اللهم صل على محمد و آل محمد وعجل فرجهم وفرجنا بهم يا كريم
ما هو علم الأصول؟
تعريف علم الأصول
قبل ذكر التعريف نطرح بعض الأسئلة، لنرى كيف يقوم الفقيه بالإجابة عليها، وكيف يمارس عملية استخراج الحكم الشرعيّ، ويحدّد الموقف العمليّ للمكلّف. فعلى سبيل المثال، لو سألنا الفقيه:
1- هل يحرم على الصائم أن يرتمس في الماء؟
2- إذا ورث شخصٌ مالاً من أبيه، فهل يجب عليه أن يؤدّي خمسه؟
3- هل القهقهة في أثناء الصلاة مبطلةٌ لها؟
والفقيه في مقام الإجابة على هذه الأسئلة يقول:
أمّا السؤال الأول: نعم يحرم الإرتماس على الصائم، والدليل على ذلك هو رواية يعقوب بن شعيب عن الإمام الصادق عليه السلام حيث ورد فيها أنّه قال: "لا يرتمس المحرم في الماء ولا الصائم". والجملة بهذا التركيب تدلّ- بحسب الفهم العرفيّ العام- على الحرمة. وراوي النصّ هو يعقوب بن شعيب وهو ثقةٌ. والثقة وإن كان قد يخطئ أو يشذّ أحياناً، ولكنّ الشارع أمرنا بالاعتماد على كلامه وعدم اتهامه بالخطأ أو الكذب. وهذا يعني أنّ الشارع قد اعتبر كلام الثقة حجّة. والنتيجة التي وصل إليها الفقيه هي أنّ الإرتماس حرامٌ على الصائم.
وأمّا السؤال الثاني: فلا يجب أن يؤدي خمس المال الموروث، وذلك لأنّ مكاتبة عليّ بن مهزيار جاءت في مقام تحديد الأموال التي يجب فيها الخمس، وقد ورد فيها أنّ الخمس ثابتٌ "في الميراث الذي لا يحتسب من غير أب ولا ابن". ويفهم العرف العام من هذه الجملة، أنّ الشارع لم يجعل خمساً على الميراث الذي ينتقل من الأب إلى ابنه. والراوي ثقةٌ. وخبر الثقة حجّةٌ كما تقدّم. والنتيجة هي أنّ الخمس في إرث الأب غير واجبٍ.
وأمّا السؤال الثالث: نعم القهقهة مبطلةٌ للصلاة، بدليل رواية زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام حيث قال: "القهقهة لا تنقض الوضوء وتنقض الصلاة". وما يفهمه العرف العام من عبارة النقض هو أنّ الصلاة تبطل بها. وزرارة ثقةٌ. وخبر الثقة حجّة كما تقدّم. فالصلاة مع القهقهة باطلةٌ إذن.
وبملاحظة هذه المواقف الفقهيّة الثلاثة نجد أنّ الأحكام التي استنبطها الفقيه كانت من أبوابٍ فقهيّةٍ مختلفةٍ، من الصوم والإرث والصلاة. كما أنّ الأدلة التي استند إليها مختلفةٌ أيضاً، فبالنسبة إلى الحكم الأول استند إلى رواية يعقوب بن شعيب، وبالنسبة إلى الحكم الثاني استند إلى رواية عليّ بن مهزيار، وبالنسبة إلى الحكم الثالث استند إلى رواية زرارة.
العناصر الخاصّة والمشتركة:
ولكلٍّ من الروايات الثلاث متنها وتركيبها اللفظيّ الخاصّ، الذي ينبغي أن يدرس بدقّة ويحدد معناه كذلك، ولكن مع ذلك التنوّع والاختلافات في المواقف يوجد عناصر خاصّةٌ وعناصر مشتركةٌ أدخلها الفقيه واستفاد كلا منها في عمليّة الاستنباط لتحديد الحكم في المواقف الثلاثة جميعاً:
فالعناصر الخاصّة: هي تلك العناصر الخاصّة التي تتغيّر من مسألةٍ إلى أخرى، فرواية يعقوب بن شعيب عنصرٌ خاصٌّ في عمليّة استنباط حرمة الإرتماس، لأنّها لم تدخل إلا في حكم حرمة الإرتماس، دون أيٍّ من عمليّات الاستنباط الأخرى، بل دخلت بدلاً عنها عناصرُ خاصّةٌ أخرى كرواية عليّ بن مهزيار أو ورواية زرارة، فالعناصر الخاصّة هي تلك القواعد التي تدخل في عمليّة استنباط مسألةٍ فقهيّةٍ خاصّةٍ.
ولكن يوجد إلى جنب هذه العناصر الخاصّة بكلّ مسألةٍ عناصر مشتركةٌ وردت في كلّ هذه الأبواب الفقهيّة، ويستعملها الفقيه أيضاً في كثيرٍ من الأبواب، نذكر منها:
1- حجيّة الظهور: وهي تعني الرجوع إلى الفهم العرفيّ العامّ لفهم الكلام الصادر عن المعصوم، بمعنى أنّ ما يفهمه العرف العامّ من الكلام هو الحجّة وهو الذي يعتمد ويبنى عليه، فحجيّة الظهور إذن عنصرٌ مشتركٌ في عمليّات الاستنباط الثلاث.
2- حجيّة خبر الثقة: وهي تعني أنّ الثقة، وإن كان قد يخطئ أو يشذّ أحياناً، ولكنّ الشارع أمرنا بالاعتماد على كلامه وعدم اتهامه بالخطأ أو الكذب. وهذا يعني أنّ الشارع قد اعتبر كلام الثقة حجّة. وهكذا نستنتج أنّ عمليّات الاستنباط كما تشتمل على عناصر خاصّةٍ، كذلك تشتمل على عناصر مشتركةٍ. وعليه يمكن تعريف العناصر المشتركة بأنّها القواعد العامّة أو العناصر التي تدخل في عمليّة استنباط أحكامٍ شرعيّةٍ عديدةٍ ولا تختصّ ببابٍ فقهيٍّ دون باب.
وفي علم الأصول تدرس العناصر المشتركة، بينما في علم الفقه تدرس العناصر الخاصّة في كلّ مسألةٍ. وهكذا يترك للفقيه في كلّ مسألة أن يفحص بدقّةٍ الرواياتِ والمداركَ الخاصّة التي ترتبط بتلك المسألة، ويدرس قيمة تلك الروايات، ويحاول فهم ألفاظها وظهورها العرفي، وأسانيدها. بينما يتناول الأصوليّ البحث عن حجيّة الظهور، وحجية الخبر وهكذا.
وهكذا نخلص إلى تعريف علم الأصول بأنّه "العلم بالعناصر المشتركة (أو القواعد العامّة) في عمليّة استنباط الحكم الشرعيّ، أو تحديد الموقف العمليّ".
وكما أنّ العناصر المشتركة ضروريّةٌ لعمليّة الاستنباط، كذلك العناصر الخاصّة التي تختلف من مسألةٍ لأخرى، كمفردات الآيات والروايات المتناثرة، فإنّها الجزء الضروريّ الآخر في هذه العمليّة. فلا يكفي مجرّد الاطلاع على العناصر المشتركة التي يمثلّها علم الأصول. فإنّ من يحاول الاستنباط على أساس الاطلاع الأصوليّ فحسب، يكون كمن يملك معلوماتٍ نظريّةً عامّةً عن عمليّة النجارة، ولا يوجد لديه فأسٌ ولا منشارٌ وما إليهما من أدوات النجارة. فكما يعجز هذا عن صنع سريرٍ خشبيٍّ مثلاً، كذلك يعجز الأصوليّ عن الاستنباط إذا لم يفحص بدقّةٍ العناصرَ الخاصّة المتغيّرة من مسألةٍ إلى أخرى. فالعناصر المشتركة والعناصر الخاصة قطبان مندمجان في عمليّة الاستنباط ولا غنى لها عنهما معاً.
خلاصة الدرس
في علم الأصول تدرس العناصر المشتركة، بينما في علم الفقه تدرس العناصر الخاصّة في كلّ مسألةٍ. وهكذا يترك للفقيه في كلّ مسألة أن يفحص بدقّةٍ الرواياتِ والمداركَ الخاصّة التي ترتبط بتلك المسألة، ويدرس قيمة تلك الروايات، ويحاول فهم ألفاظها وظهورها العرفي، وأسانيدها. بينما يتناول الأصوليّ البحث عن حجيّة الظهور، وحجيّة الخبر وهكذا.
هكذا نخلص إلى تعريف علم الأصول بأنّه "العلم بالعناصر المشتركة (أو القواعد العامّة) في عمليّة استنباط الحكم الشرعيّ، أو تحديد الموقف العمليّ".
اللهم صل على محمد و آل محمد وعجل فرجهم وفرجنا بهم يا كريم
علم الأصول
موضوعه، أهميته، علاقته بالفقة
1- موضوع علم الأصول
يذكر- عادةً- أنّ لكلّ علمٍ موضوعاً ترتكز عليه جميع بحوث هذا العلم، وتدور حوله مسائله، وتستهدف الكشف عما يرتبط بذلك الموضوع من خصائص وحالاتٍ وقوانين. فالفيزياء مثلاً موضوعها الطبيعة. وبحوث الفيزياء ترتبط كلّها بالطبيعة، وتحاول الكشف عن حالاتها وقوانينها العامة. وموضوع النحو الكلمة، لأنه يبحث عن حالات بنائها وإعرابها من رفعٍ أو نصبٍ أو جزمٍ أو جرٍّ. وعلم الطبّ موضوعه جسم الإنسان، لأنّ كلّ مسائله وأبحاثه تدور حول جسم الإنسان من حيث الصحّة والمرض. وهكذا بالنسبة لسائر العلوم. وبما أنّ لكلّ علمٍ موضوعاً فما هو موضوع علم الأصول الذي تدور حوله بحوثه ومسائله؟
وبملاحظة تعريف علم الأصول المتقدّم نستطيع أن نعرف أنّ علم الأصول يدرس في الحقيقة العناصر المشتركة في علم الفقه لإثبات دليليّتها، فيبحث عن حجيّة الظهور المتقدّمة ليرى هل هي عنصرٌ مشتركٌ أم لا، وهل يصحّ الاعتماد عليها كدليل في الاستدلال الفقهيّ، وإلى أيّ مدى يمكن الاعتماد عليها؟ وهكذا بالنسبة لسائر الأدلّة والعناصر المشتركة. وبهذا صحّ القول بأنّ موضوع علم الأصول هو "الأدلّة المشتركة في عمليّة الاستنباط".
2- أهميّة علم الأصول وفائدته
ولا يوجد أيّ حاجة للتأكيد على أهميّة علم الأصول، وخطورة دوره في عالم الاستنباط، لأنّه ما دام يقدّم العناصر المشتركة في عمليّة الاستنباط، ويضع النظام العامّ في الاستدلال الفقهيّ، فهو عصب الحياة في هذه العمليّة. وبدون علم الأصول يواجه الشخص في الفقه ركاماً متناثراً من النصوص والأدلّة دون أن يستطيع استخدامها والاستفادة منها في الاستنباط، كإنسان يواجه أدوات النجارة ويعطى منشاراً وفأساً وما إليهما من أدوات، دون أن يملك أفكاراً عامّةً عن عمليّة النجارة وطريقة استخدام تلك الأدوات.
فعلم الأصول يبحث عن نوعٍ خاصٍ من عمليّة التفكير، أي عن عمليّة التفكير الفقهيّ في استنباط الأحكام الشرعيّة، ويدرس العناصر المشتركة التي يجب أن تدخل فيها لكي يكون الاستنباط سليماً. فهو يعلّمنا كيف نستنبط الحكم بحرمة الارتماس على الصائم، وكيف نستنبط اعتصام ماء الكرّ، وكيف نستنبط الحكم باستحباب صلاة العيد أو وجوبها، وذلك بوضع المناهج العامّة، وتحديد العناصر المشتركة لعملية الاستنباط. وعلى هذا الأساس يصحّ أن يطلق على علم الأصول اسم (منطق علم الفقه) لأنّه بالنسبة إليه بمثابة المنطق بالنسبة إلى الفكر البشري بصورة عامّة، فكما أنّ المنطق يصحّح التفكير البشريّ بشكلٍ عامّ، كذلك الأصول يصحّح التفكير لكن لا مطلق التفكير، وإنّما التفكير الفقهيّ خاصّةً. وهذه ميزةٌ كبيرةٌ لعلم الأصول أعطته وسام السبق في الأهميّة بين العلوم الإسلاميّة، لما له من ارتباطٍ مباشرٍ بالفقه واستنباط الحكم الشرعيّ. وبقدر ما اتسع الالتفات تدريجاً من خلال البحث الفقهيّ إلى العناصر المشتركة، اتسع علم الأصول وازداد أهميّةً.
3- الأصول والفقه النظريّة والتطبيق
ولا يُتصوّر أن من يدرس في علم الأصول العناصر المشتركة ويحدّدها، ويتناول بحوث علم الفقه العناصر الخاصّة، ليكمل بذلك عمليّة الاستنباط، يبقى عليه أن يستخرج الروايات والنصوص من مواضعها، وبإضافتها إلى العناصر المشتركة يستنبط منها الحكم الشرعيّ، وهذا جهدٌ علميٌّ بسيطٌ جداً.
فإنّ هذا التصور خاطئٌ جدّاً، لأنّ المجتهد إذا حدّد العناصر المشتركة في علم الأصول، لا يكتفي بتجميعٍ أعمى للعناصر الخاصّة من كتب الأحاديث والروايات مثلاً، بل يبقى عليه أن يمارس في علم الفقه تطبيق تلك العناصر المشتركة ونظريّاتها العامّة على العناصر الخاصّة. والتطبيق مهمّةٌ فكريّة تحتاج إلى درسٍ وتمحيصٍ. ولا يغني الجهد العلميّ المبذول أصوليّاً عن بذل جهدٍ جديدٍ في التطبيق، فلنفرض مثلاً أنّ المجتهد آمن في علم الأصول بحجيّة الظهور العرفيّ، فهل يكفيه أن يضع إصبعه على مكاتبة عليّ بن مهزيار التي حدّدت مجالات الخمس ليضيفها إلى العنصر المشترك، ويستنبط من ذلك عدم وجوب الخمس في ميراث الأب؟! أوليس المجتهد بحاجةٍ إلى تدقيق مدلول النصّ في الرواية لمعرفة نوع مدلوله في العرف العام، ودراسة كلّ ما يرتبط بتحديد ظهوره العرفيّ من قرائن وإمارات داخل إطار النصّ أو خارجه، لكي يتمكّن بأمانةٍ من تطبيق العنصر المشترك القائل بحجيّة الظهور العرفيّ؟
فالبحث الفقهيّ عن العناصر الخاصّة في عملية الاستنباط ليس مجرّد عمليّة تجميعٍ أعمى، بل هو مجال التطبيق للنظريّات الأصوليّة. وتطبيق النظريّات العامّة له دائماً موهبته الخاصّة ودقّته. ومجرّد الدقّة في النظريّات العامّة لا يغني عن الدقّة في تطبيقها. ألا ترون أن من يدرس بعمقٍ النظريّات العامّة في الطبّ يحتاج في مجال تطبيقها على حالةٍ مرَضيّةٍ إلى دقّةٍ وانتباهٍ كاملين، وتفكيرٍ في تطبيق تلك النظريّات على المريض الذي بين يديه؟ كذلك الحال في تطبيق الفقيه للعناصر العامّة والخاصّة في عمليّة الاستنباط.
