلى آله الطيبين الطاهرين .
وبعد :
إن هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ الكريم ، هو الكتاب القيم ((ليالي بيشاور )) لمؤلفه الكبير : سماحة السيد محمد الموسوي ، الملقب بـ : ( سلطان الواعظين الشيرازي ) .
وقد كتب مقدمة طويلة لكتابه استغرقت ما يقرب من مائة صفحة من كتابه القيم هذا ، تطرق فيها على أهمية التقارب بين المسلمين ، وإلغاء الخلافات والخصومات التي بثها الأعداء في أوساطهم .
وحث فيها على الوحدة الإسلامية والأخوة الدينية التي ندب الله المسلمين إليها ، وحرض على الاعتصام بحبل الله الذي دعاهم القرآن للتمسك به والالتفاف حوله .
وحذرهم عواقب التشتت والتفرق ، وذكرهم الله من الوقوف بعيدا والاكتفاء بالتفرج ، أو الابتعاد والاشتغال ـ لا سمح الله ـ بقذف بعضهم بعضا بما يسخط الرحمن ويؤذي حبيبه المصطفى ، الذي بعثه الله رحمة للعالمين ، وأرسله ليتم به مكارم الأخلاق ، معالي الشيم والفضائل الإنسانية ، وجمع الناس على التوحيد .
وندبهم إلى ما ندب إليه القرآن من التعارف فيما بينهم ، قال تعالى : ( لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )(1) مرتئيا أن أفضل الطرق للتعارف هو الحوار الحر ، والنقاش العلمي البحت ، والمناظرة المنطقية البعيدة عن كل تعصب ، والمجردة عن التقاليد والأهواء ، من الخلفيات الشائنة .
وقد اشترك هو( قدس سره ) ـ بدعوة من أصدقائه ومعارفه في بيشاور(2) ـ في مجالس المناظرة التي عقدت له بهذا الشأن ، والتي اشترك فيها كبار علماء السنة لمعاصرين له آنذاك ، وقد استمرت المناظرة ليالي عديدة استغرقت عشرة مجالس ، نشرتها في حينها جرائد الهند وصحفها ، وتلقاها الناس بالقبول والترحيب .
ثم وفق المؤلف ـ رحمه الله ـ إلى جمعها في هذا الكتاب بدقة ، وطلب منهم مواصلة قراءته من الصفحة الأولى حتى الصفحة الأخيرة ، وذلك لترابط البحث وتسلسله ، مما يؤدي قطعه إلى ضياع الموضوع ، وعدم الاستفادة الكاملة من البحث .
ولما كان الكتاب باللغة الفارسية ، وقد أجاز ـ قدس سره ـ في المقدمة ترجمة الكتاب ـ ترجمة أمينةـ إلى سائر اللغات ، حاولنا ترجمته إلى اللغة العربية ، مساهمة منا في هذه الخدمة الإنسانية النبيلة ، بغية التوصل إلى الحق ، والتعرف على الواقع والحقيقة ، ومشاركة منا في ما دعانا إليه كتاب الله وسنة رسوله الكريم وسيرة أهل بيته الطاهرين ، من : التعارف والتقارب ، والتوحيد والتآخي ، و أخيرا نيل العزة والسعادة في الدنيا ، والنجاة والفوز بالجنة في الآخرة ، إن شاء الله تعالى .
مقدمة المؤلف
قال السيد المؤلف :
سافرت إلى العتبات المقدسة في شهر ربيع الأول عام 1345هـ ، وكان لي من العمر ثلاثون سنة ، فتشرفت بزيارة مراقد الأئمة الأطهار من آل النبي المختار ( صلوات الله وسلامه عليه وعليهم ) في العراق ، ومنها عزمت على السفر إلى الهند وباكستان بغية السفر منهما إلى خراسان والتشرف بزيارة الإمام الرضا عليه السلام ، فوصلت ـ كراتشي ـ وهي مدينة ساحلية تعد من أهم الموانئ في المنطقة .
وما إن وصلت إليها وانتشر خبر وصولي في أهم الصحف هناك ، فاجأتني دعوات كثيرة من الاخوة المؤمنين الذين كانت بيني وبينهم معرفة سابقة ومودة قديمة ، وكان لا بد لي من إجابة تلك الدعوات الكريمة ، وإن كانت تستوجب مني قطع مسافات بعيدة ، وشدّ الرحال من مدينة إلى أخرى ، ومن بلد إلى آخر .
فواصلت سفري إلى مدينة بومبي ، وهي ـ أيضاـ من أكبر مدن الهند وأعظم الموانئ فيها ، فاستقبلني المؤمنون الذين دعوني إليها ومكثت فيها ضيفا معززا بين أهلها ليالي وأياما .
ثم تابعت السفر على مدينة (دهلي) ومنها إلى (آكره) و(لاهور) و(بنجاب) و( سيالكوت) و( كشمير) و(حيدرآباد) و(كويته) وغيرها ...
وقد استقبلني كثير من الناس وعامة المؤمنين في هذه المدن بحرارة فائقة فكانوا يرحبون بقدومي ويحيوني بهتافات وتحيات على العادات والرسوم الشعبية المتعارفة هناك .
وفي أيام وجودي في تلك المدن المهمة التي سافرت إليها ، كان العلماء من مختلف المذاهب والأديان يزورونني في منزلي ، وكنت أرد لهم الزيارة في بيوتهم ، وكان غالبا ما يدور بيني وبينهم محاورات دينية ومناظرات علمية مفيدة ، كنت أتعرف من خلالها على عقائدهم ، وهم يتعرفون على عقائدي .
ومن أهم تلك المناقشات والمحاورات ، حوار ونقاش دار بيني وبين البراهمة والعلماء الهندوس في مدينة (دهلي) ، وكان ذلك بحضور قائد الهند ومحررها من الاستعمار الزعيم الوطني غاندي .
وكانت الصحف والمجلات تنشر ـ عبر مراسليها ـ كل ما يدور في المجلس من الحوار بالتفصيل ، وبكل أمانة وصدق .
وكانت نتيجة تلك المناظرات أن ثبت الحق وزهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا ، فقد خرجت من الحوار منتصرا على المناظرين ، وذلك بالأدلة العلمية والبراهين العقلية ، حتى ثبت للحاضرين في المجلس أن مذهب أهل البيت ـ الذي هو مذهب الشيعة الجعفرية الاثنى عشرية ـ هو المذهب الحق ، وأنه أحق أن يتبع ، وأنا أقول مرددا ( الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله )(3).
السفر إلى سيالكوت
ثم سافرت إلى مدينة ( سيالكوت) بدعوة خاصة من (( الجمعية الاثنا عشرية )) التي كان يرأسها صديقي الوفي الأستاذ أبو بشير السيد علي شاه النقوي ، مدير تحرير مجلة (( در النجف)) الأسبوعية .
وعندما دخلت هذه المدينة لقيت استقبالا حافلا وتجمعا من مختلف الطبقات ، ومن حسن الحظ أني وجدت ضمن المستقبلين زميلا لي ، كان وليا مشفقا ، وهو الزعيم ( محمد سرور خان رسالدار) ابن المرحوم ( رسالدار محمد أكرم خان ) وأخ الكولونيل ( محمد أفضل خان ) وهو من أكبر شخصيات أسرة (قزل باش) في ولاية (البنجاب) .
وتعود معرفتي بهذه الأسرة الكريمة إلى عام 1339هـ في مدينة كربلاء المقدسة ، حيث كانوا قد تشرفوا آنذاك لزيارة مراقد الأئمة الأطهار من آل النبي المختار ( صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين ) وسكنوا فيها ، كما وكانت لهم مناصب حكومية مرموقة في ولاية البنجاب .
