كلن الامام يختار الصالحين من أهل التقوى والإدارة والحزم ولاة على المدن ؛ لهذا عين مالكا الأشتر حاكما على الموصل وسنجار ونصيبين وهيت وعانات ، وهي مناطق واقعة على حدود الشام .
كان معاوية قد أعلن العصيان للخلافة وانفرد بحكم الشام .
حاول الإمام إقناع معاوية بالطاعة فبعث برسائل عديدة وأوفد اليه من يتحدث معه ولكن بلا فائدة .
لهذا جهز الإمام جيشا وأسند قيادته الى مالك الأشتر .
زحف الجيش باتجاه الشام ووصل منطقة " قرقيسيا " فاصطدم بجيش الشام تحت قيادة "أبي الأعور السلمي "
حاول مالك الأشتر إقناع " قائد الجيش " بإنهاء التمرد والدخول في طاعة أمير المؤمنين الذي ارتضاه الناس خليفة لهم فرفض ذلك .
وفي الليل ، انتهز جيش الشام الفرص وقام بهجوم دون سابق انذار :
وكان هذا العمل مخالفا للشريعة والأخلاق لأنه عذر .
قاوم جيش الخلافة الهجوم المباغت وكتبد المهاجمين العديد من القتلى وأجبره على الانسحاب الى مواقعه.
ومرة أخرى تجلت فروسية مالك الأشتر ، فأرسل الى " ابي الاعور " مبعثوا يدعوه للمبارزة .
قال الرسول :
-يا أبا الأعور إن مالك الأيتر يدعوك للمبارزة .
جبن قائد جيش معاوية وقال .
-لا أريد مبارزته .
وصلت إمدادات كبيرة بقيادة معاوية ملتحقة بجيش الشام .
وتقابل الجيشان في سهل " صفين " على نهر الفرات .
احتلت قطعات من جيش معاوية الشواطئ وفرضت حصارا على النهر .
كان هذا العمل أيضا مخالفا للشريعة الإسلامية ولتقاليد الحروب .
بعث االإمام أحد صحابة النبي (ص) وهو " صعصعة بن صوحان" للتفاوض :
دخل صعصعة خيمة معاوية وقال :
-يا معاوية إن عليا يقول : دعونا نأخذ حاجتنا من الماء حتى ننظر فيما بيننا وبينكم ، وإلا تقاتلنا حتى يكون الغالب هو الشارب .
سكت معاوية وقال :
-سوف يأتيك ردي فيما بعد .
خرج مبعوث الإمام ؛ واستشار معاوية رجال فقال الوليد بحقد :
-امنع الماء منهم ، حتى يضطروا للاستسلام .
وحظي هذا الرأي بتأييد كامل .
لقد جمع معاوية حوله كل الأشرار الذين لا يعرفون حرمة للدين والإنسانية .
كان مالك الأشتر يراقب ما يجري على الشواطئ فشاهد وصول تعزيزات عسكرية ، فأدرك أن معاوية يفكر بتشديد الحصار .
شعر جنود الإمام بالعطش ، وكان مالك عطشان أيضا ، فقال له جندي :
-في قربتي ماء قليل اشربه .
رفض مالك ذلك وقال :
-كلا حتى يشرب جميع الجنود .
ذهب مالك إلى الامام وقال :
-يا أمير المؤمنين ان جنودنا يصرعهم العطش ولم يبق أمامنا سوى القتال .
أجاب الإمام :
أجل لقد اعذر من أنذر .
وخطب الإمام في الجنود وحثهم على الاستبسال قائلا :
-الموت في حياتكم مقهورين .
والحياة في موتكم قاهرين .
أي أن الموت هو أن يرضى الإنسان بالذل .
وان الحياة في أن يموت المرء شهيدا .
وقاد مالك الأشتر أول هجوم في حرب صفين وراح يقاتل ببسالة ويتقدم باتجاه شواطئ الفرات .
وبعد اشتباكات عنيفة تم تحرير ضفاف النهر وإجبار جيش معاوية على الانسحاب .
أصبح جيش معاوية بعيد عن المياه ، ولهذا فكر في حيلة لاستعادة مواقعة على نهر الفرات .
وفي اليوم التالي سقط سهم بين جنود الإمام وكان في السهم رسالة قراها الجنود باهتمام .
وانتقلت الرسالة بين الجنود بسرعة وانتشر الخبر : " من اخ ناصح لكم في جيش الشام : ان معاوية يريد أن يفتح عليكم النهر ويغرقكم ، فاحذروا " .
وصدق الجنود ما ورد في تلك الرسالة فانسحبوا وانتهز جيش الشام الفرصة فأعاد احتلاله للشواطئ مرة أخرى .
غير ان جيش الإمام شن هجوما كاسحا وحرر المنطقة من قبضة الاحتلال .
شعر معاوية بالقلق ، فسأل عمرو بن العاص :
-هل تظن ان عليا سيمنع علينا الماء ؟
أجاب عمرو بن العاص :
-إن عليا لا يعمل مثلما تفعل أنت .
كان جنود الشام يشعرون بالقلق أيضا .