خلاصة الدرس
بملاحظة تعريف علم الأصول المتقدّم في الدرس الأول نستطيع أن نعرف أنّ علم الأصول يدرس في الحقيقة العناصر المشتركة في علم الفقه لإثبات دليليّتها، فيبحث عن حجيّة الظهور المتقدّمة ليرى هل هي عنصرٌ مشتركٌ أم لا، وهل يصحّ الاعتماد عليها كدليل في الاستدلال الفقهيّ، وإلى أيّ مدى يمكن الاعتماد عليها؟ وهكذا بالنسبة لسائر الأدلّة والعناصر المشتركة.
وبهذا صحّ القول بأنّ موضوع علم الأصول هو "الأدلّة المشتركة في عمليّة الاستنباط".
ويصحّ أن يطلق على علم الأصول اسم منطق علم الفقه لأنّه بالنسبة إليه بمثابة المنطق بالنسبة إلى الفكر البشري بصورة عامّة. فكما أنّ المنطق يصحّح التفكير البشريّ بشكلٍ عامّ، كذلك الأصول يصحّح التفكير لكن لا مطلق التفكير، وإنّما التفكير الفقهيّ خاصّةً. وهذه ميزةٌ كبيرةٌ لعلم الأصول أعطته وسام السبق في الأهميّة بين العلوم الإسلاميّة، لما له من ارتباطٍ مباشرٍ بالفقه واستنباط الحكم الشرعيّ. وبقدر ما اتسع الالتفات تدريجياً من خلال البحث الفقهيّ إلى العناصر المشتركة، اتسع علم الأصول وازداد أهميّةً.
فالبحث الفقهيّ عن العناصر الخاصّة في عملية الاستنباط ليس مجرّد عمليّة تجميعٍ أعمى، بل هو مجال التطبيق للنظريّات الأصوليّة. وتطبيق النظريّات العامّة له دائماً موهبته الخاصّة ودقّته. ومجرّد الدقّة في النظريّات العامّة لا يغني عن الدقّة في تطبيقها.
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد و آل محمد وعجل فرجهم وفرجنا بهم يا كريم
مصادر التشريع
(البيان الشرعي والإجماع)
تمهيد:
تقدّم أنّ عمليّة الاستنباط تتألّف من عناصر مشتركة وعناصر خاصة، وأنّ علم الأصول هو العلم بالعناصر المشتركة في علميّة الاستنباط، حيث تُدرس فيه هذه العناصر وتحدّد وتنظم. وما دام علم الأصول هو العلم الذي يتكفّل بدراسة تلك العناصر فمن الطبيعيّ أن يبرز هذا السؤال:
ما هي وسائل الإثبات التي يستخدمها علم الأصول، لكي يثبت بها حجيّة الخبر أو حجيّة الظهور العرفيّ، أو غير ذلك من العناصر المشتركة في عمليّة الاستنباط؟ وبعبارةٍ أخرى، ما هي الأدوات وما هي المصادر التي يعتمد عليها الأصوليّ لإثبات القواعد العامّة والمشتركة في عمليّة الاستنباط؟
ولا يمكن لأيّ قاعدةٍ أن تكتسب صفة العنصر المشترك في عمليّة الاستنباط، ما لم يمكن إثباتها بإحدى هاتين الوسيلتين الرئيستين، فإذا حاول الأصوليّ مثلاً أن يدرس حجيّة الخبر لكي يدخله في عمليّة الاستنباط- إذا كان حجّة- يطرح على نفسه السؤال التالي: هل يمكن إثبات هذا العنصر المشترك ببيانٍ شرعيٍّ أو بإدراكٍ عقليٍّ؟ وبعبارةٍ أخرى، هل يوجد بيانٌ شرعي أو عقليّ يدلّ على حجيّة الخبر؟
ويحاول الأصوليّ الإجابة على هذا السؤال وفقاً للمستوى الذي يتمتّع به من الدقّة والانتباه، فإذا لم يجد وسيلةً شرعيّةً ولا عقليّة يثبت بها حجيّة الخبر، فهذا يعني أنّه استبعد الخبر عن نطاق الاستنباط، حيث لم يثبت أنّه عنصرٌ مشتركٌ. وأمّا إذا وجد وسيلةً واستطاع إثبات حجيّة الخبر ببيانٍ شرعيٍّ أو عقليٍّ، فهذا يعني دخولها في عمليّة الاستنباط بوصفها عنصراً أصوليّاً مشتركاً.
والمتتبّع للعناصر المشتركة والقواعد الأصوليّة يجد أنّ بعضها قد تمّ إثباته بوسيلة البيان الشرعيّ، من قبيل حجيّة الخبر، وحجية الظهور العرفيّ، وبعضاً آخر قد أُثبت بالإدراك العقليّ، من قبيل القانون القائل: "إن الفعل لا يمكن أن يكون واجباً وحراماً في وقتٍ واحدٍ".
الوسيلة الأوّلى، البيان الشرعيّ:
البيان الشرعيّ هو إحدى الوسيلتين الرئيستين لإثبات العناصر التي تساهم في عمليّة الاستنباط. ونقصد بالبيان الشرعيّ ما يلي:
1- الكتاب الكريم: وهو القرآن الذي أنزل بمعناه ولفظه على سبيل الإعجاز وحياً على أشرف المرسلين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم. ولا تنحصر الآيات القرآنيّة بالأحكام الشرعيّة، بل تطرّق القرآن الكريم إلى مئاتٍ من المواضيع المتنوّعة والمختلفة. وقد أحصى العلماء الآيات القرآنيّة الخاصّة بالأحكام فبلغت خمسمائة آيةٍ تقريباً، اشتهرت بآيات الأحكام. وقد صنّف العلماء كتباً عديدةً حول هذه الآيات، أشهرها كتاب (كنز العرفان) للفاضل المقداد السيوريّ المتوفي سنة 826 هـ.
وكتاب (زبدة البيان في تفسيرآيات الأحكام) للمقدّس الأردبيليّ المتوفي سنة 993 ه-، كما صنّف علماء السنّة كتباً حول هذه الآيات أيضاً.
والقرآن الكريم يعتبر المصدر الأساس للأحكام الشرعيّة، وللقواعد العامّة والعناصر المشتركة التي يتمسّك بها الأصوليّ والفقيه في عمليّة الاستنباط، عند جميع المسلمين، ما عدا فرقةٍ واحدةٍ عُرفت بالأخباريّين، فإنّها لم تجِز رجوع عامّة الناس إلى القرآن الكريم ، ويأتي الحديث عنهم إن شاء الله.
2- السنّة: وهي كلّ بيانٍ صادرٍ من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو أحد الأئمّة المعصومين عليهم السلام. والبيان الصادر عنهم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أ- قول المعصوم: وهو الكلام الذي يتكلّم به المعصوم عليه السلام.
ب- فعل المعصوم: وهو كلّ فعلٍ يصدر عن المعصوم عليه السلام.
ج- تقرير المعصوم: وهو سكوته عليه السلام عن وضعٍ معيّنٍ، بنحوٍ يكشف عن رضاه بذلك الوضع وانسجامه مع الشريعة.
ويجب الأخذ بكلّ هذه الأنواع من البيان الشرعيّ. وإذا دلّ شيءٌ منها على عنصرٍ مشتركٍ من عناصر عمليّة الاستنباط، ثبت ذلك العنصر المشترك واكتسب طابعه الشرعيّ.
الخلاف في السنّة:
لم يقع أيّ خلافٍ في حجيّة السنّة النبويّة، قولاً وفعلاً وتقريراً، وإنّما وقع الخلاف بين مدرسة الخلفاء ومدرسة أهل البيت عليهم السلام في السنّة المرويّة عن أهل البيت عليهم السلام، حيث ذهب أتباع هذه المدرسة للتمسّك بالسنّة المرويّة عن أهل البيت عليهم السلام أيضاً، مستندين في ذلك إلى بعض الآيات القرآنيّة، والأحاديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم المتواترة من الطرفين، منها قوله: " إنّي تاركٌ فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إنْ تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً".
كما أنّ السنّة المرويّة عن المعصوم عليه السلام على نحوين:
قطعيّة وظنيّة، أما القطعيّة فلم يقع فيها خلافٌ، وإنما الخلاف وقع في السنّة الظنيّة. وقد اصطلح على هذا النحو الأخير من السنّة بالخبر الواحد. ووقع خلافٌ في أنّه هل يجوز الاعتماد على السنّة الظنيّة؟ وبعبارةٍ أخرى هل أخبار الآحاد حجّة؟ وبمجرّد القول بصحّة الاعتماد على هذه الأخبار، تطرح أسئلةٌ كثيرةٌ، من قبيل إلى أيّ مدى يصحّ الاعتماد عليها؟ فهل يعتمد على الحديث الصحيح فقط، أو الموثق أيضاً، أو الضعيف كذلك؟ ومن هنا يفتح باب علم الرجال على مصراعيه لدراسة ومعرفة أحوال الرجال، الواقعين في سلسلة سند الحديث، ومعرفة العادل منهم، والثقة، والضعيف، وغير ذلك .
الإجماع:
وهو يعني اتفاق آراء علماء المسلمين على مسألةٍ، فهل يمكن أن يعتبر الإجماع- بهذا المعنى- وسيلة إثباتٍ للعناصر المشتركة في عمليّة الاستنباط؟ وهل يمكن أن يعتبر أيضاً مدركاً ومصدراً للأحكام الشرعيّة؟
والخلاف في الإجماع كان شديداً للغاية، حيث ترى مدرسة الخلفاء أصالةً للإجماع بما هو إجماعٌ، لأنّ اتفاق أهل الحلّ والعقد على مسألةٍ، يعني أنّهم قد أصابوا الصواب، ولا يمكن لهم جميعاً الخطأ. نعم لو لم يكن هناك إجماعٌ فإمكان الخطأ واردٌ بحقّ البعض، وأمّا لو اتفق جميع علماء المسلمين فلا يتصوّر في حقّهم جميعاً الخطأ، لذلك تتعامل هذه المدرسة مع الإجماع معاملة الوحي المنزل، وكأنّ حكم المجمعين هو حكم الله الذي لا يقبل الخطأ.
بينما مدرسة أهل البيت عليهم السلام، لا ترى للإجماع- بنفسه أيّ بما هو إجماعٌ- أيّ أصالةٍ واعتبارٍ وأهميّةٍ. نعم لقد اعتبروا الإجماعَ حجّةً، ويمكن الاعتماد عليه، اتفاقهم هذا يكشف عن تلقّيهم للمسألة المتّفق عليها من قبل المعصوم عليه السلام، فلا خصوصيّة للإجماع بما هو إجماع، وإنّما العبرة برأي المعصوم عليه السلام الذي يكشف عنه الإجماع، وبعبارةٍ أخرى، يمكن القول: إنّ الإجماع يكشف مضمون روايةٍ عن المعصوم عليه السلام غير مكتوبةٍ، ولكن قد مارسها المسلمون عمليّاً، فهي موجودةٌ في سلوكهم، ومُعاشةٌ في تصرّفهم.
ففي كلا المدرستين يعتبر الإجماع حجّةً، لكنّ الفارق بينهما جوهريٌّ، فمدرسة الخلفاء تقول إنّ الإجماع أصالةً هو الحجّة، وأمّا مدرسة أهل البيت عليهم السلام فتقول: إنّ الإجماع أصالةً ليس حجّةً، وإنّما هو حجّةٌ لكاشفيّته عن رأي المعصوم عليه السلام.
ولا يمكن لأيّ قاعدةٍ أن تكتسب صفة العنصر المشترك في عمليّة الاستنباط، ما لم يمكن إثباتها بإحدى هاتين الوسيلتين الرئيستين.
ونقصد بالبيان الشرعيّ ما يلي:
1- الكتاب الكريم.
2- السنّة: وهي كلّ بيانٍ صادرٍ عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو أحد الأئمّة المعصومين عليهم السلام. والبيان الصادر عنهم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أ- قول المعصوم.
ب- فعل المعصوم.
ج- تقرير المعصوم.
لم يقع أيّ خلافٍ في حجيّة السنّة النبويّة، قولاً وفعلاً وتقريراً، وإنّما وقع الخلاف في السنّة المرويّة عن أهل البيت عليهم السلام.
كما أنّ السنّة المرويّة عن المعصوم عليه السلام على نحوين:
قطعيّة وظنيّة، أما القطعيّة فلم يقع فيها خلافٌ، وإنما الخلاف وقع في السنّة الظنيّة. وقد اصطلح على هذا النحو الأخير من السنّة بالخبر الواحد.
وأمّا الإجماع فهو يعني اتفاق آراء علماء المسلمين على مسألةٍ. والخلاف فيه كان شديداً للغاية، حيث ترى مدرسة الخلفاء أصالةً للإجماع بما هو إجماعٌ، بينما تعتبر مدرسة أهل البيت عليهم السلام الإجماعَ حجّةً، لأنّ اتفاق علماء المسلمين على مسألةٍ يكشف عن تلقّيهم للمسألة المتّفق عليها من قبل الشارع، فلا خصوصيّة للإجماع بما هو إجماع.
اللهم صل على محمد و آل محمد وعجل فرجهم و فرجنا بهم يا كريم
مصادر التشريع
(الإدراك العقلي)
الوسيلة الثانية، الإدراك العقليّ:
الكلام في الإدراك العقليّ، فهو يعدّ الوسيلة الرئيسة الثانية التي تستخدم في بحوث علم الأصول لإثبات العناصر المشتركة في عمليّة الاستنباط، إذ قد يكون العنصر المشترك في عمليّة الاستنباط ممّا ندركه بعقولنا، من دون حاجةٍ إلى بيانٍ شرعيٍّ لإثباته، من قبيل القانون القائل: "إنّ الفعل لا يمكن أن يكون حراماً وواجباً في وقتٍ واحدٍ"، أو القاعدة القائلة: "إذا وجب شيءٌ وجبت مقدمته"، حيث لا نحتاج في إثبات هذين القانونين إلى بيانٍ شرعيٍّ يشتمل على صيَغٍ من هذا القبيل، بل هما ثابتان عن طريق العقل، لأنّ العقل يدرك أنّ الوجوب والحرمة صفتان متضادّتان، والشيء الواحد لا يمكن أن يشتمل على صفتين متضادّتين، فكما لا يمكن أن يتّصف الجسم بالحركة والسكون في وقتٍ واحدٍ، كذلك لا يمكن أن يتّصف الفعل بالوجوب والحرمة معاً، كذلك يدرك أنّه إذا وجب شيءٌ بحكم الشرع، فيجب بحكم العقل على المكلّف أن يهيّئ جميع مقدّماته، فوجوب المقدّمة ثابتٌ بحكم العقل، من دون حاجةٍ لبيانٍ شرعيٍّ لإثباته.