وكان ( محمد سرور خان ) هذا رئيس شرطة ( سيالكوت) وكان أهل البلد يحبونه ويحترمونه لشجاعته وحسن سيرته وديانته .
فما أن رآني حتى ضمني إلى صدره ، ورحب بقدومي ، وطلب مني أن أحل ضيفا عنده وأنزل مدة إقامتي ـ هناك ـ في بيته ، فقبلت دعوته وذهبت معه ، وشيعني المستقبلون إلى ذلك البيت الرفيع .
وفور نزولي ضيفا هناك نشرت صحف ولاية ( البنجاب) خبر وصولي إلى سيالكوت فكانت الوفود والرسائل ـ رغم عزمي على السفر إلى إيران لزيارة الإمام الرضا عليه السلام ـ تتسابق في دعوتي إلى زيارة بلادهم ومدنهم .
وأخص بالذكر سماحة حجة الإسلام السيد علي الرضوي اللاهوري ، العالم الجليل ، والمفسر النبيل ، صاحب تفسير (( لوامع التنزيل )) ذي الثلاثين مجلدا ، وكان يسكن مدينة لاهور ، فدعاني بإلحاح منه وإصرار إلى هناك ، فاستجبت لدعوته ، وذهبت ملبيا طلبه .
كما وتلقيت فيها أيضا دعوة كريمة من إخواني المؤمنين من أسرة قزل باش ، الذين كانوا من شخصيات ورجال الشيعة المعروفين في ولاية ( البنجاب) ، وكانت دعوتهم لي لزيارة مدينة ( بيشاور) وهي آخر مدينة حدودية مهمة تربط ولاية البنجاب بأفغانستان .
ولما تلقيت تلك الدعوة ، ألحّ عليّ الزعيم ( محمد سرور خان) ـ مضيفي الكريم ـ بأن لا أرد دعوة أفراد أسرته ورجال قومه من ( بيشاور) ورجاني أن ألبي دعوتهم وأذهب إليهم .
في بيشاور
ثم إني عزمت على الذهاب إلى بيشاور ، فسافرت إليها في اليوم الرابع عشر من شهر رجب الحرام ، وحين وردتها استقبلني أهلها استقبالا حافلا قل نظيره في تلك المدينة ، وكان على رأس المستقبلين رجالات ووجهاء أسرة قزل باش .
ولما استقر بي المكان طلبوا مني بإصرار أن أرتقي المنبر وأخطب فيهم ، ولما لم أكن أجيد اللغة الهندية ، لم أوافق على ارتقاء المنبر ، ولم أخطب طول سفري في الهند ، رغم طلباتهم المتكررة .
ولكن لما كان أهالي بيشاور يجيدون اللغة الفارسية ، وكان أكثرهم يتكلم بها ، حتى كادت اللغة الفارسية أن تكون هي اللغة الدارجة فيها ، لبّيت طلبهم وقبلت أن أخطب فيهم بالفارسية .
فكنت أرتقي المنبر وقت العصر في الحسينية التي أسسها المرحوم ( عادل بيك رسالدار) وكانت مؤسسة ضخمة تتسع لضم الجماهير الغفيرة من الناس ، وكانت تمتلئ بالحاضرين ، وهم ليسوا من الشيعة فحسب ، بل فيهم كثير من أصحاب والمذاهب المختلفة ـ الإسلامية وغيرها ـ .
موضوع البحث
ولما كان أكثر أهالي بيشاور مسلمين ، ومن العامة وكانوا يحضرون في المجلس مع كثير من علمائهم ومشايخهم ، جعلت موضوع البحث هو : الإمامة ، فكنت أتكلم حول (( عقائد الشيعة )) وأبيّن دلائل الشيعة العقلية والنقلية لإثباتها ، وأذكر النقاشات ، في المسائل الخلافية مع العامة .
وعلى أثرها طلب مني علماء السنة وكبار شخصياتهم الذين كانوا يحضرون البحث أن اجتمع بهم في لقاء خاص للإجابة عن إشكالاتهم ، فرحبت بهم ولبيت طلبهم .
فكانوا يأتون في كل ليلة إلى البيت ، ويدور البحث بيننا ساعات طويلة حول المواضيع الخلافية من بحث الإمامة وغيرها .
من بركات المنبر
وفي يوم من الأيام عند نزولي من المنبر أخبرني بعض الحاضرين من أصدقائي بأن عالمين كبيرين من مشايخ العامة وهما : الحافظ محمد رشيد ، والشيخ عبدالسلام ، وكانا من أشهر علماء الدين في (كابل)[عاصمة أفغانستان] ـ ومن منطقة تدعى ضلع ملتان ـ قد قدما إلى بيشاور ليلتقيا بي ويشتركا مع بقية الحاضرين في الحوار الدائر فيما بيننا كل ليلة ، وطلبوا مني السماح لهما .
فأبديت سروري ورضاي بهذا النبأ ، واستقبلتهما بصدر منشرح وقلب منفتح ، ورحبت بقدومهما وجالستهما مع جماعة كبيرة من أصحابهما في ساعات كثيرة .
فكانوا يأتون بعد صلاة المغرب إلى المنزل الذي نزلت فيه للمناظرة ، وذلك لمدة عشر ليال متتالية ، وكان النقاش والحوار يدور حول المسائل الخلافية بيننا ، ويطول إلى ست أو سبع ساعات ، وربما كان البحث والحوار يستمر بنا أحيانا إلى طلوع الفجر ، كل ذلك بحضور شخصيات ورجال الفريقين في بيشاور .
ولما انتهينا من المحاورة والمناظرة في آخر ليلة من المجلس ، أعلن ستة من الحاضرين ـ من العامة ـ تشيعهم ، وكانوا من الأعيان والشخصيات المعروفة في المدينة .
ومن حسن التقدير أنه كان يحضر مجلسنا ما يقرب من مأتي كاتب من الفريقين ، إذ كانوا يشتركون مع الحاضرين في مجلس المناظرة للكتابة ، فكانوا يكتبون المواضيع المطروحة ، ويسجلون الحوار والنقاش وما يجري من مسائل وأجوبة وردود وشبهات ، بأقلام أمينة وعبارات وافية وجميلة .
وكان بالإضافة إلى أولئك الكتاب ، أربعة من الصحفيين يكتبون أيضا ما يدور في المجلس بكل جزئياته ، ثم ينشرون ما يدونوه من المناظرات والمناقشات في اليوم الثاني في الصحف والمجلات الصادرة هناك .
ويضيف المؤلف ـ رحمه الله ـ بعد ذلك : بأنه سيعرض على القارئ الكريم في هذا الكتاب الذي سماه : (( ليالي بيشاور )) ما نقلته تلك الصحف الرصينة ، وسجلته تلك الأقلام الأمينة ، وما سجّله هو بنفسه من نقاط مهمة عن تلك الليالي والمجالس التاريخية القيمة .
ثم يدعو الله العلي القدير أن ينفع به المسلمين ، ويجعله ذخيرة له في يوم الدين ، وكان قد كتبه وفرغ من تأليفه في طهران . </SPAN>
العبد الفاني
محمد الموسوي
((سلطان الواعظين الشيرازي))
____________
(1) سورة الحجرات، الآية 13.
(2) وهي على الحدود الباكستانية الأفغانية.
(3) سورة الأعراف، الآية 43.
