|
عضو برونزي
|
رقم العضوية : 32162
|
الإنتساب : Mar 2009
|
المشاركات : 430
|
بمعدل : 0.07 يوميا
|
|
|
|
كاتب الموضوع :
خادم_الأئمة
المنتدى :
المنتدى العقائدي
بتاريخ : 21-10-2009 الساعة : 10:57 AM
الحلقة الثالثة من كتاب (أوضح البيان)
المبحث الأول
صفات أهل نجد الواردة في الأحاديث
الصفة الأولى: قسوة أهلها وجفاؤهم
قام كثير من العلماء المختصين بدراسة طبيعة البدوي الذي يسكن الصحراء، كما كانت هذه الدراسة محل اهتمام الملوك من الأمم الأخرى ، فقد ذكرت كتب الأدب وصف مناظرة، قيل إنها وقعت بين النعمان بن المنذر ملك الحيرة وبين كسرى ملك الفرس في شأن العرب؛ صفاتهم وأخلاقهم وعقولهم، ثم ذكرت مناظرة أخرى جرت بين كسرى وبين وفد أرسله النعمان لمناظرته ومحاجّته فيما جرى الحديث عليه سابقا بين الملكين، ومجمل ما نُسب إلى كسرى من مآخذ زعم أنه أخذها على العرب، هو أنه نظر فوجد أن لكل أمة من الأمم ميزة وصفة؛ فوجد للروم حظاً في اجتماع الألفة وعظم السلطان وكثرة المدائن ووثيق البنيان، وأن لهم دينا يبين حلالهم وحرامهم ويرد سفيههم ويقيم جاهلهم، ورأى للهند، نحوا من ذلك في حكمتها وطبّها مع كثرة أنهار بلادها وثمارها، وعجيب صناعاتها ودقيق حسابها وكثرة عددها، ووجد للصين كثرة صناعات أيديها وفروسيتها وهمتها في آلة الحرب وصناعة الحديد، وأن لها ملكا يجمعها، وأن للترك والخزر على ما بهم من سوء الحال في المعاش وقلة الريف والثمار والحصون ملوكاً تضم قواصيهم وتدبر أمرهم ولم يرَ للعرب دينا ولا حزما ولا قوةً، همتهم ضعيفة بدليل سكنهم في بوادي قفراء، ورضاهم بالعيش البسيط، والقوت الشحيح، يقتلون أولادهم من الفاقة ويأكل بعضهم بعضا من الحاجة، أفضل طعامهم لحوم الإبل التي يعافها كثير من السباع لثقلها وسوء طعمها وخوف دائها، وإن قَرَى أحدُهم ضيفا عدّها مكرمة، وإن أطعم أكلة عدّها غنيمة تنطق بذلك أشعارهم، وتفتخر بذلك رجالهم، ثم إنهم مع قلتهم وفاقتهم وبؤس حالهم، يفتخرون بأنفسهم، ويتطاولون على غيرهم ويُنزلون أنفسهم فوق مراتب الناس حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكا أجمعين ، وأبوا الانقياد لرجل واحد منهم يسُوسُهم ويجمعهم، سلاحهم كلامهم، به يتفنَّنون، وبكلامهم يتلاعبون ، ليس لهم ميل إلى صنعة أو علم ولا فن، لا صبر لهم، إذا حاربوا ووجدوا قوة أمامهم، حاولوا جهدهم التغلب عليها، أما إذا وجدوها قوة منظمة هربوا مشتتين متبعثرين شراذم، يخضعون لحكم الغريب ويهابونه ويأخذون برأيه فيهم، ما دام قويًّا، ويقبلون بمن ينصبه عليهم، ولا يقبلون بحكم واحد منهم، إذا أراد أن يفرض سلطانه عليهم .