الخلاف في الإدراك العقليّ:
وقد وقع الخلاف الحادّ بين المسلمين حول اعتبار العقل مصدراً من مصادر التشريع الإسلاميّ، وهو خلافٌ لعلّه أكثر خطورةً من الخلاف الحاصل في الإجماع، حيث إن للعقل درجاتٍ مختلفةً:
أ- الإدراك الكامل القطعيّ: وهو أن يدرك العقل حقيقةً من الحقائق إدراكاً لا يُحتمل فيه الخطأ والاشتباه أبداً، كإدراكه أنّ زوايا المثلث تساوي قائمتين، وأنّ الضدّين لا يجتمعان، وأنّ الأرض كرويةٌ، وأنّ الماء يكتسب الحرارة من النار إذا قرّب منها.
ب- الإدراك العقليّ الناقص: وهو ميل العقل نحو ترجيح شيءٍ دون الجزم به، لاحتمال الخطأ، كإدراكنا أنّ الجواد الذي سبق في مناوراتٍ سابقةٍ سوف يسبق في المرّة القادمة أيضاً، وأنّ الدواء الذي نجح في علاج أمراضٍ معيّنةٍ سوف ينجح في علاج أعراضٍ مرَضيّة مشابهةٍ، وأنّ الفعل المشابه للحرام في أكثر خصائصه يشاركه في الحرمة.
والسؤال الأساس في هذا البحث والذي يتمحور حوله الخلاف بين المدارس الإسلاميّة هو: ما هي حدود العقل أو الإدراك العقليّ الذي يقوم بدور الوسيلة الرئيسة لإثبات العناصر المشتركة في عمليّة الاستنباط؟ فهل يمكن استخدام الإدراك العقليّ كوسيلةٍ للإثبات مهما كانت درجته؟ أو لا يجوز استخدام الإدراك العقليّ كوسيلةٍ للإثبات إلا ضمن حدود معيّنةٍ؟
وقد اختلفت الاتجاهات حول مدى شمول العقل وحدوده- بوصفه وسيلةَ إثباتٍ رئيسةٍ- فهل يشمل الإدراكات الناقصة التي تؤدّي إلى مجرّد الترجيح؟ أو أنّه يختصّ بالإدراك الكامل المنتج للجزم واليقين؟
الاتجاهات المتعارضة في الإدراك العقلي:
وبعد أن تعرّضنا للإدراك العقليّ، نلفت النظر إلى أنّ أهمّ من عارضه من مدرسة أهل البيت عليهم السلام هم الأخباريّون، حتى صارت معارضتهم للعقل سمةً بارزةً لحركتهم. ولذلك من الجدير أن نتعرّض لهذه الحركة التي كان لها الدور البارز في تفعيل عجلة الأصول، من خلال محاربتها لدور لعقل وبالتالي للاجتهاد. ولتوضيح هذه الحركة جيّداً نذكر الاتجاهات التي طرحت في مجال الإدراك العقليّ.
فإنّ تاريخ التفكير الفقهيّ قد شهد بالنسبة للإدراك العقليّ اتجاهين متعارضين كلّ التعارض، و واتجاهاً ثالثاً وسطياً بينهما:
الاتجاه الأوّل، مدرسة الرأي: يدعو إلى اتخاذ العقل في نطاقه الواسع الذي يشمل حتى الإدراكات الناقصة، وسيلةً رئيسةً للإثبات، وفي مختلف المجالات التي يمارسها الأصوليّ والفقيه.
الاتجاه الثاني، الحركة الأخباريّة: يشجب العقل ويجرّده إطلاقاً عن وصفه وسيلةً رئيسةً للإثبات، ويعتبر البيان الشرعيّ هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن استخدامها في عمليّات الاستنباط.
الاتجاه الثالث، الأصوليّون: وهو اتجاهٌ معتدلٌ يقف بين هذين الاتجاهين المتطرّفين، يتمثّل في جلّ فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام. وهو الاتجاه الذي يؤمن- خلافاً للاتجاه الثاني- بأنّ العقل أو الإدراك العقليّ وسيلةٌ رئيسةٌ صالحةٌ للإثبات إلى صفّ البيان الشرعيّ، ولكن لا في نطاقه الواسع- كما زعمه الاتجاه الأوّل- بل ضمن نطاق الإدراك العقليّ الكامل الذي يوصل إلى الجزم، ولا يوجد في مقابله احتمال الخطأ. فكلّ إدراكٍ عقليٍّ يدخل ضمن هذا النطاق ويستبطن الجزم الكامل فهو وسيلة إثباتٍ. وأمّا الإدراك العقليّ الناقص الذي يقوم على أساس الترجيح، ولا يتوفّر فيه عنصر الجزم، فلا يصلح وسيلة إثباتٍ لأيّ عنصرٍ من عناصر عمليّة الاستنباط.
فالعقل في رأي الاتجاه الثالث أداةٌ صالحةٌ للمعرفة، وجديرةٌ بالاعتماد عليها والإثبات بها، فيما لو أدّت إلى إدراك حقيقةٍ من الحقائق إدراكاً كاملاً لا يشوبه أيّ شكٍّ. فلا إفراط في الاعتماد على العقل حتى فيما لا ينتج عنه إدراكٌ كاملٌ وجزمٌ، ولا كفران بالعقل كأداةٍ للمعرفة.
وقد تطلّب هذا الاتجاه المعتدل الذي مثّله جلّ فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام أن يخوضوا معركةً في جبهتين: إحداهما ضدّ أنصار الاتجاه الأوّل، الذي كانت مدرسة الرأي في الفقه تتبنّاه بقيادة جماعةٍ من أقطاب علماء العامّة، والأخرى معركةٌ ضدّ الاتجاه الثاني الذي شكّل حركةً داخليّةً نشأت داخل صفوف الفقهاء الإماميّين، متمثّلة في المحدّثين والأخباريّين من علماء الشيعة، الذين شجبوا العقل، وادعوا أنّ البيان الشرعيّ هو الوسيلة الوحيدة التي يجوز استخدامها للإثبات. وهكذا نعرف أنّ المعركة الأوّلى كانت ضدّ استغلال العقل، وضدّ الاجتهاد بمعنى القياس والرأي، والأخرى كانت إلى صفّ العقل، وضدّ الأخباريّة الحركة التي حاربت العقل بالمطلق. وهذا ما سنطّلع عليه في الدرس اللاحق إن شاء الله تعالى.
خلا صة الدرس
الكلام في الإدراك العقليّ، من قبيل القانون القائل: "إذا وجب شيءٌ وجبت مقدمته". وقد وقع الخلاف الحادّ أيضاً بين المسلمين حول اعتبار العقل مصدراً من مصادر التشريع الإسلاميّ. وهو خلافٌ لعلّه أكثر خطورةً من الخلاف الحاصل في الإجماع، حيث إن للعقل درجاتٍ مختلفةً:
أ- الإدراك الكامل القطعيّ.
ب- الإدراك العقليّ الناقص.
فما هي حدود العقل أو الإدراك العقليّ الذي يقوم بدور الوسيلة الرئيسة لإثبات العناصر المشتركة في عمليّة الاستنباط؟
وقد اختلفت الاتجاهات حول مدى شمول العقل وحدوده، فهل يشمل الإدراكات الناقصة التي تؤدّي إلى مجرّد الترجيح؟ أو أنّه يختصّ بالإدراك الكامل المنتج للجزم واليقين؟
إنّ تاريخ التفكير الفقهيّ قد شهد بالنسبة للإدراك العقليّ اتجاهين متعارضين كلّ التعارض، و واتجاهاً ثالثاً وسطياً بينهما:
الاتجاه الأوّل، مدرسة الرأي.
الاتجاه الثاني، الحركة الأخباريّة.
الاتجاه الثالث، الأصوليّون.
اللهم صل على محمد و آل محمد و عجل فرجهم و فرجنا بهم يا كريم
الإجتهاد ومدرسة الرأي
تمهيد:
إنّ الإنسان بحكم تبعيته للشريعة ووجوب امتثاله لأحكامها، ملزمٌ بتحديد موقفه العمليّ منها. وعندما لم تكن أحكام الشريعة في الغالب واضحةً بنحوٍ تغني فيه عن إقامة الدليل، فلا يعقل أن يحجر على الناس جميعاً تحديد الموقف العمليّ تجاه الشريعة تحديداً استدلاليّاً، فعملية استنباط الحكم الشرعيّ لتحديد الموقف العمليّ للمكلّف ليست عمليّةً جائزةً فحسب، بل هي ضروريّةٌ وينبغي ممارستها، وذلك بحكم تبعيّة الإنسان للشريعة.
ولكن اكتسبت هذه العمليّة صيغةً أخرى لا تخلو عن غموضٍ، فاستخدمت كلمة (الاجتهاد) للتعبير عن عمليّة الاستنباط، وطرح السؤال بهذه الصيغة: "هل يجوز الاجتهاد في الشريعة أو لا؟" فدخلت كلمة الاجتهاد في السؤال- وهي كلمةٌ مرّت بمصطلحاتٍ عديدةٍ في تاريخها- وأدّى ذلك إلى أن يتحمّل هذا السؤال المعاني والمصطلحات السابقة لهذه الكلمة. ونتيجة الفهم الخاطئ لبعض مصطلحاتها، والغفلة عن تطوّر الاصطلاح، رفض جماعةٌ من علمائنا المحدثين عمليّة الاجتهاد، وشجبوا علم الأصول كلّه، لأنّه إنما يراد لأجل الاجتهاد، فإذا ألغي الاجتهاد لم يعد هناك أيّ حاجةٍ إلى علم الأصول.
مدرسة الرأي
قامت منذ أواسط القرن الثاني مدرسةٌ فقهيّةٌ واسعة النطاق، تحمل اسم مدرسة الرأي والاجتهاد، وتطالب باتخاذ العقل- بالمعنى الواسع الذي يشمل الترجيح والظنّ والتقدير الشخصيّ للموقف - أداةً رئيسةً للإثبات إلى صفّ البيان الشرعيّ، ومصدراً للفقيه في الاستنباط، وأطلقت عليه اسم الاجتهاد. وكان على رأس هذه المدرسة أو من روّادها الأوّلين أبو حنيفة (المتوفي سنة 150هـ). والمأثور عن رجالات هذه المدرسة أنّهم كانوا حيث لا يجدون بياناً شرعيّاً يدلّ على الحكم يدرسون المسألة على ضوء أذواقهم الخاصّة، وما يدركون من مناسباتٍ وما يتفتق عنه تفكيرهم الخاصّ، من مرجّحات لهذا التشريع على ذاك، ويفتون بما يتّفق مع ظنّهم وترجيحهم، ويسمون ذلك استحساناً أو اجتهاداً.
وجاء في كلام لأبي حنيفة وهو يحدّد نهجه العام في الاستنباط: "إذا لم أجد في كتاب الله ولا في سنّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أخذت بقول أصحابه، فإذا اختلفت آراؤهم في حكم الواقعة آخذُ بقول من شئت، وأدع من شئت، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم من التابعين. فإذا انتهى الأمر أو جاء الأمر إلى إبراهيم والشعبيّ وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن جبير- وعدّد رجالاً- فقومٌ اجتهدوا فأجتهد كما اجتهدوا".
والفكرة الأساس التي دعت إلى قيام هذه المدرسة، متبنية ً العقل بنطاقه الواسع وسيلةً رئيسةً للإثبات، ومصدراً لاستنباط الحكم، هي الفكرة الشائعة في صفوف تلك المدرسة القائلة: "إنّ البيان الشرعيّ المتمثّل في الكتاب والسنّة قاصرٌ، ولا يشتمل إلا على أحكام قضايا محدودة، ولا يتّسع لتعيين الحكم الشرعيّ في كثيرٍ من القضايا والمسائل لكثرتها وتجدّدها".
وقد ساعد على شيوع هذه الفكرة في صفوف فقهاء العامّة اتجاههم المذهبيّ السنيّ، إذ كانوا يعتقدون أنّ البيان الشرعيّ يتمثّل فقط في الكتاب والسنّة النبويّة المأثورة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وحيث لم يكن هذا يفي إلا بجزءٍ من حاجات الاستنباط، اتجهوا إلى علاج الموقف وإشباع هذه الحاجات عن طريق توسعة دور العقل والمناداة بمبدأ الاجتهاد.
أ- المعنى الأوّل للاجتهاد:
وهذا هو المعنى الأوّل للاجتهاد، حيث فسّر بأنّ للفقيه الحقّ في إعمال ذوقه ورأيه، في كلّ ما يراه قريباً من العدل والحقّ ويحكم به. ولذا صار الاجتهاد عندهم من مصادر التشريع، فعدّوها أربعة: الكتاب والسنّة والإجماع و الاجتهاد (القياس) الذي يُرجَعُ إليه مع عدم وجود الحكم في المصادر السابقة.
ولذلك نجد أتباع مدرسة الخلفاء يرْوُون رواياتٍ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تجيز الاجتهاد، كرواية معاذ بن جبل عندما أرسله النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن قال له: (كيف تقضي إذا عرض لك قضاءٌ؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فإن لم تجد في سنّة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على صدره وقال:
الحمد لله الذي وفّق رسولَ رسولِ الله لما يرضى به رسول الله)، وما ورد من أنّه صلى الله عليه وآله وسلم أمر بعض أصحابه أن يجتهدوا إذا لم يجدوا الحكم في الكتاب أو السنّة، بل يقولون إن بعض أحكام النبيّ نفسها اجتهاديّة لم تستند إلى وحيٍ، ثم جاء في كتبهم الأصوليّة التساؤل عمّا إذا كان في اجتهادات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما يجوز فيه الخطأ أم لا ؟
فالفقيه عندما لا يجد نصّاً شرعيّاً من القرآن أو السنّة يعتمد عليه، يرجع إلى تفكيره الخاصّ، فيبني على ما يرجح في فكره الشخصيّ من تشريعٍ، وقد يعبّر عنه بالرأي أيضاً. فالاجتهاد بهذا المعنى يعتبر دليلاً من أدلّة الفقيه، ومصدراً ثالثاً من مصادره. وقد نادت بهذا المعنى للاجتهاد مدارس كبيرةٌ في الفقه السنيّ، على رأسها مدرسة أبي حنيفة.
