وفي عصرنا الحاضر لا ننسى ما لحاسة التذوق من دور في تفضيل غذاء على آخر ، فالسكر مثلاً قد استغلته صناعة السكاكر أفظع استغلال ، وأصبحت تنتج منه الأصناف المغرية التي ترضي الأذواق ، وإن كانت لا تفيد في الغذاء .
وكذلك الدعاية وطرق النشر لعبت ـ وتلعب ـ دوراً كبيراً في جذب الناس إلى صنف دون آخر ، ويروي في هذا الصدد أن بعض تجار اللحوم نشروا في أفريقيا الشرقية دعاية قالوا فيها : إن تناول لحوم الطير والبيض يجعل المرأة ولوداً ، مما يؤدي إلى إضعافها وشيخوختها ، وأكل لحم الماعز ينبت لها ذقناً ! .. فأثرت هذه الدعاية في نساء تلك المنطقة ، وانصرفن عن أكل البيض ولحوم الماعز والطيور الوفيرة لديهن .
والإنتاج الكبير للمواد الغذائية ، وسهولة نقلها ، وارتفاع دخل الفرد .. هذه العناصر وغيرها كثير ؛ كان لها أثر عميق في تطوير الغذاء ، وتبديل عادات الشعوب في تناوله ، ولما كانت الشعوب ـ وبخاصة المتخلفة ـ لا تأكل ما يفيد ، وإنما تأكل ما يحبه ذوقها ، أو ما تحب أن تقلد به غيرها تقليداً أعمى ، فقد ازداد إقبالها على ما يرضي الذوق ، وأصبح إنتاج المواد الغذائية ليس لسد حاجة الشعوب الغذائية ، بل لسد متطلبات البيع ، وقد صدق الدكتور ( جان ماير ) أستاذ التغذية في مدرسة الصحة العامة في جامعة هار فارد الأمريكية حين قال : ( إن أكثر الأمراض الخطيرة التي تزداد انتشاراً في العالم اليوم لا ينشأ عن نقص الغذاء ، بل عن تناول الأطعمة الفقيرة بالمواد المغذية ) .
إن القسم الأكبر من أغذيتنا ـ اليوم ـ يخضع لمقتضيات التحول الصناعي في المواد الأولية الطبيعية ، مثل : القمح الذي يُطحن وينتج منه الدقيق الأبيض وتحذف منه النخالة التي فيها المواد المغذية الصحيحة ، والخضراوات والفواكه واللحوم والأسماك تخضع لعمليات الطبخ والتعقيم والحفظ في علب معدنية تجعلها عرضة للسموم ، إلى جانب ما فقدته من خواصها ، والحبوب والفواكه والزيتون وفستق العبيد وفول الصويا وعباد الشمس ، تُحول عصاراتها المفعمة بالغذاء الثمين إلى زيوت مصفاة نقية ، أو سمون بيض ناصعة ، وقد خسرت أكثر جواهـرها ، واستبدلتــها بسموم ( الهيدروجين ) وغيرها من وسائل التصفية والتبييض ..
لقد أجرى عالمان كبيران من علماء وظائف الأعضاء في أمريكا هما الدكتوران ( هوارد هاغارد ) و ( ليون غرينبرغ ) من أساتذة ( جامعة ييل ) دراسات عملية طويلة على عمال بعض المصانع ليتبينا علاقة التعب بأصول التغذية ، فأسفرت عن نتائج هامة تلخص بما يلي :
1ـ كفاية العضلات تزداد ازدياداً سريعاً بعد تناول طعام منوع فيه زلال وبروتين ودهن ، وتظل الكفاية ساعة واحدة بعد الطعام ، ثم تأخذ بالهبوط شيئاً فشيئاً خلال الساعات الخمس التالية .
2ـ تناول وجبتين من الطعام في اليوم يبقي الكفاية ضئيلة طول النهار ، وتناول ثلاث وجبات يجعل الكفاية جيدة بعد الوجبة ثم تنخفض تدريجياً . وتناول أربع وجبات يزيد الكفاية عقب كل وجبة ثم تبدأ بالانخفاض . تناول خمس وجبات يجعل مستوى الكفاية عالياً طول النهار . مع العلم أن مقدار الطعام اليومي لم يتبدل في كل الحالات ، وإنما كانت النتائج تظهر بحسب عدد الوجبات .