ولكن سرعان ما وصلت الأخبار بأن الإمام عليا سمح لهم بورود النهر وترك لهم مساحة من الشواطئ كافية .
أدرك بعض أهل الشام الفرق بين معاوية وعلي ، فمعاوية يفعل كل شئ من أجل ينتصر ، أما علي فلا يفكر في ذلك ، إنه يسير في ضوء المثل والأخلاق الإنسانية .
لهذا تسلل بعض الجنود ليلا وانتقلوا إلى جبهة علي لانها تمثل الحق والإنسانية .
معاوية
كان معاوية يشعر بالقلق من وجود مالك الشتر ، لأن شجاعته وبسالته في القتال ألهب الحماس في جيش علي وبثت الذعر في جنود الشام .
فكر معاوية في القضاء عليه عن طريق المبارزة الفردية . فعرض المر على مروان ، ولكن مروان كان يخاف من مالك فاعتذر الى معاوية وقال :
-لماذا لا تكلف " ابن العاص " بذلك فهو ساعدك الأيمن :
عرض معاوية اقتراحه على عمرو بن العاص فاضطر لقبوله .
خرج ابن العاص يطلب مبارزة الأشتر .
تقدم مالك نحوه وبيده رمحه : ولم يترك له فرصة للدفاع فسدد له ضربة عنيفة جرحت قسما من جهة فلاذ عمرو بن العاص بالفرار .
استشهاد عمار
تصاعدت حدة الاشتباكات وكان عمار يقود الجناح الأيسر من جيش الإمام ، ويقاتل ببسالة رغم شيخوخته .
وعندما جنحت الشمس للمغيب طلب عمار شيئا يفطر به لأنه كان صائما .
أحضر أحد الجنود إناء مليئا باللبن وقدمه اليه ، استبشر عمار بذلك وقال :
-ربما أرزق الشهادة هذه الليلة فقد قال لى رسول الله (ص) : يا عمار تقتلك الفئة الباغية ، وآخر شرابك من الدنيا ضياح (إناء) من لبن .
أفطر الصحابي الجليل وتقدم إلى ساحات القتال بقلب عامر بالايمان وظل يقاتل حتى هوى على الارض شهيدا .
جاء الإمام وجلس قرب الشهيد وقال بحزن:
-رحم الله عمارا يوم أسلم ، ورحم الله عمارا يوم استشهد ، ورحم الله عمارا يوم يبعث حيا هنيئا لك الجنة يا عمار .
كان لإستشهاد عمار بن ياسر في ساحة الحرب أثره في سير المعارك ، فقد ارتفعت معنويات جيش الإمام فيما انخفضت لدى جنود معاوية : لأن المسلمين جميعا يحفظون حديث سيدنا محمد (ص) لعمار بن ياسر : " يا عمار تقتلك الفئة الباغية " أي المعتدية .
وأدرك الجميع ان معاوية وجنوده هم المعتدون وان عليا واصحابه على الحق .
لهذا تصاعدت حدة الحملات الهجومية في جبهة الإمام ، وراح معاوية وجيشه يستعدون للهزيمة .
حيلة جديد ة
فكر معاوية بحيلة جديدة يخدع بها جيش الإمام ، فاستشار " عمرو بن العاص "
قال عمرو بن العاص :
-أرى أن نخدعهم بالقرآن . نقول لهم : بيننا وبينكم كتاب الله .
فرح معاوية لهذه الحيلة وأمر برفع المصاحف على الرماح .
عندما شاهد جنود الإمام المصاحف ، فكروا في ايقاف الحرب وبذلك انطلب الحيلة على كثير من الجنود .
قال الإمام : انها مكيدة . أنا أول من دعا إلى كتاب الله وأول من أجاب اليه . انهم عصوا الله فيما أمرهم ونقضوا عهده .
ولكن عشرين ألفا من الجنود عصوا أمر الإمام وقالوا :
-اصدر أمرك بايقاف القتال وقل للأشتر ينسحب .
أرسل الإمام أحد الجنود إلى مالك الأشتر يأمره بايقاف العمليات الحربية .
استمر مالك الأشتر في القتال وقال :
-ما هي إلا لحظات ونحرز النصر النهائي .
قال الجندي :
- ولكن الإمام محاصر بعشرين ألف من المتمردين وهم يهددون بقتله اذا لم توقف القتال .
اضطر مالك الأشتر للإنسحاب وقال :
-لا حول ولا قوة إلا بالله .
التحكيم
كان مالك الأشتر يدرك أن ما قام به معاوية هو مجرد حيلة ، ولكنه انصاع لأمر الامام حتى لا تحدث الفتنة ، فكان قائدا شجاعا وجنديا مطيعا .
توقفت المعارك واتفق الطرفان على الاحتكام الى كتاب الله .
فأرسل معاوية عمرو بن العاص ممثلا عنه في المفاوضات .
وأراد الإمام أن يختار رجلا عاقلا فطنا عالما بكتاب الله فاختار عبدالله بن عباس حبر الامة.
