ارتأيت أن أذكر الروايات الأربعة التي ذكرتُها في كلامي السابق تتميماً للفائدة، ونقلتها بنصها من البرهان في تفسير القرآن بلا إضافة شيء أو نقص شيء في كلماتها وحافظت على الرقم الموضوع لها في التفسير المذكور.
١١٩٠٧- محمد بن يعقوب، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حمران، عن أبان بن تغلب، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لما أتى صاحب الحبشة بالخيل ومعهم الفيل؛ ليهدم البيت مروا بإبل لعبد المطلب فساقوها، فبلغ ذلك عبد المطلب، فأتى صاحب الحبشة، فدخل الآذن، فقال: هذا عبد المطلب بن هاشم. قال: وما يشاء؟ قال الترجمان: جاء في إبل له ساقوها يسألك ردها. فقال ملك الحبشة لأصحابه: هذا رئيس قوم وزعيمهم! جئت إلى بيته الذي يعبده؛ لأهدمه وهو يسألني إطلاق إبله! أما لو سألني الإمساك عن هدمه لفعلت، ردوا عليه إبله.
فقال عبد المطلب لترجمانه: ما قال الملك؟ فأخبره. فقال عبد المطلب: أنا رب الإبل ولهذا البيت رب يمنعه. فردت عليه إبله وانصرف عبد المطلب نحو منزله فمر بالفيل في منصرفه فقال للفيل: يا محمود. فحرك الفيل رأسه. فقال له: أ تدري لم جاؤوا بك؟ فقال الفيل برأسه: لا. فقال عبد المطلب: جاءوا بك؛ لتهدم بيت ربك، أفتراك فاعل ذلك؟ فقال برأسه: لا.
فانصرف عبد المطلب إلى منزله، فلما أصبحوا غدوا به لدخول الحرم، فأبى وامتنع عليهم، فقال عبد المطلب لبعض مواليه عند ذلك: اعل الجبل، فانظر ترى شيئاً؟ فقال: أرى سواداً من قبل البحر. فقال له: يصيبه بصرك أجمع؟ فقال له: لا، وأوشك أن يصيب. فلما أن قرب قال: هو طير كثير ولا أعرفه، يحمل كل طير في منقاره حصاة مثل حصاة الحذف أو دون حصاة الحذف. فقال عبد المطلب: وربِّ عبد المطلب ما تريد إلا القوم. حتى لما صارت فوق رؤوسهم أجمع ألقت الحصاة، فوقعت كل حصاة على هامة رجل، فخرجت من دبره فقتلته، فما انفلت منهم إلا رجل واحد يخبر الناس، فلما أن أخبرهم ألقت عليه حصاة فقتلته).
١١٩٠٨- وعنه: عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حمران، وهشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما أقبل صاحب الحبشة بالفيل يريد هدم الكعبة مروا بإبل لعبد المطلب فاستاقوها، فتوجه عبد المطلب إلى صاحبهم يسأله رد إبله عليه، فاستأذن عليه فأذن له، وقيل له: إن هذا شريف قريش-أو عظيم قريش- وهو رجل له عقل ومروءة. فأكرمه وأدناه، ثم قال لترجمانه: سله: ما حاجتك؟
فقال له: إن أصحابك مروا بإبل [لي] فاستاقوها فأحببت أن تردها علي. قال: فتعجب من سؤاله إياه رد الإبل وقال: هذا الذي زعمتم أنه عظيم قريش وذكرتم عقله، يدع أن يسألني أن انصرف عن بيته الذي يعبده، أما لو سألني أن أنصرف عن هذا لانصرفت له عنه. فأخبره الترجمان بمقالة الملك، فقال له عبد المطلب: إن لذلك البيت رباً يمنعه، وإنما سألتك رد إبلي لحاجتي إليها. فأمر بردها عليه.