وقد ذُكر أن أحد ملوك الهند كتب كتابا إلى عمر بن عبد العزيز جاء فيه : لم تزل الأمم كلها من الأعاجم في كلّ شق من الأرض لها ملوك تجمعها، ومدائن تضمّها، وأحكام تدين بها وفلسفة تنتجها، وبدائع تفتقها في الأدوات والصناعات، مثل صنعة الديباج وهي أبدع صنعة، ولعب الشطرنج وهي أشرف لعبة، ورمّانة القبّان التي يوزن بها رطل واحد ومائة رطل، ومثل فلسفة الروم في ذات الخلق والقانون والاصطرلاب الذي يعد به النجوم ويدرك به الأبعاد ودوران الأفلاك وعلم الكسوف وغير ذلك من الآثار المتقنة، ولم يكن للعرب ملك يجمع سوادها ويضم قواصيها، ويقمع ظلمها وينهي سفيهها، ولا كان لها قط نتيجة في صناعة ولا أثر في فلسفة إلا ما كان من الشعر وقد شاركتها فيه العجم، وذلك أن للروم أشعارا عجيبة قائمة الوزن والعروض فما الذي تفتخر به العرب على العجم فإنما هي كالذئاب العادية، والوحوش النافرة، يأكل بعضها بعضا ويغير بعضها على بعض، فرجالها موثقون في حَلَق الأسر، ونساؤها سبايا مردفات على حقائب الإبل، فإذا أدركهن الصريخ استنقذن بالعشي، وقد وطئن كما توطأ الطريق المهيع(27) الخ000
قلت: ما ذكره كسرى واضح ، وقد كان هذا حقا في طبيعة الأعرابي ، وكذلك ما قاله ملك الهند في رسالته الى عمر بن عبد العزيز ، وإني أرى أن طبيعة منطقة الصحراء القاحلة التي لا تحوي شيئاً من خيرات الدنيا هي التي أثرت هذا التأثير في طبيعة البدوي ، فصار بعيدا عن مظاهر الحضارة والمدنية، فالبدو لا يفهمون الحياة حق الفهم كما يفهمها الحضري، لا يفهمون البيوت التي يسكنها الحضر، ولا يفهمون فائدة حتى الأبواب والنوافذ الخشبية لهذه البيوت التي يسكنها الحضر، ومن الطريف: أن البدو الذين كانوا في جيش الملك حسين في الثورة العربية كان عملهم بعد الاستيلاء على الطائف نزع خشب النوافذ والأبواب، لا لبيعها والانتفاع بثمنها، بل لاستعمالها وقودا إما للقهوة أو الطبخ أو التدفئة، وبدو نجد قد فعلوا مثل ذلك تماما، فعندما أسكنت الحكومة بعض القبائل في ثكنة جَرْوَلْ، اكتشفت الحكومة أن النوافذ الخشبية والأبواب تنقص بالتدريج، وأنها استُعملت للطبخ وتحضير القهوة، فأخرجهم جلالة الملك توًّا من الثكنة، وأسكن الحضر فيها، والحضر بطبيعتهم يفهمون ما لا يفهمه جهلة البدو عن النوافذ والأبواب(28)
ومن عادات البدوي أنه لا يميل إلى هزل ولا دُعَابة، فليس من طبع الرجل أن يكون صاحب هزل ودُعَابة، ولهذا حذر في كلامه وتشدد في مجلسه، وقلّ في مجتمعه الإسفاف، وإذا كان المجلس عاما، أو مجلس سيد قبيلة، رُوعِي فيه الاحتشام، والابتعاد عن قول السخف، والاستهزاء بالآخرين، وإلقاء النكات والمضحكات، حرمة لآداب المجالس ومكانة الرجال، حياته خشونة وصعوبة ومشقة، ومن هذه الروح المسيطرة عليه، بقي هو هو، لا يريد تجديدًا ولا تطويرًا، وبقيت حياته لا تعرف دعابة ولا ضحكا، جفاء في جفاء .
لذلك نرى الأعرابي يتقمص طبيعة البيئة التي يعايشها، لا يؤثر فيه علم، وإن تعلم شيئا بقي طبعه قاسياً ، وذلك لتأثير طبيعة المنطقة في ساكنيها حيوانا كان ذلك أو نباتا ، فالناس الذين يسكنون السهل تكون طباعهم سهلة ، وأخلاقهم يغلب عليها الهدوء والسكينة، وساكنو الجبال الوعرة يغلب عليهم الأخلاق الصعبة وتعكير المزاج، وسكان المناطق الباردة يغلب عليهم النشاط عكس سكان المناطق الحارة حيث يغلب عليهم الكسل لذلك جاء في محكم التنزيل: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(التوبة: 97) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الأعراب أشدُّ جحودًا لتوحيد الله، وأشدّ نفاقًا من أهل الحضر في القرى والأمصار، وإنما وصفهم جل ثناؤه بذلك، لجفائهم، وقسوة قلوبهم، وقلة مشاهدتهم لأهل الخير، فهم لذلك أقسى قلوبًا، وأقلُّ علمًا بحقوق الله(29) .
