|
عضو برونزي
|
رقم العضوية : 77639
|
الإنتساب : Mar 2013
|
المشاركات : 741
|
بمعدل : 0.17 يوميا
|
|
|
|
كاتب الموضوع :
alyatem
المنتدى :
منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
بتاريخ : 15-03-2013 الساعة : 02:09 PM
هذا قليل من كثيرِ تلك الخطبة، التي هي آية في البلاغة والفصاحة، ومعجزة من معجزات البيان!
وهل يختلجك الشكّ والريب بأنّ كلّ فقرة منها كانت على يزيد أشدّ من ألف ضربة؟!
وهل تشكّ أنّ هذه الخطبة وأمثالها كانت هي الضربة القاضية على مُلك يزيد ومعاوية؟!
وهل أبقت لهم من باقية؟!
وهل يبقى لك شكٌّ بعدُ أنّ مواقف زينب وأُمّ كلثوم وفاطمة الصغرى ورباب وسكينة، في الكوفة والشام، بل في كلّ موقف ومقام، كان لا يقصر ـ إنْ لم يتفوّق ـ على موقف حُماتهنّ وسُراتهنّ يوم الطفّ؟!
وهل تشكّ وترتاب في أنّ الحسين سلام الله عليه لو قُتل هو ووُلْدُهُ ولم يتعقّبه قيام تلك الحرائر في تلك المقامات بتلك التحدّيات لذهب قتله جُباراً(109)، ولم يطلب به أحد ثاراً، ولضاع دمه هدراً، ولم يكن قتله إلاّ قتل عبد الله بن الزبير وأخيه مصعب وأمثالهما ممّن خَمَدَ ذِكرهم وضاع وترهم؟!
نعم، لا يرتاب لبيب عارف بأسباب الثورات، وتكوين انقلابات الأُمم، وتهييج الرأي العامّ، أنّ أقوى سبب لذلك هو الخطابة والسحر البياني الذي يؤثّر في العقول وينير العواطف!
وإذا استحضرت واقعة الطفّ المفجعة وتوالبها(110)، تعلم حقّاً أنّه ما قلب الفكرة على بني سفيان، وانقرضت دولة يزيد بأسرع زمان، إلاّ من جرّاء تلك الخطب والمقالات التي لم يقدر أيّ رجل في تلك الأوقات الحرجة والأوضاع الشاذّة على القيام بأدنى شيء منها، فقد تسلسلت الثورات والفتن على يزيد من بعد فاجعة الطفّ إلى أن هلك.
بل ما نهضت جمعية التوّابين، وتلاهم قيام المختار لأخذ الثار(111)، وتعقّبتها واقعة الحرّة(112)، التي هلك بعدها يزيد بأيّام قليلة ; ما كان كلّ ذلك إلاّ من أثر تلك المواقف المشهودة لزينب وأخواتها.
فكان الحسين(ع) يعلم أنّ هذا عمل لا بُدّ منه، وأنّه لا يقوم به إلاّ تلك العقائل، فوجب عليه ـ حتماً ـ أن يحملهنّ معه، لا لأجل المظلومية بسبيهنّ فقط ـ كما شرحناه في الجواب الأوّل ـ بل لنظر سياسيّ وفكر عميق، وهو تكميل الغرض وبلوغ الغاية من قلب الدولة على يزيد، والمبادرة إلى القضاء عليها قبل أن تقضي على الإسلام وتعود الناس إلى جاهليّتها الأُولى!
فقد أصبح الدين على عهد يزيد هو دين القرود والفهود، دين الخمور والفجور، والضرب بالعود والطنبور، وأوشك أن يذهب دين محمّد(ص) أدراج الرياح، وتكون نبوّته كنبوّة مسيلمة(113) وسجاح(114)، ونظرائهم(115).
إذاً، فجزى الله تلك الحرائر بحسن صنيعهنّ عن الإسلام أحسن الجزاء، وكلّ مسلم مدين بالشكر لهنّ وللحسين(ع) إذا كان مسلماً حقّاً ويرى للإسلام حقّاً عليه.
وعلى هذا، فيحقّ للجنس اللطيف ـ كما يسمّونه اليوم ـ أن يفخر على الجنس الآخر بوجود مثل تلك العليّات العلويّات فيه، وقد تجلّى واتّضح أنّ هذا الجنس الشريف قد يقوم بأعمال كبيرة يعجز عنها الجنس الآخر ولو بذل كلّ ما في وسعه، وأنّ له التأثير الكبير في قلب الدول والممالك، وتحوير الأفكار، وإثارة الرأي العامّ.
وهذه نكتة واحدة من نكات السياسة الحسينية، وغور نظره في الشؤون الدولية لو قطعنا النظر عن الوحي والإمامة، وجعلناه كواحد من الناس قد ثار على عدوّ له متغلّب عليه، يريد الانتقام منه، يريد أن ينقله من عرشه إلى نعشه، ومن قصره إلى قبره، ومن ملكه إلى هلكه، ويريد أن يقضي على دولة أبيه ودولته، ولا يدع حظّاً في الملك لولده وذرّيّته.