الراحلة إلى الله تعالى في وقت غير معلوم: خادمة السيد الفالي
المكان: بيت المحسن الوجيه الميرزا يعقوب علي خان قزل باش(1)، من الشخصيات البارزة في بيشاور.
الابتداء: أول ساعة من الليل بعد صلاة المغرب.
إفتتاحية المجلس: حضر المشايخ والعلماء وهم:
الحافظ(2) محمد رشيد والشيخ عبد السلام، والسيد عبد الحي، وغيرهم من العلماء، وعدد كبير من الشخصيات والرجال من مختلف الطبقات والأصناف.
فرحبت بهم واستقبلتهم بصدر منشرح ووجه منبسط، كما ورحب بهم صاحب البيت واستقبلهم استقبالا حارا، ثم أمر خدمه فقدموا الشاي والفواكه والحلوى لجميع من حضر.
هذا، ولكن مشايخ القوم كانوا على عكس ما كنا معهم، فقد رأينا الغضب في وجوههم، إذ أنهم واجهونا في البداية بوجوه مقطبة مكفهرة، وكأنهم جاؤونا للمعاتبة لا للتفاهم والمناظرة.
أما أنا فكنت لا أبالي بهذه الأمور، لأني لم أبتغ من وراء هذا اللقاء هدفا شخصيا، ولأم أحمل في نفسي عنادا ولا في صدري تعصبا أعمى ضد أحد، وإنما كان هدفي ان أوضح الحق وأبين الحقيقة.
ولذلك لم أتجاوز عما كان يجب علي من المعاملة الحسنة فقابلتهم بالبشر والابتسامة، والترحيب والتكريم، وطلبت منهم أن يبدؤوا بالكلام بشرط أن يكون المتكلم شخصا معينا عن الجماعة حتى لا يضيع الوقت، ولا يفوت الغرض الذي اجتمعنا من أجله.
فوافقني القوم على ذلك وعينوا من بينهم الحافظ محمد رشيد ليتكلم نيابة عنهم، وربما خاض الآخرون ـ أحيانا ـ في البحث ولكن مع إذن مسبق.
بدء المناظرة
بهذا أخذ المجلس طابعه الرسمي، وبدأت المناظرات بيني وبينهم بكل جد وموضوعية، فبدأ الحافظ محمد رشيد وخاطبني بلقب: (قبله صاحب)(3) قائلا:
منذ نزولكم هذا البلد، شرفتم مسامع الناس بمحاضراتكم، وخطبكم، ولكن بدل أن تكون محاضراتكم منشأ الألفة والإخاء فقد سببت الفرقة والعداء، ونشرت الإختلاف بين أهالي البلد، وبما أنه يلزم علينا إصلاح المجتمع، ورفع الاختلاف منه، عزمت على السفر، وقطعت مسافة بعيدة مع الشيخ عبد السلام وجئنا إلى بيشاور لدفع الشبهات التي أثرتموها بين الناس.
وقد حضرت اليوم محاضرتكم في الحسينية، واستمعت لحديثكم، فوجدت في كلامكم سحر البيان وفصل الخطاب أكثر مما كنت أتوقعه، وقد اجتمعنا ـ الآن ـ بكم لننال من محضركم الشريف ما يكون مفيدا لعامة الناس إن شاء الله تعالى.
فإن كنتم موافقين على ذلك، فإنا نبدأ معكم الكلام بجدّ، ونتحدث حول المواضيع الأساسية التي تهمنا وتهمكم؟
قلت: على الرحب والسعة، قولوا ما بدا لكم، فإني أستمع لكم بلهفة، وأصغي لكلامكم بكل شوق ورغبة، ولكن أرجو من السادة الحاضرين جميعا ـ وأنا معكم ـ ان نترك التعصب والتأثّر بعادات محيطنا وتقاليد آبائنا، وأن لا تأخذنا حمية الجاهلية، فنرفض الحق بعد ما ظهر لنا، ونقول ـ لا سمح الله ـ مثل ما قاله الجاهلون : (حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا) (4) أو نقول: (بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا) (5).
فالرجاء هو أن ننظر نحن وأنتم إلى المواضيع والمسائل التي نناقشها نظر الإنصاف والتحقيق، حتى نسير معا على طريق واحد ونصل إلى الحق والصواب، فنكون كما أراد الله تعالى لنا: إخوانا متعاضدين ومتحابين في الله تبارك وتعالى.
فأجاب الحافظ: إن كلامكم مقبول على شرط أن يكون حديثكم مستندا إلى القرآن الكريم فقط.
قلت إن شرطكم هذا غير مقبول في عرف العلماء والعقلاء، بل يرفضه العقل والشرع معا، وذلك لأن القرآن الكريم كتاب سماويّ مقدّس،فيه تشريع كل الأحكام بإيجاز واختصار مما يحتاج في فهمه إلى من يبينه، والسنة الشريفة هي المبينة، فلا بدّ لنا أن نرجع في فهم ذلك إلى الأخبار والأحاديث المعتبرة من السنة الشريفة ونستدل بها على الموضوع المقصود.
الحافظ: كلامكم صحيح ومتين، ولكن أرجو أن تستندوا في حديثكم إلى الأخبار الصحيحة المجمع عليها، والأحاديث المقبولة عندنا وعندكم، ولا تستندوا بكلام العوام ّ والغثّ من عقائدهم.
وأرجو أيضا أن يكون الحوار هادئا، بعيدا عن الضوضاء والتهريج حتى لا نكون موضع سخرية الآخرين ومورد استهزائهم.
قلت: هذا كلام مقبول، وأنا ملتزم بذلك قبل أن ترجوه منّي، فإنه لا ينبغي لرجل الدين والعالم الروحي إثارة المشاعر والتهريج في الحوار العلمي والتفاهم الديني، وبالأخص لمن كان مثلي،إذ إن لي العزّ والفخر وشرف الانتساب إلى رسول الله (ص)، وهو صاحب الصفات الحسنة والخصال الحميدة والخلق العظيم، الذي أنزل الله تعالى فيهإنّك لعلى خلق عظيم) (6).
ومن المعلوم أني أولى بالالتزام بسنة جدي، وأحرى بأن لا أخالف أمر الله عز وجل حيث يقول: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (7).
الحافظ: ذكرت أنك منتسب إلى رسول الله (ص) ـ وهو المشهور أيضا بين الناس ـ فهل يمكنكم ان تبينوا لنا طريق انتسابكم إلى النبي الأعظم (ص)، والشجرة التي تنتهي بكم إليه؟
قلت: نعم، إن نسبي يصل عن طريق الإمام الكاظم موسى بن جعفر عليه الصلاة والسلام إلى رسول الله (ص)، وذلك على النحو التالي:
شجرة المؤلف
أنا محمد بن علي أكبر " أشرف الواعظين " بن قاسم " بحر العلوم " ابن حسن بن إسماعيل " المجتهد الواعظ " بن ابراهيم بن صالح بن أبي على محمد بن علي " المعروف بالمردان " بن أبي القاسم محمد تقي بن " مقبول الدين " حسين بن أبي علي حسن بن محمد بن فتح الله بن إسحاق بن هاشم بن أبي محمد بن إبراهيم بن أبي الفتيان بن عبدالله بن الحسن بن أحمد " أبي الطيب " ابن أبي علي حسن بن أبي جعفر محمد الحائري " نزيل كرمان " ابن إبراهيم الضرير المعروف بـ " المجاب " ابن الأمير محمد العابد بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام علي السجاد " زين العابدين " بن الإمام أبى عبدالله الحسين " السبط الشهيد " بن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (سلام الله عليهم أجمعين).
