اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وأهلك أعدائهمأجمعين ،،،
اللهم صل على الصديقة الطاهرة فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسرالمستودع فيها عدد ما أحاط به علمك وأحصاه كتابك ،،
السلام على أم الشهيد بكربلاء
السلام على أم الملقى في الهيجاء
السلام على أم المخضّب بالدماء
السلام على أم الشهيد المحروم من الماء
السلام على أم الصريع على الرمضاء
السلام على ذات أعظم بلاء
السلام عليك يا سيدتي ومولاتي يا فاطمة الزهراء
السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلت بفنائك
***
سياحة في تاريخ الكوفة
روايات في شرف الكوفة
• قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: إن الله تبارك وتعالى اختار من البلدان أربعةً فقال: والتينِ والزيتونِ * وطُورِ سِينينَ * وهذا البلدِ الأمين ، فالتين: المدينة، والزيتون: بيت المَقْدِس، وطور سينين: الكوفة، وهذا البلد الأمين: مكّة (1).
• وفي قوله تعالى: وآوَيْناهُما إلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ ومَعين (2) قال أمير المؤمنين عليه السّلام: الرَّبوة: الكوفة، والقرار: المسجد، والمَعين: الفرات (3).
وقال الإمام الصادق عليه السّلام: الربوة: نجف الكوفة، والمَعين: الفرات (4).
• وعن أبي حمزة الثمالي قال: إنّ عليّ بن الحسين عليه السّلام أتى مسجد الكوفة عمداً من المدينة فصلّى فيه ركعتين، ثمّ ركب راحلته وأخذ الطريق (5).
• ورُوي أنه نظر أمير المؤمنين عليه السّلام إلى ظهر الكوفة ( أي النجف ) فقال: ما أحسَنَ منظرَكِ، وأطيبَ ريحَكِ! اللّهمّ اجعَلْ قبري بها (6).
• وسأل أبو بكر الحضرميّ الإمامَ محمّدَ الباقر عليه السّلام: أيُّ بقاع الأرض بعد حرم الله وحرم رسوله أفضل ؟ فقال: يا أبا بكر، هي الزكيّة الطاهرة، فيها قبور النبيّينَ والمرسَلين وغيرِ المرسلين، والأوصياء الصادقين، وفيها مسجد سُهَيل الذي لم يبعث اللهُ نبيّاً إلاّ وصلّى فيه، وفيها يظهر عدل الله، وفيها يكون قائمه والقوّام من بعده، وهي منازل النبيّين والأوصياء والصالحين (7).
• وعن الإمام الصادق عليه السّلام قال: مكّة حرم الله وحرم رسوله وحرم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، الصلاة فيها بمئة ألف صلاة، والدرهم فيها ( أي صدقةً ) بعشرة ألف درهم. والمدينة حرم الله وحرم رسوله وحرم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، الصلاة فيها بعشرة ألف صلاة، والدرهم بعشرة ألف درهم. والكوفة حرم الله وحرم رسوله وحرم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، الصلاة في مسجدها بألف صلاة، والدرهم فيها بألف درهم (8).
• وعن الإمام جعفر الصادق سلام الله عليه أيضاً: الكوفة روضة من رياض الجنّة، فيها قبر نوحٍ وإبراهيم عليهما السّلام، وقبر ثلاثمائة نبيٍّ وسبعين نبيّاً وستّمائة وصي، وقبر سيّد سيّد الأوصياء أمير المؤمنين عليه وعليهم السّلام (9).
• وعن الإمام الصادق عليه السّلام كذلك أنّه قال في الكوفة: تربةٌ تُحبّنا ونحبّها، اللّهمّ ارمِ مَن رماها، وعادِ مَن عاداها. قال الكيدري: فمِن الجبابرة الذين ابتلاهم الله بشاغلٍ فيها: زياد بن أبيه، وقد جمع الناسَ في مسجد الكوفة ليلعن عليّاً صلوات الله عليه، فخرج الحاجب وقال: انصرفوا؛ فإنّ الأمير مشغول، وقد أصابه الفالج في هذه الساعة. وابنه عُبيدالله بن زياد، وقد أصابه الجذام، والحجّاج بن يوسف، وقد تولّدت الحيّات في بطنه حتّى هلك، وعمر بن هُبيرة وابنه يوسف، وقد أصابهما البرص، وخالد القَسريّ، وقد حُبِس فطُولب حتّى مات جوعاً (10).
• وعن عبدالله بن سليمان قال: لمّا قَدِم أبو عبدالله ( الصادق ) عليه السّلام الكوفة في زمن أبي العبّاس السفّاح، جاء على دابّته في ثياب سفره حتّى وقف على جسر الفرات، ثمّ قال لغلامه: اسقِني. فأخذ كُوزَ ملاحٍ فغرف له به فسقاه، فشرب وهو يسيل على لحيته وثيابه، ثمّ استزاده فزاده، فحَمِد اللهَ عزّوجلّ ثمّ قال: نهرٌ وما أعظَمَ بركتَه! أمَا إنّه يسقط فيه كلَّ يومٍ سبعُ قطراتٍ من الجنّة، أمَا لو عَلِم الناسُ ما فيه من البركة لضربوا الأخبية على حافّتَيه، ولولا ما يدخله من الخطّائين ما اغتمس فيه ذو عاهةٍ إلاّ براه (11).
مساجد الكوفة
• جاء عن أمير المؤمنين عليه السّلام قوله: بالكوفة مساجد مباركة، ومساجد ملعونة. فأمّا المساجد المباركة فيها:
فمسجد غني، وهو مسجدٌ مبارك، واللهِ إنّ قِبلتَه لقاسطة، ولقد أسّسه رجلٌ مؤمن، وإنّه لَقِيَ سرّة الأرض، وإن بقعته لَطيّبة، ولا تذهب الليالي والأيّام حتّى تُوتى فيه عين، وحتّى تكونَ على حافّتَيهِ جنّتان، وأهله ملعونون، وانّه مسلوب عنهم.
ومسجد جُعفي مسجد مبارك، وربّما اجتع فيه ناسٌ من الغَيب يصلّون فيه.
ومسجد باهلة، إنّه لَمسجد مبارك، وإنّه تنزل فيه الرحمة.
ومسجد ظفر، واللهِ إن طباقه لصخرة خضراء، ما بعَثَ اللهُ نبيّاً إلاّ وفيها تثمال وجهه.
ومسجد سُهيل، وهو مسجد مبارك. ومسجد يونس بن متّى بظهر السبخة وما حوله.
وأمّا المساجد الملعونة: فمسجد أنمار، وهو مسجد جرير بن عبدالله البجليّ. ومسجد الأشعث بن قيس، ومسجد شَبَث بن رِبْعي، ومسجد تَيم، ومسجد بالحمراء على قبر فرعون من الفراعنة (12).
• وعن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر وأبي عبدالله الصادق عليهما السّلام قالا: بالكوفة مساجد ملعونة، ومساجد مباركة. فأمّا المساجد المباركة: فمسجد غني، واللهِ إنّ قِبلتَه لقاسطة، وإنّ طينته لطيّبة، ولقد وضعه رجلٌ مؤمن، ولا تذهب الدنيا حتّى تنفجر عنده عينان، وتكون حوله جنّتان، وأهله ملعونون وهو مسلوبٌ عنهم. ومسجد بني ظفر، وهو مسجد السهلة، ومسجد الحمراء، ومسجد جعفي. قيل لهما عليهما السّلام: وأين مسجدهم اليوم ؟ قالا: دُرِس. ومسجد كاهل، إنّه لمسجدٌ مبارك، ولم يَبقَ إلاّ أُسّه، ولقد كان أمير المؤمنين عليه السّلام يطيل الصلاةَ فيه والقنوت.
وأمّا المساجد الملعونة: فمسجد ثقيف، ومسجد الأشعث، ومسجد جرير بن عبدالله البجلي، ومسجد سماك، ومسجد بالحمراء بُني على قبر فرعون من الفراعنة (13).
ـ مسجد باهلة: منسوب لقبيلة باهلة المنسوبة إلى ( باهلة بن أعصُر أو يَعْصُر بن سعد بن قيس بن عَيلان بن مضر بن نِزار بن مَعَدّ بن عدنان ) (14).
ـ مسجد بَجِيلَة: ويسمّى بمسجد أنمار وبمسجد جرير بن عبدالله البَجَليّ أيضاً، وهو منسوب إلى قبيلة بجيلة، وهم وُلد ثعلبة بن بُهثة بن سليم بن منصور بن عِكْرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر.
ـ مسجد الأشعث: المعروف بمسجد الجَواشن، منسوب للأشعث بن قيس بن مَعدِيكَرْب الكِندي ( ت 42 هـ )، يقع المسجد بين مسجدَي الكوفة والسهلة، وقد ورد ذكره في عدد من المراجع القديمة (15).
ـ مسجد شَبَث بن ربعيّ: التيمي اليربوعي ( ت حدود 70 هـ )، يقع هذا المسجد على ربوةٍ قرب جبل الصاغة بجانب مسجد السهلة، وقد بقيت منه أُسس مأذنته وقسم من الجدار القبلي (16).
ـ مسجد تيم: منسوب إلى قبيلة تيم، ذكر الشيخ الصدوق في كتابه ( الخصال ) أنّ الإمام عليّاً عليه السّلام كان إذا نظر إلى مسجد تيم قال: هذه بقعةُ تيم! ومعناه أنّهم قعدوا عن المسجد لا يصلّون معه؛ عداوةً له وبغضاً. وأشار ابن الجوزي لمساجد تيم في الكوفة إشارة عابرة (17).
ـ مسجد الحَمْرا ـ على وزن سَكْرى ـ: لعلّه بُني على انقاض قبر قديم من زمن الجاهليّة، أو وجدوا هذا القبر أثناء تشييد المسجد. وفي الكوفة مسجد آخر يُعرَف باسم الحمراء، وآخر باسم المسجد الأحمر غير هذا.
ـ مسجد ثقيف: منسوب لقبيلة ثقيف، وتقع محلّتهم بالكوفة بالقرب من سجن اللخميّين القديم بمنطقة الثويّة من توابع الحيرة قبل الفتح الإسلامي.
