في بقعة على وجه الأرض تحتضن القطيف حيّا من أحيائها الحائرة بين الحداثة و القدم اسمه الوسادة ، و قد وهبته موقعا حنونا كما تهب الأم أصغر أبنائها ، فعلى الجانب الشرقي من هذا الحي يمتد شارع الإمام علي الذي يبدأ من سوق القطيف المركزية في مياس(1) ليمر بالمدارس و المدني و باب الشمال ليفصل بين البستان و الوسادة و يكمل مشواره ليجاور البحاري و القديح ثم يخترق العوامية و يقف عند الحدود الشمالية لصفوى ، وقد قدر لهذا الطريق أن يكون تجاريا زراعيا سكنيا في أغلب مسيرته و صناعيا في الجزء المحادي للبحاري و بعض القسم المخترق لصفوى ، و رغم أن هذا الطريق يخدم شريحة كبيرة من السكان إلا أنه يرفض التوسع إلا عندما تفتح له صفوى قلبها ، أما على الجانب الغربي لحي الوسادة فيختال طريق الملك "" المشجر الواسع الذي يبدأ مسيره من القديح و البحاري ليحد الوسادة ثم يفصل التوبي عن سوق الخميس و يكمل مسيره نحو الدمام مارّا بسيهات ، ولهذين الطريقين أثرهما في جعل حي الوسادة استراتيجيا ، إذ لا تفصل القاطنين لهذا الحي عن مياس أو سوق الخميس إلا مسافة قصيرة يستطيع من يمشي الهوينة أن يقطعها في بضع دقائق ، و تربض - كما أسلفنا – المدرسة الثانوية الأولى للبنات بالقطيف شمال الحي و تحرسه في الجنوب مدرسة القطيف الثانوية للبنين ، و لأن هذه البقعة من القطيف تحب العلم و التعليم فقد وهبت ثلاث قطع من جسدها لإقامة مدارس ، فبالإضافة لشمالها و جنوبها تحتل مساحة كبيرة في مركز الحي المدرسة الابتدائية الثانية للبنات بالقطيف ، و عندما تطل المدرسة الأولى للبنات على أرض خالية شمالا فإن شارعين يصلان شارع الإمام علي بطريق الملك "" أحدهما يحدها من الجنوب مارّا بمدرسة القطيف الثانوية و الآخر يشق الوسادة من المنتصف مارّا بالمدرسة الابتدائية و من هذا الطريق تتفرع أزقة صغيرة يقود الزقاق الثاني المتجه جنوبا منها إلى بيت يفترش الأرض النخيلية وحيدا لا يسند ظهره لأي منزل ، و لا تفصله عن مدرسة القطيف الثانوية سوى خطوات جنوبية ، و عن مدرسة البنات الابتدائية غير خطوات غربية ، كان هذا المنزل (2) يضم بين جنباته أسرة "أبي حسن" .
لم يحط بالمنزل منذ بنائه أي سور أو سياج بل كان ينفتح الباب الرئيس المفتوح على الشرق على دهليز ضيق يشق طريقه بين بركة صغيرة تحت السلم و جدار المجلس إلى صالة الجلوس و المطبخ ، إذ يطل باب الصالة على أول درجة للسلم إلى يمين الداخل في نهاية الدهليز ، أما المطبخ فيقع في نهاية الدهليز تماما ، بينما تقود الدرجة إلى غرفة نوم "أبي حسن" فقط .
و ينفتح من الصالة ثلاثة أبواب يتوسط الأول شمالها ليقود إلى غرفة "هدى" و ينزوي الثاني في ممر شمال شرق الصالة لينفتح على غرفة "حسن" و "حسين" أما الباب الثالث فكان على يسار الخارج من غرفة الصبيين شرق الصالة يؤدي إلى دورة المياه ، أما الجهة الغربية فتنفتح فيها نافذة صغيرة مسيجة بقضبان تحرزية ويبرز إلى يمين النافذة مكيف بغلاف بني ، يساند المكيف مروحة تنحدر من مركز السقف بثلاثة أطراف ، تقف مكتبة خشبية تحمل في بطنها تلفزيونا متوسط الحجم مخشب الإطار ، و جهاز فيديو أسود و تبرز من فتحاتها بعض التحف الفخارية...