الحافظ: جيد، لقد انتهى نسبك ـ حسب بيانك هذا ـ إلى علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه)، وهذا الانتساب يثبت أنك من أقرباء النبي (ص) لا من أولاده، لأن الأولاد إنما هم من ذرية الإنسان ونسله، لا من ختنه وصهره، فكيف ادّعيت مع ذلك بأنك من أولاد رسول الله (ص)؟!
قلت إن انتسابنا إلى النبي الأكرم (ص) إنما يكون عن طريق فاطمة الزهراء عليها السلام بنت رسول الله (ص)، لأنها أم الإمام الحسين الشهيد عليه السلام.
الحافظ: العجب كل العجب منك ومن كلامك! إذ كيف تتفوّه بهذا الكلام وأنت من أهل العلم والأدب؟!
ألست تعلم أن نسل الإنسان وعقبه إنما يكون عن طريق الأولاد الذكور لا الإناث؟! ورسول الله (ص) لم يكن له عقب من أولاده الذكور!! فإذن أنتم أسباطه وأبناء بنته، لا أولاده وذريته!!
قلت: ما كنت أحسبك معاندا أو لجوجا، وإلا لما قمت مقام المجيب على سؤالكم، ولما قبلت الحوار معكم!
الحافظ: لا يا صاحبي لا يلتبس الأمر عليك، فإنّا لا نريد المراء واللجاج وإنما نريد أن نعرف الحقيقة، فإني وكثير من العلماء نظرنا في الموضوع ما بينته لكم، فإنا نرى أن عقب الإنسان ونسله إنما هو من الأولاد الذكور لا البنات، وذلك كما يقول الشاعر في هذا المجال:
بنونا بنو أبنائنا، وبناتنابنوهن أبناء الرجال الأباعد
فإن كان عندكم دليل على خلافه يدلّ على أن أولاد بنت رسول الله (ص) أولاده وذريته فبينوه لنا حتى نعرفه، وربما نقتنع به فنكون لكم من الشاكرين.
قلت: إني وفي أثناء كلامكم تذكرت مناظرة حول الموضوع، جرت بين الخليفة العباسي هارون، وبين: الإمام أبي إبراهيم موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، فقد أجابه عليه السلام بجواب كاف وشاف اقتنع به هارون وصدقه.
الحافظ: كيف كانت تلك المناظرة أرجو أن تبينوها لنا؟
قلت: قد نقل هذه المناظرة علماؤنا الأعلام في كتبهم المعتبرة، منهم: ثقة عصره، ووحيد دهره، الشيخ الصدوق في كتابه القيم: (عيون أخبار الرضا) (8).
ومنهم: علامة زمانه، وبحّاثة قرنه، الشيخ الطبرسي في كتابه الثمينالاحتجاج) وأنا أنقلها لكم من كتاب (الاحتجاج)(9) وهو كتاب علمي قيّم، يضم بين دفتيه أضخم تراث علمي وأدبي لا بدّ لأمثالك أيها الحافظ من مطالعته، حتى ينكشف لكم الكثير من الحقائق العلمية والوقائع التاريخية الخافية عليكم.
أولاد البتول عليها السلام ذرية الرسول (ص)
روى العلامة الطبرسي أبو منصور أحمد بن علي في الجزء الثاني من كتابهالاحتجاج) رواية مفصلة وطويلة تحت عنوان: " أجوبة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام لأسئلة هارون " وآخر سؤال وجواب، كان حول الموضوع الذي يدور الآن بيننا، وإليكم الحديث بتصرّف:
هارون: لقد جوّزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى النبي (ص) ويقولوا لكم: يا أولاد رسول الله، وأنتم بنو علي، وإنما ينسب المرء إلى أبيه، وفاطمة إنما هي وعاء، والنبي جدكم من قبل أمكم؟؟!
الإمام عليه السلام: لو أن النبي (ص) نشر فخطب إليك كريمتك، هل كنت تجيبه؟!
هارون: سبحان الله! ولم لا أجيبه، وأفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك.
الإمام عليه السلام: لكنه لا يخطب إليّ، ولا أزوّجه.
هارون: ولِمَ؟!
الإمام عليه السلام: لأنه ولدني ولم يلدك.
هارون: أحسنت!!
ولكن كيف قلتم: إنا ذرية النبي (ص) والنبي لم يعقّب؟! وإنما العقب للذكر لا للأنثى، وأنتم ولد بنت النبي، ولا يكون ولدها عقبا له (ص)!!
الإمام عليه السلام: أسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه إلا أعفيتني عن هذه المسألة.
هارون: لا... أو تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي! وأنت يا موسى يعسوبهم وإمام زمانهم، كذا أنهى لي، ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه، حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب الله، وأنتم معشر ولد علي تدّعون: أنه لا يسقط عنكم منه شيء، ألف ولا واو، إلا تأويله عندكم واحتججتم بقوله عز وجل: (ما فرطنا في الكتاب من شيء)(10) وقد استغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم!!
الإمام عليه السلام: تأذن لي في الجواب؟
هارون: هات.
الإمام عليه السلام: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيمومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين) (11) فمن أبو عيسى عليه السلام؟
هارون: ليس لعيسى أب!
الإمام عليه السلام: فالله عز وجل ألحقه بذراري الأنبياء عن طريق أمه مريم عليها السلام وكذلك ألحقنا بذراري النبي (ص) من قبل أمنا فاطمة عليها السلام... هل أزيدك؟
هارون: هات.
الإمام عليه السلام: قال الله تعالى: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين)(12) ولم يدّعِ أحد أنه أدخله النبي (ص) تحت الكساء وعند مباهلة النصارى، إلا علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين عليها السلام، واتفق المسلمون: أن مصداق (أبناءنا) في الآية الكريمة: الحسن والحسين عليهما السلام، (ونساءنا): فاطمة الزهراء عليها السلام. (وأنفسنا) : علي بن أبي طالب عليه السلام.
هارون: أحسنت يا موسى! ارفع إلينا حوائجك.
الإمام عليه السلام: ائذن لي أن أرجع إلى حرم جدي رسول الله (ص) لأكون عند عيالي.
هارون: ننظر إن شاء الله (13).
الاستدلال بكتب العامة ورواياتهم
هناك دلائل كثيرة جاءت في نفس الموضوع تدل على ما ذكرناه وقد سجّلها علماؤكم ونقلها حفاظكم ورواتكم. منهم: الإمام الرازي في الجزء الرابع من (تفسيره الكبير) (14) وفي الصفحة (124) من المسألة الخامسة قال في تفسير هذه الآية من سورة الأنعام: إن الآية تدل على أن الحسن والحسين [ عليهما السلام ] ذرية رسول الله (صلى الله عليه [وآله ] وسلم) لأن الله جعل في هذه الآية عيسى من ذرية ابراهيم ولم يكن لعيسى أب، وإنما انتسابه إليه من جهة الأم، وكذلك الحسن والحسين [ عليهما السلام ] فإنهما من جهة الأم ذرية رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم.
كما إن الإمام الباقر عليه السلام استدل للحجاج الثقفي بهذه الآية لإثبات أنهم ذرية رسول الله (ص) أيضا(15):
ومنهم: ابن أبي الحديد في: " شرح نهج البلاغة "، وأبو بكر الرازي في تفسيره استدل على أن الحسن والحسين عليهما السلام أولاد رسول (ص) من جهة أمهم فاطمة عليها السلام بآية المباهلة وبكلمة: (أبناءنا) كما نسب الله تعالى في كتابه الكريم عيسى إلى إبراهيم من جهة أمه مريم عليها السلام.