وفي الحديث النبوي الذي يرويه ابن عباس رضي الله عنهما رفعه قال : من سكن البادية جفا، ومن تبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن(30) وكما أن لطبيعة المنطقة الجغرافية تأثيرا في ساكنيها، يكون التأثير أيضا لما يجاوره الإنسان لحكم التأثير بالمجاورة، لذلك علّمنا النبي هذه المبادئ ، فقد جاء في الحديث الذي نحن بصدده وهو (حديث نجد) قوله عليه الصلاة والسلام : (ألا إن القسوة وغلظ القلوب في الفدّادين حيث يطلع قرن الشيطان في ربيعة و مضر) والفدّادون هم الفلاحون الذين يشتغلون بالحراثة ورعاية الإبل، من الفديد وهو الصوت لكثرة أصواتهم في حروثهم وفي كلامهم مع الإبل في الرعي.
ومما يؤيد ما ذكرنا أنه جاء شاعر من أعراب البادية بعض الخلفاء العباسيين ليمدحه رجاء عطائه فقال:
أنت كالكلب في حفاظك الود وكالتيس في مقارعة الخطوب
فأراد الخليفة تأديبه لتشبيهه إياه بالكلب والتيس، فقال له بعض ندمائه: يا أمير المؤمنين، إن هذا الأعرابي لم يعرف في حياته إلا الكلب والغنم ، فهذا حد معرفته، ولو أرسلته إلى دجلة ورأى الجواري هناك لأبدع، فأمر الخليفة بإرساله إلى وسط بغداد ليتعرف على الناس وتتسع مداركه ، فسمعه بعد أيام يقول:
عيون الـمها بين الرصافة والـجسر
سلبن عقلي من حيث أدري ولا أدري
فانظر الفرق بين البيتين لتأثير المنطقة على بلاغة هذا الأعرابي، كذلك حديثنا عن أهل نجد ، فنقول: إن من شعراء نجد من كان يتنقل بين المناطق فكان من أصحاب المعلقات والحوليات، والأغلبية لم يعرف إلا رعاية الإبل والحراثة ، ومنهم من لم يعرف إلا غزو الجيران ومحاربتهم ، ومنهم ، ومنهم فأثرت البيئة في طباعهم فغلب عليهم الجفاء وقسوة القلب ، لذلك لما ارتدت العرب كان لنجد النصيب الأوفى في كثرة المرتدين ، وازداد فيهم الجفاء حتى تنبأ بعضهم وتعدى ذلك حتى تنبأت النساء، وتخبرنا كتب السير أن النبي h لما عرض نفسه على قبائل العرب لينصروه لما كذبه كفار قريش كان أقبح رد واجهه هو ما رد به بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب(31) لذا ورد في الحديث النبوي من صفات أهل تلك المنطقة الصفات التالية:
الصفة الثانية: قسوة قلوب أهلها.
* روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن الأقرع بن حابس التميمي رأى النبي h يقبّل الحسن والحسين فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا ، فقال عليه الصلاة والسلام : من لا يرحم يُرحم(32) .
* وفي مسند الحارث باب ما جاء في الأولاد عن عائشة قالت: قبّل رسول الله h بعض ولده عند أعرابي فقال: ما قبلت ولداً لي قط ، فقال h ما أصنع بك إن كان الله قد نزع الرحمة منك(33) .
* وما جاء في مصنف عبد الرزاق عن أبي عثمان أن عيينة بن حصن قال لعمر - ورآه يقبل بعض ولده – فقال: أتقبل وأنت أمير المؤمنين؟!! لو كنتُ أمير المؤمنين ما قبلت لي ولدا ، فقال عمر: آلله ، آلله حتى استحلفه ثلاثاً فقال عمر: فما أصنع إن كان الله نزع الرحمة من قلبك ، إن إنما يرحم الله من عباده الرحماء(34) وعيينة بن حصن هو سيد بني فزارة ، وهي بطن من تميم ويسكنون نجدا .