3ـ اقترح العالمان الباحثان ـ بعد ظهور نتائج دراساتهما العلمية ـ أن يسير الإنسان في غذائه على نظام تعديد الأكلات في اليوم ، ويقترحان أن يتناول بين وجبة وأخرى شيئاً من الطعام ( كوب حليب أو لبن ، قطعة فاكهة أو خضرة ) ، و ألا يريح معدته بإفراغها من الغذاء ، ولا ينتظر من معدته أن تجوع فتطلب الغذاء ، ويقولان :
( إذا شعرت بشيء من التعب أو بإعياء نفسي يصدك عن الطعام ، فكل أي شيء من مقدار ما تأكله في وجباتك ولا تزده ، فالعبرة في توزيع الغذاء ، وليس في زيادته . والتعب الذي تشعر به لا يزول بالراحة بل بالطعام الذي ينعش الجسم ) .
وقد ذكر الدكتور ( ادمون روفيه ) أن أحسن طرق الأكل أن يتناول الإنسان في الصباح ترويقة كاملة يحاول تنويع المآكل فيها بين يوم وآخر ، وعند الظهر يتناول شيئاً بسيطاً من الطعام ـ بحسب رغبته وشهيته ـ ويحاول ألا يقطع عمله بتناول الطعام مدة ساعتين أو ثلاث ساعات ولا يتعب المعدة بالهضم ، والجسم بثقل الطعام .
وفي المساء ـ خلافاً للمعتاد ـ يتناول وجبة كاملة تتناسب مع تعب الجسم ثماني ساعات متوالية ، وإذا تناول المرء هذه الوجبة بين الساعة السادسة والسابعة مساءً فيكون لديه الوقت الكافي للدراسة أو القراءة أو مشاهدة التلفاز ، أو التحدث إلى العائلة ، وعندما يأوي إلى فراشه ينام بعمق ، وإن من الوهم أن يظن بأن طعام المساء ثقيل على المعدة ، وأن الشغل وحده هو الذي يهضم الطعام ، وأن الهضم يتوقف خلال النوم ، مع أن الواقع خلاف ذلك كله .
إن ( المُحرك البشري ) يعمل ببطء أثناء النوم ، ولكنه لا يتوقف .. لقد حسب ما يصرف الشخص من الحروريات خلال نومه ثماني ساعات فبلغ ( 550 حرورياً ) ، فإذا كانت وجبة المساء تعطي ما بين 800 ـ 900 حروري لأنها أخف من وجبة الظهر فمعنى ذلك أن ثلثي حروريات الوجبة المسائية صرفت أثناء النوم ، وهذا يؤكد أن الهضم لا يتوقف في الليل بل يخف بمقدار الثلث فقط عن هضم النهار .
أعلن الدكتور ( شانتلو ) الأخصائي في الأمراض التناسلية : أن تجارب أجريت على أشخاص من قبائل الاسكيمو ، فظهر منها أن حجم أولادهم أصبح ثلاثة أضعاف منذ كفوا عن تناول الأسماك واللحوم ، وبعد أن كان الزوجان ينجبان ولداً في كل ثلاث سنوات أصبحا ينجبان ولداً في كل عام . وذلك بفضل استغنائهما عن لحوم الصيد وتناولهما الأطعمة الأخرى .
ـ وقال : حدث لبعض الجنود الإنكليز الذين أسروا في اليابان في الحرب الماضية أن أخذت تنبت لهم نهود في صدورهم بسب ما أصابهم من نقص بعض المواد في طعامهم . فلما عادوا إلى بلادهم وإلى طعامهم المعتاد اختفت هذه النهود .
ـ ولاحظ العلماء أن ملكة النحل تضع في بعض الأحوال نحو مأتي ألف بيضة ، وتعيش الملكة
خمس سنوات ، بينما النحلة العاملة لا تعيش أكثر من خمسة اشهر ، والسبب هو انتقاء غذاء خاص للملكة .