ومن تصفّح سيرة معاوية، وجهوده العظيمة، وتدابيره العميقة مدّة عشرين سنة، يعرف عظيم مساعيه، وكم كان حريصاً على توطيد دعائم الملك ليزيد، وحبسه أبداً عليه وعلى ولده، حتّى دسّ السمّ إلى الحسن(ع) وقتله مقدّمة لاستخلاف يزيد، وكم استعمل العامِلَين القويَّين السيف والدينار، والرغبة والرهبة، في تمهيد عرش يزيد وإعطائه صولجان الملك وتاج الخلافة الذي انتزعه من بني هاشم، وأعمل التدابير المبرمة في أن لا يعود إليهم أبداً.
ولكنّ الحسين وعلى ذِكره آلاف التحيّة والسلام بتفاديه وتضحيته، وتدابيره الفلسفية، وإحاطته بدقائق السياسة، ثَلَّ(116) ذلك العرش، وهدم ذلك البنيان الذي بناه معاوية في عشرين سنة، هدمه في بضعة أيّام، وما أثمر ذلك الغرس الذي غرسه معاوية ليزيد إلاّ العار والشنار، والخزي المؤبّد، واللعنة الدائمة، وصار معاوية المثل الأعلى للخداع والمكر، والظلم والجور، والرمز لكلّ رذيلة، ومعاداة كلّ فضيلة.
كلّ ذلك بفضل السياسة الحسينية وعظيم تضحيته، وصار هو وأهل بيته ـ إلى الأبد ـ المثل الأعلى لكلّ رحمة ونعمة، وبركة وسلام، فما أكبره وما أجلّه!
وقد بقيت هناك دقائق وأسرار لم يتّسع الوقت لنظمها في هذا السلك...، وهذا الذي ذكرنا هنا طرف من سياسة الحسين(ع)، وناحية من نواحيها، ذكرنا منه ما يتعلّق به الغرض في الجواب، ودفع الشكّ والارتياب.
وفي الختام، أرجع فأقول: ما أدري، هل اندفع بهذه الوجوه الأربعة أو الخمسة اعتراض الناقد أو المشكّك على الحسين(ع) في حمل العيال؟!
وهل انكشف الستار عن تلك الأسرار(117)؟!
فإنْ كان كلّ ذلك البيان لم يقنعه، ولم يدفع شكّه وريبه، فأمره إلى الله، ولا أحسبه إلاّ ممّن قال فيه سبحانه: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} (118).
الهوامش
------------
(109) الجُبار: الهَدَرُ، ذهب دمه جُباراً ; أي هدراً. انظر: لسان العرب 2 / 168 مادّة « جبر ».
(110) التولب: ولَد الأتان من الوحش إذا استكمل الحول. وهنا كناية عمّا أولدته واقعة الطفّ من الحروب والثورات التي اندلعت على بني أُميّة بعد استشهاد الإمام الحسين(ع). انظر: لسان العرب 2 / 41 مادّة « تلب ».
(111) راجع رسالة « أصدق الأخبار في قصّة الأخذ بالثار » للسيّد محسن الأمين العاملي، تحقيق فارس حسون كريم، المنشورة على صفحات مجلّة « تراثنا »، العدد المزدوج 66 ـ 67، السنة السابعة عشرة / ربيع الآخر ـ رمضان 1422 هـ.
(112 ) هذه الواقعة هي عارٌ في جبين يزيد بن معاوية، وجريمة أُخرى تضاف إلى جريمته الكبرى التي ارتكبها بقتله الإمام الحسين(ع).
في هذه الواقعة من المآسي والويلات تكاد السماوات يتفطّرن من هولها، فقد استباح مسلم بن عقبة وجنوده وبأمر من يزيد مدينة الرسول(ص) ثلاثة أيّام، واعتدوا على العذارى من بنات المهاجرين والأنصار، وقتلوا الآلاف من الشيوخ والنساء والأطفال اللائذين بقبر سيّد المرسلين(ص)، حتّى إنّه لم يبق بعدها بدريّ، وأمر بعد ذلك بالبيعة ليزيد وعلى أنّهم خَوَلٌ وعبيد له، إنْ شاء استرقّ وإنْ شاء أعتق، فبايعوه على ذلك، وفيهم جابر بن عبد الله الأنصاري وأبو سعيد الخدري وغيرهم من بقيّة الصحابة.