ـ مسجد سماك: منسوب إلى سماك بن مخزمة الأسدي، وكان عثمانياً وأهل تلك الخطّة من العثمانيين أيضاً.
علامات
مسجد بني كاهلة: روي أنّه صلّى فيه الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام الفجر بجماعة، فقَنَتَ فقال: اللهمّ إنا نستعينك ونستهديك، ونؤمن بك ونتوكّل عليك، ونثني عليك بالخير ولا نكفُرك، ونخلع ونترك مَن يُنكرك. اللهمّ إيّاك نعبد، ولك نصلّي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، ونرجو رحمتك ونخشى عذابك، إنّ عذابك بالكافرين يخلق. اللهمّ اهدِنا فيمَن هديت، وعافِنا فيمَن عافيت، وتولَّنا فيمن تولّيت، وباركْ لنا فيما أعطيت، وقِنا شرَّ ما قضيت، إنّك تقضي ولا يُقضى عليك، إنّه لا يذلّ مَن والَيت، ولا يعزّ مَن عادَيت، تباركتَ ربَّنا وتعاليت، نستغفرُك ونتوب إليك. ربَّنا لا تُؤاخِدنا إن نَسِينا أو أخطأنا، ربَّنا ولا تَحمِلْ علينا إصراً كما حملتَه على الذين مِن قَبلِنا، ربَّنا ولا تُحمّلْنا ما لا طاقة لنا به، واعفُ عنّا واغفرْ لنا وارحَمْنا، أنت مولانا فانصُرْنا على القوم الكافرين (18).
المسجد الجامع بالكوفة: عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: يا ابن مسعود، لمّا أُسرِي بي إلى السماء أراني جبرئيلُ مسجدَ كوفان، فقلت: يا جبرئيل، ما هذا ؟ قال: مسجد مبارك كثير الخير عظيم البركة، اختاره الله لأهله وهو يشفع لهم يوم القيامة.. (19)
وعن الإمام الباقر عليه السّلام قال: لو يعلم الناسُ ما في مسجد الكوفة لأعدّوا له الزاد والرَّواحل من مكانٍ بعيد، إنّ صلاة فريضةٍ فيه تعدل حجّة، وصلاة نافلة تعدل عُمرة (20).
وعن مُعاذ بن جبل، عن النبي صلّى الله عليه وآله: لَكأنّي بمسجد كوفان يأتي يوم القيامة مُحْرِماً يشهد لمَن صلّى فيه ركعتين (21).
مسجد السهلة: عن مالك بن ضَمُرة الرؤاسي قال: قال لي أمير المؤمنين عليه السّلام: أتصلّي في مسجد السهلة ؟ قلت: ذاك مسجد تصلّي فيه النساء، فقال: يا مالك، ذاك مسجدٌ ما أتاه مكروبٌ قطّ إلاّ فرّج الله عنه وأعطاه حاجته، فإنّي واللهِ ما أتيتُه إلاّ صلّيتُ فيه (22).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام قال: مسجد السهلة منزل صاحبنا إذا قام بأهله.
وقال عليه السّلام: ما مِن مكروبٍ يأتي مسجد السهلة فيصلّي فيه بين العشاءين ويدعو الله، إلاّ فرّج كربه (23).
وعن الشيخ الصدوق قال: حدّثنا الشيخ الفقيه محمّد بن يعقوب قال: حدّثنا عليّ بن إبراهيم ( القمي ) عن أبيه قال: حَجَجتُ إلى بيت الله الحرام، فنزلنا عند ورودنا الكوفة، فدخلنا إلى مسجد السهلة، فإذا نحن بشخصٍ راكِعٍ وساجد.. فلمّا فرغ دعا بهذا الدعاء:
أنت الله لا إله إلاّ أنت..
ثمّ نهض إلى زاوية المسجد فوقف هناك وصلّى ركعتين ونحن معه، فلمّا انفتل من الصلاة سبّح ثمّ دعا فقال: اللّهمّ ربَّ هذه البقعة الشريفة، وبحقِّ مَن تعبّدك فيها، قد علمتَ حوائجي، فصلِّ على محمّدٍ وآل محمّدٍ واقضِها. وقد أحصيتَ ذنوبي، فصلِّ على محمّدٍ وآل محمّدٍ واغفرها لي. اللّهمّ أحْيِني ما كانت الحياة خيراً لي، وأمِتْني إذا كانت الوفاة خيراً لي، على موالاة أوليائك، ومُعاداة أعدائك، وافعَلْ بي ما أنت أهله يا أرحمَ الراحمين.
ثمّ نهض، فسألناه عن المكان فقال: إنّ هذا الموضع بيت إبراهيم الخليل الذي كان يخرج منه إلى العمالقة. ثمّ مضى إلى الزاوية الغربية فصلّى ركعتين، ثمّ رفع يديه وقال:
اللّهمّ إنّي صلّيتُ هذه الصلاةَ آبتغاءَ مرضاتك وطلبَ نائلك، ورجاءَ رِفدكَ وجوائزك، فصلِّ على محمّدٍ وآل محمّد وتقبّلْها منّي بأحسن قبول، وبلّغْني برحمتك المأمول، وافعلْ بي ما أنت أهله يا أرحم الراحمين.
ثمّ مضى إلى الزاوية الشرقيّة فصلّى ركعتين، ثمّ بسط كفَّيه وقال:
اللّهمّ إن كانت الذنوبُ والخطايا قد أخلَقَتَ وجهي عندك، فلم ترفعْ لي إليك صوتاً ولم تستجب لي دعوة، فإنّي أسألك بك يا ألله، فإنّه ليس مِثلَك أحد، وأتوسّل إليك بمحمّدٍ وآل محمّد، ولا تحرْمني حين أرجوك يا أرحم الراحمين.
وعفّرَ خدَّيه على الأرض وقام فخرج، فسألناه: بِمَ يُعرَف هذا المقام ؟ فقال: إنّه مقام الصالحين والأنبياء والمرسلين. قال: فأتبعناه.. فإذا به قد دخل إلى مسجدٍ صغيرٍ بين يدي السهلة فصلّى فيه ركعتينِ بسكينة ووقار كما صلّى أوّلَ مرّة، ثمّ بسط كفَّيه وقال:
إلهي قد مدّ إليك الخاطئُ المذنب يديه لحُسنِ ظنِّه بك، إلهي قد جلس المسيءُ بين يديك مقرّاً لك بسوء عمله، راجياً منك الصَّفْحَ عن زَلَلِه، إلهي قد رفع إليك الظالم كفّيه راجياً لما لديك، فلا تُخيّبْه برحمتك وفضلك، إلهي قد جثا العائد إلى المعاصي بين يديك، خائفاً مِن يومٍ يجثو به الخلائقُ بين يديك، إلهي قد جاءك العبدُ الخاطئ فَزِعاً مُشفقاً، ورفع إليك طَرْفَه حَذِراً راجياً، وفاضت عَبرتُه مستغفراً نادماً. وعزّتِك وجلالك، ما أردتُ بمعصيتي مُخالفتَك، وما عصيتُك إذ عصيتُك وأنا بك جاهل، ولا لعقوبتك متعرّض، ولا بنظرك مستخفّ، ولكنْ سوّلتْ لي نفسي وأعانتني على ذلك شِقْوَتي، وغرّني سِترُك المُرخى علَيّ، فمَنِ الآنَ مِن عذابِك مَن يستنقذُني ؟ وبحبل مَن أعتصم إن قطعتَ حَبلَك عنّي ؟ فيا سَوْأتاه غداً من الوقوف بين يديك إذا قيل للمُخفّين: جُوزُوا، وللمُثْقلين: حُطُّوا.. فمع المُخِفّين أجوزُ أم مع المثقلين أحطّ ؟! وَيْلي كلّما كَبُرتْ سِنّي كَثُرتْ ذنوبي، ويلي كلّما طال عُمري كَثُرتْ معاصِيّ! فكم أتوب وكم أعود! أما آن لي أن أستحيَ مِن ربّي! اللّهمّ فبحقِّ محمّدٍ وآل محمّدٍ ارحَمْني واعفُ عنّي واغفر لي يا خيرَ الغافرين.
ثمّ بكى وعفّر خدَّيه وقال: ارحَمْ مَن أساءَ واقترف، واستكان واعترف. ثمّ قلب خدَّه الأيسر وقال: عَظُم الذَّنْبُ مِن عبدِك، فَلْيَحْسُنِ العفوُ مِن عندك، يا كريم.
ثمّ قام فخرج.. فأتبعناه، قلت: يا سيّدي، بِمَ يُعرَف هذا المسجد ؟ فقال: إنّه مسجد زيد ابن صَوْحان صاحب عليّ بن أبي طالب، وهذا دعاؤه وتهجّده.
ثم غابَ فلم نره، فقال لي صاحبي: إنّه الخضر عليه السّلام (24).
مسجد السَهلة
أحد أكبر المساجد التي شُيّدت في الكوفة خلال القرن الهجريّ الأوّل، وما زال أثرها وذِكْرها خالداً إلى الآن. ويبدو أنّ بني ظفر هم بُناة المسجد الحقيقيّون، وهؤلاء بطنٌ من الأنصار نزلوا الكوفة؛ ولهذا عُرِف المسجد أوّلَ الأمر بمسجد بني ظفر، ثمّ إنّ المسجد عُرِف بـ « مسجد السَّهْلة »، وهي التسمية المتداولة حاليّاً.
والسهلة مقبرة من مقابر الكوفة القديمة، فالمسجد يكون على طرفٍ من مقبرة السهلة، وممّن دُفِن بالسهلة: عليّ بن إبراهيم الخيّاط ( ت 207 هـ )، وأحمد بن محمّد الطائي ( ت 281 هـ )، ومجد الدين حسن بن الحسين الطاهر العلوي ( ت 645 هـ ).. وغيرهم.
ومسجد السهلة الحالي مستطيل الشكل، يتألّف من أربعة أضلاع آجُريّة، والمشاهد أو المقامات التي تُزار الآن داخل المسجد هي:
1 ـ مقام زين العابدين عليّ بن الحسين، السجّاد عليه السّلام: يقع وسط المسجد، عن شماله مقام الصادق عليه السّلام، وعن جنوبه مقام المهدي عليه السّلام وإليه أقرب.