فمضى عبد المطلب حتى لقي الفيل على طرف الحرم، فقال له: محمود. فحرك رأسه، فقال: أ تدري لم جيء بك؟ فقال برأسه: لا. فقال: جاؤوا بك؛ لتهدم بيت ربك أفتفعل؟ فقال برأسه: لا. قال: فانصرف عنه عبد المطلب، وجاؤوا بالفيل ليدخل الحرم، فلما انتهى إلى طرف الحرم امتنع من الدخول فضربوه فامتنع من الدخول، فأداروا به نواحي الحرم كلها، كل ذلك يمتنع عليهم، فلم يدخل، فبعث الله عليهم الطير كالخطاطيف في مناقيرها حجر كالعدسة أو نحوها، ثم تحاذي برأس الرجل، ثم ترسلها على رأسه فتخرج من دبره حتى لم يبق منهم إلا رجل هرب فجعل يحدث الناس بما رأى إذ طلع عليه طائر منها فرفع رأسه، فقال: هذا الطير منها، وجاء الطير حتى حاذى برأسه، ثم ألقاها عليه فخرجت من دبره فمات.
١١٩٠٩- وعنه: عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن جميل بن صالح، عن أبي مريم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل: (وأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) قال: كان طير ساف جاءهم من قبل البحر رؤُوسُها كأمثال رؤوس السباع وأظفارها كأظفار السباع من الطير مع كل طير ثلاثة أحجار: في رجليه حجران، وفي منقاره حجر، فجعلت ترميهم بها حتى جدرت أجسادهم فقتلتهم بها، وما كان قبل ذلك رئي شيء من الجدري ولا رأوا من ذلك الطير قبل ذلك اليوم ولا بعده.
قال: ومن أفلت منهم يومئذ انطلق حتى إذا بلغوا حضرموت، وهو واد دون اليمن، أرسل [الله] عليهم سيلاً فغرقهم أجمعين. قال: وما رئي في ذلك الوادي ماء [قط] قبل ذلك اليوم بخمسة عشر سنة. قال: فلذلك سمي حضرموت حين ماتوا فيه.
١١٩١٠- الشيخ في أماليه قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن محمد –يعني: المفيد- قال: حدثنا أبو الحسن علي بن بلال المهلبي، قال: حدثنا عبد الواحد بن عبد الله بن يونس الربعي، قال: حدثنا الحسين بن محمد بن عامر، قال: حدثنا المعلى بن محمد البصري، قال: حدثنا محمد بن جمهور العمي، قال: حدثنا جعفر بن بشير، قال: حدثنا سليمان بن سماعة، عن عبد الله بن القاسم، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده (عليهم السلام)، قال:
لما قصد أبرهة بن الصباح ملك الحبشة ليهدم البيت تسرعت الحبشة، فأغاروا عليها، فأخذوا سرحاً لعبد المطلب بن هاشم، فجاء عبد المطلب إلى الملك، فاستأذن عليه، فأذن له وهو في قبة ديباج على سرير له، فسلم عليه، فرد أبرهة السلام وجعل ينظر في وجهه، فراقه حسنه وجماله وهيئته. فقال له: هل كان في آبائك مثل هذا النور الذي أراه لك والجمال؟ قال: نعم أيها الملك، كل آبائي كان لهم هذا الجمال والنور والبهاء. فقال له أبرهة: لقد فقتم [الملوك] فخراً وشرفاً، ويحق لك أن تكون سيد قومك.
ثم أجلسه معه على سريره، وقال لسائس فيله الأعظم -وكان فيلاً أبيض عظيم الخلق له نابان مرصعان بأنواع الدر والجواهر، وكان الملك يباهي به ملوك الأرض- ائتني به. فجاء به سائسه وقد زين بكل زينة حسنة، فحين قابل وجه عبد المطلب سجد له، ولم يكن يسجد لملكه، وأطلق الله لسانه بالعربية، فسلم على عبد المطلب، فلما رأى الملك ذلك ارتاع له وظنه سحراً، فقال: ردوا الفيل إلى مكانه.
ثم قال لعبد المطلب: فيم جئت؟ فقد بلغني سخاؤك وكرمك وفضلك، ورأيت من هيئتك وجمالك وجلالك ما يقتضي أن أنظر في حاجتك، فسلني ما شئت. وهو يرى أن يسأله في الرجوع عن مكة، فقال له عبد المطلب: إن أصحابك غدوا على سرح لي فذهبوا به، فمرهم برده علي.
قال: فتغيظ الحبشي من ذلك، وقال لعبد المطلب: لقد سقطت من عيني، جئتني تسألني في سرحك، وأنا قد جئت لهدم شرفك وشرف قومك ومكرمتكم التي تتميزون بها من كل جيل، وهو البيت الذي يحج إليه من كل صقع في الأرض، فتركت مسألتي في ذلك وسألتني في سرحك؟!