* ومن ذلك ما رواه الطبراني عن معاذ بن جبل قال: كان النبي h في دارنا يعرض الخيل قال: فدخل عليه عيينة بن حصن فقال للنبي h أنت أبصر بالخيل مني وأنا أبصر بالرجال منك فقال النبي h : فأي الرجال خير ؟ فقال: رجال يحملون سيوفهم على عواتقهم، ويعرضون رماحهم على مناسج خيولهم ويلبسون البرود من أهل نجد ، فقال النبي h كذبت خيار الرجال رجال ذي يُمن، الإيمان يماني، وأكثر قبيلة في الجنة مذحج ومأكول حمير من آكلها حضرموت خير من كندة ، فلعن الله الملوك الأربعة جمدا ومشرحاً ومحوساً وأبضعاً وأختهم العمردة(35) .
قلت: وهؤلاء كلهم ملوك من نجد .
وعند غيره زيادة : أكثر القبائل في الجنة مذحج وأسلم وغفار ومزينة وأخلاطهم من جهينة خير من أسد وتميم وهوازن وغطفان عند الله يوم القيامة ، وما أبالي أن يهلك الحيان كلاهما ، وبنو عصية عصوا الله .
وهذه القبائل التي ذكر رسول الله h (كندة ، أسد ، وتميم ، وغطفان ) هم من قبائل نجد ، والقبائل التي مدحها h من اليمن وتهامة الحجاز .
الصفة الثالثة: فيها الزلازل والفتن وفيها تسعة أعشار الشر :
الزلزلة هي الحركة الشديدة ومنه قوله تعالى {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا } والزلزلة هي شدة الفزع والخوف قال الله تعالى واصفاً شدة الخوف التي لحقت بالصحابة في وقعة الأحزاب: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} (الأحزاب:11) فالزلازل التي كانت في نجد هي حركات دينية وسياسية ظهرت فيها على مر التاريخ أرعبت المسلمين ، وأما الفتن فبنفس المعنى لكن ليست بالمستوى الأول ، بل هي أقل درجة من الزلزال لكن الفتن أكثر عددا ، وأما الشر فيجمع ذلك كله، والشر اسم معاكس للخير ، لكن يكون للأفراد، وكأن النبي h يشير إلى أن أهل تلك المنطقة لا يعرفون خيرا قط سواء على مستوى الفرد وهو (الشر) أو على مستوى القبيلة أو الجماعة وهي (الفتنة) أو على مستوى المنطقة أو المستوى الرسمي وهو الزلزال ، وهذا من النبوءات التي أخبرنا بها h محذرا من تلك المنطقة ، وتحذيره لأهل تلك المنطقة بالكف عن الشر وهي نصيحة لهم ، وتحذير لكافة المسلمين ليأخذوا على أيديهم ، والكلام هنا على التغليب لا على العموم، فقد يوجد أفراد معدنهم الخير ولا يعرفون للشر طعما لكنهم قليل نسبة للأكثرية، والحكم لا يكون إلا للأغلب .
الصفة الرابعة: بها الداء العضال :
والداء العضال هو الذي استعصى حتى تعذر علاجه ، ومن أنواع الأمراض التي تصيب الإنسان ما كان في جسمه ، ومنها ما كان في نفسه وعقله، والداء الذي يصيب النفس والعقل أشد ضراوة مما أصاب الجسم ، ومن هذه الأمراض التي استفحلت في أهل تلك المنطقة ؛ الجهل ، الحماقة ، شدة النفاق والكفر .
فمن تلك القبائل التي سادها هذا المرض قبيلة فزارة ، ومن حماقتهم أنهم رضوا بأن يسودهم رجل أحمق وهو عيينة بن حصن ، فقد عقد الدكتور جواد علي فصلا في كتابه؛ (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) وهو الفصل السابع أسماه: (طبيعة العقلية العربية) قال فيه: وقد وُصف الأعراب بالغلظة والخشونة، فقيل: أعرابي قُحّ، وأعرابي جِلْف، وما شاكل ذلك، وفي الحديث "من بَدَا جَفَا"، أي من نزل البادية صار فيه جفاء الأعراب، وقد نعت الرسول "عُيَيْنَة بن حصن" قائد "غطفان" يوم الأحزاب بـ ("الأحمق المطاع) وكان دخل على النبي بغير إذن، فلما قال له أين الإذن؟ قال ما استأذنت على مضري قبلك وقال: ما هذه الحُمَيراء معك يا محمد؟ فقال: هي عائشة بنت أبي بكر فقال: طلقها وأنزل لك عن أم البنين، في أمور كثيرة تذكر من جفائه، أسلم ثم ارتدّ وآمن بطليحة حين تنبأ وأخذ أسيرًا فأُتي به أبو بكر، رضي الله عنه، أسيرًا فمنّ عليه ولم يزل مظهرًا للإسلام على جفوته وعنجهيته ولوثة أعرابيته حتى مات.