2 ـ مقام الإمام جعفر الصادق عليه السّلام: يقع وسط المسجد تماماً، ومحرابه مُجوَّف، كُتِب على القاشانيّ الذي يكسو التجويف أحدُ الأدعية المأثورة في السهلة، وتُقام على دكّته المستطيلة صلاة الجماعة.
3 ـ مقام الإمام المهديّ المنتظر عجّل الله تعالى فَرجَه: ويُعرَف بمقام صاحب الزمان، يقع في وسط الضلع القبلي.
4 ـ مقام النبي الخضر عليه السّلام: في الزاوية بين الضلعين الجنوبي والغربي.
5 ـ مقام النبي إدريس: يُقال إنّه كان بيتَ إدريس، يقع في الزاوية بين الضلعين الجنوبي والشرقي.
6 ـ مقام الصالحين: ويُعرَف بمقام الأنبياء هود وصالح عليهما السّلام، يقع في الزاوية بين الضلعين الشمالي والشرقي.
7 ـ مقام النبيّ إبراهيم الخليل: يُقال إنّه كان بيتَ إبراهيم، يقع في الزاوية بين الضلعين الشمالي والشرقي.
والمظنون أنْ كان لمسجد السهلة منارةٌ قديمة هُدِّمت في وقتٍ لم نُدركه، والمنارة الحالية شُيّدت سنة 1378 هـ / 1967 م، أرّخ بناءها السيّد محمّد الحلّي بقوله:
للسهلةِ آقصُدْ واستَجِرْمِن كـلِّ نائبةٍ وكَبْتِ
هو مسجدٌ سَمَتِ العِبادةُ فيه في سَمْتٍ وصمتِقد عُمِّـرتْ فيه المنـارةُ للأذان برفْعِ صَوْتِمُذ قيل في تاريخهـا: « ويُؤذّنون بكلِّ وقتِ »
وقد أُلحق بالمسجد قديماً صحنٌ واسع، وهو مقسّم إلى قسمين:
الأوّل: الذي في الطرف الجنوبي ( خان الزوّار )، وهو شبيه بالخانات الشاخصة الآن على طريق النجف ـ كربلاء القديم، ويعود تاريخه إلى حوالَي 300 سنة.
والثاني: يقع في الجانب الشمالي، وفيه بيوت خدم المسجد، وقد هُدّمت أوائل سنة 1979 م / 1399 هـ.
مسجد صَعْصعة بن صُوحان العبديّ
بإسناده.. قال الشيخ محمّد بن جعفر المشهدي: حدَّثَنا عليّ بن عبدالرحمان التستري قال: مررتُ ببني رُؤاس فقال لي بعض إخواني: لو مِلْتَ بنا إلى مسجد صعصعة فصلّينا فيه؛ فإنّ هذا شهرُ رجب ويُستحبّ فيه زيارة هذه المواضع المشرّفة التي قد وطئها الموالي بأقدامهم وصلَّوا فيها، ومسجد صعصعة منها.
فملتُ معه إلى المسجد، فدَخَلنا.. وإذا بناقةٍ معقولة مرحولة قد أُنيخت بباب المسجد، فدخلنا وإذا برجلٍ عليه ثياب الحجاز وعِمّة، وهو جالس يدعو بهذا الدعاء، فحفظته أنا وصاحبي، وهو:
اللّهمّ ياذا المِنَنِ السابغة، والآلاءِ الوازعة، والرحمة الواسعة، والقدرة الجامعة، والنِّعمِ الجسيمة، والمواهب العظيمة، والأيادي الجميلة، والعطايا الجزيلة. يا مَن لا يُنعَت بتمثيل، ولا يُمثَّل بنظير، ولا يُغلَب بظهير. يا مَن خَلَق فرزق، وألهَم فأنطَق، وابتَدع فشَرَع، وعلا فارتفع، وقدّر فأحسن، وصوّر فأتقن، واحتجّ فأبلى، وأنعم فأسبغ، وأعطى فأجزل، ومنح فأفضل. يا مَن سما في العِزّ ففات خواطرَ الأبصار، ودنا في اللُّطْفِ فجاز هواجسَ الأفكار. يا مَن توحّد في المُلْك فلا نِدَّ له في ملكوت سلطانه، وتفرّد في الآلاء والكبرياء فلا ضدَّ له في جبروت شانه. يا مَن حارت في كبرياء هيبته دقائقُ لطائفِ الأوهام، وانحسَرَتْ دونَ إدراك عظمته خطائفُ أبصار الأنام. يا مَن عَنَت الوجوه لهيبته، وخَضَعتِ الرقابُ لعظمته، ووَجِلت القلوب من خيفته. أسألك بهذه المِدْحة التي لا تنبغي إلاّ لك، وبما وَأيتَ به على نفسِك للمؤمنين، وبما ضَمِنتَ الإجابةَ فيه منك للداعين، يا أسمع السامعينَ وأبصرَ الناظرين، وأسرعَ الحاسبين، ياذا القوّةِ المتين، صلِّ على محمّدٍ خاتمِ النبيّين، وعلى أهل بيته المعصومين، واقسمْ لي في شهرِنا هذا خيرَ ما قَسَمْتَ، واختِمْ لي بالسعادة فيما ختمتَ، وأحْيِني ما أحييتني موفوراً، وأمِتْني مسروراً ومغفوراً، وتَوَلَّ أنت نجاتي مِن مُساءلةِ البرزخ، وادرأْ عنّي منكراً ونكيراً، وأرِ عيني مبشِّراً وبشيراً، واجعلْ لي من رضوانك وجِنانك عيناً قريراً، ومُلْكاً كبيراً، وصلِّ على محمّدٍ وآلهِ كثيراً.
ثمّ سجد طويلاً.. فقام وركب الراحلة، فقال لي صاحبي: أتَراه الخضر ؟! فما بالُنا لا نكلّمه كأنّما أمسك على ألستنتنا! وخرجنا فلقينا ابنَ داود الرؤاسي فقال: مِن أين أقبلتما ؟ قلنا: مِن مسجد صعصعة، وأخبرناه الخبر، فقال: هذا الراكب يأتي مسجد صعصعة في اليومينِ والثلاثة ولا يتكلّم، قلنا: مَن هو ؟! قال: فمَن تَرَيانهِ ؟ قلنا: نظُنُّه الخضر، قال: فأنا ـ واللهِ ـ ما أراه إلاّ مَن الخضرُ محتاجٌ إلى رؤيته، فانصرِفا راشدين، فقال لي صاحبي: هو واللهِ! يعني صاحبَ الزمان عليه السّلام (25).
وصعصعة بن صوحان سيّدٌ من سادات العرب، ومن خطبائهم وفصحائهم في الذود عن الحقّ والعدالة والفضيلة. نفاه معاوية إلى البحرين إثر معارضة صعصعة للحكم الأُمويّ، فبقي هناك حتّى وفاته سنة 60 هـ، وفي جزيرة عسكر في البحرين قبر يُنسَب لصعصعة وعليه قبّة (26).
ومسجد صعصعة اليوم من مساجد الكوفة المشهورة والعامرة بالزوّار، عنيَ الناسُ برعايته والحفاظ على عمرانه، وعمارته الحاليّة شُيّدتْ سنة 1387هـ. ومساحة المسجد 160 متراً مربّعاً مع أربعة أضلاع ارتفاعها متران، وفي الضلع القبلي منها ظلّة تحتها يقع محراب الصلاة، ولا يختلف في هيئته العامّة عن مسجد زيد بن صُوحان.
مسجد زيد بن صُوحان
زيد بن صُوحان بن حُجْر العبديّ، أدرك رسول الله صلّى الله عليه وآله وصَحِب الإمام عليّاً عليه السّلام، كان عالماً فاضلاً ذا بصيرة، ومن سادات قومه الموصوفين بالعبادة والزهد، وممّا يدلّ على فضله قول رسول الله صلّى الله عليه وآله فيه: مَن سَرّه أن ينظر إلى مَن يسبقُه عضوٌ منه إلى الجنّة، فلينظرْ إلى زيد بن صُوحان )، وقد قُطِعْت يدُه فيما بعد في يوم نهاوند سنة 20 هجريّة. وشارك في معركة الجمل إلى جانب الإمام عليّ عليه السّلام وفيها استُشهِد سنة 36 هجرية رضي الله عنه، وقبره شاخصٌ في البصرة على يمين الذاهب إلى السِّيبة في منطقة كوت الزين (27).
أمّا مسجد زيد بن صُوحان فيقع على بُعد مئتي متر جنوب مسجد السهلة، وقد هُدّمت بناية المسجد الأصليّة القديمة في بداية القرن العشرين ثمّ شُيّدت من جديد، ثمّ ما لبثت أن تهدّمت فجُدّدت عمارتها مِن قِبل المؤمنين فتم البناء في شعبان سنة 1395 هـ / 1975 هـ.
وبقي من عمارة المسجد الأُولى ثلاث قطع من المرمر الأبيض كُتب عليها أدعية وأذكار، واحدة من هذه القطع مؤرّخة سنة 1332هجريّة. والبناء الحالي للمسجد يحتّل مساحةً قدرها 165 متراً مربعاً، ويشتمل على أربعة أضلاع ارتفاعها متران، في الضلع القبلي منها ظُلّة للمصلّين والزائرين، والباقي رواق مكشوف.