موقف مدرسة أهل البيت عليهم السلام:
وقد واجه هذا الاتجاه وهذا المعنى للاجتهاد معارضةً شديدةً من أئمة أهل البيت عليهم السلام. والروايات الواردة عنهم عليهم السلام والتي تذمّ الاجتهاد، تريد هذا المعنى، وهو التفكير الشخصيّ الذي يكون مصدراً من مصادر الحكم، وكذلك الحال بالنسبة للفقهاء المنتسبين لمدرستهم عليهم السلام، فقد شنّوا حملةً كبيرةً وصنّفوا كتباً في الردّ على الاجتهاد بهذا المعنى كالشيخ الطوسيّ مثلاً، وخاضوا معركةً خطرةً ضدّ هذا الاتجاه العقليّ المتطرّف. ولم تكن معركةً ضدّ اتجاهٍ أصوليٍّ فحسب، بل هي في حقيقتها معركةٌ للدفاع عن الشريعة وتأكيد كمالها واستيعابها وشمولها لمختلف مجالات الحياة، ولهذا استفاضت الأحاديث عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام في عصر تلك المعركة تؤكّد اشتمال الشريعة على كلّ ما تحتاج إليه الإنسانيّة من أحكام وتنظيم في شتّى مناحي حياتها، وتؤكّد أيضاً وجود البيان الشرعيّ الكافي لكلّ تلك الأحكام، متمثّلاً في الكتاب والسنّة النبويّة وأقوالهم عليهم السلام.
1- عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ الله تعالى أنزل في القرآن تبيان كلّ شيءٍ، حتى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبد أن يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن، إلا وقد أنزله الله فيه".
2- عنه عليه السلام أيضاً أنّه قال: "ما من شيءٍ إلا وفيه كتابٌ أو سنّةٌ".
3- وفي حديث عن الإمام الصادق عليه السلام يصف فيه الجامعة التي تضمّ أحكام الشريعة، فيقول: "فيها كلّ حلالٍ وحرامٍ وكلّ شيءٍ يحتاج الناس إليه حتى الأرش في الخدش".
وبعد هذه الحملة الكبيرة من الأئمة عليهم السلام والفقهاء من مدرستهم، على اتجاه مدرسة الرأي، وتفسير الاجتهاد بهذا المعنى، اكتسبت الكلمة طابعاً من الكراهيّة والاشمئزاز في الذهنيّة الفقهية الإماميّة. وعلى هذا الضوء يمكننا أن نفسّر موقف جماعة من المحدّثين، عارضوا الاجتهاد وبالتالي شجبوا علم الأصول. فإنّ هؤلاء استفزّتهم كلمة الاجتهاد لما تحمل من تراث المصطلح السنّيّ الذي شجبه أهل البيت عليهم السلام، فحرّموا الاجتهاد مطلقاً حتى ذاك الذي حمل المجتهدون من فقهائنا رايته، واستدلّوا على ذلك بموقف الأئمة عليهم السلام ومدرستهم الفقهيّة ضدّ الاجتهاد، وهم لا يعلمون أنّ ذلك الموقف كان ضدّ المعنى السنّيّ للاجتهاد، والفقهاء من الأصحاب قالوا بمعنى آخر للكلمة.
خلا صة الدرس
قامت منذ أواسط القرن الثاني مدرسةٌ فقهيّةٌ واسعة النطاق، تحمل اسم مدرسة الرأي والاجتهاد، وتطالب باتخاذ العقل- بالمعنى الواسع الذي يشمل الترجيح والظنّ والتقدير الشخصيّ للموقف - أداةً رئيسةً للإثبات إلى صفّ البيان الشرعيّ، ومصدراً للفقيه في الاستنباط، وأطلقت عليه اسم الاجتهاد. وكان على رأس هذه المدرسة أو من روّادها الأوّلين أبو حنيفة. والمأثور عن رجالات هذه المدرسة، أنّهم كانوا حيث لا يجدون بياناً شرعيّاً يدلّ على الحكم يدرسون المسألة على ضوء أذواقهم الخاصّة، وهذا هو المعنى الأوّل للاجتهاد، حيث فسّر بأنّ للفقيه الحقّ في إعمال ذوقه ورأيه.
وقد واجه هذا الاتجاه وهذا المعنى للاجتهاد معارضةً شديدةً من أئمّة أهل البيت عليهم السلام. والروايات الواردة عنهم عليهم السلام والتي تذمّ الاجتهاد، تريد هذا المعنى.
اللهم صل على محمد و آل محمد و عجل فرجهم و فرجنا بهم يا كريم
الإجتهاد الجديد والحركة الإخبارية
الحركة الإخباريّة:
وهي اتجاهٌ متطرّفٌ يدعو إلى التَّ-ع-بُّد فقط بالبيان الشرعيّ من أخبارٍ وأحاديث، وينكر دور العقل في مختلف الميادين، لأنّ العقل عرضةٌ للخطأ، وتأريخ الفكر العقليّ زاخرٌ بالأخطاء، فلا يصلح لكي يستعمل أداة إثباتٍ في أيّ مجالٍ من المجالات الدينيّة، ويشن حملةً شديدةً ضدّ الاجتهاد أيضاً. وقد وجدت هذه الحركة داخل نطاق الفكر الإماميّ،وتمثّلت في جماعةٍ من علمائنا قبل أربعة قرون تقريباً، وبرزت على يد مؤسسها الشيخ أمين الاسترآبادي.
ويدّعي الإخباريّون أنّ حركتهم ليست جديدةً، ولا هي من إبداع الملا أمين، وإنّما هي امتدادٌ وإحياءٌ لطريقة القدماء وأهل الحديث، الذين عاصروا أئمة أهل البيت عليهم السلام أو قاربوا عصرهم كالشيخ الصدوق وأمثاله. لكنّ انحراف الناس باتِّباع أقوال ابي عقيل العمانيّ والشيخ المفيد والسيّد المرتضى والشيخ الطوسيّ وأمثالهم، أبْعَدَهُم عن الطريق المستقيم.
وينقل الشيخ يوسف البحرانيّ وهو أخباريٌّ معتدلٌ عن السيّد نعمة الله الجزائريّ: "إنّ أكثر أصحابنا قد اتّبعوا جماعةً من المخالفين، من أهل الرأي والقياس، ومن أهل الطبيعة والفلاسفة وغيرهم من الذين اعتمدوا على العقول واستدلالاتها، وطرحوا ما جاء به الأنبياء عليهم السلام حيث لم يأتِ على وفق عقولهم...".
ووضع مؤسّس هذه الحركة كتابه المشهور: الفوائد المدنيّة، بلوَر فيه هذا الاتجاه، وبرهن عليه وجعله مذهباً فقهياً. وهو يؤكّد فيه أنّ العلوم البشرية على قسمين:
أحدهما: العلم الذي يستمدّ قضاياه من الحسّ، وقضاياه في زعمه تستمد خيوطها الأساسية من الحسّ.
والآخر: العلم الذي لا يقوم البحث فيه على أساس الحسّ، ولا يمكن إثبات نتائجه بالدليل الحسيّ، كبحوث ما وراء الطبيعة التي تدرس قضايا بعيدةً عن متناول الحسّ وحدوده، من قبيل تجرّد الروح، وبقاء النفس بعد البدن، وحدوث العالم.
وفي عقيدة المحدّث الاسترآبادي أن القسم الأوّل من العلوم البشريّة هو وحده الجدير بالثقة، لأنّه يعتمد على الحسّ، وأمّا القسم الثاني فلا قيمة له، ولا يمكن الوثوق بالعقل في النتائج التي يصل إليها في هذا القسم، لانقطاع صلته بالحسّ. وهكذا يخرج الاسترآبادي من تحليله للمعرفة بجعل الحسّ معياراً أساساً لتمييز قيمة المعرفة، ومدى إمكان الوثوق بها.
ونحن في هذا الضوء نلاحظ بوضوحٍ اتجاهاً حسيّاً في أفكار المحدّث الاسترآباديّ، يميل به إلى المذهب الحسيّ في نظريّة المعرفة، القائل بأنّ الحسّ هو أساس المعرفة. ولأجل ذلك يمكننا أن نعتبر الحركة الأخباريّة في الفكر العلميّ الإسلامي أحد المسارب التي تسرّب منها الاتجاه الحسيّ إلى تراثنا الفكريّ.
وقد أدّت هذه الحركة ضدّ المعرفة العقليّة المنفصلة عن الحسّ- في نهاية المطاف- إلى المعارضة النظريّة لكلّ الأدلّة العقليّة، حتى تلك التي يستدلّ بها المؤمنون على وجود الله سبحانه، لأنّها تندرج في نطاق المعرفة العقليّة المنفصلة عن الحسّ.
فكانت الحركة الأخباريّة تستبطن في رأي كثيرٍ من ناقديها تناقضاً، لأنّها من ناحيةٍ شجبت العقل، لكي تخلّي ميدان التشريع والفقه للبيان الشرعيّ، وظلّت من ناحيةٍ أخرى متمسّكةً به لإثبات عقائدها الدينيّة، لأنّ إثبات الصانع والدين لا يمكن أن يكون عن طريق البيان الشرعيّ، بل يجب أن يكون عن طريق العقل.
أهم آراء الإخباريّين:
يمكن تلخيص دعوى الإخباريّين وآرائهم في النقاط التالية:
1- إنكار حجيّة ظهورات القرآن، فلا يمكن الاعتماد عليه، ودليلهُم: أنَّ القرآن لا يفهمُهُ إلا من خُوطِب به وهُم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام، فلا يمكن الاعتماد على الكتاب من دون مراجعة الروايات وما ورد عنهم عليهم السلام، فهم وحدهم القادرون على تفسيره وتأويله.
2- إنكار قيمة العقل، عمل الاسترآبادي جاهداً على إبطال حجيّة العقل، لأنّ العقل كثيراً ما يخطئ فيها، فرفض أيّ قيمةٍ للفلسفة الأوّليّة والعلم الإلهيّ، لأنّه يعتمد على العقل، وحصر حجيّة العقل وقيمته في موردين:
الأول: العلوم الطبيعيّة ذات المبادئ والمقدمات الحسيّة.
الثاني: في ما يقرب من الأمور الحسيّة كعلوم الرياضيات والهندسة.
كما أنكر الاجتهاد أيضاً حتى بمعناه الجديد المقبول عند الشيعة قائلاً: إنّه بدعةٌ في الدين، ولا يجوز لأحدٍ أن يقلّد غير المعصوم.
3- إنكار الإجماع: لأنَّه بدعةٌ، جاء به أهل السُّنة. وبذلك فلا يسْلَم عند الأخباريّين من المصادر الأربعة للشريعة إلا السنّة وهي: الروايات والأخبار الواردة عن النبي وأهل بيته عليهم السلام.
4- كما أنّهم يعتقدون بصحَّة جميع الأخبار خصوصاً الواردة في الكتب الأربعة، واعتبروها قطعيّة الصدور عن المعصوم عليه السلام، فرفضوا تقسيم الأخبار وتوثيق الرجال وتضعيفهم، لأنّ هذه الأبحاث كالقياس وغيره معتمدةٌ على العقل. ولذا هاجم الملا أمين العلامةَ الحلّي بعنفٍ لأنّه قسَّم الخبر إلى أقسامٍ أربعةٍ: الصحيح والحسن وموثوق الصدور والضعيف.
ب- المعنى الجديد للاجتهاد:
وقد بقي الاجتهاد يستعمل بمعنى إعمال الرأي الشخصيّ، إلى القرنين الرابع والخامس، ثمّ طرأ عليه التغيير في القرون المتأخرة، ولبس معناه حلّةً جديدةً جعلته مقبولاً عند علماء الشيعة، فصار كلمةً إسلاميّةً عامّةً ذات محتوى فكريٍّ عباديٍّ سياسيٍّ، حيث صار بمعنى: (بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية)، فنرى الغزاليّ تارةً يستعمله بالمعنى القديم، وأخرى يطلق عليه معنىً عاماً جديداً، حيث يقول: (هو بذل الجهد واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال)، إلى أن أصبح اللفظ في عرف العلماء مخصوصاً ببذل المجتهد وُسعَه في طلب العلم بأحكام الشريعة، عندها قَ-بِلَه علماء الشيعة وأخذ طريقه إلى الفقه الشيعيّ، لأنّه خرج عن معنى إعمال الرأي والقياس.
ولعلّ أوّل من قِبل الاجتهاد بهذا المعنى الجديد هو العلامة الحلّي، في كتابه (تهذيب الأصول) حيث عقد في كتابه فصلاً للاجتهاد واستعمل الكلمة بمعناها الشائع اليوم. وهو في عرف الفقهاء: "بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعيّة. وبهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام من أدلّة الشرع اجتهاداً، لأنها تبتنى على اعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الأكثر سواء كان ذلك الدليل قياساً أم غيره، فيكون القياس على هذا التقرير أحد أقسام الاجتهاد.
فإن قيل: يلزم على هذا أن يكون الإماميّة من أهل الاجتهاد.
قلنا: الأمر كذلك، لكن فيه إيهام، من حيث أن القياس من جملة الاجتهاد، فإذا استثني القياس كنّا من أهل الاجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق النظريّة التي ليس أحدها القياس".
ويلاحظ على هذا النصّ بوضوحٍ، أنّ كلمة الاجتهاد كانت لا تزال في الذهنيّة الإماميّة مثقلةً بتبعة المصطلح الأوّل، ولهذا يلمح النصّ إلى أنّ هناك من يتحرّج من هذا الوصف، ويثقل عليه أن يسمى فقهاء الإماميّة مجتهدين.
الفرق الجوهريّ بين المصطلحين:
فبينما كان الاجتهاد مصدراً للفقيه يصدر عنه، ودليلاً يستدلّ به كما يصدر عن آيةٍ أو روايةٍ، أصبح في المصطلح الجديد يعبّر عن الجهد الذي يبذله الفقيه في استخراج الحكم الشرعيّ من أدلّته ومصادره. فلم يعد مصدراً من مصادر الاستنباط، بل هو نفس عمليّة استنباط الحكم من مصادره التي يمارسها الفقيه. والفرق بين المعنيين جوهريٌّ للغاية، إذ كان للفقيه على أساس المصطلح الأوّل للاجتهاد أن يستنبط من تفكيره الشخصيّ وذوقه الخاصّ في حالة عدم توفّر النصّ، وأمّا على أساس المصطلح الجديد فهو لا يسمح للفقيه أن يبرّر أيّ حكمٍ من الأحكام بالاجتهاد، لأنّه نفس عمليّة استنباط الأحكام من مصادرها.
وإذا قال الفقيه- بناءً على المصطلح الأوّل- هذا رأيي أو اجتهادي، فهو يبيّن مصدراً من مصادر التشريع، ولا يحق لأحدٍ الاعتراض عليه أو التحقّق منه. بينما لو قال- بناءً على المصطلح الثاني الجديد- هذا رأيي أو اجتهادي، فيمكن أن يسأل عن تلك المصادر والأدلّة التي استنبط الحكم منها.