ولكن المتمردين رفضوا ذلك مرة اخرى وقالوا :
نختار " أبا موسى الاشعري ""
فقال الإمام (ع) ناصحا :
-أنا لا أرضى به وعبدالله بن عباس اجدر منه .
رفض المتمردون ذلك فقل الامام .
-إذن اختار الاشتر .
فرفضوا أيضا وأصروا على " أبي موسى الأشعري"
وحتى لا تحدث الفتنة قال الإمام :
-اصنعو ما شئتم .
وهكذا اجتمع الممثلان للمفاوضات .
فكر عمرو بن العاص أن يخدع" الأشعري " فقال له :
-يا أبا موسى إن سبب الفتنة وجود معاوية وعلي ، فتعال لنخلعهما عن الخلافة ونختار رجلا آخر .
كان " الأشعري " لا يحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، فرحب بالفكرة ، فقال أمام الجميع :
-إنني أخلع عليا عن الخلافة كما أخلع خاتمي من يدي .
ثم نزع خاتمه .
وهنا قال عمرو بن العاص بخبث :
-أما أنا فأثبت معاوية في الخلافة كما أثبت خاتمي في يدي .
ثم لبس خاتمه .
شعر المتمردون بالندم ، وبدل أن يتوبوا ويعودوا إلى طاعة أمير المؤمنين فإنهم طلبوا من الإمام أن يتوب ويعلن الحرب .
ولكن الإمام كان إنسانا يحترم العهود والمواثيق وقد اتفق على الهدنة وإيقاف القتال لمدة سنة .
طلب الإمام منهم أن يصبروا هذه المدة ولكنهم عصوا أوامره أيضا وخرجوا على طاعة الإمام لهذا سموا " الخوارج" .
مصر
فكر معاوية أن يستولي على مصر ، فأرسل جيشا كبيرا لاحتلالها .
كان الوالي على مصر محمد بن أبي بكر " الخليفة الأول " .
أرسل الوالي يطلب الإمدادات العسكرية بأقصى سرعة قبل أن تسقط مصر بأيدي الغزاة .
فأرسل الإمام مالكا الأشتر وقال له :
-توجه إلى مصر رحمك الله ولست أوصيك بشيء لأنني أكتفي برأيك .
استعن بالله .
استعمل اللين في مواضعه والشدة في مواضعها .
وانطلق الأشتر إلى مصر .
السم والعسل
شعر معاوية بالقلق فهو يدرك ان وصول مالك الأشتر الى مصر يعني إنقاذها ، لهذا فكر بقتله .
كان معاوية اذا أراد أن يغتال شخصا دس اليه العسل المخلوط بالسم .
وكان معاوية يستورد هذه السموم من القسطنطينية ؛ وكان الروم يسمحون بتصديرها لأنهم يعرفون ان معاوية يستخدمها لقتل المسلمين .
قال عمرو بن العاص :
-اني أعرف رجلا يسكن مدينة القلزم على حدود مصر وهو يملك أراض واسعة ولا بد أن يمر الأشتر في هذه المدينة ويتوقف فيها للاستراحة .
قال معاوية :
-إذن اتصل به واخبره إذا تمكن من اغتيال الشتر فسنعفيه من دفع الضرائب مدى الحياة .
وهكذا انطلق مبعوث معاوية على وجه السرعة ، وأخذ معه العسل المسموم ليتصل بذلك الرجل ويقنعه بهذه المهمة .
الشهادة
وافق الرجل على اقتراح معاوية وأخذ الخليط القاتل ؛ يترقب وصول مالك الأشتر .
وبعد ايام قليلة وصل مالك مدينة القلزم .
دعا الرجل والي مصر الجديد لأن يحل ضيفا في منزله .
لبى الأشتر الدعوة شاكرا .
وضع الرجل إناء العسل المسموم في مائدة الطعام .
وعندما تناول الضيف معلقة واحدة شعر بألم شديد في أمعائه وأدرك المؤامرة ، فقال وهو يضع يده على بطنه .
-بسم الله .... إنا لله وإنا اليه راجعون .
واستقبل مالك الأشتر الموت بشجاعة المؤمن المطمئن الذي يعرف ان طريقه هو طريق الإسلام والجنة .
وعندما استشهد مالك الاشتر ، كاد معاوية أن يطير من الفرح وقال :
-لقد كانت لعلي بن أبي طالب يدان .
قطعت إحداهما يوم صفين وهو عمار بن ياسر .
وقطعت الأخرى اليوم وهو مالك الاشتر .
أما أمير المؤمنين علي (ع) فقد شعر بالأسف العميق وقال بحزن .
-رحم الله مالكا .
فقد كان لي كما كنت لرسول الله (ص) .
أي ان مالكا ( رضوان الله عليه ) كان يحب عليا ويطيعه كما كان علي (ع) يحب سيدنا محمدا (ص) ويطيعه .
وهكذا ختم مالك الاشتر ( رض ) حياته الحافلة بالجهاد لتبقى سيرته المضيئة مثلا لشباب الإسلام في كل مكان .
منقووول للفائدة
دمتم برعاية بقية الله الأعظم