في منزله الأنيق الحديث والخالي إلا منه , تنخفض درجة الحرارة إلى مستوى أقل من الطبيعي خاصةً في المساء .. يجثم السكون والهدوء في المنزل بشكل يبعث في النفس الشعور بالوحشة .. برغم الأثاث المستورد والتحف الباهظة الثمن الموجودة في كل زاوية , وبرغم جميع الكماليات ؛ إلا أن المنزل جامد كقطعة حديد .. باهت كورقة خريف ..... ومع ازدياد البرودة جافاه النوم وعاندته أفكاره التي حاول عبثاً تسويرها والسيطرة علـيها .. أخذ يجوب المنزل بحثاً عن مدفأة كهربائية أحضرها ظهر هذا اليوم ونسي أين وضعها , لو كانت أمه ما تزال على قيد الحياة لوجدت في هذا الموضوع مادة دسمة لتبين له من خلالها إيجابيات الزواج وضرورته لأمثاله .. سأل نفسه :
أين وضعت المدفأة ؟ ألتهب السؤال في رأسه ولم تسعفه ذاكرته بشيء .
_ قال في نفسه : النوم في هذا الصقيع استحاله ! سأذهب إلى المطبخ وأعد لنفسي مشروباً ساخناً وأحاول أن أتذكر أين وضعت تلك المدفأة .
بينما هو يرتشف شرابه بهدوئه المعتاد كانت أمه تجلس على المقعد المقابل له حول الطاولة المستديرة التي تتوسط المطبخ تعيد الكلام نفسه الذي حفظه عن ظهر قلب وأصبح بعد رحيلها يلازمه كما تلازمه صورتها التي يراها في كل ركن في المنزل .
_ أبحث لك عن زوجة .. لا يجب أن تبقى وحيداً .. ستجد الزوجة الصالحة بإذن الله .. ليس كل النساء سواء .. زوجة أخيك ليست مقياس ..
أغلق عينيه , لكن صوت أمه مازال يرن في الذاكرة يتوسله الإصغاء .
_يجب أن تتزوج .. ستجد إن شاء الله فتاة طيبة .. لا تعزف عن الزواج لأن زوجة أخيك الأكبر كانت غير ودودة معنا , لا أحد يعرف ظروفها ولا ما نشأت علـيه , فالإنسان نتاج مجتمعه .. إحساسه بالبرد طغى على تفكيره , عاد إلى سريره .. وضع العديد من الأغطية على بدنه المتجمد وحاول النوم .. أخذ ينفث بكل قوته في كفيه الملتصقتين ببعضهما , عيناه مغمضتان , وذاكرته تتأرجح بين الماضي وآلامه والحاضر بترفه وقسوة الوحدة التي تحيط به .. تشتت فكره بين الماضي .. العائلة .. الدفء .. الأم .. أجَلَّ نعم الله على الأرض .. تذكر مواقف محزنةعاشها وأمه الرءوم بعد وفاة أبيه ومعاناة أكبر بوجود كنّة غير قابلة للأستأناس .. عاد السؤال يطرح نفسه من جديد : تُرى أين وضعت المدفأة ؟ اقتنع أنه لا يستطيع النوم هكذا ... نفض عن جسده الأغطية التي عيت أن تهزم الصقيع .. قال في نفسه : هل تزداد برودة الطقس كل عام أم أن العمر بدأ في عده التنازلي . نهض يبحث عن مدفأته وراء كل قطعة أثاث في المنزل إلى أن اهتدى إلى غرفة أمه , فتح الباب واستلقى على سرير أمه نظر إلى الصورة الكبيرة المعلقة على الحائط وأخذ يحدثها .. عادت الصورة للحديث عن الزواج وبناء أسرة . ... كان قد أقسم ألا تدخل على أمه امرأة تزاحمها في منزلها الذي اشتراه لها من ماله الخاص , وقد بر بقسمه .. لكن الآن وبعد وفاتها كيف سيعثر على زوجة مناسبة .. كان يفضل أختيار أمه ؛ ليتها أختارت له زوجة قبل وفاتها , كانت وفاتها صدمة له , لم تكن تعاني من مرض بعينه , أنتابتها حمى مفاجئة لم تمهلها سوى أيام قلائل . نهض يبحث عن المدفأة ليس لأنه لا يمكنه النوم في هذا الصقيع فحسب بل لأنه علق في أخاديد الذاكرة كما كل مرة .. أخذ كمية من الهواء إلى صدره وأخرجها مرة واحدة في زفرة ضيق وأخذ يشتم ويقول :
_تلك الشمطاء أخذت من أمي منزلها .... عانت أمي منها الكثير .. كانت تُحبذ أن تقضي بقية عمرها في المنزل الذي زُفت إليه , وأنجبت فيه , .. ولكن بوجود تلك المرأة .. وأخي ال.... مسلوب الإرادة ... ثم صاح يا إلهي أين المدفأة ؟ بدأ يشك أنه أحضر مدفأة .. لقد فكر في شراءها ولكن هل أحضرها فعلا .