ومنهم: الخطيب الخوارزمي، فقد روى في (المناقب) والمير السيد علي الهمداني الشافعي في كتابه (مودة القربى) والإمام أحمد بن حنبل وهو من فحول علمائكم في مسنده، وسليمان الحنفي البلخي في (ينابيع المودة)(16) بتفاوت يسير: أن رسول الله (ص) قال ـ وهو يشير إلى الحسن والحسين عليهما السلام:ـ " إبناي هذان ريحانتاي من الدنيا، إبناي هذان إمامان إن قاما أو قعدا ".
ومنهم: محمد بن يوسف الشافعي، المعروف بالعلامة الكنجي، ذكر في كتابه (كفاية الطالب) فصلا بعد الأبواب المائة بعنوان: فصل: في بيان أن ذرية النبي (ص) من صلب علي عليه السلام " جاء فيه بسنده عن جابر بن عبدالله الأنصاري أنه قال: قال رسول الله (ص) إن الله عز وجل جعل ذرية كل نبي في صلبه، وإن الله عز وجل جعل ذريتي في صلب علي بن أبي طالب " (17).
ورواه ابن حجر المكي في صواعقه المحرقة: ص74 و94 عن الطبراني، عن جابر بن عبدالله، كما ورواه أيضا الخطيب الخوارزمي في (المناقب) عن ابن عباس.
قلت(18): ورواه الطبراني في معجمه الكبير في ترجمة الحسن، ثم قال:
فإن قيل: لا اتصال لذرية النبي (ص) بعلي عليه السلام إلا من جهة فاطمة عليها السلام وأولاد البنات لا تكون ذرية، لقول الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا، وبناتنابنوهن أبناء الرجال الأباعد
قلت: في التنزيل حجة واضحة تشهد بصحة هذه الدعوى وهو قوله (عز وجل)(19): (ووهبنا له [أي:ابراهيم] إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ـ إلى أن قال: ـ وزكريا ويحيى وعيسى)، فعد عيسى (عليه السلام) من جملة الذرية الذين نسبهم إلى نوح (عليه السلام) وهو ابن بنت لا اتصال له إلا من جهة أمه مريم.
وفي هذا أكد دليل على أن أولاد فاطمة (عليها السلام) ذرية النبي (ص) ولا عقب له إلا من جهتها، وانتسابهم الى شرف النبوة ـ وان كان من جهة الأم ـ ليس ممنوع، كانتساب عيسى الى نوح، إذ لا فرق.
وروى الحافظ الكنجي الشافعي في آخر هذا الفصل، بسنده عن عمر بن الخطاب، قال سمعت رسول الله يقول: كل بني أنثى فإن عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة، فإني أنا عصبتهم وأنا أبوهم(20).
قال العلامة الكنجي: رواه الطبري في ترجمة الحسن.
هذا ونقله أيضا بتفاوت يسير وزيادة في أوله، بأن رسول الله (ص) قال: كل حسب ونسب منقطع يوم اليوم القيامة ما خلا حسبي ونسبي(21).
أقول: ونقله كثير من علمائكم وحفاظكم، منهم الحافظ سليمان الحنفي في كتابه: (ينابيع المودة)(22) وقد أفرد بابا في الموضوع فرواه عن أبي صالح، والحافظ عبدالعزيز بن الأخضر وأبي نعيم في معرفة الصحابة، والدار قطني والطبراني في الأوسط.
ومنهم: الشيخ عبد الله بن محمد الشبراوي فيالإتحاف بحب الاشراف).
ومنهم: جلال الدين السيوطي في (إحياء الميت بفضائل أهل البيت) (23).
ومنهم: أبو بكر بن شهاب الدين في: (رشفة الصادي في بحر فضائل بني النبي الهادي) ط. مصر، الباب الثالث.
ومنهم: ابن حجر الهيتمي في (الصواعق المحرقة) الباب التاسع، الفصل الثامن، الحديث السابع والعشرون، قال: أخرج الطبراني عن جابر، والخطيب عن ابن عباس... ونقل الحديث.
وروى ابن حجر أيضا في (الصواعق الباب الحادي عشر، الفصل الأول، الآية التاسعة...): وأخرج ابو الخير الحاكمي، وصاحب (كنوز المطالب في بني أبي طالب) إن عليا دخل على النبي (ص) وعنده العباس، فسلم فردّ عليه (ص) السلام وقام فعانقه وقبّل ما بين عينيه وأجلسه عن يمينه.
فقال له العباس: أتحبه؟
قال (ص): يا عمّ! واللهِ الله ُأشدّ حبا له مني، إن الله (عز وجل) جعل ذرية كل نبي في صلبه، وجعل ذريتي في صلب هذا.
ورواه العلامة الكنجي الشافعي في كتابه: (كفاية الطالب الباب السابع) (24) بسنده عن ابن عباس.
وهناك مجموعة كبيرة من الأحاديث الشريفة المعتبرة، المروية في كتبكم، المقبولة عند علمائكم، تقول، إن النبي (ص) كان يعبر عن الحسن والحسين عليهما السلام بأنهما ابناه، ويعرفهما لأصحابه ويقول: هذان ابناي.
وجاء في تفسير: (الكشاف) وهو من أهم تفاسيركم، في تفسير آية المباهلة: لا دليل أقوى من هذا على فضل أصحاب الكساء، وهم: علي وفاطمة والحسنان، لأنهما لما نزلت، دعاهم النبي (ص) فاحتضن الحسين وأخذ بيد الحسن ومشت فاطمة خلفه وعلي خلفهما، فعلم: إنهم المراد من الآية، وإن أولاد فاطمة وذريتهم سيمون أبناءه، وينسبون إليه (ص) نسبة صحيحة نافعة في الدنيا والآخرة(25).
وكذلك الشيخ أبو بكر الرازي في (التفسير الكبير) في ذيل آية المباهلة، وفي تفسير كلمة (أبناءنا) له كلام طويل وتحقيق جليل، أثبت فيه أن الحسن والحسين هم أبنا رسول الله (ص) وذريته، فراجع(26).
ثم قلت بعد ذلك: فهل يبقى ـ يا أيها الحافظ ـ بعد هذا كله، محل للشعر الذي استشهدت به؟! بنونا بنو أبنائنا...الى آخره.
وهل يقوم هذا البيت من الشعر، مقابل هذه النصوص الصريحة والبراهين الواضحة؟!
فلو اعتقد أحد بعد هذا كله، بمفاد ذلك الشعر الجاهلي ـ الذي قيل في وصفه: إنه كفر من شعر الجاهلية ـ لردّه كتاب الله العزيز وحديث رسوله الكريم (ص).
ثم أعلم ـ أيها الحافظ ـ أن هذا بعض دلائلنا في صحة انتسابنا إلى رسول الله (ص)، وبعض براهيننا على أننا ذريته ونسله، ولذا يحق لنا أن نفتخر بذلك ونقول:
أولئك آبائي فجئني بمثلهمإذا جمعتنا يا جرير المجامع
الحافظ: إني أقر وأعترف بأن دلائلكم كانت قاطعة، وبراهينكم ساطعة، ولا ينكرها إلا الجاهل العنود، كما وأشكركم كثيرا على هذه التوضيحات، فلقد كشفتم لنا الحقيقة وأزحتم الشبهة عن أذهاننا.
صلاة العشاء:
وهنا علا صوت المؤذن في المسجد وهو يعلن وقت صلاة العشاء، والأخوة من العامة ـ بخلافنا نحن الشيعة ـ يوجبون التفريق بين صلاتي الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، وقد يجمعون أحيانا، وذلك لسبب كالمطر والسفر.
