الملل والنحل : الخلاف العاشر في زمان اميرالمؤمنين عليّ كرّم الله وجهه بعد الاتفاق عليه وعقد البيعة له ، فأول خروج ، خروج طلحة والزبير الى مكة ثم حمل عائشة الى البصرة ، ثم نصب القتال معه ، ويعرف ذلك بحرب الجمل ، والحق أنهما رجعا وتابا اذ ذكرهما أمرا فتذكرا ، فأما الزبير فقتله ابن جرموز وقت الانصراف وهو في النار ، لقول النبي « ص » : بشِّرقاتل ابن صفية بانار . وأما طلحة فرماه مروان بن الحكم بسهم وقت الاعراض فخرّ ميتا . وأما عائشة وكانت محمولة على ما فعلت ثم تابت بعد ذلك ورجعت (1) .
تاريخ الطبري : ولما رجع ابن عباس الى عليّ بالخبر دعا الحسن بن عليّ فأرسله ، فأرسل معه عمار بن ياسر ، فقال له : انطلق فأصلح ما أفسدت ، فأقبلا حتى دخلا المسجد ( في الكوفة ) فكان ... فخرج ابو موسى فلقي الحسن فضمه اليه ، وأقبل على عمار فقال : يا ابا اليقظان أعدوت فيمن عدا على اميرالمؤمنين فأحللت نفسك مع الفجار ، فقال : لم أفعل ولم تسؤني ، وقطع عليهما الحسن فأقبل على أبي موسى فقال : يا أبا موسى : لم تُثبّط الناس عنّا فوالله ما أردنا إلا الاصلاح ، ولا مثل اميرالمؤمنين يُخاف على شي ، فقال : صدقت بأبي أنت وأمي ولكن المستشار مؤتمن ، سمعت رسول الله « ص » يقول : أنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي والماشي خير من الراكب (2) .
أن هذه الرواية ناظرة الى مورد الاشتباه والفتنة ، وأما في هذا المقام فالتكليف فيها واضحة متعينة حيث ان الدعوة صادرة من اميرالمؤمنين
عليّ « ع » وهو خليفة رسول الله « ص » ظاهرا وباطنا والحق معه حيث مادار ، وكما قال الحسن سيد شباب اهل الجنة : ما أردنا إلا الاصلاح ، ولا مثل اميرالمؤمنين يُخاف على شيء .
ويروى أيضا : وأقبل زيد على حمار حتى وقف بباب المسجد ومعه الكتابان من عائشة إليه والى أهل الكوفة ، وقد كان طلب كتاب العامة فضمّة الى كتابه فأقبل بهما ومعه كتاب الخاصة وكتاب العامة ، أما بعد فثبّطوا أيها الناس واجلسوا في بيوتكم إلا عن قتلة عثمان بن عفان . فلما فرغ من الكتاب قال : أمرت بأمر وأمرنا بأمر ، أمرت أن تقر في بيتها فأمرنا أن نُقاتل حتى لا تكون فتنة . فأمرتنا بما أمرت به وركبت ما أمرنا به ، فقام إليه شبث بن ربعي ... فقام القعقاع بن عمرو فقال : إني لكم ناصح وعليكم شفيق أحبّ أن ترشدوا ولأقولن لكم قولا هو الحق ، أما ما قال الأمير ( يريد اباموسى ) فهو الأمر لوأن من الفتنة طعن فيها وجرى اليها ، والقول الذي هو القول أنه لابد من إمارة تنظم الناس وتزع الظالم وتُغزّ الظالم وتُعزّ المظلوم وهذا عليّ يلي بما ولى وقد أنصف في الدعاء وإنما يدعو الى الاصلاح فانفروا وكونوا من هذا الأمر بمَرأى ومَسمع ، وقال سيحان : أيها الناس أنه لابد لهذا الأمر وهؤلاء الناس من وال يدفع الظالم ويُعز المظلوم ، ويجمع الناس ، وهذا واليكم يدعوكم لينظر فيما بينه وبين صاحبيه ، وهو المأمون على الأمة الفقيه في الدين فمن نهض اليه فإنا سائرون معه ... وقام الحسن بن علي فقال : يا أيها الناس أجيبوا دعوة اميركم وسيروا الى إخوانكم فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه ، والله لأن يليه أولوا النهي أمثل في العاجلة وخير في العاقبة ، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم . فسامح الناس وأجابوا ورضوا به (3) .