وذكر أن "الأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح بذلك وهشّ، والعربي إذا قيل له يا أعرابي غَضِب، وذلك لازدراء العرب الأعراب، ولارتفاعهم عنهم في العقل وفي الثقافة والمنزلة الاجتماعية.
وهذه الصفات التي لا تلائم الحضارة ولا توائم سنّ التقدم في هذه الحياة هي التي حملت الإسلام على اعتبار التبدّي أي التعرب بعد الهجرة ردّة على بعض الأقوال، وعلى النهي عن الرجوع إلى البادية والعيش بها عيشة أعرابية، فلما خرج أبو ذر إلى الربذة قال له عثمان بن عفان: تعاهد المدينة حتى لا ترتد أعرابيًّا، فكان "يختلف من الربذة إلى المدينة مخافة الأعرابية. انتهى كلام الدكتور جواد .
قلت: لذلك جاء في القرآن {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ}(التوبة:97) وجاء النهي عن التعرب في الحديث النبوي، أي أن يعود الرجل إلى البادية بعد أن صار في الحضر، فقد روى البيهقي في السنن الكبرى : ثلاثٌ من الكَبَائر منها التَّعرُّب بعدَ الهِجْرة ، وهو أن يعود إلى البَادية ويُقِيمَ مع الأَعرَاب بعدَ أن كانَ مُهَاجراً ، وكان من رجَع بعدَ الهِجْرة إلى موضِعه من غير عذر يَعدُّونه كالمُرْتَدّ ، قال: ومنه حديث ابن الأكْوع لمَّا قُتل عثمان خرَج إلى الرَّبَذة وأقامَ بها ، ثم إنَّه دخل على الحجَّاج يوماً فقال له : يا ابن الأكْوع ارْتَدَدْت على عَقِبَيْك وتَعَرَّبْت؟ .
ومن هنا كان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر يعدّونه كالمرتد وذلك بسبب جفاء الأعراب والجهالة، لذا كرهت شهادة البدوي على الحضري فقد روى البيهقي في السنن الصغرى عن أبي هريرة ، أنه سمع رسول الله h يقول: لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية(36) فيحتمل أنه قال ذلك لما في أهل البدو من الجهالة بأحكام الشريعة ، وقلة ضبطهم الشهادة على وجهها ، وإقامتها على حقها لقصور علمهم عما يحيلها ، وما هم عليه من الجفاء الذي يؤدي بصاحبه الى الباطل فورد في الحديث .
لذلك أصبح الجفاء وغلظ القلب والجهل في البادية ، ومن كانت هذه صفته كان قبوله للفتن أكثر، ومن هنا كان لنجد النصيب الأوفى من هذه الأخلاق لبعدهم عن الحضارة والمدن وتأثير طبيعة المنطقة فيهم ، ولم تزل هذه الأخلاق مستفحلة في غالب أهل تلك المنطقة رغم الحضارة التي وصلتها ، وأكثر ما يلاحظ على أهلها افتخارهم بأنسابهم وهي ما تسمى بالمصطلح الشرعي: العصبية القبلية .
المبحث الثاني
ظهور المتنبئين الكذابين .
لما تم لنا دراسة طبيعة تلك المنطقة وأخلاق أهلها وطبائعهم ،تحتم علينا دراسة تاريخها من عهد بداية الإسلام الى يومنا هذا حتى نطبق ما تمت دراسته على أرض الواقع، فإن وجدنا التاريخ مطابقا لهذه الطبائع كانت الدراسة صحيحة، وأن المقصود بهذه الأحاديث هو نجد الجزيرة، وبالتالي لا يجوز صرف معنى هذه الأحاديث الى العراق، وإن كان العكس تكون الدراسة خاطئة ولا بد حينها أن نصرف معنى الحديث عن نجد الجزيرة الى العراق ، وسنحاكي التاريخ الآن : ما عندك عن تاريخ هذه المنطقة؟ والجواب بالطبع سيكون:
شهدت نجد حركات سياسية وفتنا كقطع الليل المظلم من بداية الدعوة الإسلامية الى يومنا هذا، ولم تزل هذه المنطقة مركز إزعاج لدولة الإسلام، وأن ما خرج من هذه المنطقة من الشر يساوي تسعة أضعاف ما ظهر في غيرها، وأن نسبة الخير فيها يساوي جزءا من عشرة أجزاء نسبة لغيرها من المناطق، وكان أول حركة إرهابية تخريبية ضربت الدولة الإسلامية هي:
حركة مسيلمة بن حبيب كذاب بني حنيفة:
كان يسكن اليمامة قصبة نجد، وهي منطقة الرياض اليوم .