ج- المصطلح الأخير للاجتهاد:
ثمّ تطوّر هذا المعنى لكلمة الاجتهاد أيضاً، واتسع نطاق الاجتهاد ليشمل عمليّة استنباط الحكم من ظاهر النصّ أيضاً، لأنّ الأصوليين بعد هذا لاحظوا بحقٍّ أنّ عمليّة استنباط الحكم من ظاهر النصّ تستبطن أيضاً كثيراً من الجهد العلميّ في سبيل معرفة الظهور وتحديده، وإثبات حجيّة الظهور العرفيّ، فدخل في الاجتهاد كلّ عمليّة يمارسها الفقيه لتحديد الموقف العمليّ تجاه الشريعة عن طريق إقامة الدليل على الحكم الشرعيّ، أو على تعيين الموقف العمليّ مباشرةً. وهكذا أصبح الاجتهاد يرادف عمليّة الاستنباط، وبالتالي أصبح علم الأصول العلم الضروريّ للاجتهاد، لأنّه العلم بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط. وبعد أن اتضحت معاني كلمة الاجتهاد أصبحت الإجابة على السؤال الذي طرح في بداية البحث واضحة جدّاً: "هل يجوز الاجتهاد في الشريعة أو لا؟"، وهي أنّ الاجتهاد بالمعنى الأوّل للكلمة لا يجوز من وجهة نظر مدرسة أهل البيت عليهم السلام، وهو ضروريّ بمعناه الأخير.
خلاصة الدرس
ظهرت الحركة الأخباريّة في القرن الحادي عشر الهجري، وهي اتجاهٌ متطرّفٌ يدعو إلى التَّ-ع-بُّد فقط بالبيان الشرعيّ من أخبارٍ وأحاديث، وينكر دور العقل في مختلف الميادين، لأنّ العقل عرضةٌ للخطأ، ويشن حملةً شديدةً ضدّ الاجتهاد أيضاً. وقد وجدت هذه الحركة داخل نطاق الفكر الإماميّ.
يمكن تلخيص دعوى الأخباريّين وآرائهم في النقاط التالية:
1- إنكار حجيّة ظهورات القرآن.
2- إنكار قيمة العقل.
3- إنكار الإجماع.
4- كما أنّهم يعتقدون بصحَّة جميع الأخبار خصوصاً الواردة في الكتب الأربعة.
ثمّ في القرون المتأخرة طرأ التغيير على مفهوم الاجتهاد، ولبس معناه حلّةً جديدةً جعلته مقبولاً عند علماء الشيعة، فصار كلمةً إسلاميّةً عامّةً ذات محتوى فكريٍّ عباديٍّ سياسيٍّ، حيث صار بمعنى: (بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعيّة).والفرق الجوهري بين اجتهاد أصحاب مدرسة الرأي والإجتهاد الجديد هو: بينما كان الاجتهاد مصدراً للفقيه يصدر عنه، ودليلاً يستدلّ به كما يصدر عن آيةٍ أو روايةٍ، أصبح في المصطلح الجديد يعبّر عن الجهد الذي يبذله الفقيه في استخراج الحكم الشرعيّ من أدلّته ومصادره. فلم يعد مصدراً من مصادر الاستنباط، بل هو نفس عمليّة استنباط الحكم من مصادره التي يمارسها الفقيه.
اللهم صل على محمد و آل محمد و عجل فرجهم و فرجنا بهم يا كريم
المدارس الأصوليّة (1)
تمهيد:
لقد كان المسلمون في راحةٍ في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من جهة التعرّف إلى أحكامهم الشرعيّة، وذلك لسببين رئيسين هما:
1- وجود الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بينهم، وهو مصدر التشريع الأساس بعد الله سبحانه، فهم كلّما تعرّضوا لمشكلةٍ سارعوا إليه في حلّها.
2- عدم اتساع دائرة الدولة الإسلاميّة، وعدم مواجهة المسلمين للمشاكل والمسائل الكثيرة، كما حدث ذلك بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم. حيث احتاجوا إلى الفحص عن أحكامهم في كلّ مستجدّاتهم.
القرآن والعترة:
وقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعلم بما سيواجه الأمّة من بعده من مشاكل ومسائل، فجعل مصدرين مهمّين يلجأ إليهما المسلمون في حلّ مشاكلهم، هما القرآن الكريم والعترة الطاهرة. وقد صرّح بذلك مراراً في طول حياته الشريفة، فقال: "إنّي تاركٌ فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما أن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً" فجعلهما في عرضٍ واحدٍ، وحثّ المسلمين على اتباعهما والتمسّك بهما. وبذلك يكون قد أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى أنّ القرآن- وإن كان هو المصدر الأصيل للتشريع- لكنّه يحتاج إلى مفسّرٍ، فجعل عترته الطاهرة- وهم الذين تربّوا في حجره وفي بيته الذي نزل فيه القرآن- مفسّرين له.
وبعد أن واجه المسلمون مسألة الخلافة بعد الرسول، حصل الانشقاق بينهم إلى فريقين: الأوّل اتبع قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فتمسّك بالكتاب والعترة معاً، والآخر رفض التمسّك بالعترة وقال: "حسبنا كتاب الله". وكان لهذا الانشقاق أثره الكبير في كيفيّة التفكير، وحلّ المشكلات.
ونحن إنّما نتعرّض للتفكير الأصوليّ خاصّةً في نطاق مدرسة أهل البيت عليهم السلام، ونقسّم الأدوار التي مرّ بها هذا التفكير إلى أربع مدارس:
المدرسة الأولى، ما قبل التأليف:
حيث وجدت بذرة التفكير الأصوليّ لدى الفقهاء من أصحاب الأئمّة عليهم السلام، منذ عصر الصادقين عليهم السلام. وقد كانت القواعد الأصوليّة آنذاك عبارة عن رواياتٍ وليست اصطلاحات كما هو متعارف في المدارس الأصوليّة المتأخرة.ونحن ذاكرون بعض الشواهد على هذه البذرة الأصوليّة، أي بذرة الاجتهاد لدى أصحاب الأئمّة:
الأول: هو وجود بعض الروايات في كتب الحديث يعود تاريخها إلى هذه المرحلة، يذكر فيها عدداً من العناصر المشتركة في عمليّة الاستنباط، كأصالة البراءة، وعدم التكليف بما لا يطاق، والاستصحاب، والعامّ والخاصّ، وحجيّة خبر الثقة، وعلاج الأخبار المتعارضة، وغيرها، وإليك بعضاً يسيراً من هذه الروايات:
1- محمّد بن علي بن الحسين قال وقال الصادق عليه السلام: "كلّ شيءٍ مطلقٌ حتى يرد فيه نهيٌ".
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "وضع عن أمّتي تسع خصالٍ: الخطاء والنسيان وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه..." .
2- محمّد بن يحيى وغيره، عن محمّد بن أحمد، عن الحسن بن الحسين اللؤلؤيّ بإسناده قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "الماء كله طاهر حتى يعلم أنه قذر".
3- محمّد بن إدريس في آخر (السرائر) نقلاً من كتاب هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول، وعليكم أن تفرّعوا".
4- وعنه (أي محمّد بن مسعود عن محمّد بن نصير، عن محمّد بن عيسى، عن عبد العزيز بن المهتدي والحسن بن عليّ بن يقطين جميعاً، عن الرضا عليه السلام قال: قلت: لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما أحتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبد الرحمن ثقةٌ، آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: نعم.
الثاني: وجود بعض الكتب والمؤلفات في مسائل أصول الفقه، لأصحاب الأئمة عليهم السلام:
1- هشام بن الحكم (ت: 199هـ): وهو يعدّ شيخ المتكلّمين في الأصوليين الإماميّة، من حواريي الإمام الصادق عليه السلام. صنّف كتاباً في مباحث الألفاظ، الذي يعدّ أكبر وأهمّ بابٍ في علم الأصول، وهو أوّل كتاب ألّف في هذا العلم .
2- يونس بن عبد الرحمن: قال عنه النجاشي: "مولى عليّ بن يقطين بن موسى، مولى بني أسد، أبو محمّد: كان وجهاً في أصحابنا متقدماً، عظيم المنزلة،... وروى عن أبي الحسن موسى والرضا عليهما السلام، وكان الرضا يشير إليه في العلم والفتيا... ".
3- أبو سهل النوبختيّ إسماعيل بن علي: ذكره ابن النديم وقال فيه إنّه "من كبار الشيعة... وكان فاضلاً عالماً متكلّماً، وله مجلسٌ يحضره جماعةٌ من المتكلمين،... وله من الكتب: (وذكر مجموعةً من الكتب ومنها) كتاب إبطال القياس،... كتاب نقض اجتهاد الرأي (في الردّ) على ابن الراوندي".
4- الحسن بن موسى النوبختي: قال فيه النجاشيّ: "شيخنا المتكلّم المبرز على نظرائه في زمانه قبل الثلاثمائة وبعدها. له على الأوائل كتبٌ كثيرةٌ منها (وعدّ كتباً كثيرةً) وكتاب الخصوص والعموم".
المدرسة الثانية، بداية التأليف الأصوليّ:
وهي المرحلة التي بدأ فيها الفقهاء من أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام بتأليف الكتب في خصوص هذا العلم، وإن كانت في بدايتها غير متطوّرةٍ، وبدائيةٍ، ولكن تعدّ في مجالها باكورةً وافتتاحاً لعلمٍ جديدٍ، فكانت هذه المؤلّفات السبب الأساس لتطوّر علم الأصول، وبروز مدارس جديدة متطوّرة.
أهمّ علماء الأصول في هذه المدرسة:
1- الشيخ ابن أبي عقيل: وهو أبو محمّد الحسن بن عليّ بن أبي عقيل النعمانيّ الحذّاء: أوّل من ألّف في علم الأصول كتاباً يحمل عنوان "المتمسّك بحبل آل الرسول"، كان معاصراً للشيخ محمد بن يعقوب الكليني، وللشيخ الصدوق علي بن بابويه القميّ.
2- الشيخ ابن الجنيد: وهو أبو علي محمّد بن أحمد بن جنيد الاسكافيّ: اقتفى أثر ابن أبي عقيل، فكان له في هذا المجال كتابان: الأوّل (كشف التمويه والإلباس على أغمار الشيعة في أمر القياس)، والثاني (إظهار ما ستره أهل العناد من الرواية عن أئمّة العترة في أمر الاجتهاد)، ذكرهما النجاشيّ ضمن فهرست كبيرٍ بأسماء كتبه قائلاً في حقّه: "أبو عليّ الكاتب الإسكافي وجه في أصحابنا، ثقةٌ، جليل القدر. صنّف فأكثر"، "قيل: مات بالري سنة 381 هـ".
3- الشيخ المفيد: وهو أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان: الملقّب بالمفيد، قال عنه النجاشيّ: "شيخنا وأستاذنا (رضي الله عنه). فضله أشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية والثقة والعلم. له كتب:
(ذكرها وعدّ منها) كتاب جواب المسائل في اختلاف الأخبار، كتاب مسألةٍ في القياس مختصر، كتاب مسألة في الإجماع، كتاب في القياس، كتاب النكت في مقدّمات الأصول، (...) مات رضوان الله عليه ليلة الجمعة لثلاث (ليالٍ) خلون من شهر رمضان سنة 413 هـ، وكان مولده يوم الحادي عشر من ذي القعدة سنة 336 هـ، وصلّى عليه الشريف المرتضى".
مشايخه: قرأ على كثيرٍ من العلماء ورواة الآثار من المدرستين، أشهرهم من مشايخ الخاصّة الشيخ جعفر بن محمّد بن قولويه القميّ، والشيخ الصدوق أبو جعفر بن بابويه القميّ، وأبو حسن أحمد بن الوليد، وأبو غالب الزراريّ.
تلامذته: تتلمذ على يديه جمعٌ غفيرٌ من أقطاب العلم أبرزهم الشريفان الرضيّ محمّد بن الحسين، وأخوه المرتضى علم الهدى.
4- السيد المرتضى: وهو عليّ بن الحسين بن موسى بن محمّد بن إبراهيم بن الإمام الكاظم عليه السلام.
قال عنه النجاشيّ: "حاز من العلوم ما لم يدانه فيه أحدٌ في زمانه، وسمع من الحديث فأكثر، وكان متكلّماً شاعراً أديباً، عظيم المنزلة في العلم والدين والدنيا. صنّف كتباً، (ذكرها ونحن نذكر منها ما يتعلّق في هذا العلم): الخلاف في أصول الفقه، شرح الخلاف، كتاب الذريعة،... مات (رضي الله عنه) لخمس بقين من شهر ربيع الأول سنة 436 هـ، وصلّى عليه ابنه في داره ودفن فيها، وتولّيت (أي الشيخ النجاشيّ) غسله ومعي الشريف أبو يعلى محمّد بن الحسن الجعفريّ وسلّار بن عبد العزيز".
- أبرز تلامذة المرتضى:
أ- الشيخ الطوسيّ: رئيس الطائفة وهو محمّد بن الحسن الطوسيّ (385- 460 هـ ).
ب- ابن سلّار: وهو حمزة بن عبد العزيز الديلميّ الملقّب بسلّار، المتوفي سنة 463 هـ، كان من خاصّة أصحاب المرتضى، عيّنه السيّد نائباً عنه في البلاد الحلبيّة، وكان من أبرز علماء الإماميّة وأعاظمها.
ج- القاضي البرّاج: وهو عبد العزيز بن البرّاج الطرابلسيّ، المتوفّى سنة 481 هـ، استلم القضاء في طرابلس مدّة عشرين سنة. كان وجهاً من وجوه الإماميّة وفقهائهم.
د- القاضي محمّد بن عليّ أبو الفتح الكراجكيّ، وهو مؤلّف كتاب كنز الفوائد، المتوفّى سنة 449 هـ.
ملامح المدرسة:
تقدّم أنّه في المدرسة الأولى كان الفقه عبارةً عن نقل الأحكام الشرعيّة عبر الأحاديث والروايات عن المعصوم عليه السلام، واستعراض للنصوص، أما هذه المدرسة فأهمّ ميّزاتها:
1- أنها بدأت معالجة النصوص والروايات، من خلال استخدام القواعد والأصول. فمن عصر ابن الجنيد حتى عصر الطوسيّ تحوّلت عملية استنباط الحكم الشرعيّ من عرض النصوص إلى عمليّة فكريّة تستعمل القواعد والأصول، تبتنى على أسس خاصّةٍ. نعم لم تبلغ هذه القواعد مرحلة الرشد، "ولم تتجاوز في الغالب مباحث الألفاظ والأوامر والنواهي ودلالات هيئات الألفاظ وموادها".
2- انفصال البحث الأصوليّ عن البحث الفقهيّ. فقد كان من المتعارف أن تبحث القواعد الأصوليّة أثناء وفي طيّات البحث الفقهيّ، إلا أنّه في هذه المرحلة انفصل البحث الأصوليّ على حدةٍ وأفردت أبحاثه بشكل مستقلٍّ، ممّا ساعد على ظهور ملامح علمٍ مستقلٍّ جديد باسم (علم أصول الفقه).