لذا فقد تهيئوا جميعا للذهاب إلى المسجد، فقال بعضهم: وبما أنّا نريد الرجوع بعد الصلاة إلى هذا المكان لمتابعة الحديث، فالأحسن أن تقام جماعة في المسجد وجماعة في هذا المكان بالحاضرين، حتى لا يفترق جمعنا ولا يفوت وقتنا، فهذه فرصة ثمينة يجب أن نغتنمها.
فوافق الجميع على هذا الاقتراح، وذهب السيد عبد الحي ـ إمام المسجد ـ ليقيم الجماعة فيه بالناس.
وأمّا الآخرون فقد أقاموا صلاة العشاء جماعة في نفس المكان واستمروا على ذلك بقية الليالي التالية أيضا.
مسالة الجمع أو التفريق بين الصلاتين
ولما استقرّ بنا المجلس بعد الصلاة، خاطبني أحد الحاضرين، ويدعى النواب عبد القيوم خان، وكان يعد من أعيان العامة وأشرافهم، وهو رجل مثقف يحب العلم والمعرفة، فقال لي: في هذه الفرصة المناسبة التي يتناول العلماء فيها الشاي أستأذنكم لأطرح سؤالا خارجا عن الموضوع الذي كنا فيه، ولكنه كثيرا ما يتردد على فكري ويختلج في صدري.
قلت: تفضل واسأل، فإني مستعد للاستماع إليك.
النواب: كنت أحب كثيرا أن ألتقي بأحد علماء الشيعة حتى أسأله: أنه لماذا تسير الشيعة على خلاف السنة النبوية حتى يجمعون بين صلاتي الظهر والعصر وكذلك المغرب والعشاء؟!
قلت:
أولا: السادة العلماء ـ وأشرت إلى الحاضرين في المجلس ـ يعلمون أن آراء العلماء تختلف في كثير من المسائل الفرعية، كما أن أئمتكم ـ الأئمة الأربعة ـ يختلفون في آرائهم الفقهية فيما بينهم كثيرا، فلم يكن إذن الاختلاف بيننا وبينكم في مثل هذه المسألة الفرعية شيئا مستغربا.
ثانيا: إن قولك: الشيعة على خلاف السنة النبوية، ادّعاء وقول لا دليل عليه، وذلك لأن النبي (ص) كان يجمع حينا ويفرق أخرى.
النواب ـ وهو يتوجه إلى علماء المجلس ويسألهم ـ: أهكذا كان يصنع رسول الله (ص) يفرق حينا ويجمع أخرى؟
الحافظ: يلتفت إلى النواب ويقول في جوابه: كان النبي (ص) يجمع بين الصلاتين في موردين فقط: مورد السفر، ومورد العذر من مطر وما أشبه ذلك، لكي لا يشق على أمته.
وأما إذا كان في الحضر، ولم يك هناك عذر للجمع، فكان يفرّق، وأظن أن السيد قد التبس عليه حكم السفر والحضر!!
قلت: كلا، ما التبس عليّ ذلك، بل أنا على يقين من الأمر، وحتى أنه جاء في الروايات الصحيحة عندكم: بأن رسول الله (ص) كان يجمع بين الصلاتين في الحضر من غير عذر.
الحافظ: ربما وجدتم ذلك في رواياتكم وتوهمتم أنها من رواياتنا!!
قلت: لا، ليس كذلك، فإن رواة الشيعة قد أجمعوا على جواز الجمع بين الصلاتين، لأن الروايات في كتبنا صريحة في ذلك، وإنما الكلام والنقاش يدور فيما بين رواتكم حول الجمع وعدمه، فقد نقلت صحاحكم وذكرت مسانيدكم، أحاديث كثيرة وأخبارا صريحة في هذا الباب.
الحافظ: هل يمكنكم ذكر هذه الروايات والأحاديث وذكر مصادرها لنا؟
قلت: نعم، هذا مسلم بن الحجاج، روى في صحيحه في باب (الجمع بين الصلاتين في الحضر) بسنده عن ابن عباس، أنه قال: صلّى رسول الله (ص) الظهر والعصر جمعا، والمغرب والعشاء جمعا، في غير خوف ولا سفر.
وروى أيضا، بسنده عن ابن عباس، أنه قال: صلّيت مع النبي (ص) ثمانيا جمعا، وسبعا جمعا (27).
وروى هذا الخبر بعينه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ج2 ص221 وأضاف إليه حديثا آخر عن ابن عباس أيضا، أنه قال: صلى رسول الله (ص) في المدينة مقيما غير مسافر، سبعا وثمانيا.
وروى مسلم في صحيحه أخبارا عديدة في هذا المجال، إلى أن روى في الحديث رقم 57، بسنده عن عبدالله بن شقيق، قال: خطبنا ابن عباس يوما بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم، فجعل الناس يقولون: الصلاة.. الصلاة! فلم يعتن ابن عباس بهم، فصاح في هذه الأثناء رجل من بني تميم، لا يفتر ولا ينثني: الصلاة.. الصلاة!
فقال ابن عباس: أتعلمني بالسنة؟ لا أم لك!
ثم قال: رأيت رسول الله (ص) جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
قال عبدالله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت أبا هريرة فسألته، فصدّق مقالته.
وروى مسلم في صحيحه الحديث رقم 58 ذلك أيضا بطريق آخر عن عبدالله بن شقيق العقيلي، قال: قال رجل لابن عباس ـ لما طالت خطبته: الصلاة! فسكت، ثم قال: الصلاة! فسكت. ثم قال: الصلاة! فسكت، ثم قال: لا أم لك! أتعلمنا بالصلاة، وكنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله (ص)؟!
وروى الزرقاني وهو من كبار علمائكم، في كتابه (شرح موطأ مالك ج1 ص 263، باب الجمع بين الصلاتين) عن النسائي، عن طريق عمرو بن هرم، عن ابن الشعثاء، أنه قال: إن ابن عباس كان يجمع بين صلاتي الظهر والعصر، وصلاتي المغرب والعشاء في البصرة، وكان يقول هكذا صلى رسول الله (ص).
وروى مسلم في صحيحه، ومالك في (الموطأ) وأحمد بن حنبل في (المسند) والترمذي في صحيحه في (باب الجمع بين الصلاتين) باسنادهم عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: جمع رسول الله (ص) بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة، من خوف ولا مطر، فقيل لابن عباس: ما أراد بذلك؟
قال: أراد أن لا يحرج أحدا من أمته.
هذه بعض رواياتكم في هذا الموضوع، وهي أكثر من ذلك بكثير، ولكن ربما يقال: إن أوضح دليل على جواز الجمع بين الصلاتين، من غير عذر ولا سفر، هو أن علمائكم فتحوا بابا في صحاحهم ومسانيدهم بعنوان: (الجمع بين الصلاتين) وذكروا فيه الروايات التي ترخص الجمع مطلقا، في السفر والحضر، مع العذر وبلا عذر.
ولو كان غير ذلك، لفتحوا بابا مخصوصا للجمع في الحضر وبابا مخصوصا للجمع في السفر، وبما أنهم لم يفعلوا ذلك، وإنما سردوا الروايات في باب واحد، كان دليلا على جواز الجمع مطلقا!
الحافظ: ولكني لم أجد في صحيح البخاري روايات ولا بابا بهذا العنوان.