.................
في منزل العائلة كان الأخ الأكبر يجلس على السرير .. يتوسط ولديه , طفل في التاسعة من عمره شبه نائم , وفتاة صغيرة في الخامسة من عمرها تبكي وتتوسله أن يعيد إليها أمها .. دموعه لا تكف .. صور أحتضار زوجته لا تفارقه .. تتجدد بكل أوجاعها في مخيلته .. تنهش فكره وحناياه .. طفلته تبكي , تشد وجهه كلما سألته عن أمها , وهو عاجز عن النظر في عينيها ظلت على هذا الحال حتى تعبت ونامت . مازال ينظر إلى المدفأة المحشورة في الجدار الذي يقابله .. ينظر إلى النار التي خمدت ولم يتبقى منها إلا القليل من الدفء الذي يملأ الغرفة .. يتذكر مرض زوجته .. يتذكر الآلام التي مرت بها وهو عاجز على بذل المزيد من الوقت والاهتمام بها . فقد تمزق وقته بينها وبين اطفاله ووظيفته البسيطة التي بالكاد تؤمن له وعائلته ضروريات الحياة .. ويتذكر أخاه الصغير الذي رباه كولده حتى أصبح رجلاً وأصبح لديه عمله المرموق الذي حصل علـيه بفضل شهادة جامعية لن ينالها لولا مساعدته ومساندته له .. فقد تركه يغرق في الديون وهو يعلم أن وظيفته البسيطة لا تؤمن له ما يكفي لعلاج زوجته ونفقة العائلة .. كم كان في حاجة إلى أمه لتمنح حنانها لولديه الصغيرين وترعاهما بعد أن أخذ المرض من زوجته ما أخذ .. فصارت بعيدة عن ولديها بسبب الأدوية التي تبقيها ساكنة في سريرها شبه معاقة .. كانت جميلة ومرحة قبل الزواج .. لا ينسى ابتسامتها التي تضيء المكان ولو لم يكن فيه نور . ولا ينسى كيف ذوت سريعاً بعد أن هاجمها المرض بعد زواجهما بشهور . استنزف المرض طاقته المادية والنفسية .. أما زوجته فقد أدى تناولها للأدوية الكثيرة إلى أمراض جسدية خطيرة هوت بها إلى الرمس سريعاً .. وها قد دفنها في هذه الليلة العصية التي تجمدت فيها المياه من شدة الصقيع .
الألم يتدافع في صدره كما تتدافع موجات الحمم من فوهة بركان , ودموعه تنهر بغزارة , وفِكْرهُ بين ألم فراق زوجته والقلق على صغار الأكف ومشوار سيخوضه بمعيتهم وهو غير واثق من النتائج فالحياة لا تقدم الضمان لأحد , لكنه سيخوض دربه بيقين المؤمن الذي يؤمن أن الله لا يضيع عمل عامل .
قال في نفسه :غداً يوماً آخر .. لقد منحني الخالق هذه الأمانة لأنفض عني أحزاني وأبدأ الحياة .