ثمّ بعث مسلم بن عقبة برؤوس أهل المدينة إلى يزيد، فلمّا أُلقيت بين يديه جعل يتمثّل بقول ابن الزِّبعْرى يوم أُحد:
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسلْ
انظر: أنساب الأشراف 5 / 337 ـ 355، الإمامة والسياسة 1 / 234 ـ 239، البدء والتاريخ 2 / 243 ـ 244، العقد الفريد 3 / 372 ـ 374، تاريخ الطبري 5 / 623، البداية والنهاية 8 / 177 ـ 180، وفيات الأعيان 6 / 276، الفخري ـ لابن الطقطقي ـ: 119، الإتحاف بحبّ الأشراف: 66.
(113) هو: مُسيلمة بن حبيب من بني تميم، متنبّئ، كان يسجع لقومه السجعات مضاهاةً للقرآن، وضع عنهم الصلاة، وأحلّ لهم الخمر والزنا!
وُلد باليمامة قبل ولادة والد رسول الله(ص)، كان من المعمّرين، تلقّب بالجاهلية بـ « الرحمن »، وعرف بـ « رحمن اليمامة »، قالوا في وصفه: كان رُوَيْجِلاً، أُصيغر، أُخينس، كان اسمه مَسْلَمة، وسمّاه المسلمون مُسيلمة تصغيراً له، قُتل في غزوة اليمامة عام 12 هـ، وكان عمره آنذاك 150 سنة، انظر: تاريخ الطبري 2 / 199 ـ 200، تاريخ الخلفاء ـ للسيوطي ـ: 89، شذرات الذهب 1 / 23.
(114) هي: سجاح بنت الحارث بن سويد، وقيل: بنت غطفان التغلبية التميمية، تكنّى أُمّ صادر، كانت رفيعة الشأن في قومها، شاعرة، أديبة، عارفة بالأخبار، لها علم بالكتاب أخذته عن نصارى تغلب، وكانت متكهّنة قبل ادّعائها النبوّة، وهي مع ادّعائها النبوّة فقد كذّبت بنبوّة مسيلمة الكذّاب، ثمّ آمنت به، فتزوّجها من غير صداق! ثمّ أصدقها بأن وضع عن قومها صلاتَي الفجر والعشاء الآخرة!!
وقيل: إنّها عادت إلى الإسلام بعد مقتل مسيلمة، فأسلمت وهاجرت إلى البصرة، وتوفّيت بها في زمان معاوية نحو سنة 55 هـ .
انظر: مروج الذهب 2 / 303، الإصابة 7 / 723 رقم 11361، البداية والنهاية 6 / 239 ـ 241 حوادث سنة 11 هـ، تاريخ الخميس 2 / 159، لسان العرب 6 / 174 مادّة « سجح »، الأعلام 3 / 78.
(115) من أمثال: طُليحة بن خويلد بن نوفل بن نضلة بن الأشتر الأسدي، شهد معركة الخندق مع الأحزاب، وأسلم سنة 9 هـ، ثمّ ارتدّ وادّعى النبوّة في عهد أبي بكر، ثمّ كانت له وقائع كثيرة مع المسلمين، ثمّ خذله الله وهرب حتّى لحق بأعمال دمشق، ونزل على آل جَفْنَة، ثمّ أسلم وقدم مكّة معتمراً، ثمّ خرج إلى الشام مجاهداً، وشهد اليرموك، وشهد بعض حروب الفرس، وقُتل بنهاوند سنة 21 هـ.
انظر: الاستيعاب 2 / 773 رقم 773، أُسد الغابة 2 / 477 رقم 2639، تاريخ دمشق 25 / 149 ـ 172 رقم 2992، الإصابة 3 / 542.
* والأسود العنسي، عيهلة بن كعب بن عوف العنسي المذحجي، قيل: إنّه كان أسود الوجه فسمّي الأسود للونه، متنبّئ مشعوذ، من أهل اليمن، أسلم لمّا أسلمت اليمن، وارتدّ في أيّام النبيّ(ص) فكان أوّل مرتدّ في الإسلام، وادّعى النبوّة، قُتل قبل وفاة النبيّ(ص) بخمسة أيّام، وكان ظهوره في سنة 10 هـ.
انظر: الكامل في التاريخ 2 / 201، البداية والنهاية 6 / 228.
(116) ثُلَّ عَرْشُ فلان ثَلاًّ: هُدِم وزالَ أمرُ قومه. انظر: لسان العرب 2 / 123 مادّة « ثلل ».
(117) ويحتمل البعض أنّ وجه حمل الحسين(ع) للعيال معه أنّه كان يخشى عليهنّ الأسر والسبي لو تركهنّ في بيوتهنّ بالمدينة ; لأنّ بني أُميّة كانوا يتوسّلون إلى أخذ البيعة منه بكلّ وسيلة، وحينئذ فإمّا أن يبايع أو يتركهنّ في الأسر ; فإن صحّ، فهو وجه خامس أو سادس. منه(ره).
(118) الأنعام: 25.
انتهى ولله الحمد
|
|
|
|
|