أخرج البيهقي عن ابن إسحاق قال: فحدثني بعض علمائنا من أهل المدينة أن بني حنيفة أتت به (أي مسيلمة) رسول الله h تستره بالثياب، ورسول الله h جالس في أصحابه معه عسيب من سعف النخل، في رأسه خوصات ، فلما انتهى إلى رسول الله h وهم يسترونه بالثياب كلّمه وسأله، فقال رسول الله h لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه ، ثم انصرفوا عن رسول h وجاءوه بما أعطاه، فلما انتهوا إلى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وتكذب لهم وقال: إني قد أشركت في الأمر معه، وقال لوفده الذين كانوا معه: ألم يقل لكم حين ذكرتموني له، أما إنه ليس بشركم مكانا؟ ما ذاك إلا لما كان يعلم إني قد أشركت في الأمر معه، ثم جعل يسجع لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن:
لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى .
وأحل لهم الخمر والزنا ، ووضع عنهم الصلاة ، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله h بأنه نبي فأصفقت معه حنيفة على ذلك (37).
أخرج الشيخان عن ابن عباس قال: قدم مسيلمة الكذاب المدينة في بشر كثير من قومه فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتبعته ، فأقبل النبي h ومعه ثابت بن قيس بن شماس وفي يد النبي h قطعة جريد، حتى وقف على مسيلمة فقال: لئن سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها ، ولن تعدو أمر الله فيك ، ولئن أدبرت ليعقرنك الله ، وإني أراك الذي أريت فيه ما رأيت، وهذا ثابت بن قيس يجيبك عني ثم انصرف .
قال ابن عباس: فسألت عن قول النبي h : إنك الذي أريت فيه ما رأيت ، فأخبرني أبو هريرة أن النبي h قال: بينما أنا نائم أريت أن في يدي سوارين من ذهب، فأهمني شأنهما ، فأوحي إلي في المنام؛ أن أنفخهما، فنفختهما فطارا فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي ، فهذا أحدهما العنسي صاحب صنعاء والآخر مسيلمة صاحب اليمامة .
وقد استفاض ذكره عند المحدثين والمؤرخين وسأنقل هنا رواية ابن كثير :
مقتل مسيلمة الكذاب:
لما رضي الصديق عن خالد بن الوليد وعذره بما اعتذر به، بعثه إلى قتال بني حنيفة باليمامة ، وأوعب معه المسلمون، وعلى الأنصار ثابت بن قيس بن شماس، فسار لا يمر بأحد من المرتدين إلا نكل بهم، وقد اجتاز بخيول لأصحاب سَجاح فشردهم وأمر بإخراجهم من جزيرة العرب، وأردف الصديق خالدا بسرية لتكون ردءا له من ورائه ، وقد كان بعث قبله إلى مسيلمة عكرمة بن أبي جهل، وشرحبيل بن حسنة، فلم يقاوما بني حنيفة، لأنهم في نحو أربعين ألفا من المقاتلة، فجعل عكرمة قبل مجيء صاحبه شرحبيل، يناجزهم فنكب، فانتظر خالدا، فلما سمع مسيلمة بقدوم خالد عسكر بمكان يقال له: (عقربا) في طرف اليمامة والريف وراء ظهورهم، وندب الناس وحثهم، فحشد له أهل اليمامة، وجعل على مجنبتي جيشه المحكم بن الطفيل، والرجّال بن عنفوه بن نهشل، وكان الرجّال هذا صديقه الذي شهد له أنه سمع رسول الله h يقول: أنه قد أشرك معه مسيلمة بن حبيب في الأمر (أي في النبوة) وكان هذا الملعون من أكبر ما أضل أهل اليمامة، حتى اتبعوا مسيلمة، وقد كان الرجّال هذا قد وفد إلى النبي h وقرأ البقرة ، وجاء زمن الردة إلى أبي بكر فبعثه إلى أهل اليمامة يدعوهم إلى الله ويثبتهم على الإسلام، فارتد مع مسيلمة وشهد له بالنبوة .