مسجد غني
عن طاووس اليماني قال: مَرَرتُ بالحجر في شهر رجب، وإذا بشخصٍ راكع ساجد، فتأمّلته.. فإذا هو عليّ بن الحسين عليهما السّلام، فقلت في نفسي: رجلٌ صالح من أهل بيت النبوّة، فوَاللهِ لأغتنمنّ دعاءه. فجعلتُ أرقبه حتّى فرغ من صلاته، فرفع باطن كفَّيه إلى السماء وجعل يقول:
سيّدي سيّدي، هذه يَدي قد مَدَدتُها إليك بالذنوب مملوءة، وهذه عيني إليك بالرجاء ممدودة، وحُقَّ لمن دعاك بالندم تذلّلاً أن لا تُخيّبه من الكرم تفضّلاً. سيّدي، أمِن أهل الشقاء خلقتَني فأُطيلَ بكائي، أم مِن أهل السعادة خلقتني فأبشِّرَ رجائي ؟! سيّدي، ألِضربِ المقامع خلقتَني أم لشربِ الحميم خلقتَ أمعائي ؟! سيّدي، لو أنّ عبداً استطاع الهرب من مولاه لكنتُ أوّلَ الهاربين منك، ولكنّي أعلم أنّي لا أفوتك. سيّدي لو أنّ عذابي يزيد في مُلكِك لَسألتُك الصبرَ عليه، غيرَ أنّي أعلم أنّه لا يزيد في مُلكِك طاعةُ المطيعين، ولا ينقص منه معصية العاصين. سيّدي ما أنا وما خطري ؟! هَبْ لي خطأي بفضِلك، وجلِّلْني بسَترك، واعطفْ عن توبيخي بكرمِ رحمتِك. إلهي وسيّدي، ارحَمْني على الفراشِ مطروحاً تقلّبني أيدي أحبّتي، وارحمني على المُغتَسل مطروحاً يغسّلُني صالحُ جيرتي، وارحمني محمولاً قد تناول الأقرباءُ أطرافَ جَنازتي، وارحمْني في ذلك البيت المظلم مِن نارٍ حَرُّها لا يُطفى، وجديدها لا يَبلى، وعطشانها لا يُروى.
وقلب خدَّه الأيمن وقال: اللّهمّ لا تقلبْ وجهي في النار بعد تعفيري وسجودي لك، بغيرِ مَنٍّ مني عليك، بل لك الحمدُ والمَنّ علَيّ.
ثمّ قلب خدَّه الأيسر وقال: ارحَمْ مَن أساء واقترف، واستكان واعترف.
ثمّ عاود السجودَ وقال: إنْ كنتُ بئس العبد، فأنت نِعمَ الربّ، اَلعفوَ العفو.. ( مئة مرّة ).
قال طاووس اليماني: فبكيتُ حتّى علا نحيبي، فالتفتَ إليّ وقال: ما يُبكيك يا يماني، أوَ ليس هذا مَقامَ المذنبين ؟! فقلت: سيّدي، حقيقٌ على اللهِ أن لا يَردَّك وجَدُّك محمّدٌ صلّى الله عليه وآله.
قال طاووس: فلمّا كان في العام المُقبل من شهر رجب كنتُ بالكوفة، فمررتُ بمسجد غني فرأيته عليه السّلام يصلّي فيه ويدعو بهذا الدعاء المذكور، وفعَلَ كما فعل بالحجر (28).
مسجد جُعفي
بنو جُعفي بطنٌ من سعد العشيرة بن مَذْحِج، وهو مالك بن أدد بن زيد بن يشخب بن عريب بن زيد بن كهلان. وفي الكوفة كان الكثير من الجُعفيّين ولهم بها محلّة، وقد نبغ منهم عدد من العلماء والأدباء ممّن ساهموا في الحياة الفكريّة في الكوفة والبلاد العربيّة والإسلاميّة: كالشاعر الشهير المتنبّي، والفقيه جابر بن يزيد الجعفي، والشاعر الفارس عبيدالله بن الحرّ الجعفي.
ورد ذِكر مسجد جعفي في عدد من المصادر (29).
وأمّا ما جاء من ذِكر الصلاة والدعاء في مسجد جعفي بالكوفة، فقد قال الشيخ الصدوق: حدّثنا الحاكم أبو علي الحسن بن أحمد البيهقي في داره بنيشابور سنة 352 قال: أخبرنا محمّد بن يحيى الصُّولي قراءةً، قال: حدّثني عون بن محمّد الكندي قال: سمعتُ أبا الحسن عليّ بن ميثم قال: حدّثني أبي ميثمُ ( التمّار رضوان الله عليه ) قال: أصحَرَ بي مولاي أميرُ المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ( أي ذهب بي إلى الصحراء ) ليلةً من الليالي فخرج من الكوفة وانتهى إلى مسجد جعفي، فتوجّه إلى القبلة وصلّى أربع ركعات، فلمّا سلّم وسبّح وبسط كفَّيه قال:
إلهي كيف أدعوك وقد عَصَيتُك، وكيف لا أدعوك وقد عَرَفتُك، وحبُّك في قلبي مَكين. مَدَدتُ إليك يداً بالذنوب مملوءة، وعيناً بالرجاء ممدودة. إلهي أنت مالك العطايا، وأنا أسير الخطايا، ومن كرم العظماء الرفقُ بالأُسَراء، فإنّي أسيرٌ بجرمي، مرتَهَنٌ بعملي.. إلهي لئن طالبتَني بذنوبي لأُطالبنّك بعفوك، ولئن طالبتَني بجريرتي لأطالبنّك بكرمك، ولئن طالبتَني بشَرّي لأُطالبنّك بخيرك، ولئن جمعتَ بيني وبين أعدائك في النار لأُخبرنّهم أنّي كنتُ لك مُحِبّاً، وأنّي أشهد أن لا إله إلاّ الله...
إلهي إنْ دعاني إلى النار مخشيُّ عقابِك، فقد ناداني إلى الجنّة بالرجاءِ حُسنُ ثوابك ورضوانك. إلهي إن أوحَشَتْني الخطايا عن محاسن لطفِك، فقد آنَسَتْني باليقينِ مكارمُ عطفِك. إلهي إن أنامَتْني الغفلةُ عن الاستعداد للقائك، فقد نَبّهتَنْي المعرفةُ يا سيّدي بكريم آلائك...
إلهي، قلبٌ حَشَوتَه من محبّتك في دار الدنيا، كيف تُسلِّط عليه نارَ الحُرقةِ في لَظى ؟! إلهي كلُّ مكروبٍ إليك يلتجي، وكلُّ محرومٍ لك يرتجي. إلهي سمع العابدون بجزيل ثوابِك فخشعوا، وسمع الزالّون عن القصد بجودك فرجعوا، وسمع المذنبون بسعةِ رحمتِك فتمتّعوا، وسمع المجرمون بكرمِ عفوِك فطمعوا.. حين ازدحمت عصائبُ العصاة مِن عبادِك، وعَجّ إليك منهم عجيجُ الضجيج بالدعاء في بلادك، ولكلٍّ أملٌ ساقه صاحبُه إليك حاجة، وأنت المسؤول الذي لا تُسوَّد إليه وجوهُ المطالب، فصلِّ على محمّدٍ وآل محمّد، وافعَلْ بي ما أنت أهلُه، إنّك سميع الدعاء.
ثمّ أخفت عليه السّلام دعاءه، وسجد وعفّر ثمّ قال: اَلعفوَ العفو.. ( مئة مرّة )، وقام فخرج، واتّبعتُه حتّى خرج إلى الصحراء.. (30).
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وأهلك أعدائهمأجمعين ،،،
اللهم صل على الصديقة الطاهرة فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسرالمستودع فيها عدد ما أحاط به علمك وأحصاه كتابك ،،
***
الكوفة ومسجدها الأعظم.. ماضياً وحاضراً
كوفة الجند والقبائل.. » أهميتها التاريخية
ما أعظم تاريخ الكوفة.. وما أجلّ ما سطّرته هذه المدينة العراقية من صفحات، وما أبقته من آثار روحية وأدبية وعلمية لا تنسى.
لقد تمّ تأسيسها إبّان نهضة الإسلام الكبرى، حين كان المسلمون ينطلقون إلى الفتوحات، فاختاروها لتكون قاعدة ومقرّاً للقيادة، وكان لهم من مناخها المتميز بسماء مجلوّة وماء عذدب ونسيم ساحر، ما وفرّ لهم شروط الراحة والاستقرار، فكانت « كوفة الجند » وهذا مبدأ تكونها التاريخي.
وقلب الكوفة هو مسجدها العظيم.. مصلى الأنبياء عليهم السّلام والقطب الذي تحلقت حوله القبائل العربية، تلتمس فيه فخراً إلى فخر، لتصبح الكوفة معه « كوفة القبائل » أيضاً.
لدق أُعيد تأسيس الكوفة سنة 17 للهجرة، بعد انتصار المسلمين في معارك القادسية والمدائن وجلولاء، لتكون قاعدة عسكرية ومقرّاً عاماً لقيادة جيوش المسلمين على الجبهة الشرقية، ودار هجرة لأشهر الصحابة وأعرق القبائل العربية المقاتلة، ثم تحولت هذه « القاعدة » إلى مدينة عظيمة في فترات قصيرة، وصارت مناراً علمياً وأدبياً، ومركزاً فكرياً وسياسياً لا نظير له، ولا سيما بعد أن جعلها الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام « عاصمة » للخلافة، ونمت نمواً متواصلاً فبلغت شهرتها الآفاق، وصارت ملتقى طرق عسكرية وتجارية، ومنطلقاً لحجاج بيت الله الحرام، وسوقاً تجارياً كبيراً لعرب الجزيرة.
حفل تاريخها، لا سيما في القرون الثلاثة الأولى للهجرة، بأروع البطولات والتضحيات، والإنجازات في اللغة والأدب، والفقه والحديث والتشريع، وبمستويات من الحضارة والحياة الجديدة، جعلها سباقة في الفنون والعمارة، كما أصبحت ارضاً خصبة للفتن والصراعات التي أسفرت عن سقوط الحكم العباسي في العراق، وما بين ذلك ضياع حق أهل البيت عليهم السّلام، الشرعي في قيادة الأمّة وولاية أمور المسلمين وتصحيح الانحرافات.
وبتأسيس مدينة بغداد سنة 145هـ، أخذت الكوفة تفقد قرناً بعد قرن كثيراً من رصيدها العلمي، وتحولت إلى قرية صغيرة تسكنها الأشباح والذكريات، وتطوقها الخرائب والآكام، وتعصف بها رياح الزمن العاتية، إلا مسجدها الكبير الذي ظلّ صامداً يقارع العاديات ليبعثها من جديد، وقد ظلّ شاهداً على عنفوانها وعظمتها، وصار لها رصيداً روحياً، ورمزاً للتضحية والاستشهاد، واصطبغ أديمها بدماء الشهداء، ففي مسجدها اغتيل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام، وفي أرض الطف القريبة استشهد الإمام الحسين بن علي عليهم السّلام وأهل بيته في واقعة كربلاء المروعة، وفيها قتل وسحل مبعوثه مسلم بن عقيل وحفيده زيد بن علي بن الحسين عليهما السّلام، هذا فضلاً عن عشرات الشهداء الطالبيين وغير الطالبيين أمثال هاني بن عروة وميثم التمار ورُشَيد الهَجَريّ، وكميل بن زياد والمختار الثقفي وغيرهم.