فقال له عبد المطلب: لست برب البيت الذي قصدت لهدمه، وأنا رب سرحي الذي أخذه أصحابك، فجئت أسألك فيما أنا ربه، وللبيت رب هو أمنع له من الخلق كلهم، وأولى [به] منهم.
فقال الملك: ردوا إليه سرحه، فردوه إليه وانصرف إلى مكة، وأتبعه الملك بالفيل الأعظم مع الجيش لهدم البيت، فكانوا إذا حملوه على دخول الحرم أناخ، وإذا تركوه رجع مهرولاً، فقال عبد المطلب لغلمانه: ادعوا لي ابني. فجيء بالعباس، فقال: ليس هذا أريد، ادعوا لي ابني. فجيء بأبي طالب، فقال: ليس هذا أريد، ادعوا لي ابني. فجيء بعبد الله أبي النبي (صلى الله عليه وآله)، فلما أقبل إليه قال: اذهب يا بني حتى تصعد أبا قبيس، ثم اضرب ببصرك ناحية البحر، فانظر أي شيء يجيء من هناك وخبرني به.
قال: فصعد عبد الله أبا قبيس، فما لبث أن جاء طير أبابيل مثل السيل والليل، فسقط على أبي قبيس، ثم صار إلى البيت، فطاف [به] سبعاً، ثم صار إلى الصفا والمروة فطاف بهما سبعاً، فجاء عبد الله إلى أبيه فأخبره الخبر، فقال: انظر يا بني ما يكون من أمرها بعد فأخبرني به. فنظرها فإذا هي قد أخذت نحو عسكر الحبشة، فأخبر عبد المطلب بذلك، فخرج عبد المطلب وهو يقول: يا أهل مكة، اخرجوا إلى العسكر فخذوا غنائمكم.
قال: فأتوا العسكر، وهم أمثال الخشب النخرة، وليس من الطير إلا ما معه ثلاثة أحجار، في منقاره ورجليه، يقتل بكل حصاة منها واحدا من القوم، فلما أتوا على جميعهم انصرف الطير، ولم ير قبل ذلك ولا بعده فلما هلك القوم بأجمعهم جاء عبد المطلب إلى البيت فتعلق بأستاره، وقال:
يا حابس الفيل بذي المغمس
حبسته كأنه مكوكس
في مجلس تزهق فيه الأنفس
فانصرف وهو يقول في فرار قريش وجزعهم من الحبشة:
طارت قريش إذ رأت خميساً
فظلت فرداً لا أرى أنيساً
ولا أحس منهم حسيساً
إلا أخا لي ماجداً نفيساً
مسوداً في أهله رئيساً
أقول: في مجموع هذه الروايات توضيح ما استشكل به صاحب الموضوع، فكلها صريحة في أن غاية جيش الحبشة هي هدم البيت الكريم، والرابعة صريحة في أن قريشاً هابت الفيل وتركت عبد المطلب وحده أمام هذا الجيش، وكلها يُشم منها أن ملك الحبشة أراد من سيد قريش وزعيمها أن يتوسل إليه في ترك البيت فيحمل قريشاً وسيدها جميلاً إلى يوم يبعثون، وقد يستظهر منها جميعاً أن عبد المطلب كان عالماً بما سيقع على القوم.
ولا يقال: إن الملك حقق بعض ما يريد بأن جعل عبد المطلب يسأله رد الإبل عليه فرأى ذل السؤال على وجه سيد قريش؛ لأن عبد المطلب قبل أن يدخل على القوم أو بعد ذلك أو في المرتين معاً أراهم شيءاً عجباً وأن فيلهم الذي جيء به لقذف الرعب يطيعه ويسجد له ويفهم كلامه، وكان المترجم موجوداً وسمع سؤال عبد المطلب للفيل عن أنه هل سيفعل ما يأمره القوم ورأى حركة رأس الفيل أو سمع جوابه على الاختلاف بين الروايتين فأفهم سيد العرب القوم بأنه لا يهاب ما جاؤوا به، بل أفهمهم أن ما يريدونه لن يحدث فلا داعي لطلب شيء في هذا الشأن من الملك.
وفقكم الله.
إن اتضح هذا فسأستمر معكم -إن شاء الله- في باقي المسائل التي طُرحت أو يراد منها أن تطرح.