ويروى أيضا : عن كُليب الجرمي قال : فانتهينا الى عليّ فسلمنا عليه ثم
سألناه عن هذا الأمر ، فقال : عدا الناس على هذا الرجل وأنا معتزل فقتلوه ، ثم ولوني وأنا كاره ، ولولا خشية على الدين لم أجبهم ، ثم طفق هذان في النكث فأخذتُ عليهما وأخذت عهودهما عند ذلك وأذنت لهما في العمرة ، فقدما على أمهما حليلة رسول الله « ص » فرضيا لها ما رغبا لنسائهما عنه ، وعرضاها لما لا يحل لهما ولا يصلح ، فاتبعتُهما لكيلا يفتقوا في الاسلام فتقا ولا يخرقوا جماعة ، ثم قال أصحابه : والله لا نريد قتالهم إلا أن يقاتلوا ، وما خرجنا إلا لإصلاح (4) .
ويروى أيضا : قال الأحنف : فلقيت طلحة والزبير فقلت : من تأمراني به وترضيانه لي فإني لا أرى هذا الرجل إلا مقتولا ؟ قالا : علي . قلت أتأمراني به وترضيانه لي ؟ قالا : نعم . فانطلقت حتى قدمت مكة فبينا نحن بها اذا أتانا قتل عثمان ، وبها عائشة أم المؤمنين ، فلقيتها فقلت : من تأمرين أن أبايع ؟ قالت : علي . قلت : تأمريني به وترضينه لي ؟ قالت : نعم . فمررت على عليّ بالمدينة فبايعته ثم رجعت الى أهلي بالبصرة ، ولا أرى الأمر إلا قد استقام ، قال : فبينا إنا كذلك اذ أتاني آت فقال : هذه عائشة وطلحة والزبير قد نزلوا جانب الخُريبة ، فقلت : ما جاء بهم ؟ قالوا : أرسلوا إليك يدعونك يستنصرون بك على دم عثمان ، فأتاني أفظع أمر لم يأتني قط ، فقلت : انّ خذلاني هؤلاء ومعهم أم المؤمنين وحواري رسول الله « ص » لشديد ، وان قتالي رجلا ابن عم رسول الله « ص » قد أمروني ببيعته : يا أم المؤمنين أنشدك بالله أقلت لك من تأمريني به ؟ فقلتِ : علي . فقلت : أتأمريني به ؟ وترضينه لي . قتل : نعم ؟ قالت : نعم ولكنه بدلّ .
فقلت : يا زبير ياحواري رسول الله يا طلحة أنشدكم الله أقلت لكما من تأمراني ؟ فقلتما علي . فقلت : أتأمراني به وترضيانه لي ؟ فقلتما : نعم . قالا : نعم ولكنه بدلّ . فقلت والله لا أقاتلكم ومعكم ام المؤمنين وحواري رسول الله « ص » ، ولا أقاتل رجلا ابن عم رسول الله « ص » أمرتموني ببيعته (5) . عقد الفريد : نظيره (6) .
في هذه الكلمات موارد للنظر والتدبر :
1 ـ قوله والحق انهما رجعا وتابا ، ثم تابت بعد ورجعت : خلافهم وعصيانهم وافسادهم في الأرض محقق واقع ، وأما توبتهم ورجوعهم وقبول توبتهم امر محتمل الصدق والكذب ، ولابد من اقامة الدليل واثبات المدعى . نعم ؛ يدل على توبة الزبير حديث ـ بشر قاتل ابن صفية بالنار ـ ان صح الحديث . وكذا حديث أبى الله أن يدخل طلحة الجنة إلا وبيعتي في عنقه .