**********
يتساقط المطر رذاذا يثير الغبار و يداعب هواجس الناس ، الرذاذ في القطيف لا يبشر بجذب أو رخاء ، هو فقط رذاذ أو قطرات مطر تسقط لتخيف الشيوخ و الأطفال ، الفقراء و المساكين و العاملين في الهواء الطلق ، تخيف الطلاب و الطالبات ، و تصنع الحوادث المرورية ، غول مخيف يداهم قلوب الكثيرين ، الغيوم وحدها تنذر بوابل و تخبر أن هذا الرذاذ ماهو إلا رسول ، بدأت الطالبات بالانتشار خارج سور المدرسة الثانوية ، من لاذت بركوب الباص تراقب الأخريات ، و الماشيات يجدن في السير ، و انهمر السيل السماوي ، قرع المطر يثير الرعب في نفوس مستقلات الباص ، و يشل تفكير من تبللت عباءاتهن و سد طريقهن ، أطلت "هدى" و"أمل" من بوابة المبنى الداخلية ، كان المطر يضرب أرض الساحة الخالية أمامهما و يرتد إلى الهواء ثم يسقط مرة أخرى ، انضمتا إلى من حبسهن المطر عن الخروج ، كان السرب الذي يشاهد المطر تحت حماية المبنى يأمل أن يقف المطر أو يخفف من وطأته ، كلما تسرب الوقت تسربت الطالبات يأسا من هدوء المطر ، هتفت "أمل":- أرى أن المطر لن يتوقف... أنا ذاهبة..
- لا.. لا أستطيع... سأنتظر حتى يهدأ
- مع السلامة
- مع السلامة
و تسرب اليأس إلى صدر "هدى" ، لم يبق في السرب أكثر من عشر طالبات ، هيأت نفسها لخوض مغامرة المشي تحت المطر و فوق الطين ، حملت حقيبتها على كتفها ، أخفت طرفا تحت الآخر و أمسكت بالطرف الخارج بقوة ، خطت خطوتها الأولى بحذر ، رفعت رجلها الأخرى بآلية بطيئة ، ثم ركضت على قمم أصابعها إلى باب السور الخارجي ، و اندفعت مسارعة خطواتها ، لتشق عباب الطين شقا...
الأزقة الوعرة تزداد وعورة عندما يهطل المطر ، الإسفلت المهترئ يستسلم لوطأة القطرات الغاضبة كما يستسلم الزجاج للجماهير الغاضبة ، سلكت "هدى" طرقا ملتوية قادتها إلى طرقا ملتوية ، و المطر يهاجمها أينما يممت وجهها ، وقفت أمام الباب في شلل تام ، البركة التي أحاطت بالباب تعيقها عن الولوج ، سارع المطر هطوله فأصبح "العدو من أمامكم و البحر من ورائكم" ، قفزت ثلاث خطوات متباعدة ، تطاير الماء فلطّخ عباءتها بينما هي مندفعة إلى المنزل ، كانت "أم حسن" تقف في المطبخ تراقب القدر الخاضع للنار ، فأطلت من الباب و هي تهتف:
- انزعي حذاءك قبل أن تدخلي بكل...
توقفت الكلمات في فيها ، كانت "هدى" قد وصلت باندفاعها إلى نهاية الدهليز ، جمدت أمام نظرات أمها الحادة كالبركان الذي سيثور ، تشهدت و قرأت السورة الفاتحة، صرخت "أم حسن" في وجهها...
- ما هذا؟؟ انظري إلى حالك!... أ هذا منظر فتاة عاقلة؟؟ كأنك طفلة لعبت في الوحل ، ثم ما هذا؟؟ لماذا وصلتِ إلى هنا؟؟ لماذا لم تنزعي وحلك هذا من أقدامكِ؟ وسختي أرض الدهليز...
- توجد بركة على الباب ، و المطر يهطل بغزارة...
- و إن هطل المطر بغزارة تقفزين إلى المنزل كالمجنونة؟؟ ما هذا؟؟ لابد أنك عدتِ إلى طفولتكِ... كلا... في طفولتكِ لم تفعليها... ربما هي طفولة متأخرة... انظري... انظري إلى عباءتكِ... أ هذه عباءة فتاة في الثانوية؟؟؟ لقد تزوجت أبيكِ و أنا أصغر منك بسنين ، عندما كنت في عمرك كنت أربيكِ أنت و أخاك "حسن"... لماذا أنت واقفة؟.. انزعي عباءتك و اغسلي الأرض قبل أن..