3- حاول السيّد المرتضى في هذه المرحلة أن يفصل بين مباحث أصول العقائد، وأبحاث أصول الفقه، كما يشير إلى ذلك نفس السيّد في بداية كتابه الموسوم بالذريعة.
4- ومن أبرز ملامح هذه المرحلة هو ما روّج له السيّد المرتضى من نظريّة اشتهر بها، وهي عدم جواز التعبّد بخبر الواحد شرعاً، وإن كان العقل يحكم بجواز التعبّد به، ونسب ذلك إلى مذهب الإماميّة.
أهمّ الكتب الأصوليّة في هذه المدرسة:
أ- المتمسّك بحبل آل الرسول: للشيخ ابن أبي عقيل، قال عنه النجاشيّ: "كتابٌ مشهورٌ في الطائفة، وقيل ما ورد الحاج من خراسان إلا طلب واشترى منه نسخاً" وهذا الكتاب فقهيّ أكثر منه أصوليّاً.
ب- التذكرة بأصول الفقه: للشيخ المفيد. قال الآغا بزرك وهو يتحدّث عن كتاب أصول الفقه للشيخ المفيد: "ورواه عنه العلامة الكراجكي. وأدرجه مختصراً في كتابه كنز الفوائد المطبوع. وهو مشتملٌ على تمام مباحث الأصول على الاختصار وقد طبع بشكل مستقلّ في موسوعة الشيخ المفيد".
ج- كتاب الذريعة في علم أصول الشريعة: للشريف المرتضى علم الهدى، من جزأين، لم يصنّف مثله جمعاً ولا تحقيقاً، استوفي فيه كلّ مباحثه، وتعرّض لنقل الأقوال في مسائله. وكان هذا الكتاب هو المرجع في هذا العلم والذي يقرؤه الناس إلى زمن المحقّق نجم الدين الحليّ، فلمّا صنّف كتاب المعارج، وكان كتابه سهل العبارة والمأخذ، عكفت الطلبة عليه، وإن كان كتاب الذريعة إلى اليوم من أشهر الكتب في أصول الفقه عند الشيعة وأحسنها. ألّفه سنة 430 هـ. قال في أوّله: "فإنّني رأيت أن أملي كتاباً متوسطاً في أصول الفقه لا ينتهي بتطويل إلى الإملال، ولا باختصار إلى الإخلال... فقد وجدت بعض من أفرد في أصول الفقه كتاباً، وإن كان قد أصاب في كثيرٍ من معانيه وأوضاعه ومبانيه، قد شرد من قانون أصول الفقه وأسلوبها، وتعدّاها كثيراً وتخطاها". وحيث كان هذا الكتاب موضع اهتمام ودراسة طلبة العلوم، شُرح عدّة شروح، منهم شرحٌ للعلامة الحلّيّ، ولخّصه الشيخ الطوسيّ، وبقي هو الكتاب المعتمد حتى صنّف كتاب المعارج الآتي الذكر.
خلاصة الدرس
لقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعلم بما سيواجه الأمّة من بعده من مشاكل ومسائل، فجعل مصدرين مهمّين يلجأ إليهما المسلمون في حلّ مشاكلهم، هما القرآن الكريم والعترة الطاهرة. وقد صرّح بذلك مراراً في طول حياته الشريفة.
وبعد أن واجه المسلمون مسألة الخلافة بعد الرسول، حصل الانشقاق بينهم إلى فريقين: الأوّل اتبع قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فتمسّك بالكتاب والعترة معاً، والآخر رفض التمسّك بالعترة وقال: "حسبنا كتاب الله". وكان لهذا الانشقاق أثره الكبير في كيفيّة التفكير، وحلّ المشكلات.
ونحن إنّما نتعرّض للتفكير الأصوليّ خاصّةً في نطاق مدرسة أهل البيت عليهم السلام، ونقسّم الأدوار التي مرّ بها هذا التفكير إلى أربع مدارس:
المدرسة الأولى، ما قبل التأليف: حيث وجدت بذرة التفكير الأصوليّ لدى الفقهاء من أصحاب الأئمّة عليهم السلام، منذ عصر الصادقين عليهم السلام. وقد كانت القواعد الأصوليّة آنذاك عبارة عن رواياتٍ وليست اصطلاحات كما هو متعارف في المدارس الأصوليّة المتأخرة.
المدرسة الثانية، بداية التأليف الأصوليّ: وهي المرحلة التي بدأ فيها الفقهاء من أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام بتأليف الكتب في خصوص هذا العلم، وإن كانت في بدايتها غير متطوّرةٍ، وبدائيةٍ. ومن أبرز علماء هذه المدرسة الشيخ ابن أبي عقيل، والشيخ ابن الجنيد، والشيخ المفيد، والسيد المرتضى وتلامذته.
خصائص هذه المدرسة:
1- بدأت معالجة النصوص والروايات، من خلال استخدام القواعد والأصول.
2- انفصال البحث الأصوليّ عن البحث الفقهيّ.
3- حاول السيّد المرتضى في هذه المرحلة أن يفصل بين مباحث أصول العقائد، وأبحاث أصول الفقه.
4- نظريّة عدم جواز التعبّد بخبر الواحد شرعاً، وهو ما روّج له السيّد المرتضى.
اللهم صل على محمد و آل محمد و عجل فرجهم و فرجنا بهم يا كريم
المدارس الأصولية(2)
المدرسة الثالثة، الازدهار الأصوليّ:
وهي المرحلة التي ازدهر فيها علم الأصول، وإن لم يصل إلى ما هو عليه اليوم، لكنّه ترقّى وازدهر بشكلٍ بارزٍ لم يكن عليه في عصر المرتضى، لذلك لا يمكن اعتباره ضمن المدرسة الثانية، كما ولا يمكن عدّه ضمن مدرسة الرقيّ الأخيرة حيث وصل علم الأصول إلى نهاية تطوّره، وإنّما كان في زمن الشيخ الطوسي في المرحلة البرزخيّة المتوسّطة بين البدائيّة والرقيّ.
أهمّ علماء الأصول في هذه المدرسة:
1- الشيخ الطوسيّ:
رئيس الطائفة محمّد بن الحسن الطوسيّ (385- 460 هـ ).
قال عنه النجاشيّ: "أبو جعفر جليل في أصحابنا، ثقةٌ، عينٌ، من تلامذة شيخنا أبي عبد الله. له كتبٌ، منها: كتاب تهذيب الأحكام وهو كتاب كبير، وكتاب الاستبصار". وهما من أكبر الكتب الحديثيّة، عليها المعوّل والمعتمد. استلم زمام زعامة الطائفة الإماميّة بعد شيخه علم الهدى.
وقيل في مناقبه الكثير، لكن أجمع قولٍ في حقّه ما قال فيه السيّد بحر العلوم الطباطبائيّ: "رافع أعلام الشريعة الحقّة، إمام الفرقة بعد الأئمّة المعصومين عليهم السلام، وعماد الشيعة الإماميّة في كلّ ما يتعلّق بالمذهب والدين، محقّق الأصول والفروع، ومهذّب فنون المعقول والمسموع، شيخ الطائفة على الإطلاق، ورئيسها الذي تُلوى إليه الأعناق، صنّف في جميع علوم الإسلام، وكان القدوة في كلّ ذلك والإمام".
ولد الشيخ في طوس من قرى خراسان سنة 385 هـ، وهاجر إلى العراق فهبط بغداد سنة 408 هـ، ولازم زعيم المذهب آنذاك الشيخ المفيد مدّة حياته، ثم من بعده لازم السيّد المرتضى الذي أولاه عنايةً فائقة مدّة 23 سنة. وبعد وفاته انتقلت زعامة المذهب وقيادة الطائفة إليه، وحضر درسه عددٌ كبيرٌ من العلماء من كلا الفريقين جاؤوا من جميع الأقطاب، ولم يزل قاطناً بغداد حتى حدثت الفتن بين الشيعة والسنّة، ودخل أوّل ملوك السلجوقيّة (طغرل بيك) بغداد سنة 447 هـ، وأحرق مكتبة الشيعة، كما وأحرق كتب الشيخ وكتب أصحابه وكرسيّ الشيخ الذي كان يجلس عليه.
الهجرة إلى النجف الأشرف:
بعد أن أحدق الخطر بالشيخ، رأى أن يهاجر إلى جوار أمير المؤمنين عليه السلام، واستقرّ في النجف وحوّلها إلى جامعةً كبرى للشيعة الإماميّة، وعاصمةً للمذهب الجعفريّ، فأخذت تشدّ إليها الرحال، وتعلّق عليها الآمال، حتى أصبحت مهبط الطلاب ومهوى أفئدة رجال العلم. وتخرّج من هذه المدرسة جمعٌ غفيرٌ من أساطين العلم والفقه، وكبار الفلاسفة والمتكلّمين، وأفاضل المفسّرين.
كتب في مجال الأصول كتاب العدّة: وهو في أصول الفقه، ألّفه في حياة أستاذه المرتضى، قسمٌ منه في أصول الدين، والآخر في أصول الفقه، وهو أبسط ما ألّف في هذا الفنّ عند القدماء.
مكانته العلميّة:
يعتبر الشيخ الطوسيّ أوّل من فتح باب الاجتهاد المطلق على مصراعيه، ونظّم مناهج الاستنباط والاجتهاد، وأصّل الأصول، ووضع مناهج البحث الأصوليّ، وفرّع المسائل، ووضع أصول دراسة المقارنة الخلافيّة في الفقه. وهذا الجهد العلميّ الإيجابي الجبّار ولّد ردّ فعلٍ عكسيّاً، حيث أبهر العقول، فتوقفت الحركة الفكريّة وجمدت عند آراء الشيخ، الذي تربّع على عرش الفقه، مدّة قرنٍ من الزمن تقريباً، فلم يجرؤ فيها أحدٌ من العلماء على مخالفة رأيه، في الفقه والأصول والتفسير والحديث وغير ذلك من العلوم، "وقد أسند جماعةٌ من العلماء ذلك الركود الغريب إلى ما حظي به الشيخ الطوسي من تقديرٍ عظيمٍ في نفوس تلامذته، رفعه في أنظارهم عن مستوى النقد، وجعل من آرائه ونظريّاته شيئاً مقدّساً، لا يمكن أن ينال باعتراضٍ أو يخضع لتمحيص. ففي المعالم كتب الشيخ حسن بن زين الدين ناقلاً عن أبيه: أن أكثر الفقهاء الذين نشؤوا بعد الشيخ كانوا يتبعونه في الفتوى تقليداً له، لكثرة اعتقادهم فيه وحسن ظنّهم به. وروي عن الحمصيّ، وهو ممّن عاصر تلك الفترة، أنّه قال: لم يبقَ للإماميّة مفتٍ على التحقيق، بل كلّهم حاكٍ".
2- ابن إدريس:
محمّد بن إدريس العجليّ الحليّ المتولّد حدود 543 هـ والمتوفي سنة 598 هـ، اشتهر بصاحب السرائر، وله تصانيف كثيرةً، فقيه الإماميّة وعالمهم، كانت بفضل جهوده بداية خروج الفكر العلميّ عن دور التوقّف النسبيّ، حيث بثّ في الفكر العلميّ روحاً جديدةً، وكان كتابه الفقهي (السرائر) الحاوي لتحرير الفتاوى، إيذاناً ببلوغ الفكر العلميّ في مدرسة الشيخ إلى مستوى التفاعل مع أفكار الشيخ الطوسيّ ونقدها وتمحيصها، ذكر في كتابه استدلالاته بالقواعد الأصوليّة، وكيف فرّع الفروع على الأصول.
3- المحقّق الحلّيّ:
نجم الدين أبو القاسم جعفر بن الحسن الحليّ الملقّب بالمحقّق، ولد سنة 602 هـ وتوفي سنة 676 هـ. تتلمذ على يد ابن إدريس الحليّ. قال تلميذه ابن داود في وصفه: "... الإمام العلامة واحد عصره، كان ألسن أهل زمانه، وأقومهم بالحجّة، وأسرعهم استحضاراً".
أبرز مؤلفاته:
أ- شرائع الإسلام: في الفقه، وقد قسّم فيه- وهو أوّل من قسّم الفقه- الفقه إلى أربعة أقسام: ( العبادات، العقود، الإيقاعات، الأحكام).
ب- نهج الوصول إلى معرفة الأصول: في أصول الفقه.
ج- المعارج: في أصول الفقه، وقد بقي مدّةً من الزمن يدرّس في المعاهد العلميّة.
4- العلامة الحلّيّ:
جمال الدين أبو منصور الحسن بن سديد الدين بن يوسف بن زين الدين علي بن مطهّر الحلّيّ. ولد في الحلّة سنة 648 هـ وتوفي فيها، لكنّه دفن في النجف سنة 726 هـ. قال ابن داود- وهو من معاصريه- عند ذكره: "... شيخ الطائفة، وعلّامة وقته، وصاحب التحقيق والتدقيق، كثير التصانيف، انتهت رئاسة الإماميّة إليه في المعقول والمنقول". تتلمذ على يد خاله المحقّق الحليّ، ويد الشيخ نصير الدين الطوسيّ في الفلسفة والكلام، فجمع بين الثقافتين. وقد سيطرت أفكاره العلميّة وآراؤه على من بعده تماماً كما جرى مع الشيخ الطوسيّ، حيث ظلّت كتبه العلميّة تدرس في الحوزات، وآراؤه تتناقل في مجالي الأصول والفقه.
أبرز مؤلّفاته الأصوليّة:
نهاية الوصول إلى علم الأصول: وهو كتابٌ جامعٌ في أصول الفقه، تعرّض فيه لأقوال المتقدّمين والمتأخرين، رتّبه على اثني عشر مقصداً:
الأوّل: في المقدّمات وفيه فصولٌ.
الثاني: في التعادل والتراجيح.
وبعدما أن وجد أن الكتاب ضخمٌ مؤلفٌ من أربعة أجزاء، اختصره وسمّاه: (تهذيب طريق الوصول إلى علم الأصول).
5- فخر المحقّقين:
فخر الدين أبو طالب محمّد بن الحسن بن يوسف بن المطهّر: ولد سنة 682 هـ- وتتلمذ على يد أبيه العلامة الحلّيّ في مختلف العلوم النقليّة والعقليّة وبرع في ذلك كلّه. قال تلميذه الشهيد الأوّل: "الشيخ الإمام، سلطان العلماء، منتهى الفضلاء والنبلاء، خاتم المجتهدين، فخر الملّة والدين، أبو طالب محمّد ابن الشيخ الإمام السعيد جمال الدين بن المطهّر، مدّ الله في عمره مداً، وجعل بينه وبين الحادثات سداً". قام بتربية كبارٍ من العلماء في الفقه والأصول أبرزهم الشهيد الأوّل.
من مؤلّفاته الأصوليّة:
غاية السؤول في شرح تهذيب الأصول.
