كما للرضى حالات، فإنّ للشكوى حالات، وتختلف الشكوى من إنسانٍ لآخر ومن حالة إلى أُخرى، بيد أنّ قاسمها المشترك هو التعبير عن ما يجيش في النفس من آلام وأحزان، تقلّ أمواجها وترتفع حسب قدرة صاحب الشكوى وتحمله وفق مؤشر البلوى، فنفس الإنسان ــ وبشكل عام ــ رقيقة المشاعر، تحزن وتفرح حسب المؤثرات الخارجية، وكما يعبّر القرآن الكريم: ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾ (سورة الروم: 36)، فمن ينزع عنه رداء الصبر تلقفته الشكوى بحدِّ مخالبها، ومن وطّن نفسه على البلوى لانت عريكته وهَنِئت سريرته، سَعِد وأسعد من حوله.
وهذه هي حال الإنسان مع الدنيا ومؤثراتها، فهو بين مدٍّ وجزر، يرتقي قُلّتها مرة ويهوى إلى قاع واديها مرة أخرى، وكلٌّ يشكو ولكن بقدر، فالأنبياء يشكون، والأئمة يشكون، والأوصياء يشكون، وجموع الناس يشكون، فالراعي والرعية من حيث الشكوى سيّان، ولكنهم من حيث المؤدى شتان، فالنبيّ يعقوب (عليه السلام) يشكو لافتقاد ولده يوسف (عليه السلام)، ويخاطب أولاده: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ (سورة يوسف: 86)، والنبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) يشكو عدم إيمان البعض رحمةً بهم: ﴿وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (سورة الحجر: 88)، والنبيّ زكريا يبحث عن وريث: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً﴾ (سورة مريم: 4)، ونادى ربّه: ﴿رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ (سورة الأنبياء: 89)، والنبيّ نوح دعا قومه نحو ألف عام ولم يؤمن له إلّا القليل، فيبث شكواه لربّ العباد: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً﴾ (سورة نوح: 5 و6)، وسبط الرسول أبو عبد الله الحسين (صلوات الله عليه) يعظ القوم حتّى اللّحظة الأخيرة، وعندما يأتيه سهمٌ مثلّث ليستقرّ في قلبه وهو في اللّحظات الأخيرة من شهادته، قال: «بسم الله وبالله، وعلى ملّة رسول الله»، ورفع رأسه إلى السماء وقال: «إلهي، إنك تعلم أنّهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابنُ بنتِ نبيٍّ غيري» (مقتل الحسين (عليه السلام) للمقرم: 279).
• وللشعراء لواعجهم:
ولطبقة الأدباء شكواهم أيضاً، فهم يبثّون لواعجهم عبر أثير النصوص النثرية وعلى أمواج الأبيات الشعرية، وكل شاعر ينسج شكواه على منوال قوافيه التي تأتي تارة بالفصحى وأُخرى باللّهجة المحلّية، فيتعاطف مع الأُولى أُناسٌ ويحزن لحزن الثانية أناس، ولمّا كان الثاني قريباً من حديث الشارع العام عَلا صداه وكثر ناظموه، وإن تعددت ألوان الشعر الشعبي وأغراضه، فلا تبتعد قصيدة (الأبوذية) عن مركز الشكوى، يبثّ الشاعر لواعجه في أحيان، وفي أحايين كثيرة ينقل شكاوى الآخرين أو يحدِّث عن شكاواهم، فإذا قرأت قصيدة الأبوذية فلا تقرأ الشاعر بقدر قراءتك لصاحب الشكوى، وكثيرٌ من شعر الأبوذية قيل في حوادث كربلاء وما جرى للإمام الحسين (صلوات الله عليه) وما حلّ بأهل بيته من بعد استشهاده، فكأن الأبوذية هي الشكوى ذاتها، بل هي اسم على مسمّى، وربما نحتار أيهما أولى رتبة.
• أشجان الوطن:
وواحدة من أمض الشكاوى على قلب المرء هو البعد عن الوطن، وأشدّ مضاضةً البعد القسري، لأنّ الوطن هو الحاضنة الأمينة والصدر الحنون، وهو الأم إن عزّت الأمومة، فلا بديل عن الوطن كما لا بديل عن الأم، إلّا إذا كانت الظروف أقوى من المرء، ولذلك اشتاق نبيّ الرحمة محمّد (صلّى الله عليه وآله) إلى مكة مسقط رأسه عندما كان في طريقه إلى المدينة المنورة في هجرته، وذكر مولده ومولد آبائه، فأتاه جبريل (عليه السلام)، فقال: أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ فقال (صلى الله عليه وآله): «نعم»، فقال جبرئيل (عليه السلام): فإنّ الله (عزّ وجل) يقول: ﴿إنّ الّذي فرَضَ عليكَ القرآنَ لَرادُّكَ إلى مَعاد﴾، يعني: لَرادّك إلى مكة ظاهراً عليها.