قلت:
أولا: إنه إذا روى سائر أصحاب الصحاح ـ غير البخاري ـ من مثل مسلم والترمذي والنسائي وأحمد بن حنبل، وشرّاح صحيحي مسلم والبخاري، وغيرهم من كبار علمائكم، أخبارا وأحاديث في مطلب ما وأقروا بصحتها، ألم تكن رواية أولئك كافية في إثبات ذلك المطلب....، فيثبت إذن هدفنا ومقصودنا؟!
وثانيا: إن البخاري أيد ذكر هذه الروايات في صحيحه، ولكن بعنوان آخر، وذلك في باب (تأخير الظهر إلى العصر) من كتاب مواقيت الصلاة، وفي باب (ذكر العشاء والعتمة) وباب (وقت المغرب).
أرجو أن تطالعوا هذه الأبواب بدقة وإمعان حتى تجدوا أن كل هذه الأخبار والروايات الدالة على جواز الجمع بين الصلاتين منقولة هناك أيضا.
الجمع بين الصلاتين عند علماء الفريقين
والحاصل: إن نقل هذه الأحاديث من قبل جمهور علماء الفريقين ـ مع الإقرار بصحتها في صحاحهم ـ دليل على أنهم أجازوا الجمع ورخصوه، وإلا لما نقلوا هذه الروايات في صحاحهم.
كما أن العلامة النوري في (شرح صحيح مسلم) والعسقلاني والقسطلاني وزكريا الأنصاري، في شروحهم لصحيح البخاري، وكذلك الزرقاني في (شرح موطأ مالك) وغير هؤلاء من كبار علمائكم ذكروا هذه الأخبار والروايات، ثم وثقوها وصححوها، وصرحوا أنها تدل على الجواز والرخصة في الجمع بين الصلاتين في الحضر من غير عذر ولا مطر، وخاصة بعد رواية ابن عباس وتقرير صحتها، فإنهم علقوا عليها بأنها صريحة في جواز الجمع مطلقا، وحتى لا يكون أحد من الأمة في حرج ومشقة.
النواب ـ وهو يقول متعجبا ـ: كيف يمكن مع وجود هذه الأخبار والروايات المستفيضة والصريحة في جواز الجمع بين الصلاتين، ثم يكون علماؤنا على خلافها حكما وعملا.
قلت ـ بديهي، ومع كامل العذر على الصراحة ـ: إن عدم التزام علمائكم بالنصوص الصريحة والروايات الصحيحة التي لا تنحصر ـ مع كل الأسف ـ بهذا الموضوع فقط، بل هناك حقائق كثيرة نص عليها النبي (ص)، وصرح بها في حياته، ولكنهم لم يلتزموا بها، وإنما تأولوها وأخفوا نصها عن عامة الناس، وسوف تنكشف لكم بعض هذه الحقائق خلال البحث والنقاش في موضوع الإمامة وغيره إن شاء الله تعالى.
وأما هذا الموضوع بالذات، فإن فقهائكم لم يلتزموا ـ أيضا بالروايات التي وردت فيه مع صراحتها، وإنما أولوها بتأويلات غير مقبولة عرفا.
فقال بعضهم: إن هذه الروايات المطلقة في الجمع بين الصلاتين لعلها تقصد الجمع في أوقات العذر، مثل الخوف والمطر وحدوث الطين والوحل، وعل هذا التأويل المخالف لظاهر الروايات أفتى جماعة كبيرة من أكابر متقدميكم، مثل: الإمام مالك والإمام الشافعي وبعض فقهاء المدينة فقالوا: بعدم جواز الجمع بين الصلاتين إلا لعذر كالخوف والمطر!
ومع ان هذا التأويل يرده صريح رواية ابن عباس التي تقول: " جمع النبي (ص) بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، بالمدينة من غير خوف ولا مطر ".
وقال بعضهم الآخر في تأويل هذه الروايات المطلقة الصريحة في الجمع بين الصلاتين مطلقا، حتى وغن كان بلا عذر ولا سفر،: لعل السحاب كان قد غطى السماء، فلم يعرفوا الوقت، فلما صلوا الظهر وأتموا الصلاة، زال السحاب وانكشف الحجاب، فعرفوا الوقت عصرا، فجمعوا صلاة العصر مع الظهر!!
فهل يصح ـ يا ترى ـ مثل هذا التأويل في أمر مهم مثل الصلاة، التي هي عمود الدين؟!
وهل أن المؤولين نسوا أن المصلي ـ في الرواية ـ هو رسول الله (ص) وأن وجود السحاب وعدمه لا يؤثر في علم النبي (ص)، الذي يعلم من الله تعالى، وينظر بنور ربه (عز وجل)؟!
وعليه فهل يجوز أن نحكم في دين الله العظيم استنادا إلى هذه التأويلات غير العرفية، التي لا دليل عليها سوى الظن المرجوح! وقد قال تعال: (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) (28).
إضافة إلى ذلك ما الذي تقولونه في جمع النبي (ص) بين صلاتي المغرب والعشاء، مع أنه لا أثر حينها للسحاب وعدمه فيه؟!
إذن فهذا التأويل وغيره من التأويلات، خلاف ظاهر الروايات، وخلاف صريح الخبر القائل: " إن ابن عباس استمر في خطبته حتى بدت النجوم، ولم يبال بصياح الناس: الصلاة.. الصلاة، ثم ردّ ابن عباس على التميمي بقوله: أتعلمني بالسنة؟! لا أم لك! رأيت رسول الله (ص) جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء " ثم تصديق أبي هريرة لمقالة ابن عباس.
وعليه: فإن هذه التأويلات غير معقولة ولا مقبولة عندنا، وكذا غير مقبولة عند كبار علمائكم أيضا، إذ أنهم علقوا عليها: بأنها خلاف ظاهر الروايات.
فهذا شيخ الإسلام الانصاري في كتابه (تحفة الباري في شرح صحيح البخاري في باب صلاة الظهر مع العصر والمغرب مع العشاء آخر ص 292 في الجزء الثاني) وكذا العلامة القسطلاني في كتابه (إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري في ص293 من االجزء الثاني) وكذا غيرهما من شراح صحيح البخاري، وكثير من محققي علمائكم، قالوا: هذه التأويلات على خلاف ظاهر الروايات، وإن التقيد بالتفريق بين الصلاتين ترجيح بلا مرجح وتخصيص بلا مخصص.
النواب: إذن فمن أين جاء هذا الاختلاف الذي فرق بين الأخوة المسلمين إلى فرقتين متخاصمتين، ينظر بعضهم إلى الآخر بنظر البغض والعداء، ويقدح بعضهم في عبادة البعض الآخر؟!
قلت:
أولا: بما أنك قلت بأن المسلمين صاروا فريقين متعاديين، أوجب عليّ الوقوف قليلا عند كلمة: متعاديين، لنرى معا هل العداء ـ كما قلت ـ كان من الطرفين، أو من طرف واحد؟
وهنا لا بد لي ـ وأنا واحد من الشيعة ـ ان أقول دفاعا عن الشيعة ـ أتباع أهل البيت عليهم السلام، وإزاحة لهذه الشبهة عنهم: بأنّا نحن معاشر الشيعة، لا ننظر إلى أحد من علماء العامة وعوامهم بعين التحقير والعداء، بل نعدهم إخواننا في الدين.