وقد أنجبت الكوفة عدداً كبيراً من عباقرة العلم والشعر واللغة والأدب.. أمثال: « أبي الأسود الدؤلي، والكميت بن زيد الأسدي، وجابر بن حيان، والأصمعي، والكسائي، والكندي، وأبي الطيب المتنبي، وكثيرين غيرهم.
اسمها وموقعها..
حسب معاجم اللغة فإن الكوفة بالضم، هي الأرض الرملة الحمراء المجتمعة، وقيل المستديرة، أو كل رملة تخالطها حصباء. واختلف في سبب تسميتها فقيل لاستدارتها، وقيل بسبب اجتماع الناس بها، وقيل لكونها كانت رملة حمراء تختلط بها الحصباء... ويقال تكوّف القوم إذا اجتمعوا واستداروا.
ولم تكن الكوفة معروفة بهذا الاسم قبل تعميرها من قبل العرب المسلمين، وليس في موقعها ما يشير إلى أنها كانت في يوم من الأيام مستوطناً من المستوطنات العربية أو العراقية القديمة، وإنما كان موضعها جزءاً سهلياً من الضفة اليمنى للفرات الأوسط، وإلى الجهة الشمالية الشرقية من مدينة الحيرة، ويدعى سورستان.
والكوفة مدينة جميلة تقع على نهر الفرات، وعلى مسافة 12 كيلومتراً من مدينة النجف، و 156 كيلومتراً من بغداد، وستين كيلومتراً جنوبي مدينة كربلاء. وأرضها سهلة عالية، ترتفع عن سطح البحر بـ 22 متراً وشاطئها الغربي أعلى من الشرقي بستة أمتار تقريباً، مما يجعلها في مأمن من الفيضانات قديماً وحديثاً، وكلما سرنا غرباً ارتفعت الأرض عن سطح البحر تدريجاً لتصل إلى ستين متراً ونصف المتر، ثم تنحدر انحداراً شديداً نحو الجنوب الغربي لتمتد إلى بحيرة مالحة ضحلة عرفت ببحر النجف غرباً.
سكان الكوفة الأوائل
توافدت القبائل العربية على الكوفة من كل مكان، وبدأت فيها حركة الإعمار. يذكر ياقوت الحموي نقلاً عن الشعبي أن مساحة مدينة الكوفة بلغت في العصر الأموي ستة عشر ميلاً مربعاً وثلث الميل، شيدت عليها خمسون ألف دار للعرب من ربيعة ومضر، وأربعة وعشرون ألف دار لسائر العرب، وستة آلاف دار لسائر المسلمين، وأخذت رقعتها تمتد في أوائل العصر العباسي غرباً باتجاه النجف، وشمالاً باتجاه الحيرة، وانتشرت حولها كثير من الضياع والقرى. وكان أول الوافدين عليها بعد العرب هم الفرس والنصارى السريان ويهود نجران. وكان عدد الفرس ـ كما يقول البلاذري ـ أربعة آلاف ممن قاتلوا في معركة القادسية وجلولاء. وكان لهم نقيب يقال له « ديلم » أو دهقان فأطلق عليها « حمراء ديلم » لأن العرب كانت تسمي العجم « الحمراء ».
أما السريان فقد سكنوا الكوفة، حيث كانوا يسكنون الديارات التي كانت قائمة في أطراف الحيرة والنجف، وتوثقت صلاتهم بالمجتمع الإسلامي الجديد، وتعاطوا التجارة والصيرفة، يضاف إلى ذلك هجرة جماعات من النبط سكان البطايح المجاورة فانضموا لسكانها العرب القادمين من الجزيرة، ثم توالت الهجرات.
وأصبحت الكوفة منذ تأسيسها محطاً للقبائل العربية، وسكنها أشراف العرب من قبائل اليمن وحضرموت، وقسمت عند تأسيسها إلى سبعة أحياء، خصص كل حي منها لقبيلة معينة، مثل قبيلة بني أسد، والنخع، وكندة، ومزينة، وتميم، وجهينة، وبقيت هذه الأحياء قائمة حتى حكم عثمان بن عفان، وحينما قدم الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام إليها بعد موقعة الجمل سنة 36هـ، أجرى تعديلات في توزيع أحيائها، وظل هذا النظام معمولاً به حتى أوائل القرن الرابع الهجري.
وبدأت الكوفة تزدهر وتمتد تبعاً لاتساع نشاطها التجاري والاقتصادي، وصارت قبلة أنظار العرب وزعمائهم واتخذت لنفسها سمة الزعامة والقيادة في فترة عرفت من أخصب مراحل تأريخها على الإطلاق، وكان للكوفيين، فضلاً عن ذلك، تأثير في الحياة السياسية والعقلية... وفي الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وأخطر من ذلك كله أن الكوفة أثرت في الفتوحات الخارجية، ولعبت دوراً خطيراً في تلك الفتوحات، حدد علاقاتها بالأمصار الأخرى واتخذ لوناً خاصاً.
محطات في تاريخ الكوفة
ترك الإمام علي عليه السّلام المدينة المنورة، واختار الكوفة عاصمة لخلافته، وكان ذلك لدواعي ستراتيجية وعسكرية، فلقد واجهت خلافته منذ البداية تحديات منحرفة أثارتها الفئات التي كانت تحلم بالحصول على امتيازات أكبر على حساب الشريعة، وبعدما تمادى هؤلاء في معارضتهم وعصيانهم وتمردهم على الشرعية والقائد الحق، أراد الإمام عليه السّلام أن يعدّ العدة لمواجهة الأخطار المحدقة، فوجد أن المدينة لا تتوافر فيها عوامل النجاح العسكري والسياسي بعكس الكوفة، التي كانت تتميز بعدة عوامل عن المدينة منها:
• أنها كانت قادرة اقتصادياً على التموين المستمر للجيوش بما تملكه من ثروات زراعية وتجارية لقربها من بلاد الفرس.
• لقرب العراق من الشام بالنسبة إلى الحجاز، والعراقيون لهم قابلية الإغواء من قبل معاوية.
• إن من وترهم الإسلام على يد الإمام علي عليه السّلام من الأمويين والتيميين والزبيريين كانوا أقل قدرة على التحرك فيها من المدينة التي لم تكن شديدة الولاء للشرعية.
• ثم إن سكان الكوفة كان يسهل عليهم التضحية لأنهم لم يتعودوا على لذائذ الحياة والدعة كما كان حال الجيل الجديد في المدينة المنورة.
لهذه الأسباب اتخذ الإمام علي عليه السّلام الكوفة عاصمة لخلافته، وأقام فيها حتى استشهاده عليه السّلام على يد الخارجي الأثيم عبدالرحمان بن ملجم ليلة 21 من شهر رمضان سنة 40 للهجرة، ودفن بالنجف في موضع قبره الآن. وجاء بعده الإمام الحسن عليه السّلام خليفة للمسلمين، وبقي كذلك بالكوفة ستة أشهر ثم صار الأمر إلى معاوية بعد الدسائس والمؤامرات التي قام بها، فانتقلت حاضرة الدولة الإسلامية إلى دمشق.
وفي سنة 132هـ رجعت الكوفة إلى الواجهة بعدما أعلنت الحكومة العباسية فيها، ونودي بأبي العباس السفاح أول حاكم عباسي، ومع تأسيس بغداد سنة 145هـ على يد المنصور أخذت الكوفة تفقد مركزها السياسي والثقافي، وكان هذا إيذاناً بأفول نجمها وضعف شأنها، حيث بلغ هذا الضعف أشُدّه في أوائل القرن الرابع الهجري.
استعادت الكوفة مركزها السياسي والثقافي في عهد آل بويه الذين حكموا إيران والعراق، ووجهوا عناية خاصة إلى بعض المدن، لا سيما النجف والكوفة وكربلاء وسامراء والمشهد الكاظمي. وبزوال حكمهم على أيدي السلاجقة الأتراك، وتصاعد القلاقل والاضطرابات، بدأت الكوفة تفقد مركزها تدريجاً، ولا سيما بعد قيام مركزيَنِ علميين ودينيين هما النجف والحلة، وبانتشار أعمال الفوضى والإخلال بالأمن تدهورت حياتها الثقافية والعمرانية. وحينما زارها الرحالة ابن جبير الأندلسي سنة 580 هـ، وجدها أيلة للخراب، فكتب يقول:
« هي مدينة عتيقة البناء، قد استولى الخراب على أكثرها، فالغامر منها أكثر من العامر... وبناؤها بالآجر، ولا سور حولها، فالجامع العتيق آخرها، مما يلي شرق البلد، ولا عمارة تتصل به من جهة الشرق ». وزارها كذلك الرحالة ابن بطوطة التطواني، فكانت على الحال نفسه.
وعاشت الكوفة إلى القرن الثامن للهجرة، وهنا ابتدأ التدهور فيها حتّى أصبحت خراباً، وتحولت في العهد العثماني إلى قرية صغيرة تحتضر على شاطئ الفرات.
وفي نهاية القرن الثالث عشر هجري عاد إليها العمران ثانية لتصبح في فترة أهم ميناء على الفرات الأوسط، وأحدثت فيها البساتين الكثيرة، وخططت شوارعها، وأقيمت فيها الحدائق والقصور والأبنية الفخمة بعدما اتخذها الموسرون، من أهل النجف القريبة، مكان إقامتهم أو لاستجمامهم، وأخذ العمران يزحف من النجف باتجاهها حتى أوشك أن يتصل ما بين المدينتين. والكوفة اليوم أصبحت قضاءً تابعاً لمحافظة النجف الأشرف بعدما كانت مجرد ناحية صغيرة. وقد عمل ثلة من أهل الفضل والعلم على إنشاء جامعة علمية وإسلامية كبرى فيها منذ ثلاثة عقود غير أن محاولتهم الجادة أحبطت وصودرت ممتلكاتها، ثمّ عادت مرةً أخرى بجهودٍ مشكورة.
