كان يعمل بعيدا عن الأضواء، بعيدا عن عيون الزبائن، لا يمد له أحدهم إكرامية، ولا يستمع منهم لكلمة شكر أو تقدير. ومع كل ذلك، كان يؤدي عمله المتمثل في غسيل صحون المطعم وهو في غاية السعادة. سأله أحدهم: من أين تأتي بكل هذا النشاط والمرح والإقبال على العمل؟ فأجابه مبتسما: من نظرتي لقيمة عملي. أنا لا أنظر إليه على أنه مجرد وظيفة بسيطة تؤدى كيفما اتفق. أنا أرى أني أساهم بفعالية في صيانة الصحة العامة وسلامة الآخرين. وهو الدور الذي يجعلني سعيدا، ويبقيني ملتزما بأدق معايير الصحة والسلامة، ومراعيا للجودة والإتقان من غير حاجة إلى رقيب خارجي، إذ إن رقيبي الداخلي في يقظة دائمة.
بالنظرة الأعمق للأشياء والأعمال والأفكار والأشخاص من حولنا يتغير جوهر حياتنا، فتصبح ذات لون أزهى وطعم أشهى ورائحة أزكى، ويكون إقبالنا عليها مختلفا بالتأكيد. مثلا عندما ننظر للصلاة على أنها مجرد عبادة نحن مكلفون بأدائها إسقاطا للواجب، فإننا سنؤديها في الغالب خالية من اللذة. أما حين ننظر إليها بعمق، وأنها معراج المؤمن للقاء ربه، فإننا سنعتبرها محطة استجمام، نتلهف للوصول إليها، وسنفهم ما كان يردده رسول الله : يا بلال أَرِحنا بالصلاة. وندرك مقصود الإمام الجواد من قوله: القصدُ إلى الله تعالى بالقلوب أبلغُ من إتعاب الجوارح بالأعمال.
كذلك الأمر حين ننظر لتربية الأبناء مثلا على أنها فرصة لصقل الشخصية واكتساب خبرات جديدة ومساهمة في تكوين وتخريج عنصر إنساني فاعل، ستغمرنا السعادة أكثر مما لو أديناها كوظيفة مفروضة علينا. وعلى هذا المنوال يمكن الحديث عن النظرة الأعمق للأشخاص والأفكار والأحداث وغيرها.
كثيرا ما يعاني العمل التطوعي في مجتمعاتنا من نقص في الموارد البشرية أو المالية. وكثيرا ما نشهد انسحابات من ساحة العمل الاجتماعي، أو عزوفا عن الدخول فيها. ولعل النظرة لمفهوم الخدمة الاجتماعية إحدى الأسباب الرئيسية في ذلك.
من هنا يأتي حديث الإمام الجواد عن المعروف وأهله من أجل إيجاد نظرة أعمق عند المتصدين للعمل الاجتماعي، ليشعروا بأنهم يخدمون أنفسهم أولا قبل الغير، وأن حاجتهم أعظم من حاجة متلقي الخدمة أو العطاء. يقول :
أظن أنه لو تبنى العاملون في مجال البر والإحسان والخدمات الاجتماعية والإصلاح هذه النظرة، لتغير الأداء والعطاء كما ونوعا، ولأصبحت لدينا منافسة شريفة شرسة على العمل التطوعي.
ينقل لنا تلميذه أبو هاشم الجعفري تشجيعا لقيه هو شخصيا من الإمام الجواد في هذا الصدد.