من هنا أبدع الشعراء حينما تذكّروا الوطن، فمن أجدر باستشعار الحنين إلى الوطن من أصحاب الشعور والمشاعر، ولذلك تجد الوطن مفردة حاضرة في شعر الأبوذية، كما في الحوارية التي أجراها الشاعر العراقي كاظم بن حسون المنظور المتوفى سنة 1394 هـ عن لسان حال الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وهو يخاطب أخاه محمّد ابن الحنفية:
فالجناس وقع في كلمة (وِلي رايْ)، فالأُولى: راج، من بلوغ الثمر، والثاني: أصلها لي رج، مِن رجّ الشيء إذا هزّه، والثالثة: مخففة لي رأي.
فالشاعر يعرب عن لسان حال الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، إذ يجيب أخاه محمداً الّذي رجاه بالعزوف عن الذهاب إلى العراق، أن لا مناص من الرحيل إلى العراق مع عياله ونسائه، تلبية لنداءات أهل الكوفة، وأنه لا يترك طيبة مدينة جدّه ومسقط رأسه لرغبةٍ شخصية، فكما ترك النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) مكة المكرمة نحو المدينة لإقامة الحق، فإنّ سبطه سيّد الشهداء (صلوات الله عليه) ترك المدينة المنورة نحو العراق لإقامة الأمْت والعوج وإصلاح ما أفسده الحاكم.
• عيدٌ لا نعرفه:
للمسلمين أعيادٌ يفرحون بها، سنّها الإسلام وعمل بها المسلمون، ولكن أن يصار إلى الاحتفال بأعيادٍ من صنع الإنسان فتلك هي البدعة، والبدعة ستكون أعظم وأشد سوءاً حينما يحتفل بمقتل سيّدٍ من سادات الأرض والسماء وسيّد شباب أهل الجنة، فتلك هي الخطيئة الكبرى الّتي تفوق كل بدعة، ولقد روى لنا الصحابي سهل بن سعد الخزرجي الساعدي ما يشيب له الصبيان ويثكل النسوان، حيث يقول: خرجتُ إلى بيت المقدس حتّى أتيت دمشق، فرأيتُ أهلها قد علّقوا الستور والحجب والديباج، وهم فرحون مستبشرون، وعندهم نساء يلعبن بالدفوف، فقلت في نفسي: ألِأهل الشام عيدٌ لا نعرفه؟! فرأيت قوماً يتحدّثون، فقلت: يا قوم، ألكم في الشام عيدٌ لا نعرفه؟ قالوا: يا شيخ، نراك غريباً! قلت: أنا سهل بن سعد، رأيتُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وحملتُ حديثه، قالوا: يا سهل، ما أعجب السماء لا تمطر دماً، والأرض لم تنخسف بأهلها! قلت: ولمَ ذاك؟ قالوا: هذا رأس الحسين عترة محمّد (صلّى الله عليه وآله) يُهدى من العراق، فقلتُ: واعجبا! يُهدى رأس الحسين والناس يفرحون؟! (تسلية المُجالس وزينة المَجالس للكركي: 2 / 380).
هذا المشهد المأساوي الّذي عاشته الأمة بسبب الإعلام الأموي المضلّل، كان حاضراً في شعر الأبوذية، يرسم لنا خطوط التعجّب التي ارتسمت على محيّا الصحابي سهل الساعدي عندما دخل دمشق، والشام قد لبست ثوب عيد غفل عنه صحابة النبي (صلى الله عليه وآله) ومسلمو الحرمين الشريفين مكة والمدينة:
تِعَجَّب للدهر لو فِعَل زَينَه * مثل عِجْبة سَهل بالشام زَينَه
صاح اشصار هذا موش زَينَه * لو مخصوص هذا عيدُ اميَّه
والجناس في كلمة (زينه)، فالأولى: خلاف شينه، والثانية: أصلها زنه، وهي فعل أمر من وزن الشيء إذا كاله، وأراد وزن التعجب، والثالثة: من زيّن الشيءَ إذا حسّنه وزخرفه.
في الواقع إنّ الوضع السياسي والاجتماعي الّذي كانت تعيشه الأمة آنذاك، يعكس حجم الإعلام المضلّل الذي قلب الحقائق وجعل من أهل البيت (عليهم السلام) خوارج، يُساقون أُسارى من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى دمشق على نحو أربعين يوماً، ولهذا حينما صعد الإمام علي بن الحسين السجاد (عليه السلام) المنبر في مسجد يزيد بن معاوية وعرّف بنفسه، ضجّ المجلس بالبكاء والعويل، وانقلب السحر على الساحر، وعرف أهل الشام أنهم أمام موكب أهل بيت النبوة، الّذين ائتمن اللهُ المسلمين حبّهم ورهن في رقابهم مودتهم، بنصّ قوله تعالى: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (سورة الشورى: 23).