مما ورد في مدح الكوفة وفضلها
ينسب إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله عدة أحاديث في مدح الكوفة ومسجدها، وقد رواها عنه أهل البيت عليهم السّلام:
ذكر المجلسي في بحار الأنوار، كما ذكر صاحب الوسائل مرفوعاً عن الإمام الباقر عليه السّلام قوله: « قال أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام: وآويناهما إلى ربوةٍ ذاتِ قرارٍ ومعين ( المؤمنون:50) قال: الربوة الكوفة، والقرار المسجد، والمعين الفرات »..
وعنه عليه السّلام أيضاً قال: « أربعة من قصور الجنة في الدنيا؛ المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلّى الله عليه وآله، ومسجد بيت المقدس، ومسجد الكوفة »..
وعنه عليه السّلام أيضاً أنّه قال: « هذه مدينتنا ومحلنا ومقرّ شيعتنا ».
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام أنه قال: « تربة تحبنا ونحبها، اللهم ارم من رماها وعاد من عاداها ».
ونسب إلى أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام قوله مخاطباً الكوفة: «.. واني لأعلم أنه ما أراد بك جبار سوءً إلاّ ابتلاه الله بشاغل، أو رماه بقاتل »..
ومن هؤلاء الجبابرة الذين هلكوا بالكوفة زياد بن أبيه وقد جمع الناس في المسجد ليلعن عليّاً عليه السّلام فخرج الحاجب وقال: انصرفوا إن الأمير مشغول وقد أصابه الفالج في هذه الساعة، وابنه عبيدالله وقد اصابه الجذام، والحجاج بن يوسف وقد تولدت الحيات في بطنه حتّى هلك، وعمر بن هبيرة وابنه يوسف وقد أصابهما البرص، وخالد القسري وقد حُبس وضُرب حتى مات جوعاً، وممن رمي بقاتل: عبيدُالله بن زياد ومصعب بن الزبير ويزيد بن المهلب.
ويروى عن أمير المؤمنين أنه قال: « الكوفة كنز الإيمان وجمجمة الإسلام وسيف الله ورمحه يضعه حيث يشاء، والذي نفسي بيده لينصرّن الله جلّ وعزّ بأهلها في شرق الأرض وغربها كما انتصر بالحجاز ».
وكان عبدالله بن عمر يقول: يا أهل الكوفة أنتم أسعد الناس بالمهدي (عج).
مسجد الكوفة الأعظم
يستفاد من الأحاديث المنسوبة إلى النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وأئمّة أهل البيت عليهم السّلام إن مسجد الكوفة كان موجواً قبل أن يختطه سعد بن أبي وقاص. وهو موغل في قدمه ولا يسبقه في ذلك إلاّ المسجد الحرام، وأنه كان أكبر بكثير مما بني عليه في صدر الإسلام. فقد جاء في رواية عن النبيّ صلّى الله عليه وآله أنه قال: « لما أُسري بي مررت بموضع مسجد الكوفة وأنا على البراق ومعي جبرائيل، فقال: يا محمد، هذه كوفان وهذا مسجدها إنزل فصلِّ في هذا المكان... ».
وينسب إلى الإمام الصادق عليه السّلام قوله: « إن مسجد الكوفة رابع مساجد المسلمين، ركعتان فيه أحبّ إليّ من عشر في ما سواه، ولقد نُجرت سفينة نوح في وسطه، وفار التنور من زاويته والبركة فيه على اثني عشر ميلاً من حيث ما أتيته، ولقد نقص منه اثنا عشر ألف ذراع، بما كان على عهدهم ». وفي حديث آخر له عليه السّلام أنه كان مصلّى إبراهيم الخليل عليه السّلام.
ولا تتوفر في الوقت الحاضر معلومات كافية عن جامع الكوفة ولم تشرع الدوائر المختصة في العراق بالتنقيب والحفر في خرائب الكوفة، وما جاور المسجد ودار الإمارة إلاّ منذ عهد قريب، وقليل من الباحثين من كتب عن الكوفة وخططها، ومن هؤلاء البلاذري في كتابه « فتوح البلدان » فأشار إلى إقامة المسجد وتحديد موضع القبلة فيه أولاً، وبتحديد موضع القبلة فيه أولاً، وكذلك فعل الطبري. ويبدو أن المسجد كان فضاء مكشوفاً ومن دون سور تقريباً.
ما شاهده الرحالة ابن جبير
وما نشاهد اليوم من بناء عبارة عن عمارة جددت ورممت مرات عدّة عبر قرون طويلة، والرحالة العرب الذين زاروا المسجد في عصور مختلفة لم يقدّموا لنا وصفاً وافياً عن عمارة المسجد إلاّ الرحالة الأندلسي ابن جبير ( أبو الحسن محمد الكناني 539 ـ 614 هـ )، فقد زار الكوفة سنة 580 هـ، وكتب يقول: « والجامع العتيق آخرها مما يلي شرق البلد، ولا عمارة تتصل به من جهة الشرق، وهو جامع كبير. في الجانب القبلي منه خمسة أبلطة، وفي سائر الجوانب بلاطان. وهذه البلاطات على أعمدة من السواري المصنوعة من صم الحجارة المنحوتة قطعة على قطعة، مفرغة بالرصاص، وهي في نهاية الطول، متصلة بسقف المسجد، فتحار العيون في تفاوت ارتفاعها. فما أرى في الأرض أطول أعمدة منه، ولا أعلى سقفاً، وبهذا الجامع المكرم آثار كريمة، فمنها بيت بإزاء المحراب عن يمين مستقبل القبلة يقال أنه كان مصلّى إبراهيم الخليل عليه السّلام، وعلى مقربة منه مما يلي الجانب الأيمن محراب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام ... وفي الجهة الشرقية من الجامع بيت صغير يصعد إليه، فيه قبر مسلم بن عقيل بن أبي طالب.
ويتضح من وصف ابن جبير أن عمارة المسجد يومذاك تختلف عن عمارة الحاضرة، وأن ساحة المسجد لم تكن مكشوفة كما هي الآن، بل كان في وجهها القبلي سقف عريض يستند إلى خمسة صفوف من الأعمدة، وفي وجهاتها الأخرى سقف أقل عرضاً من ذلك محمول على صفين من الأعمدة. أما الصحن المكشوف فكان منحصراً بالساحة الباقية خارجاً عن صفوف الأعمدة.
إصلاحات العلاّمة بحر العلوم لهيئة المسجد
سنة 1181 هـ / 1768م، أجرى المرجع الكبير العلاّمة السيّد محمد مهدي بحر العلوم (رض) تغييراً كبيراً في هيئة المسجد المعمارية، وذلك بإزالة المعالم والأعمدة القديمة للمسجد، وكان ذلك حرصاً منه على قداسة المسجد وحرمته بعد أن تداعت جدرانه وأصبحت تهدد حياة زواره وقصّاده من جهة، ومن جهة ثانية للحفاظ على أرض المسجد من وطء الزائرين بأرجلهم ومن المخلفات التي يتركونها في أرض المسجد في مواسم الزيارة حيث يصطحبون أطفالهم ويمكثون ليالي عدة فيه.
وكانت أرض المسجد القديمة في مستوى الذي عليه اليوم أرض ـ بيت الطشت وارض سفينة نوح ـ المنخفضتين، فأمر السيّد بحر العلوم بطمر أرض المسجد القديمة بأنقاضه حتّى بلغ ارتفاع الأرض الجديدة عن الأولى حوالي أربعة أمتار، طمرت تحتها المقامات والأعمدة والمعالم القديمة الأخرى، ثم شُيّدت مقامات جديدة فوق مواقعها، ولم يسقف المسجد كما كان وبقي فناؤه مكشوفاً، ولوقاية الزائرين من حرارة الشمس والمطر، شيّدت مجموعة من الحجرات في جوانب المسجد... غير أن هذه التغييرات على وجاهتها حرمتنا من الاطلاع على المعالم القديمة للمسجد وطرازه المعماري الفريد.
فضل مسجد الكوفة
وردت في فضل مسجد الكوفة ومكانته الروحية أخبار كثيرة، أطنب في ذكرها الفقهاء وأهل السير والتواريخ، وكلها تبيّن ما لهذا المسجد من مزية على سائر المساجد ما عدا البيت الحرام ومسجد النبيّ صلّى الله عليه وآله.. فقد روي أن رجلاً أتى علياً عليه السّلام فقال: يا أمير المؤمنين إني تزودت زاداً وابتعت راحلة وقضيت ثباتي ـ أي حوائجي ـ وأريد أن أنطلق إلى بيت المقدس. قال عليه السّلام: « انطلق فبعْ راحلتك وكلْ زادك وعليك بمسجد الكوفة، فإنه أحد المساجد الأربعة، ركعتان فيه تعدلان كثيراً في ما سواه من المساجد، والبركة منه على رأس اثني عشر ميلاً من حيث ما جُنته.. ». وعنه عليه السّلام أيضاً قوله: « يا أهل الكوف'ة لقد حباكم الله عزّوجلّ بما لم يحبّ به أحداً، ففضل مصلاكم وهو بيت آدم وبيت نوح وبيت إدريس ومصلّى إبراهيم الخليل ومصلّى أخي خضر ومصلاي، وأن مسجدكم هذا أحد المساجد الأربعة التي اختارها الله عزّوجلّ لأهلها... ». وفي حديث لأمير المؤمنين أيضاً عن مسجد الكوفة: «... فلو يعلم الناس ما فيه من البركة لأتوه من أقطار الأرض ولو حبواً على الثلج ». كما قال عليه السّلام: « الصلاة في مسجد الكوفة فرادى أفضل من سبعين صلاة في غيره جماعة ». وعن الإمام الصادق عليه السّلام: « الصلاة في مسجد الكوفة الفريضة تعدل حجة مقبولة، والتطوع فيه يعدل عمره مقبولة ».
ومن فضل مسجد الكوفة أن المسافر الذي حكمه التقصير في الصلاة مخيّر فيه بين التقصير والتمام، مع استحباب اختيار التمام. ورد عن الإمام الصادق عليه السّلام قوله: « تتمّ الصلاة في أربعة مواطن، في المسجد الحرام، وفي مسجد الرسول صلّى الله عليه وآله، ومسجد الكوفة، وحرم الإمام الحسين عليه السّلام.