وذلك بعكس ما ينظره بعض العامة إلينا تماما، إذ أنهم يرون أن الشيعة أعداءهم، فيتعاملون معهم معاملة العدو لعدوه، ولم تأتهم هذه النظرة بالنسبة إلى شيعة آل محمد (ص)، وأتباع مذهب أهل بيت رسولهم الكريم، إلا بسبب التقوّلات والأباطيل التي نشرت ضدهم بواسطة الخوارج والنواصب وبني أمية وأتباعهم من أعداء النبي (ص) وأعداء آله الكرام (ص) وبسبب الاستعمار ـ في يومنا هذا ـ الذي هو ألد أعداء الإسلام والمسلمين، والذي يخشى على منافعه ومطامعه من وحدة المسلمين واجتماعهم.
ومع الأسف الشديد فإن هذه التضليلات العدوانية أثّرت في قلوب وأفكار بعض أهل السنة، حتى نسبونا على الكفر والشرك!
ويا ليت شعري هل فكروا في أنهم بأي دليل ذهبوا إلى هذا المذهب وفرقوا بين المسلمين؟!
ألم يفكروا في نهي الله تعالى المسلمين عن التفرقة بقولهواعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (29)؟
ثم أليس الله عز وجل، وحده لا شريك له، ربنا جميعا، والإسلام ديننا، والقرآن كتابنا، والنبي الكريم محمد (ص) خاتم النبيين وسيد المرسلين نبينا، وقوله وفعله وتقريره سنتنا، وحلاله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، وأن الحق ما حققه، والباطل ما أبطله، ونوالي أولياءه، ونعادي أعداءه، والكعبة مطافنا وقبلتنا جميعا، والصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، والزكاة الواجبة وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا، فرائضنا، والعمل بجميع الأحكام والواجبات والمستحبات وترك الكبائر والمعاصي والذنوب مرامنا؟
ألستم معنا في هذا كله؟
أم أن شرعنا أو شرعكم، وإسلامنا وإسلامكم غير ما بيناه من الدين المبين؟؟!
وأنا على علم ويقين بأنكم توافقوننا في كل ما ذكرناه، وإن كان بيننا وبينكم شيء من الخلاف فهو كالخلاف الموجود فيما بينكم وبين مذاهبكم، فنحن وأنتم في الإسلام سواء (كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) (30).
إذن فلماذا صار بعض العامة ينسبوننا إلى ما لا يرضى به الله ورسوله، ويبغون الفرقة بيننا وبينهم، وينظرون إلينا بنظر العداوة والبغضاء؟! وهذا ما يتربصه بنا أعداء الإسلام ويريده لنا الشيطان، شياطين الإنس والجن، قال تعالى في ذلك: (.... شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول... ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه ....) (31).
وقال تعالى: (إنما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر....) (32). فتارة يوقع الشيطان العداوة والبغضاء بين المسلمين بواسطة الخمر والميسر، وتارة بواسطة التسويلات والأوهام التي يلقيها في قلوبهم عبر التهم والأباطيل التي ينشرها شياطين الإنس في أوساطهم.
ثانيا: سالت: من أين جاء هذا الاختلاف؟
فإني أقول لك وقلبي يذوب حسرة وأسفا: لقد جاء هذا وغيره من الاختلافات الفرعية على أثر اختلاف جذري وخلاف أصولي، ليس هذا الوقت مناسبا لذكره، ولعلنا نصل إليه في مباحثنا الآتية فنتعرض له إذا دار النقاش حوله، وحين ذاك ينكشف لكم الحق وتعرفون الحقيقة إن شاء الله تعالى.
ثالثا: وأما بالنسبة إلى مسألة الجمع والتفريق بين الصلاتين، فإن فقهاءكم بالرغم من أنهم رووا الروايات الصحيحة والصريحة في الرخصة وجواز الجمع لأجل التسهيل ورفع الحرج عن الأمة، أولوها ـ كما عرفت ـ ثم أفتوا بعدم جواز الجمع من غير عذر أو سفر، حتى أن بعضهم ـ مثل أبي حنيفة وأتباعه ـ أفتوا بعدم جواز الجمع مطلقا حتى مع العذر والسفر(33).
ولكن المذاهب الأخرى من الشافعية والمالكية والحنابلة على كثرة اختلافاتهم الموجودة بينهم في جميع الأصول والفروع أجازوا الجمع في الأسفار المباحة كسفر الحج والعمرة، والذهاب إلى الحرب، وما أشبه ذلك.
وأما فقهاء الشيعة، فأنهم تبعا للأئمة الأطهار من آل النبي المختار (ص) ـ الذين جعلهم رسول الله (ص) ميزانا لمعرفة الحق والباطل، وعدلا للقرآن، ومرجعا للأمة في حل الاختلاف، وصرح بأن التمسك بهم وبالقرآن معا أمان من الفرقة والضلالة بعده ـ أفتوا بجواز الجمع مطلقا، لعذر كان أم لغير عذر، في سفر كان أم في حضر، جمع تقديم في أول الوقت، أم جمع تأخير في آخر الوقت، وفوّضوا الخيار في الجمع والتفريق إلى المصلّي نفسه تسهيلا عليه ودفعا للحرج عنه، وبما أن الله يحب الأخذ برخصه، اختارت الشيعة الجمع بين الصلاتين، حتى لا يفوتهم شيء من الصلاة غفلة أو كسلا، فجمعوا تقديما، أو تأخيرا.
ولما وصل الكلام في الجواب عن الجمع بين الصلاتين إلى هنا قلت لهم: أرى الكلام عن هذه المسألة بهذا المقدار كافيا، فإني أظن بأن الشبهة قد ارتفعت عن أذهانكم وانكشف لكم الحق، وعرفتم: أن الشيعة ليسوا كما تصورهم البعض أو صوروهم لكم، بل إنهم إخوانكم في الدين، وهم ملتزمون بسنة النبي الكريم وبالقرآن الحكيم(34).
عود على بدء
قلت: والآن أرى أن من الأفضل أن نعود إلى حوارنا السابق، ونتابع حديثنا حول المسائل الأصولية المهمة، فإن هناك مسائل أصولية أهم من هذه المسائل الفرعية، فإذا توافقنا على تلك المسائل الأصولية، فالموافقة على أمثال هذه المسائل الفرعية حاصلة بالتبع.
الحافظ: إنني فرح بمجالسة عالم فاضل ومفكر نبيل، ومحادثة متفكر، ذي اطلاع وافر على كتبنا ورواياتنا مثل جنابكم، فقد بان لي فضلكم وعلمكم في أول مجلس جلسناه معكم، وكما تفضلتم فإن من الأفضل ـ الآن ـ أن نتابع حديثنا السابق.
غير أنني أستأذن سماحتكم لأقول متسائلا: لقد ثبت لنا بكلامكم الشيق، وبيانكم العذب، أنكم من الحجاز، ومن بني هاشم، فأحب أن أعرف ـ أنكم مع هذا النسب الطاهر والأصل المنيف ـ ما حدا بكم حتى هاجرتم من الحجاز وعلى الخصوص من المدينة المنورة، مدينة جدكم ومسقط رأسكم وسكنتم في إيران؟!
ثم في أي تاريخ تم ذلك ولماذا؟!
بسم الله الرحمن الرحيم،، بسم الله على قلبي ونفسي،،
بسم الله على ديني وعقلي،، بسم الله على ما أعطاني ربي
اللهم صلِّ وسلم وزد وبـارك على محمد ٍ وعلى المستحفظين من آل محمد
اللهم صل على محمد وال محمد وعجل فرجهم والعن عدوهم
اللهم صل على فاطمة وابيها وبعلها وبنيها
والسر المستودع فيها بعدد مااحاط به علمك,,,
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
يتبع غدا ان شاء الله
الراحلة إلى الله تعالى في وقت غير معلوم: خادمة السيد الفالي