6- الشهيد الأوّل:
أبو عبد الله محمّد بن جمال الدين مكيّ بن شمس الدين محمّد الدمشقيّ الجزينيّ. ولد في جزّين من قرى جبل عامل سنة 734 هـ وهاجر إلى الحلّة طلباً للعلم، وحصل على عدّة إجازات أبرزها إجازة أستاذه فخر المحقّقين سنة 751 هـ. واستشهد سنة 786 هـ عن عمر ناهز الاثنين وخمسين سنة. نُعت بالشهيد الأوّل، وهو أوّل من اشتهر بهذا اللقب عند الإماميّة.
"كان كهف الشيعة وملاذها، عالماً فقيهاً لم يزل فقهه مستقى علماء الإماميّة في نظرياتهم، وكتبه مرجع فقهائهم. ذكره العلماء من الفريقين في سيرهم وتأريخهم وكتبهم (...) ومن تأمّل في مدّة عمره الشريف ومسافرته إلى تلك البلاد، وتصانيفه الرائقة في الفنون الشرعيّة وأنظاره الدقيقة، وتبحّره في الفنون العربية والأدب والأشعار، والقصص النافعة- كما يظهر من مجاميعه- يعلم أنّه من الذين اختارهم الله تعالى لتكميل عباده، وعمارة بلاده، وأنّ كلّ ما قيل أو يقال في حقّه فهو دون مقامه ومرتبته.
أمّا كيفيّة مقتله وشهادته: فقد قال صاحب (الروضات): نقل عن خط ولد الشهيد على ورقة إجازته لابن الخازن الحائريّ ما صورته: استشهد والدي الإمام العلامة كاتب الخط الشريف شمس الدين أبو عبد الله محمّد بن مكيّ شهيداً حريقاً بالنار، يوم الخميس التاسع من جمادى الأولى سنة 786 هـ. وكلّ ذلك فُعل به برحبة قلعة دمشق. وفي (اللؤلؤة): إنّه قُتل بالسيف ثم صُلب، ثم رُجم، ثم أُحرق بالنار ببلدة دمشق في سلطنة (برقوق) بفتوى برهان الدين المالكيّ وعباد بن جماعة الشافعيّ، وتعصّب جماعةٍ كثيرةٍ بعد أن حُبس في قلعة دمشق سنة كاملة. (...)ألا لعنة الله على القوم الظالمين".
مكانته العلميّة: إنّ كتبه وآراءه التي كتبها قبل ستة قرون ما زالت في حيوية إلى عصرنا الحاضر. وتمثّل آراؤه رأي المشهور من العلماء. وهذا إن دلّ على شيءٍ فهو يدلّ على عظمة هذا الرجل العلميّة، وعلى أنّه قد وصل بالفقه إلى مدارجه العليا، وفرّع الفروع على القواعد الأصوليّة، واستطاع أن يتتلمذ على يديه عدد من العلماء، أبرزهم السيّد أبو طالب أحمد بن القاسم بن زهرة الحسينيّ، وأن يربّي جيلاً من العلماء ترعرع على مائدة كتبه العلميّة.
ومن أبرز كتبه الفقهيّة: اللمعة الدمشقيّة، الذي كتبه في غضون ستة أيّام، وشرحه الشهيد الثاني في كتابه الروضة البهيّة، وما زال كتاباً دراسيّاً في الحوزات حتى عصرنا الحاضر.
وأما في الأصول: فصنّف (جامع البين من فوائد الشرحين)، جمع فيه فوائد شرح السيّد عميد الدين، والسيّد ضياء الدين لكتاب تهذيب طريق الوصول إلى علم الأصول، وزاد عليه فوائد أخر وله في الأصول أيضاً إلهام القواعد والفوائد.
7- الشهيد الثاني:
هو الشيخ زين الدين بن علي بن أحمد الجبعيّ العامليّ (911 ه-- 965 هـ). نجمٌ لامعٌ في سماء الفقه الإسلاميّ. وكانت حياته حياةً طيّبةً مثمرةً، آتت ثمراتٍ طيبةً في الفقه وعلوم الشريعة. فقد قُدّر للشهيد الثاني أن يخلف بعده تراثاً فقهيّاً، وثروةً فكريّةً ضخمةً، تداولها من بعده الفقهاء بالتدريس والتحقيق والبحث. كما أتيح له أن يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسائر المذاهب الإسلاميّة الفقهيّة، ويقرأ الفقه والدراسات العقائديّة على مختلف المذاهب الإسلاميّة. فكان يدرّس الفقه في (بعلبكّ) على المذاهب الخمسة، ويستعرض رأي كلّ مذهبٍ من المذاهب الخمسة، ويشفعه بما يستدلّ له، ثمّ يقارن فيما بينها.
فتح عهداً جديداً في مدرسة الحلّة، حيث كانت آراء العلامة الحلّيّ تتناقلها العلماء، فأضفى الشهيد على هذه المدرسة طابعاً جديداً، وخدم بنبوغه وعظمته المدرسة الشيعيّة بشكلٍ عامّ، وصنّف وألّف وشرح كتباً كثيرةً، رغم تعدّد سفره وتنقّله بين البلدان، ورغم قصر عمره الشريف، نذكر منها في الأصول:
تمهيد القواعد الأصولية والعربية لتفريع الأحكام الشرعيّة: هذا الكتاب ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول فيه مائة قاعدة أصوليّة وما يتفرّع عليها من الأحكام.
القسم الثاني مائة قاعدة من القواعد العربية، ويليهما فهرس مبسوط، لتسهيل استخراج المطالب من الكتاب.
8- الشيخ البهائيّ:
محمّد بن الحسين بهاء الدين العامليّ: ولد في بعلبكّ سنة 953 هـ وتوفي في أصفهان سنة 1031 هـ ودفن في حرم الإمام الرضا عليه السلام. صاحب التصانيف الكثيرة. وكان له من ضمنها سهمٌ في التأليف في علم الأصول، فصنّف كتاب:
(زبدة الأصول) الذي احتل مكانته السامية في المعاهد العلميّة، ممّا استدعى أن يشرحه جلّ من العلماء، ويكتبوا عليه الحواشي.
9- صاحب المعالم:
أبو منصور الحسن بن زين الدين الشهيد الثاني العامليّ، ولد في جباع العامليّة سنة 959 هـ وتوفي سنة 1011 هـ. كان يصاحب صاحب المدارك، ودرسا معاً عند المقدّس الأردبيلي والمولى عبد الله اليزديّ في النجف.
من أشهر تصانيفه الأصوليّة كتاب معالم الدين وملاذ المجتهدين، يذكر في مقدّمته خطبةً نفيسةً عن فضل العلم والعلماء. واحتل مكانته بين الكتب الدراسيّة منذ زمن تأليفه حتى اليوم، ويوجد عليه عددٌ من الحواشي والشروح العربيّة والفارسيّة.
الحركة الأخباريّة:
وقد ظهرت في القرن الحادي عشر الحركة الأخباريّة والنزعة الحديثيّة. وكان لها مواقف سلبيّة ضدّ الأصول وعلمائه، فتصدّى لها عددٌ من علماء الأصول، دافعوا عنه بشراسةٍ، وكان لهم الدور البارز في رقيّ هذا العلم وتطوّره. أبرزهم:
10- الفاضل التونيّ:
عبد الله بن محمّد البشرويّ، توفي سنة 1059 هـ في كرمانشاه، أثناء زيارته العتبات المقدّسة في العراق. له كتاب (الوافية) في الأصول، كتبت عليه الحواشي والشروح لشدّة الاهتمام به.
11- المحقّق السيّد حسين الخونساريّ:
المتوفي سنة 1098 هـ، برزت في أبحاثه الأصوليّة الصبغة الفلسفيّة، وتظهر أفكاره الأصوليّة في كتابه الفقهيّ (مشارق الشموس في شرح الدروس).
12- سلطان العلماء:
حسين بن رفيع الدين محمّد الحسينيّ، توفي سنة 1064 هـ. له حاشية على كتاب المعالم.
13- المحقّق الشيروانيّ:
محمّد بن الحسن، توفي سنة 1099 هـ في المشهد الرضويّ، له حاشية على كتاب المعالم.
ملامح المدرسة:
ولهذه المدرسة ميّزات لم تكن في المدرسة السابقة:
1- التفريع على النصوص ودراسة التفصيلات، حيث طُرحت مسائل جديدة لم تتعرّض لها النصوص، فكان لا بدّ من التفريع واعتماد قواعد وعناصر مشتركة لمعالجة هذه الفروع المستجدّة. ولشدّة الحاجة إلى الإجابة على هذه الفروع ازدادت الحاجة إلى الأصول، وكان لذلك الأثر البالغ في تطوّر القواعد الأصوليّة، وتحكيم أُسسها.
2- الوقوف النسبيّ لعلم الأصول، حيث قام الشيخ الطوسيّ بتصنيفٍ ضخمٍ في الأصول متمثّلاً بكتابه العدة. وبتطبيق فقهيّ في كتابه المبسوط، قفز بالأصول وبالفقه قفزةً ضخمةً جبّارةً، لكنّها أدّت إلى الجمود عليها طيلة قرنٍ من الزمن.
3- تجدّد الحياة الفكريّة والعلميّة على يد ابن إدريس الحليّ المتوفي في أواخر القرن السادس، حيث بعث الروح من جديدٍ في الفكر الأصوليّ والفقهيّ، على حدٍّ سواء، وظلّت تتسع وتنمو حتى زمن صاحب المعالم أواخر القرن العاشر.
4- التأثير الفلسفيّ على علم الأصول، وبالأخصّ في عصر المحقّق الخونساريّ، حيث انعكس تفكيره الفلسفيّ وأضفى صبغةً فلسفيّةً على الأبحاث الأصوليّة، لكن بصورةٍ مستقلّةٍ ومتحرّرة عن الصوَر التقليديّة، لذلك لم يخرج علم الأصول عن سكّته الخاصة، وطابعه المعهود.
خلاصة الدرس
المدرسة الثالثة، الازدهار الأصوليّ: لا يمكن عدّه ضمن مدرسة الرقيّ الأخيرة حيث وصل علم الأصول إلى نهاية تطوّره، وإنّما كان في زمن الشيخ الطوسي في المرحلة البرزخيّة المتوسّطة بين البدائيّة والرقيّ. ومن أبرز علماء هذه المدرسة:
الشيخ الطوسيّ، ابن إدريس الحليّ، المحقّق الحليّ، والعلامة الحليّ، وفخر المحقّقين، والشهيدان الأوّل والثاني، والشيخ البهائيّ، وصاحب المعالم، والفاضل التوني، والمحقّق الخونساريّ، وسلطان العلماء، والمحقّق الشيروانيّ.
اللهم صل على محمد و آل محمد و عجل فرجهم و فرجنا بهم يا كريم
المراحل النهائية للأصول
من أبرز من واجه الحركة الأخباريّة واستطاع أن يقضي عليها، ويشيد أركان علم الأصول هو:
14- الوحيد البهبهانيّ:
محمّد باقر بن محمّد أكمل. ولد في أصفهان سنة 1118 هـ وتوفّي في سنة 1205هـ. له عدّة مصنّفات وفي مجالات متعدّدة نذكر منها في أصول الفقه:
1- الحواشي على المعالم.
2- حاشية على قوانين الأصول.
3- الاجتهاد والأخبار، الاجتهاد والتقليد ( في الردّ على الأخباريّين ).
4- الفوائد الأصوليّة.
5- الردّ على شبهات الأخباريّين.
6- الفوائد الحائريّة: (العتيقة، والجديدة).
وبمجيء البهبهانيّ دخل علم الأصول مدرسته الرابعة، وتطوّر على يده ويد تلامذته ومن جاء بعده. ويمكن تقسيم هذه المدرسة إلى أدوار:
الدور الأول:
يتمثل بتلامذة البهبهانيّ أمثال:
ا- السيّد مهدي بحر العلوم الطباطبائيّ النجفيّ: ولد في كربلاء سنة 1155 هـ، وتوفّي في النجف سنة 1212 هـ. ألّف القواعد الأصوليّة، وشرح كتاب الوافية للفاضل التونيّ.
2- الشيخ جعفر بن خضر النجفي المعروف بكاشف الغطاء: توفّي في النجف سنة 1227 هـ. ألف كتاب كشف الغطاء ذكر في مقدمته مختصراً في أصول الفقه. يعدّ هذا الكتاب من أنفس الكتب العلميّة في المعاهد الإماميّة.
3- صاحب القوانين: الشيخ أسد الله بن إسماعيل الدزفوليّ الكاظميّ. ولد في دزفول سنة 1185 هـ وتوفّي في النجف سنة 1234 هـ. ألّف في هذا المجال كتابه كشف القناع عن وجوه حجيّة الإجماع، اعتمد عليه الشيخ الأنصاريّ في كتابه الرسائل كثيراً، وهذا ممّا يدل على مدى تضلّعه في الفقه والأصول.
4- الميرزا أبو القاسم بن محمّد حسن الجيلاني الملقّب بالمحقّق القمّيّ: ولد في بلدة جابلاق من أعمال رشت سنة 1151 هـ وتوفّي في قم سنة 1231 هـ. أشهر كتبه القوانين المحكمة في علم الأصول، من أجلّ كتب الأصول لدقائقه وغوامضه، اهتمّ به العلماء فكتبوا عليه شروحاً وحواشيَ، بعد أن أصبح من الكتب الدراسيّة في المعاهد العلميّة.
5- صاحب الرياض: السيّد علي بن محمّد الطباطبائيّ، وهو ابن أخت الوحيد البهبهانيّ. ولد في الكاظميّة سنة 1161 هـ وتوفيّ في كربلاء سنة 1231 هـ. ألّف عدّة كتبٍ أشهرها رياض المسائل، ظهرت فيه براعته في القواعد الأصوليّة وتطبيقها على المسائل الفرعيّة، وتسلّطه على القواعد الفقهيّة. كما وكتب في علم الأصول عدّة رسائل أبرزها: رسالة في اجتماع الأمر والنهي، رسالة في حجيّة الإجماع، والاستصحاب.
الدور الثاني:
وقد حصل التقدّم في هذه المرحلة على يد جمع من العلماء أبرزهم:
1- صاحب الهداية: محمّد تقي بن عبد الرحيم الطهرانيّ الأصفهانيّ، المتوفي سنة 1248 هـ. له كتاب هداية المسترشدين، وهو شرح على كتاب معالم الأصول.
2- صاحب الفصول: محمّد حسن بن عبد الرحيم الأصفهانيّ، المتوفي في كربلاء سنة 1261 هـ. له كتاب الفصول في علم الأصول، وهو من أحسن ما كتب في هذا العلم، وأجمعها للتحقيق والتدقيق.
3- شريف العلماء: محمّد شريف بن حسن علي الآمليّ المازندرانيّ، توفي في كربلاء بمرض الطاعون سنة 1245 هـ. قدّر له أن يربّي عدداً من العلماء أصبحوا من كبار المحقّقين، كالمحقّق الأنصاريّ المرتضى، وسعيد العلماء المازندرانيّ، وصاحب الضوابط، والملا آغا الدربنديّ، والسيّد محمّد شفيع الجابلاقيّ.