قال سيف بن عمر عن طلحة عن عكرمة عن أبي هريرة: كنت يوما عند النبي h في رهط معنا الرجّال بن عنفوة فقال: إن فيكم لرجلا ضرسه في النار أعظم من أحد، فهلك القوم وبقيت أنا والرجّال، وكنت متخوفا لها، حتى خرج الرجّال مع مسيلمة وشهد له بالنبوة ، فكانت فتنة الرجّال أعظم من فتنة مسيلمة.
وقرب خالد، وقد جعل على المقدمة شرحبيل بن حسنة، وعلى المجنبتين زيدا وأبا حذيفة، وقد مرت المقدمة في الليل بنحو من أربعين، وقيل ستين فارسا عليهم مجّاعة بن مُرارة، وكان قد ذهب لأخذ ثأر له في بني تميم وبني عامر وهو راجع إلى قومه فأخذوهم ، فلما جيء بهم إلى خالد عن آخرهم فاعتذروا إليه فلم يصدقهم ، وأمر بضرب أعناقهم كلهم، سوى مجاعة فإنه استبقاه مقيداً عنده - لعلمه بالحرب والمكيدة - وكان سيداً في بني حنيفة، شريفاً مطاعا، ويقال: إن خالداً لما عُرضوا عليه قال لهم: ماذا تقولون يا بني حنيفة ؟ قالوا: نقول منا نبي ومنكم نبي، فقتلهم إلا واحداً اسمه سارية ، فلما تواجه الجيشان قال مسيلمة لقومه: اليوم يوم الغيرة، اليوم إن هُزمتم تُستنكح النساء سبيات، ويُنكحن غير حظيات، فقاتلوا على أحسابكم وامنعوا نساءكم، وتقدم المسلمون حتى نزل بهم خالد على كثيب يشرف على اليمامة، فضرب به عسكره، وراية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، وراية الأنصار مع ثابت بن قيس ين شماس، والعرب على راياتها، ومجاعة بن مرارة مقيد في الخيمة مع أم تميم امرأة خالد، فاصطدم المسلمون والكفار، فكانت جولة، وانهزمت الأعراب حتى دخلت بنو حنيفة خيمة خالد بن الوليد وهموا بقتل أم تميم، حتى أجارها مجاعة وقال: نعمت الحرة هذه، وقد قُتل الرجّال بن عنفوة لعنه الله في هذه الجولة، قتله زيد بن الخطاب، ثم تذامر الصحابة بينهم وقال ثابت بن قيس بن شماس: بئس ما عودتم أقرانكم، ونادوا من كل جانب: أخلصنا يا خالد، فخلصت ثلة من المهاجرين والأنصار، وحمي البراء بن معرور - وكان إذا رأى الحرب أخذته العرواء ، فيجلس على ظهر الرجال حتى يبول في سراويله، ثم يثور كما يثور الأسد، وقاتلت بنو حنيفة قتالا لم يعهد مثله، وجعلت الصحابة يتواصون بينهم ويقولون: يا أصحاب سورة البقرة، بطل السحر اليوم، وحفر ثابت بن قيس لقدميه في الأرض إلى أنصاف ساقيه، وهو حامل لواء الأنصار بعد ما تحنط وتكفن، فلم يزل ثابتاً حتى قتل هناك، وقال المهاجرون لسالم مولى أبي حذيفة: نخشى أن نؤتى من قبلك ؟ فقال: بئس حامل القرآن أنا إذاً، وقال زيد بن الخطاب: أيها الناس عضوا على أضراسكم، واضربوا في عدوكم وامضوا قدما، وقال: والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله أو ألقى الله فأكلمه بحجتي، فقتل شهيدا رضي الله عنه وقال أبو حذيفة: يا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال، وحمل فيهم حتى أبعدهم وأصيب رضي الله عنه، وحمل خالد بن الوليد حتى جاوزهم، وسار لجبال مسيلمة، وجعل يترقب أن يصل إليه فيقتله، ثم رجع ثم وقف بين الصفين ودعا