ومن ميزة مسجد الكوفة أيضاً النص على الاعتكاف به، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السّلام أيضاً في هذا المجال قال: « لا يصلح الاعتكاف إلاّ في المسجد الحرام ومسجد الرسول صلّى الله عليه وآله ومسجد الكوفة أو مسجد جماعة، وتصوم ما دمت معتكفاً.
أحداث شهدها مسجد الكوفة
• جرت في مسجد الكوفة البيعة الصُّوريّة الأولى للعباسيين، ففيه بويع لأبي العباس السفاح سنة 132هـ / 749م، وقد جعله مقرّه ومركز حكومته وأعماله.
• وشهد هذا المسجد في العصر العباسي حدثاً خطيراً في تاريخه بعد ان اتخذه القرامطة محلاً لاجتماعاتهم ولقاءاتهم، واستطاعوا بعد استيلائهم على الكعبة المقدّسة سنة 317هـ نقل الحجر الأسود من الكعبة إلى مسجد الكوفة ووضعوه في مقام إبراهيم عليه السّلام، ودعوا الناس للحج إلى مسجد الكوفة بدلاً من مكة، وبقي الحجر الأسعد فيه مدة اثنتين وعشرين سنة إلى أن تمت إعادته إلى الكعبة المشرّفة.
• كانت العتبات المقدسة في العراق ومنها مسجد الكوفة محل اهتمام وتعظيم كبيرين من قبل الدول والحكّام الذين تعاقبوا على حكم العراق، وخاصة منهم البويهيون ( 320 هـ / 446 هـ ) والسلاطين المغول الذين توارثوا الحكم بعد موت هولاكو، والصفويون الإيرانيون وخاصة الشاه إسماعيل الأول، وكذلك فعل السلطان سليمان القانوني العثماني، وأخيراً السلطان الإيراني نادر شاه.
• تعرّض المسجد في الربع الأخير من القرن الثامن عشر الميلادي لعدد من الغزوات العنيفة.
• اعتدى عليه المحتلون البريطانيون فقصفوه بقنابل الطائرات في 8 ذي القعدة سنة 1338هـ، فقتل الكثير من متعبدي المسجد ونساكه الأبرياء.
• أمر العالم الديني الكبير الشيخ محمد حسن صاحب « الجواهر » المتوفى سنة 1266هـ / 1849م، المؤمنين بالإكثار من التردد على مسجدي الكوفة والسهلة جرياً على عادة السلف، وكان يخرج صباح الثلاثاء من كل أسبوع مع حشود من طلبة العلم في النجف وعامة الناس لزيارة المسجدين ويقضون ليلة الأربعاء بمسجد السهلة عملاً بالاستحباب المعروف.
وصف المسجد
المسجد بهيئته الحالية مبني على ساحة مربّعة الشكل، طول أضلاعها الأربعة يختلف بعضها عن بعض قليلاً، وأطوالها على التوالي، 100م، 116م، 109م، 116م. ويحيط بالمسجد المكشوف ـ بعد أن زالت أعمدته وسقوفه منذ زمن طويل ـ جدران عالية يصل ارتفاعها إلى نحو 20 متراً، يدعمها من الخارج أبراج نصف دائرية عددها 28، وفي كل ركن من أركان الجامع برج واحد.
يتصل الجامع من جهتيه الغربية والشرقية بساحتين مسوّرتين محاطتين بغرف وأواوين، كما يتصل بالمسجد من الجهة الشمالية الشرقية بناء ذو فناء فسيح، أقيم في طرفيه مقامان، واحد يحتوي مرقد الشهيد مسلم بن عقيل رضي الله عنه ابن عم الإمام الحسين عليه السّلام ومبعوثه إلى أهل الكوفة، والآخر يحتوي على مرقد الشهيد هانئ بن عروة أحد أنصار سيّد الشهداء عليه السّلام الذين احتضنوا مسلم في الكوفة، وقد اغتالهما عبيدالله بن زياد وإلي يزيد بن معاوية قبيل معركة كربلاء، ودُفِنا في هذا المكان. ويقع بين المرقدين مجاز يؤدي إلى ساحة المسجد الكبير.
وأما صحن الجامع فمحاط من جميع جهاته بصف واحد من العقود وخلف كل عقد من العقود إيوان صغير يفضي إلى غرفة، وقد أقيمت هذه الغرف لإيواء الزوار والمعتكفين في المسجد، وخلف العقود في الضلع الجنوبي يوجد رواق طويل وضمن هذا الرواق يقع مقام الإمام علي عليه السّلام.
وللمسجد مدخل رئيس كبير، يقع في الجهة الشمالية الشرقية، ركب عليه باب خشبي، ويسمّى « باب الفيل »، ـ وكان يسمّى سابقاً بـ « باب الثعبان نسبة إلى كرامة حدثت للإمام عليّ عليه السّلام فيما يختص بثعبان دخل من هذا الباب ـ والمدخل مسقوف عند الوسط بآجر مزخرف، وعلى هيئة وحدات، تتألف كل واحدة منها من نجوم اثني عشرية، ذات نسق هندسي متناظر، ويشاهد الداخل زخارف آجرية بسيطة، تتألف من وحدات على هيئة نجوم سداسية يعود تاريخها إلى القرنين السادس والسابع الهجريين، وقد زيّن المدخل المحيط بباب الفيل بالقاشاني الزخرف سنة 1955م، وتعلو المدخل مأذنة حديثة، شيّدت سنة 1956م، مكان المأذنة القديمة التي يعود تاريخها إلى القرنين السادس والسابع الهجريين، ويبلغ ارتفاعها 12 متراً. وعلى مقربة من باب الفيل في الضلع الشمالي استحدث سنة 1388 هـ / 1968م، باب جديد سمي بباب الرحمة.
وهناك باب مسلم بن عقيل الذي يمثل الباب الثاني من أبواب الجامع، وقد أجري على مدخله العديد من التجديدات آخرها سنة 1388هـ / 1968م، بتبرع من السيّد توفيق علاوي، ومن ضمنها برج مربع مزيّن بالنقوش والزخارف الجميلة، وقد وضع داخله ساعة ذهبية كبيرة، كما ذهّب أعلاه حديثاً.
أما أرض المسجد المكشوفة الواسعة فمعظمها غير مبلط ما عدا بعض المساحات التي تقوم عليها محاريب عديدة بنيت للدلالة على المقامات والمصليات المنسوبة لعدد من الأنبياء والأئمّة عليهم السّلام. وبالإضافة إلى هذه المحاريب التي كُتب عليها اسم المقام مع رقمه الخاص، هناك بناءان منخفضان هما:
السفينة أو التنور
تتوسط السفينة أرض المسجد، وتقول الروايات أنه المكان الذي أقلعت منه سفينة النبيّ نوح عليه السّلام إبان الطوفان الكبير، والمقام منخفض مبني على شكل مثمّن، ينزل إليه الزائر، بسلّم يؤدي إلى مكان مكشوف يقود الزائر إلى حجرة صغيرة فيها محراب. أما فناء السفينة فيتألف من إيوانات ذات عقود مرصوفة بالآجر بشكل فني وترتفع إلى مستوى أرض المسجد.
بيت الطشت
وهو أيضاً سرداب يمتد تحت مستوى أرض المسجد وينتهي من طرفيه بدرجين مفضيين إلى مدخل ومخرج، وقد سمّي هذا المكان بهذا الاسم ـ كما تقول الروايات ـ نسبة إلى حادثة لها طابع الكرامة الإلهية، حيث أمر الإمام عليّ عليه السّلام بعض النسوة باستعمال طشت في هذا المكان لإخراج علقة كبيرة نمت في بطن فتاة عذراء، خفي أمرها على دوي الفتاة واتهموها جهلاً بأنها حبلى.
• ونجول في أرجاء المسجد التأريخي المبارك مع الزائرين القادمين من بلدان إسلامية عديدة، يحدوهم الشوق للوقوف والتأمل والصلاة والدعاء في المواضع التي كانت مصلّى ومجلس الأنبياء والأئمّة عليهم السّلام، حيث يكون دخول الزوّار عادة من باب الفيل ليقوموا بمراسم الزيارة بترتيب خاص يشمل قراءة أدعية وزيارات والقيام بصلوات عند كل محراب ومقام من مقامات المسجد المنتشرة في صحنه وعلى جوانبه.
ويبدأ التجوال من الأسطوانة الرابعة من أساطين المسجد التي استبدلت بها كغيرها بنية على شكل محراب، وهي تمثل مقام النبيّ إبراهيم عليه السّلام ومن هناك ينتقلون إلى محراب مجاور يسمّى بـ « دكة القضاء » وهي المكان الذي كان يجلس فيه الإمام عليّ عليه السّلام للقضاء بين الناس، ومنه إلى سرداب الطشت الذي مرّ ذكره، ثم إلى دكة الإمام الصادق عليه السّلام القريبة من مرقد مسلم بن عقيل رضي الله عنه حيث كان يصلّي ويجلس للتدريس، ثم إلى دكّة المعراج الذي ذُكر أن النبيّ صلّى الله عليه وآله قد هبط وصلّى عندها ركعتين أثناء معراجه إلى السماء، ثم إلى الإسطوانة السابعة حيث يذكر أنها تشير إلى الموضع الذي وفق فيه الله تعالى آدم للتوبة، ثم إلى الأسطوانة الخامسة التي تسمّى بمقام جبرائيل عليه السّلام، ومقام الإمام الحسن عليه السّلام أيضاً، ومنها إلى الأسطوانة الثالثة أو دكّة الإمام زين العابدين ـ علي بن الحسين عليه السّلام ـ حيث شوهد يتعبّد عندها. بعد ذلك ينتقلون إلى مقام النبيّ نوح عليه السّلام وهو صفّة واقعة مما يلي باب الجامع. بعد ذلك ينتهي الزوار إلى محراب أمير المؤمنين عليه السّلام ومقامه في المسجد.