4- أحمد بن محمّد مهدي النراقي الكاشاني، توفّي سنة 1245 هـ. تتلمذ على يديه الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاريّ.
5- القزوينيّ: السيّد إبراهيم بن محمّد باقر الموسويّ القزوينيّ، توفي في سنة 1262 هـ. له ضوابط الأصول، ونتائج الأفكار، فيه مائة وخمسون فصلاً مشحونة بالتحقيق والتدقيق.
6- الكلباسيّ: محمّد إبراهيم بن محمّد حسن الكاخيّ، المتوفي سنة 1261هـ. له كتاب الإشارات في الأصول، وهو كتاب جليل محلّ عناية أهل الفضل والعلم.
7- صاحب الجواهر: الشيخ محمّد حسن بن باقر النجفيّ، المتوفي سنة 1266 هـ. برزت فقاهته في تطبيقه للقواعد الأصوليّة في الأبحاث الفقهيّة، وذلك في كتابه الشهير والذي عليه المعتمد إلى اليوم وهو كتاب جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام.
8- صاحب المحصول: السيّد محمّد بن حسن الأعرجيّ الكاظميّ، المتوفي سنة 1214 هـ.ألّف كتابه المحصول في علم الأصول، والوافي في شرح الوافية للفاضل التونيّ.
الدور الثالث:
ارتقى علم الأصول إلى آخر درجات الرقيّ على يد الشيخ الأعظم وتلامذته، فكانت مدرسة الأصول الحاليّة. وكلّ من جاء بعد الشيخ الأعظم ترعرع في كنف أفكار مدرسته. ونحن نذكر الشيخ الأنصاري وأبرز طلابه ومروّجي مدرسته.
- الشيخ الأنصاريّ
مرتضى بن محمّد أمين. ولد في دزفول سنة 1214 هـ وتوفي في النجف سنة 1281 هـ.
حياته العلميّة:
درس المقدمات على يد والده الذي سافر به ليتتلمذ على يد السيّد شريف العلماء، فبقي عنده مدّة عامٍ واحدٍ في كربلاء، ثمّ انتقل إلى النجف ليدرس على يد الشيخ كاشف الغطاء، ثمّ أخذ بالتجوال في بلاد إيران للتعرّف إلى الشخصيّات العلميّة والاستفادة من آرائهم، فالتقى بالسيّد محمّد باقر الشفتيّ في أصفهان، ثمّ حضر درس العلامة النراقيّ في كاشان مدّة أربعة أعوام، ثم زار مشهد الرضا عليه السلام، واستقرّ من سفره في مسقط رأسه دزفول، ليباشر التدريس والتأليف.
لكنّه عاد إلى النجف ليحضر درس الفقيه الشيخ علي كاشف الغطاء مدّة خمسة أعوام. وبعد وفاة أستاذه بدأ بالتدريس في النجف. إلا أنّ الزعامة العلميّة كانت لصاحب الجواهر، لكنها انتقلت للشيخ بعد وفاته مباشرةً، بتعيينٍ من صاحب الجواهر لما كان يرى فيه من الأهليّة والكفاءة، واستلم زمام زعامة الطائفة الشيعيّة التي قلّدته كلّ شؤونها.
لقد كان للشيخ الأعظم الدور البارز في تفعيل حركة الأصول، وتعميقه، وتهذيب هذا العلم وترتيبه بشكلٍ أخرجه بحلّة جديدةٍ لم تكن من قبل. ولذلك يعتبر الشيخ المؤسس لهذا العلم بهذا اللحاظ، وأصبح فهم مراد الشيخ والوصول إليه دليلاً على تبحّر المحقّقين.
أهمّ كتبه الأصوليّة:
- الرسائل: وهو كتاب فرائد الأصول، يعتبر من أوسع الكتب الأصوليّة في مجال الأصول العقليّة والعمليّة. ولأهميّة هذا الكتاب كان مورد عناية العلماء في الحوزات العلميّة، فكُتبت حوله الشروح والتعليقات والحواشي. وما زال إلى اليوم من أهمّ المراجع الأصوليّة، والكتب الدراسيّة. وما زالت آراء الشيخ هي المحور والأساس في دروس الخارج الأصوليّة.
وقد امتاز الشيخ بكثرة تصنيفاته، حتى قيل إنّه لا يوجد رأيٌ أصوليّ إلا وتعرّض له الشيخ، فتجد له ذكراً في أحد مصنّفاته، أو جذراً وأساساً فيها. كما وامتاز الشيخ بإدارته للحوزة العلميّة، ورعايته لشؤون الطائفة الشيعيّة. ومن أبرز خصائصه أنّه استطاع أن يؤسّس لمدرسةٍ جديدةٍ، كما واستطاع أن يربّي طلاباً يحملون آراءه وأفكاره نذكر أبرزهم:
أهمّ علماء الأصول في هذه المدرسة:
1- السيّد المجدّد ميرزا حسن الشيرازيّ:
ولد في مدينة شيراز سنة 1230 هـ وتوفّي في سامرّاء سنة 1312 هـ، وحمل منها إلى النجف الأشرف.
أصبح زعيم الطائفة بعد وفاة الشيخ الأعظم، وسافر إلى سامراء لزيارة الإمامين العسكريّين عليهم السلام، لكنّه جاور فيها، فانتقل العلماء ليجتمعوا حوله في هذه البلدة الصغيرة. وبذلك يكون قد نقل عاصمة التشيّع من النجف إلى سامرّاء.
وكان للمجدّد الشيرازيّ نفوذ قويّ وتأثير بالغ في قلوب الشيعة. وقد برز ذلك في طاعتهم له المطلقة عندما أصدر حكمه الشهير في تحريم التنباك على عهد السلطان القاجاريّ ناصر الدين شاه، الذي امتلأ خوفاً وهيبةً من نفوذ سلطانه وحكمه، فأسرع في إلغاء معاهدته مع بريطانيا.
لم يترك المجدّد العظيم تصنيفاً أو تأليفاً رغم غزارة علمه، لكنه عنيَ بتربية جيل كبير من العلماء التحقوا به في سامرّاء، كان بعضهم زعيماً للتشيّع فيما بعد، أبرزهم:
- المحدّث حسين النوريّ صاحب مستدرك الوسائل(1254- 1320 هـ).
- الشيخ الشهيد فضل الله بن ملا عباس النوريّ. انتقل إلى طهران وأصبح من الأعلام الذين يشار إليهم بالمكانة والعلم. وقد أعدم فيها سنة 1327 هـ بقضية المشروطة والمستبدّة.
- السيّد محمّد كاظم اليزديّ (ت: 1337 ه-) صاحب كتاب العروة الوثقى.
- السيّد إسماعيل الصدر(1353-1400 هـ).
- المحقّق محمّد كاظم الخراسانيّ (ت: 1329 هـ) صاحب كفاية الأصول.
2- الميرزا أبو القاسم كلانتر النوريّ الطهرانيّ:
ولد الميرزا في طهران سنة 1236 هـ ودفن فيها سنة 1292 هـ في صحن السيّد عبد العظيم الحسنيّ. ويعتبر من أبرز طلاب الشيخ الأعظم، وساهم مساهمةً كبيرةً في بيان آراء الشيخ المغلقة في مجالي الفقه والأصول. وهو صاحب كتاب مطارح الأنظار، تقريرٌ لبحث أستاذه الشيخ الأنصاريّ، أدرج فيه معظم مباحث الألفاظ، وبذلك يكون قد أكمل مع الرسائل دورة الشيخ الأصوليّة.
3- الميرزا حبيب الله الرشتيّ:
حبيب الله بن محمّد علي الرشتيّ، ولد سنة 1234هـ وتوفّي سنة 1312 هـ.
بدأ الدراسة في بلده ثم انتقل منها إلى قزوين، ومن ثمّ غادر إلى النجف لمتابعة دراسته. وقبل عودته إلى بلده ظنّاً منه أنّه أنهى دراسة المطالب، تعرّف إلى الشيخ الأنصاريّ وجرى بينهما بحثٌ أدرك فيه أنّ الشيخ بحرٌ لا يدرك قعره، فقرّر حضور درسه، ولازمه من وقتها حتى وفاة الشيخ مدةً تبلغ سبع سنين. كان يهرب من المرجعيّة والفتوى لشدّة ورعه واحتياطاته، فتفرّغ للتأليف والتدريس، واشتهر ببيانه الساحر لا سيما في المطالب المعقّدة، كما وترك لطلاب العلوم تراثاً ضخماً، وأبرز مؤلفاته كتاب بدائع الأصول، وتقريرات أستاذه.
4- الآخوند الخراسانيّ:
هو المحقّق الملا محمّد كاظم المشهور بالآخوند الخراسانيّ، ولد في هرات سنة 1255 هـ من قرى خراسان، وتوفّي في النجف سنة 1329 هـ.
توجّه إلى سبزوار في إيران وأخذ فيها الفلسفة على يد الحكيم الملا هادي السبزواريّ، ثم هاجر إلى النجف ليلتحق بدرس الشيخ الأنصاريّ ما يقارب الأربع سنوات، وبعدها حضر درس المجدّد الشيرازيّ. وبعد وفاة المجدّد اشتغل بالتدريس فالتفّ حوله جمعٌ من أهل الفضل والعلم، حتى أنّه قد تجاوز عدد طلابه الألف بين مجتهدٍ وفاضلٍ، وتربّى في مدرسته المحقّقون والمجتهدون في القرن الرابع عشر.
أشهر كتابٍ له هو كفاية الأصول، أبرز فيه آراءه، وخالف آراء أستاذه الشيخ الأعظم في عددٍ من الموارد. ويعتبر هذا السفر، إلى اليوم، آخر كتابٍ يدرّس في الحوزات العلميّة وقبل الانتقال إلى مرحلة البحث الخارج. وهو مؤلفٌ من قسمين، الأوّل في مباحث الألفاظ، والثاني في الأصول العمليّة والعقليّة. وقد عنيَ به العلماء كثيراً فخرجت حوله عدّة شروحٍ وحواشٍ وتعليقات. وما زال هو المحور في دراسة البحث الخارج في الأصول.
مروّجو مدرسة الأنصاريّ:
ونهدف في هذه الصفحات للتعرّض لعلماء كان لهم السهم الأوفى في الترويج لأفكار الشيخ الأنصاريّ وبيان مبانيه في الفقه والأصول، لا سيما في النجف الأشرف. فقد قدّر لهم أن يعقدوا محافل للتدريس، ويلتفّ حولهم الطلاب، فاستطاعوا بنبوغهم العلميّ وأسلوبهم التحقيقيّ أن يربّوا عدداً من العلماء والمحقّقين صاروا أصحاب معاهدَ وحوزاتٍ ربّوا فيها المئات من العلماء، كان في طليعتهم:
1- الميرزا النائيني:
محمّد حسين بن عبد الرحيم النائينيّ النجفيّ، ولد في نائين سنة 1277 هـ وتوفّي سنة 1355 هـ في النجف الأشرف.
درس في بلدته المقدّمات، ثمّ انتقل إلى أصفهان حيث درس فيها الفقه والأصول، ثمّ هاجر إلى العراق ونزل سامرّاء ليدرس على يد كلّ من السيّد إسماعيل الصدر والسيّد محمّد الفشاركي والمجدّد الشيرازيّ، ثم انتقل إلى النجف الأشرف، حيث صاحب فيها الآخوند الخراسانيّ وعاونه في المهامّ السياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة، وكان من أعضاء جلسة الاستفتاء عند الآخوند. اتسع مجلس درسه بعد وفاة الآخوند الخراسانيّ، وأصبح من مراجع الشيعة بعد وفاة شيخ الشريعة الأصفهانيّ. وغادر العراق إلى قم المقدّسة احتجاجاً على تدخل الإنجليز في شؤون العراق. ثم عاد بعد مدّةٍ إلى النجف ليتزعم هو وزميله السيّد أبو الحسن الأصفهانيّ مرجعيّة الشيعة، ولم ينقطع عن التدريس، لكنّه اشتهر في درس الأصول حتى عُدّ مجدّداً في هذا العلم. كتب تلامذته تقريرات درسه الأصوليّ. وهي مطبوعة اليوم بإسم: أجود التقريرات، وفوائد الأصول.
2- الآغا ضياء الدين العراقيّ:
ضياء الدين بن محمّد العراقيّ النجفيّ. ولد سنة 1287 هـ وتوفّي في النجف سنة 1361 هـ.درس المقدّمات في بلده ثم هاجر إلى أصفهان ليدرس عند أعلامها، ثمّ عاد إلى النجف وحضر عند السيّد محمّد الفشاركي والآخوند الخراسانيّ، والسيّد كاظم اليزديّ، وشيخ الشريعة الأصفهانيّ. عُرف بنبوغه المبكر وعذوبة منطقه وحُسن إلقائه، فاشتهر بالتدريس والتفّ حوله عددٌ من طلاب العلوم. وشاع اسمه بعد وفاة أستاذه الآخوند. وظلّ يدرّس مدّة ثلاثين سنةٍ. ألّف كتاب مقالات الأصول.
3- الشيخ محمّد حسين الأصفهانيّ:
محمّد حسين بن محمّد حسن الأصفهانيّ النجفيّ الشهير بالكمبانيّ، ولد سنة 1296 هـ وتوفّي في النجف سنة 1361 هـ.
تخرّج في الفقه والأصول على السيّد محمّد الفشاركيّ، والشيخ آغا رضا الهمدانيّ، كما وحضر عند الآخوند الخراسانيّ مدّة ثلاث عشرة سنة. استقلّ بالتدريس بعد وفاة أستاذه الآخوند، وكان جامعاً متقناً شارك في التفسير والفلسفة والعرفان والتاريخ والفقه والأصول والأدب، كما وكان له القدح المعلّى في النظم. ولأجلّ إتقانه للفلسفة كانت ابحاثه الأصوليّة مشبعة بها، وترك اثاراً تدلّ على عظمته ومدى تبحّره منها نهاية الدراية في شرح كفاية الأصول.
خلاصة الدرس
المدرسة الرابعة، المراحل النهائيّة للأصول:
من أبرز من واجه الحركة الأخباريّة واستطاع أن يقضي عليها، ويشيد أركان علم الأصول هو:
الوحيد البهبهانيّ، وبمجيئه دخل علم الأصول مدرسته الرابعة، وتطوّر على يده ويد تلامذته ومن جاء بعده. ويمكن تقسيم هذه المدرسة إلى أدوار:
الدور الأوّل: يتمثل بتلامذة الوحيد.
الدور الثاني: قد حصل التقدّم في هذه المرحلة على يد جمع من العلماء من أبرزهم: صاحب الهداية، وصاحب الفصول، وشريف العلماء، وصاحب الجواهر.
الدور الثالث: ارتقى علم الأصول إلى آخر درجات الرقيّ على يد الشيخ الأعظم وتلامذته، فكانت مدرسة الأصول الحاليّة. وكلّ من جاء بعد الشيخ الأعظم ترعرع في كنف أفكار مدرسته.