البراز، وقال: أنا ابن الوليد العود، أنا ابن عامر وزيد، ثم نادى بشعار المسلمين وكان شعارهم يومئذ (يا محمداه) وجعل لا يبرز لهم أحد إلا قتله، ولا يدنو منه شئ إلا أكله، ودارت رحى المسلمين، ثم اقترب من مسيلمة فعرض عليه النصف والرجوع إلى الحق، فجعل شيطان مسيلمة يلوي عنقه، لا يقبل منه شيئا، وكلما أراد مسيلمة يقارب من الأمر صرفه عنه شيطانه، فانصرف عنه خالد وقد ميز خالد المهاجرين من الأنصار من الأعراب، وكل بني أب على رايتهم، يقاتلون تحتها، حتى يعرف الناس من أين يؤتون، وصبرت الصحابة في هذا الموطن صبراً لم يعهد مثله، ولم يزالوا يتقدمون إلى نحور عدوهم حتى فتح الله عليهم، وولى الكفار الأدبار، واتبعوهم يقتلون في أقفائهم، ويضعون السيوف في رقابهم حيث شاءوا، حتى ألجأوهم إلى حديقة الموت، وقد أشار عليهم محكم اليمامة وهو محكم بن الطفيل بدخولها، فدخلوها وفيها عدو الله مسيلمة، وأدرك عبد الرحمن بن أبي بكر محكم بن الطفيل فرماه بسهم في عنقه وهو يخطب فقتله، وأغلقت بنو حنيفة الحديقة عليهم، وأحاط بهم الصحابة، وقال البراء بن مالك: يا معشر المسلمين ألقوني عليهم في الحديقة، فاحتملوه فوق الجحف ورفعوها بالرماح حتى ألقوه عليهم من فوق سورها، فلم يزل يقاتلهم دون بابها حتى فتحه، ودخل المسلمون الحديقة من حيطانها وأبوابها يقتلون من فيها من المرتدة من أهل اليمامة، حتى خلصوا إلى مسيلمة، وإذا هو واقف في ثلمة جدار كأنه جمل أورق، وهو يريد يتساند، لا يعقل من الغيظ، وكان إذا اعتراه شيطانه أزبد حتى يخرج الزبد من شدقيه، فتقدم إليه وحشي بن حرب مولى جبير بن مطعم قاتل حمزة فرماه بحربته فأصابه وخرجت من الجانب الآخر، وسارع إليه أبو دجانة سمّاك بن خرشة، فضربه بالسيف فسقط، فنادت امرأة من القصر: وا أمير الوضاءة، قتله العبد الأسود، فكان جملة من قتلوا في الحديقة وفي المعركة قريبا من عشرة آلاف مقاتل، وقيل: أحد وعشرون ألفا وقتل من المسلمين ستمائة، وقيل: خمسمائة ، فالله أعلم .
هذه أول فتنة وقعت في المسلمين راح ضحيتها عشرات الألوف من القتلى والجرحى كان غالبيتهم من أهل النار بعدما كانوا مسلمين ، ومصدرها نجد .
المتنبئ الثاني: سَجاح بنت الحارث التميمية
فقد ادعت النبوة في أردة ، وتبعها جماعة من سادات قومها، وقوي أمرها واستفحل خطرها، وقصدت أبا بكر الصديق لمحاربته، لكنها عدلت عن ذلك حتى تصفي أمرها مع مسيلمة ، فقصدت مسيلمة الكذاب لمحاربته، فخافها مسيلمة وشاور قومه فجبنوا عن ملاقاتها، فلجأ مسيلمة للحيلة وتزوجها ، وتنقلت بها الأحوال إلى زمن معاوية، فأسلمت وحسن إسلامها، وانتقلت إلى البصرة وماتت فيها .
ومنطقة أردة في نجد شرق دومة الجندل وتعرف اليوم بـ(سكاكا وعرعر) .
المتنبئ الثالث: طليحة بن خويلد الأسدي
وظهر أيضا في منطقة نجد، فتنبأ وقوي أمره وتبعه الناس ، فأرسل له أبو بكر خالد بن الوليد حتى قضى على فتنته وأعاد المنطقة إلى حظيرة الإسلام .
(منقول للفائدة)
المؤلف سني
|
|
|
|
|