2 ـ واجلسوا في بيوتكم إلا عن قتلة عثمان : هذا القول من عائشة في نهاية الضعف ، فإن القعود عن الدفاع ومخالفة الامام لا يوافق كتابا ولا سنة . وأما محاربة قتلة عثمان فإن كان المراد القتلة حقيقة : فهم لا يتجاوزون عن ثلاثة أفراد عادة . وان أرادت منهم من أعد واستعد لقتاله : فهي والزبير وطلحة على رأسهم .
3 ـ ولكنه بدلّ : هذه الكلمة من عائشة والزبير وطلحة بعد اعترافهم على مقامل الخلافة والامامة لعلي « ع » أنما وقعت في زمان خلافهم وتمرّدهم وعصيانهم ولم يأتوا بما يوجب طعنا في ولاية اميرالمؤمنين « ع » ، وسبق انهم تابوا ورجعوا الى عقيدتهم . ثم أن أهلية الامامة ومقام الخلافة ثابتة له ، وأما تبديله : فلم يثبت ويحتاج الى الاثبات ، مع أن رسول الله « ص » قال : علي مع الحق والحق مع عليّ يدور حيث ما دار ، وقال : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي .
عقد الفريد : عن ابن أبزى قال : انتهى عبدالله بن بديل ( كان سيد خزاعة وكان له قدر وجلالة ) الى عائشة وهي في الهودج ، فقال : يا أم المؤمنين أنشدك بالله اتعلمين أني أتيتك يوم قتل عثمان فقلت لك : ان عثمان قد قتل فما تأمريني به فقلت لي : الزم عليا ؟ فوالله ما غيّر وما بدل ! فسكتت . ثم أعاد عليها ، فسكتت ؛ ثلاث مرات . فقال : أعقروا الجمل ، فعقروه (7) .
ثم يروى عن عكرمة : لما انقضى أمر الجمل دعى عليّ بن أبي طالب ...
أين ابن عباس ؟ قال ابن عباس فدُعيت له من كل ناحية ، فأقبلت اليه ، فقال ائتِ هذه المرأة فلترجع الى بيتها الذي أمرها الله أن تقرّ فيه . قال : فجئت فاستأذنت عليها فلم تأذن لي ، فدخلت بلا اذن ومددت يدي الى وسادة في البيت فجلست عليها ، فقالت : تالله يا ابن عباس ما رأيت مثلك تدخل بيتنا بلا اذننا وتجلس على وسادتنا بغير أمرنا . فقلت : والله ما هو بيتك ، ولابيتك إلا الذي أمرك الله أن تقرّي فيه فلم تفعلي ، ان اميرالمؤمنين يأمرك أن ترجعي الى بلدك الذي خرجتِ منه .
الاستيعاب : لما خرج طلحة والزبير كتبت ام الفضل بنت الحارث الى عليّ بخروجهم ، فقال عليّ : العجب لطلحة والزبير ان الله عز وجل لما قبض رسوله « ص » قلنا : نحن أهله وأولياؤه لا ينازعنا سلطانه أحد ، فأبى علينا قومنا فولوا غيرنا ! وأيم الله لولا مخافة الفرقة وأن يعود الكفر ويبوء الدين لغيرنا ، فصبرنا على بعض الألم ، ثم لم نر بحمد الله غلا خيرا ، ثم وثب الناس على عثمان فقتلوه ، ثم بايعوني ولم أستكره أحدا ، وبايعني طلحة والزبير ولم يصبرا شهرا كاملا حتى خرج الى العراق ناكثين ! اللهم فخذهما بفتنتهما للمسلمين (8) .