ـ وظهر للباحثين أن حليب الأم يحوي من فيتامين ( أ ) خمسة أضعاف ما يحويه حليب البقر ، ولذا من الضروري أن ترضع الأم طفلها ، وإلا فيبقى مفتقراً إلى حاجته من هذه المادة .
ـ ويتدرج جسم الإنسان في تأمين مخزونة من هذا الفيتامين ، فيملك البالغ خمسة أضعاف ما يملكه اليافع ، وتنخفض هذه الكمية عندما يبلغ المرء الستين وتعود إلى ما كانت عليه .
والمرأة تملك من الفيتامين ( أ ) أكثر من الرجل بسبب استعدادها لخزنه ، ولأنها أكثر من الرجل ميلاً إلى التهام الخضراوات
ويختزن الرجل من ( التوكوفيرول ) من 2 ـ 4 غرامات ، بينما تختزن المرأة ضعف هذا الرقم ، وعند الرجل الضعيف جنسياً يقل ( توكوفيرول الدم ) وثبت علمياً أن المتاعب الجنسية تعود إلى سوء انتقاء الغذاء .
ـ إن قشرة القمح هي وحدها التي تحتوي المواد الغذائية القيمة ، والرجل السلافي هو أكثر ا لرجال قوة جنسية لأنه يتناول الخبز الأسمر ، والذين يأكلون الخبز الأبيض والمأكولات السكرية والنشوية يكون أكثر أولادهم من الإناث .
ـ يظن البعض أن اللحم هو خير غذاء ، مع أن الوحش عندما ينقضُّ على فريسته يهجم على الكبد والقلب والرئتين ولا يقرب اللحم إلا أخيراً ، وقد قدمت لحوم الأفخاذ إلى أسود فظهر عليها الضعف بعد أيام ، وعندما تركت تأكل ما تشاء عادت قوية .
ـ ظهر للدكتور الأستاذ ( كاتاز ) الياباني ـ من تجاربه الكثيرة ـ أن الرجال الذين يكثرون من أكل اللحوم والمواد الغنية بالفوسفور يكون أولادهم الإناث أكثر من الذكور ، والذين يتغذون بالخضراوات والفواكه الغنية بالكلسيوم يكون أكثر أولادهم من الذكور .
تأثير الغذاء في الجمال : ـ للغذاء تأثير كبير في حالة بشرة الوجه وفي الجمال ، ولذا يجب أن يكون الغذاء بسيطا ، سهل الهضم ، حاوياً المواد المغذية ، كما يجب الإكثار من أكل الفواكه الطازجة والخضراوات ، ويجب الحذر من الإمساك فهو أكبر عدو للجمال ـ ويعالج بالتمرينات الرياضية للبطن وتنظيم الغذاء .
والتفاح من أحسن الأغذية للبشرة ، فإذا واظبت المرأة على أكل تفاحة على الريق قبل الترويقة بساعة تنحو من ظهور البثور أو البقع في بشرتها ، ويؤكل التفاح بقشرة ، ويمكن الاستعاضة عنه بالبرتقال ، والعنب .
ـ ظهر من تجارب أجريت في نيويورك من قبل علماء وأطباء كـــــــــبار أن ( حامض الجيلاتين ) يرفع مستوى ذكاء العقل ، ويقوي العقول الضعيفة ، وهذا الحامض مستخلص من البروتين ، ويجري العمل لتركيب هذه المادة في حبوب تستعمل مع الغذاء .
والمواد التي تفيد في هذا المضمار هي : الفسفور ، والكلسيوم ، والمنغنيز يوم ، والليستين ، وحامض الغلوتوميك ، وفيتامينات ب1 ، ب ب PP ، وتوجد هذه المواد بوفرة في : الحليب ، والجبنة ، والسمك ، واللوز ، والجوز ، وحبوب القمح ، والبندق ، والخضراوات ، وخميرة البيرة والفواكه .
يجري العلماء تجارب واسعة لتخليص بعض الأطعمة من المواد والعناصر الضارة .
ففي كندا ـ مثلاً ـ يسعى علماء جامعة ( ساسكا تشوان ) إلى تخليص البيض من المواد التي تؤثر في القلب ، وقد استطاعوا إنتاج بيض من نوع جديد له طعم البيض العادي ولا يؤذي القلب .. ففي البيضة الجديدة زيت يغسل القلب والشرايين ويزيل من الدم الشحم الذي كان يسد الشرايين ويؤذي القلب .