و رفعت "أم حسن" يدها بكف مضمومة...
- ... أدخل النار بسببك...
كانت "هدى" تستمع إلى صراخ أمها ، وذهنها يحسب حساباته المختلفة ، ها هي أعمال إضافية قد سجلت نفسها في جدولها لهذا اليوم ، عباءتها التي تشجرت بالوحل يستحيل الذهاب بها إلى المدرسة قبل إخضاعها إلى عمليتي الغسيل و النشر ، أرض الدهليز الملطخ بما حمل حذائها ، أعمالها الإصلية التي تستغرق أغلب عصرها ، نزعت عباءتها و ألقتها في الحمام و لم تدخل غرفتها حتى عادة تحمل مريولها و رمته إلى جانب العباءة بوجه محمل بكل تعابير الغضب و الاعتراض ، حملت طشتها و أدوات التنظيف و خرجت إلى الدهليز ، لم تبدأ الغسل حتى صرخت "أم حسن" في وجهها...
- متى ستتقنين أعمالكِ... ضعي شيئا من سائل الغسيل...
دخلت "هدى" المطبخ لتجلب علبة الغسيل فأوقفتها "أم حسن"...
- الغذاء جاهز... إذا قدم أخويك ضعيه لهما... أنا سأذهب إلى جارتنا "أم عباس" ، سيأتيها ضيوف و أريد أن أساعدها...
- إن شاء الله...
عادت "هدى" تسكب و تشطب المزيج الذي ألفته من الغسيل و الماء ، كانت تدعو أن يتوقف المطر إلى الأبد ، خرجت "أم حسن" بعباءتها ، توقفت عند "هدى"...
- أريد أن أرى البيت نظيفا عندما أعود ، رتبي غرفة أخويك و غرفتك ، و إذا أتيا ضعي لهما الغذاء ، و لا تنسي أن تغسلي الملابس و الصحون ، و إذا أتى "حسين" راجعي معه دروسه..
- لن يقبل ذلك...
- إذا لم يراجع معك فالعصا بانتظاره...
- إن شاء الله...
- و حافظي على نظافة المنزل..
- إن شاء الله..
فتحت "أم حسن" باب المنزل فتوقفت أمام البركة التي تكونت من المطر ، كان المطر قد خفف وطأته و شارف على الوقوف ، فعادت لتكمل تعليماتها..
- ضعي قطعت سجاد إضافية أمام الباب قبل أن يأتي أخواكِ أو أبوك و يصنعان مثلما صنعتِ..
- إن شاء الله..
- و لا تنسي أن تحافظي على المنزل نظيفا...
- إن شاء الله..
و خرجت "أم حسن" و لم تكد تفعل ذلك فوقفت "هدى" و تنفست الصعداء ثم هتفت:
- آه... أخيرا خرجت...
انتهت "هدى" من غسيل الأرضية المتسخة و دخلت تبحث عن قطعة السجاد التي أوصت بها أمها ، وقفت حائرة أي قطعة سجاد قصدت والدتها؟ ترفع السجادة الزرقاء الطويلة فينتابها شك بأنها لا تناسب عرض الدهليز فتطرحها ، تهم بحمل الخضراء فتسمع داخلها من يناديها بأن هذه عزيزة على قلب أمك و لا يمكن أن تضحي بها ، أجالت بصرها تحاول أن تتذكر قطعة تناسب المكان و الزمان ، تشعر أن قلبها يتخطف لعجزها عن التصرف في هذا الموقف ، أجالت كفها على شعرها ، كان صوت أخيها "حسن" يناديها من أمام المطبخ:
- "هدى"... لقد اتسخت أرضية الدهليز..
هرولت إلى الدهليز ، عاد كما كان قبل تنظيفه و أكثر ، أمسكت رأسها بكفها الأيمن ، ووضعت يدها الأخرى على خاصرتها ، أمارات القهر الممزوج بالضعف تعلو وجهها ، نقلت بصرها بين أخيها و بين أرض الدهليز ، كان يضع كفه على رأسه كمن يبرر شيئا ما ، تمتم:
- لم أنتبه لكل تلك الأوساخ التي في حذائي...