الاستيعاب : ان عثمان بن حُنيف لما كُتب الكتاب بالصلح بينه وبين الزبير وطلحة وعائشة : أن يكفّوا عن الحرب ويبقى هو في دار الامارة خليفة لعليّ على حاله حتى يقدم عليّ « رض » فيرون رأيهم . قال عثمان بن حنيف لأصحابه : ارجعوا وضعوا سلاحكم . فلما كان بعد أيام . جاء عبدالله بن الزبير في ليلة ذات ريح وظلمة وبرج شديد ، ومعه جماعة من عسكرهم ، فطرقوا عثمان بن حُنيف في دار الإمارة فأخذوه ثم انتهوا به الى بيت المال فوجدوا أناسا من الزُطّ يحرسونه ، فقتلوا منهم اربعين رجلا وأرسلوا بما فعلوه من أخذ عثمان وأخذ ما في بيت المال الى عائشة يستشيرونها في عثمان ، وكان الرسول اليها أبان بن عثمان ، فقالت : اقتلوا عثمان بن حُنيف ! فقالت لها امرأة : ناشتدك الله يا ام المؤمنين في عثمان بن حُينف وصحبته لرسول الله « ص » ؟ فقالت رُدوا أبانا ، فردوه . فقالت : أحبسوه ولا تقتلوه . فقال أبان : لو أعلم أنك رددتني لهذا لم أرجع ، وجاء فأخبرهم . فقال لهم مجاشع بن مسعود : اضربوه وانتفوا شعر لحيته ؛ فضربوه اربعين سوطا ونتفوا شعر لحيته وحاجبه وأشفار عينه (9) .
انظروا في جنايات هذه الطائفة المضلة ، الذين ادعوا بأنهم انما خرجوا لاصلاح الامة الاسلامية !.
وليعلم : بأن هذه الفتن الثلاثة ( خروج طلحة والزبير ، خروج عائشة ، حرب الجمل ) مستندة الى طلحة والزبير ، وقد اتضح من روايات هذه الفتن أن خلافهما ونقض بيعتهما قد أثار هذه الفتن ، بل وفتنة حكومة معاوية وحرب صفين أيضا .
ولا يبعد أن نقول : أن مبدأ الفتن كلها ومنشأ الخلاف في المسلمين انما تحقق في نقطتين : وهاتان النقطتان اولاهما المنع عن وصية رسول الله « ص » . وثانيتهما نقض بيعة طلحة والزبير .
وقد قال ابن عباس في الأولى : الرزية كل الرزية : ما حال بين رسول الله « ص » وبين وصيته ، ويوم الخميس وما يوم الخميس . ونحن نقول في الثانية : وتمام الرزية وكمالها في يوم نقض طلحة والزبير بيعة اميرالمؤمنين علي « ع » . نعم هاتان النقطتان منعتا عن بسط الحق والعدل ، وأثارتا الفتن والأحداث وأشاعتا والجور والعدوان ، وغيّرتا سبيل الهدى وفي أثر هذا التغيير والتحريف ظهرت الحكومت الأموية والعباسية ، فبدلوا وحرفوا وظلموا وضلوا وأضلوا .
وعلى هذا يقول عليّ « ع » : ان فعلوا هذا فقد انقطع نظام المسلمين . ويقول : أنها فتنة كالنار كلما سُعّرت ازدادت . ويقول : أتُريد أن أكون مثل الضبع التي يحاط بها ! وقد قال رسول الله « ص » : إنه يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ! فمن منع عن الوصية فقد منع عن اجراء التنزيل .
ومن نقض البيعة لعليّ « ع » فقد منع عن اجراء التأويل .
المصادر:
**********
1 ـ الملل والنحل ج 1 ص 21 .
2 ـ تاريخ الطبري ج 5 ص 187 .
3-تاريخ الطبري ج 5 ص 188 .
4-نفس المصدر السابق ص 193 .
5 ـ نفس المصدر ص 197 .
6 ـ عقد الفريد ج 4 ص 320 .
7ـ عقد الفريد ج 4 ص 328 .
8- الاستيعاب ج 2 ص 497 .
9-الاستيعاب ج 1 ص 368 .