ـ واكتشف هـؤلاء العلماء أن حبوب زهرة ( عباد الشمس ) تحتوي على زيت Ufa ) الذي يغسل الشرايين ، فوضعوا هذا الزيت في طعام الفراخ وحصلوا على البيض الجديد
ـ وتجري تجارب في إنجلترا لإنتاج خراف بلا دهن ولا شحم ، وفي السويد يحاول العلماء إنتاج سمك لا يفسد إذا ترك بلا طهي ثلاثة أيام .
ـ ويجري في أمريكا إنتاج غذاء كيماوي كامل من مسحوق أحماض الامينو ( وهي المواد الموجودة في اللحم والحليب والبيض وغيرها من الأطعمة البروتينية ) ، ومن الفوسفات والغلوكوز والملح والفيتامينات ، وسيكون هذا الغذاء مسحوقاً أبيض يذوب في الماء ثم في حبوب صغيرة أو برشامات.
وهناك سباق عنيف بين علماء التغذية لانتاج أطعمة كثيرة أوفر غذاء وفائدة .
ـ وجرت مؤخراً دراسات كثيرة وواسعة على نبات ( التابيوكا ) الذي يسمى أيضاً مانيو أو مانيهوت فظهرت له قيمة في الغذاء ـ أكثر مما كان يظن ـ كما اكتشفت فيه مواد لها نفع عظيم في مكافحة علل الغدة الدرقية .
وإلى جانب هذا النشاط العلمي لإنتاج أطعمة جديدة ، تنشط في أوربة وأمريكا جمعيات ومؤسسات تدعو لرجوع الإنسان إلى طبيعته الأولى ، القائلة بأنه نباتي في غذائه وتقـيــم دعــواتها على آراء علماء وأطباء قالوا بهذا منهم : ( كوفييه ) العالم الطبيعي المشهور القائل : إن جسد الإنسان مركب بحيث يكون معظم تغذيته من الفواكه وجذور النباتات وأجزائها المائية .
ـ والعالم فلونس القائل : إن تكوُّن معدة الإنسان وأسنانه وأمعائه يدل على أنه من أكلة النباتات والفواكه .
ـ والدكتور كويناك القائل : لا شك في إمكان جعل البنية في حالة صحية جيدة بالاقتصار على الأغذية النباتية دون سواها .
إن العضلات لا تقوى بأكل اللحم ، بل بأكل الخبز والأدهان . لقد كان اليونان يهيئون شبابهم للمصارعة بحصر تغذيتهم منذ الصغر بالتين ، والجوز ، والجبن ، والخبز الخشن .
ـ والدكتور هو شار القائل : إن الأغذية النباتية تحتوي من حمض الفوسفوريك على المعدة فهي تهضم في الأمعاء ، أما اللحم فيهضم في المعدة .
إن أفضل علاج للنورستانيا هو الاقتصار على تدبير غذائي نباتي لَبَني يُنَقِّي البنية .
إن الغذاء النباتي يطيل الحياة لأنه لا يهدم البنية ، ويقي الجسم من الإصابة ببعض الأمراض ، وأكثر المعمرين كانوا من النباتيين .
وغير هؤلاء كثيرون يقولون :
إن الغذاء النباتي يزيد القوة ، ويساعد على إطالة الحياة ، ويستدلون على ذلك بالحيوانات ذات الأجسام الضخمة كالفيل والجمل والثور ، فهي أقوى الحيوانات وهي نباتية ، والسلحفاة التي تعمر مئات السنين نباتية .
وقد ثبت في الدراسات الحديثة ما قيل قديماً وما عرف عن الشعوب التي تعتمد في غذائها على اللحوم : أنها تتميز بسرعة الغضب ، وشدة الاندفاع والقسوة ، بينما الشعوب التي تعتمد على النبات تعرف الهدوء ، وضبط النفس ، واللين ، والرأفة ، في معاملة الناس .
وقال الدكتور سوير و يسكي : لا يوجد للدم نقاءه وزيادة قلوياته إلا النباتات .