نظرت إلى رجليه ، كان لا يزال ينتعل الحذاء المليء بالطين و الوحل ، سألته بسخرية غاضبة:
- نعم... سمعي اليوم يخذلني... ماذا قلت؟؟ ربما لم تنتبه أنها تمطر...
- صدقيني... لم أنتبه...
- لماذا لا تخلع نعليك و تصوم عن الحديث برهة...
خلفته يخلع نعليه و دخلت تجلب أدوات الغسيل من جديد...
تسكب محلول الغسيل و فكرها يشتعل غضبا على كل شيء ، المطر الذي أضاف لها مهام إضافية ، و القدر الذي وهبها أخوين مهملين و لم يرزقها أخت أخرى تساعدها ، ينتابها الشعور بالظلم لأنها فتاة ، ولأنها وحيدة ، و لأنها تبذل جهدا لتصلح ما يفسده الآخرون ، انفتح الباب الخارجي ليطل وجه "حسين" المترقب ، هتفت قبل أن يضع رجله اليمنى على الأرض:
- أين؟ أين؟...
تسمر مكانه ، و ضع يده على قلبه و هو يقول :
- بسم الله الرحمن الرحيم.. ما بك؟ هل غيروا المنزل؟
- لا.. لكن لم يجلب أبوك خادمة لتغسل الأرض التي تتسخ بحذائك..
- آها... هل أمي في المنزل؟
- لن أخبرك قبل أن تخلع حذائك...
خلع نعليه و هو يهتف:
- ها قد خلعته... أين أمي؟
- أمك.. ليست في المنزل..
- هذا رائع...
و اندفع إلى الداخل مشيعا بنظرات "هدى" ، و لم تكد تعود إلى الغسيل حتى مرّ إلى جانبها طيف "حسين" ، رفعت رأسها و إذا به قد وصل إلى الباب ، و لا جدوى من العدو خلفه ، صرخت:
- توقف..
استدار ليقابلها:
- ماذا هناك؟ أتريدين أن ألبس حذائي؟
- لا... أريدك أن تبقى في المنزل... لكي تسترجع دروسك...
- و هل أصبحتِ صاحبة أمري؟؟
- لا..
- مع السلامة
و قفت تندب حظها ، من سينجدها من غضب أمها؟ لم تكن خطيئتها لكن من سيقنع أمها ، تمسك بعصى الشاطفة حائرة في أمرها ، مشدودة الأعصاب ، لا تقوى على التفكير ، إذ أطل عليها "حسن" برأس لا تنقصه الابتسامة وهو يهتف:
- ما زلتِ تشطفين؟ سأموت من الجوع...
- الغذاء في القدر...
- لكن من يخرج الغذاء يشطف الأرض..
- لن أضع لك شيء... استخدم أناملك الرقيقة..
انتهت من الشطف و دخلت دورة المياه تفرز الثياب ، فأطل عليها "حسن" بملامح تحدٍ ، أظهر من خلفه فردة حذاء متسخة ، هو يهتف:
- متى ستضعين الغذاء؟
وقفت تنظر إليه برهة ، تتمنى أن تنقلب إلى لبوة فتنشب أظافرها في حلقه ، ضربت برجلها الأرض ، و خرجت إلى المطبخ و هي تدعو عليه بشتى المصائب ، وضعت له الغذاء فهتف بسخرية:
- شكرا لكِ يا آنسة...
- الله يحرق قلبك و يضعك في مصيبة لا تعرف لها حل..
أكمل سخريته :
- في أي المجموعات الرياضية؟
كانت خطوات في الدهليز تنبئها بأن ما تعبت في سبيله قد أفسد ببضع خطوات ، اندفعت إلى الدهليز ، وضعت كفها على رأسها ، قسمات وجهها تخبر عن قرب انهيار ، وقف والدها منشدها ، برهة من الصمت مزقها سؤال أبيها:
- ما بكِ؟
- لا شيء؟
- ما بكِ يا بنية؟
- لم أكد أنتهي من غسيل الدهليز..
نظر إلى الطين العالق في حذاءه ، عاد بصره إلى خطواته ، هتف:
- سامحيني يا بنيتي... لم أنتبه فالخبر الذي جئت به يهز الجبال...
- ماذا الخطب؟
- أين "حسن"؟
- لابد أنه يسمعك.. فهو في الصالون يتغذى..