مقام الإمام علي عليه السّلام
يتوجّه المؤمنون إلى مقام الإمام علي عليه السّلام في مسجد الكوفة بانكسار ووجوم حيث لا يتمالكون عنده منع دموع الحسرة من التساقط، وهم يتلون الزيارة، وكان تلك الحادثة المروّعة حين هوت يد الخارجي الشقي عبدالرحمان بن ملجم بالسيف على رأسه الشريف وهو ساجد يصلي الفجر، قريبة عهد منهم... وهذا المقام الذي يقع بإزاء الجدار القبلي للمسجد يشتمل على بيت للصلاة يتصدّره محراب أقيم محل المحراب الأصلي، مزيّن بالقاشاني الملون كتب في أعلاه: « هذا مقام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام ». ويعدّ هذا المحراب من أجلّ المحاريب التي يضمها المسجد وعلى يمينه بوابة برونزية مذهّبة ذات نقوش مفرغة بها زخارف جميلة بالقاشاني الملون، وفي أعلاها آية: كلما دخل عليها زكريا المحراب وقوله عليه السّلام « فزت ورب الكعبة »، وعلى يمين المحراب منبر مشيد من الرخام الملون.
• وبعد أن يطوف المؤمنون على بقية المحاريب والمقامات الموجودة داخل المجسد ومنها: متعبّد النبيّ إدريس عليه السّلام، والإمام موسى الكاظم عليه السّلام، وقبر المختار بن عبيدالله الثقفي زعيم التوابين الكائن قرب مقام مسلم بن عقيل، ينطلقون إلى مرقد مسلم بن عقيل رضي الله عنه من مدخل خاص حيث يقوم رواق مزيّن بالقاشاني والمرايا وعلى القبر شِباك فضي مشغول وفوقه تعلو قبّة كبيرة عالية مزينة بالزخارف والقاشاني من الداخل، وهي مغطاة بصفائح من الذهب من الخارج تضفي عليها بهاءً وجلالاً، ويعظم الزائرون مقام مسلم غاية التعظيم ويذكرون أثناء الزيارة جهاده وتضحياته المشهودة أمام ابن عمه الإمام الحسين عليه السّلام.
ثم يعمدون بعد زيارة مسلم لزيارة قبر رفيق جهاده هانئ بن عروة، الواقع خلف قبر مسلم في الجهة الشماليه، وعليه شِباك دائري من نحاس أصفر، وترتفع فوقه قبّة مزينة بالقاشاني الملون.
بيت الإمام علي عليه السّلام
خارج مسجد الكوفة وفي جواره يقع لجهة القبلة بناء متواضع هو بيت الإمام علي عليه السّلام الذي كان يسكنه وقد غسّل فيه بعد استشهاده عليه السّلام، ويدخله الزوار أيضاً بسكينة وحزن ظاهرين، وأول ما يصادفك فيه ساحة صغيرة على يسارها غرفة صغيرة مقوسة السقف كتب عليها « غرفة الحسن والحسين عليهم السّلام » وعلى اليمين غرفة كبيرة كتب عليها: « هذا مغتسل أمير المؤمنين عليه السّلام بعد استشهاده عليه السّلام » يصلّي فيها الزوار ويقرأون ما تيسر من القرآن والأدعية والزيارات قريباً من محراب كتب فوقه « هذا موضع جلوس الإمام الحسن عليه السّلام عند وفاة والده عليه السّلام ». وعلى يمين هذه الغرفة منفذ يؤدي إلى عدة غرف كانت لبنات الإمام عليّ عليه السّلام ثم ينتهي البيت بغرفة فيها بئر ذكر أن الإمام عليه السّلام قد حفرها، وهناك يناولك الخادم كاساً من ماء البئر لتشربه تبرّكاً.
وبعد أن ينتقل الزوار لزيارة مرقد ميثم التمار أحد أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام الخلّص الذي قتله عبيدالله بن زياد وصلبه على جذع نخلة، في هذا المكان القريب من بيت الإمام عليّ عليه السّلام، يلقون نظرة متأملة معتبرة على خرائب قصر الإمارة وصار بعده منزلاً خاصاً بالخلفاء والأمراء، وقد هدمه عبدالملك بن مروان تشاؤماً منه لكثرة من تقلّب عليه من الخلفاء والأمراء والأعداء الذين قتل بعضهم بعضاً، كما شهد هذا القصر المؤامرات الدامية على أهل البيت عليهم السّلام. وقد كشفت مديرية الآثار العراقية حديثاً عن آثاره التي كانت مطمورة وتبين أنه كان محاذياً لضلع مسجد الكوفة الجنوبي، ومتصلاً به بمدخل خاص، وأن طول ضلع القصر نحو 177م، ومعدل سمك الجدران 6 , 3م.
مسجد السهلة وأهم مساجد الكوفة التاريخية
تنتشر في أنحاء الكوفة وجوارها مساجد تاريخية كثيرة كانت وما زالت محل تكريم وعنايته ويأتي في طليعة هذه المساجد مسجد السهلة الشهير، وهو أحد المساجد التي شيدت في الكوفة خلال القرن الأول الهجري، ولهذا المسجد ومشاهده القائمة فيه قدسية ومنزلة كبيرة في قلوب المؤمنين، ولهذا فهو مقصد الزوار ومحل تعظيمهم، ويقترن اسمه بالإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف الذي تؤكد الروايات والأحاديث مشاهدته فيه مراراً، ويبدو أن بني ظفر ـ من الأنصار ـ هم بناة هذا المسجد، ولذا عرف في البداية بمسجد بني ظفر. وفي رواية عن علي عليه السّلام أنه قال: « مسجد بن ظفر مسجد مبارك، والله إن فيه لصخرة خضراء، وما بعث الله من نبي إلاّ فيها تمثال وجهه وهو مسجد السهلة ».
ويقع هذا المسجد في ظاهر الكوفة على بعد نحو كيلومترين من سمجدها الجامع في أرض كانت خالية من العمران والسكن، وقد شيدت حديثاً بعض البيوت في جواره. وأول ما يطالعك منه سوره ـ المبني على غرار مسجد الكوفة ـ ومنارته ثم قبّة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف العاليتين. ومسجد السهلة مستطيل الشكل طوله 160م وعرضه 135م، يحيط به سور يرجع بناؤه إلى العهد الإيلخاني وقد جرت عليه تجديدات عدة بعد ذلك، ويبلغ ارتفاعه 5 , 7م وقد أقيمت عليه حديثاً منارة ترتفع 30م مغطاة بالقاشاني المزخرف. وقد ألحق بالمسجد صحن واسع يضمّ خاناً للزوار يعود تاريخه إلى حوالي 300 سنة، وفيه قاعات للاستراحة ومرابط للخيل وإيوانات لنزول الزوار وحمام ومرافق، وبيوت للخدم.
والضلع الغربي هخو واجهة المسجد وبه الباب الوحيد الذي يقابله في الخارج آثار أسواق قديمة. وللمسجد مدخل كبير وساحة ترابية مكشوفة فيها عدد من مقامات ومحاريب الأنبياء عليهم السّلام والأئمّة عليهم السّلام وأنصار أهل البيت، وهي مشاهد تزار ويتبرك بها ويقرأ عندها الأذكار والأدعية، وهي كالآتي:
1. مقام الإمام المهدي المنتظر (عج):
وهو أكبر مقامات المسجد ويقع بناؤه قرب السور وعلى محرابه المقوصر شِباك من صنع هندي عليه زخارف نباتية دقيقة الصنع، ويحيط بالشِباك لوحتان من القاشاني الأزرق كتب عليهما دعاءان مخصصان لزيارة المقام. وتعلو المقام قبّة عالية خضراء اللون عليها من الخارج زخارف من القاشاني.
2. مقام الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهم السّلام:
ويقع في وسط المسجد أيضاً وبنايته حديثة عددية.
3. مقام الإمام جعفر الصادق عليه السّلام:
ويقع أيضاً في وسط المسجد وتقام على دكته المستطيلة صلاة الجماعة كل ليلة أربعاء.
4. مقام الخضر عليه السّلام:
يقع في الزاوية بين الضلعين الجنوبي والغربي.
5. مقام النبيّ إدريس عليه السّلام:
ويقع بين الضلعين الجنوبي والشرقي.
6. مقام الصالحين: ويعرف أيضا بمقام « النبيين هود وصالح عليهم السّلام »:
هو يقع بين الضلعين الشمالي والشرقي.
7. مقام النبيّ إبراهيم عليه السّلام:
ويقع في الزاوية الشمالية الشرقية.
ويجول الزوّار على هذه المقامات بترتيب خاص ورد في كتب الزيارات والأدعية.
• ومن المساجد التي يقصدها الزوار في نواحي الكوفة:
• مسجد زيد بن صوحان:
وهو من مساجد الكوفة القديمة، ويقع على بعد 200م جنوباً من مسجد السهلة. وزيد هو أحد أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام الخلّص، وقد أدرك النبيّ صلّى الله عليه وآله وله فيه أقوال منها: « زيد وما زيد يسبق عضو مه إلى الجنة ». ويروى أن يده قطعت يوم فتح نهاوند. جدّدت عمارة المسجد حديثاً بشكل عادي وبمساحة 165 متراً مربعاً.
• مسجد صعصعة بن صوحان:
وهو شقيق زيد، ومن رواة الحديث الثقاة الموالين لأهل البيت عليهم السّلام، وهو أيضاً من المساجد القديمة، وقد جدد سنة 1387هـ / 1967م ويحتلّ مساحة 160م.
• مسجد الحنّانة:
أقيم قديماً محل دير نصراني، وقد وضع رأس الحسين عليه السّلام الشريف برهة من الزمن في هذا المسجد عندما كان في طريقه إلى الكوفة، ولذلك هناك مشهد لرأس الحسين عليه السّلام في وسط هذا المسجد محاط بقفص من الخشب المنقوش، وفوقه قبّة مكسوة بالقاشاني، ومدخل المسجد أيضاً محاط بالقاشاني، وقد كتب عليه بعض الآيات القرآنية والأبيات الشعرية. ويقع هذا المسجد على يمين الذاهب إلى النجف الأشرف.
• مسجد الحمراء:
وهو الذي يعرف بمسجد النبيّ يونس عليه السّلام، نسبة إلى مرقده المتاخم للمسجد، وورد أن الإمام علي عليه السّلام صلّى فيه وعدّه ضمن أربع بقاع مقدسة بالكوفة. وهو يقع على شط الفرات.