أطل "حسن" بقسمات مرتعبة ، سأل"
- ما هو هذا الخبر؟
- غير ملابسك و البس البياض..
- لماذا؟
- صديقك "مصطفى"...
- ...
- توفي في حادث قبل قليل..
- ...
جرت دموع "هدى" الأنثوية ، أسندت رأسها إلى الحائط ، هتف "أبو حسن":
- إنا لله و إنا إليه راجعون... غير ملابسك و هيا بنا إلى المسجد ننتظر قدوم الجسد..
بعد خروج "حسن" مع أبيه ، كان إحساس داخل "هدى" يشعرها بالذنب ، لم تقصد أن يفقد "حسن" أحد أصدقائه ، ربما كانت غاضبة لكنها لم تقصد أن تقتل فتى في ريعان الشباب ، دخلت غرفتها و أغلقت الباب غارقة في بحر من الدموع
الجغرافية كاذبة عندما نوقع عليها جامعة الملك فهد للبترول و المعادن ، على جبل صغير- في مدينة الظهران – تأوي مبانٍ صخرية اللون كمن تخشى شيئا ما في السماء ، بعض تلك المباني زاحفة لا تقوى على المشي فتراها متمددة بطولها على قمة الجبل ، و الأخرى واقفة تضحك على أخواتها ، هذه المباني اجتمعت ذات يوم و أطلقت على نفسها مسمى الجبل ، و لأنها تخشى الفتك .. لم تسمِ نفسها بأسماء تدل عليها ، بل أسقطت على نفسها أرقاما تعصمها من الاستهداف ، و عندما عجز شيخ المباني عن صعود الجبل نبذوه و استحقروه ، كانوا ينظرون إليه نظرة الدون و يطلقون عليه مسمى عربيا طويلا يختصره البعض إلى "الأوريا"..
القصص و الحكايا تتحدث عن أن هذا المبنى كان أول المباني وجودا ، و قد مرّ عليه أغلب الدارسين في الجامعة ، و لولا الاجتماع الغاشم لتلك المباني الرقمية لما أطلق عليه "مبنى السنة التحضيرية" ، فقد تُرك ذلك الشيخ الكبير لقمة سائغة لبني البشر ، و رضي أن يكون خادما لتلك المباني ، و كان يتمتم في بداية كل عام:
- سيد القوم خادمهم
و لا تكاد ينتهي العام الدراسي حتى يعلن أن هذا العام آخر أعوامه و أنه أوشك على الرحيل..
مبنى السنة التحضيرية يقع على بعد قرابة كيلو متر عن الجبل إلى الشرق ، و يحميه من شرقه شبك حديدي عن اختراقات الأعداء ، بينما إلى شماله تقبع بوابة الجامعة الرئيسة ، و جنوبه صحراء قاحلة طالما احتضنت أكثر السيارات الطلابية رفاهية ، و يفصل بينها وبين مطعم الجامعة شارع قصير فقط، و لم تكن تسميته بمبنى السنة التحضيرية عبثا ، فقد أخذ على عاتقه ترويض حركات الطلاب ونقلهم نقلة نوعية من محيط الدراسة الثانوية إلى الحياة الأكاديمية ، حتى إذا صعدوا الجبل تنكروا لجميله و ما عادوا إليه إلا مجبرين...
تحول "حسن" - كزملائه التحضيريين - على مدى شهر منذ توجهه مع "مصطفى" إلى الجامعة تحولا جذريا ، فقد كان في اليوم الأول يقف إلى جانب الشجرة الأزلية في الطريق الذي يشق الوسادة من المنتصف ، يرتدي ثوبا أبيضا و عيناه حمراوتان كأن لم يذق طعم النوم في الليلة البارحة ، عندما توقفت سيارة من نوع "تويوتا غراندي" بلون العنب و فتح "مصطفى" الباب و هو يهتف:
- هيا... بسرعة..
كان طابور السيارات خلف سيارة "مصطفى" يعلن التذمر عبر الأبواق ، لم يكد "حسن" يغلق الباب حتى أصدرت السيارة صوتا و خلفت أثر احتراق العجلات ، كان "حسن" يبحث في السيارة عن شيء غير مألوف ، "مصطفى" يلبس الجينز الأزرق و بلوزة بيضاء و قد سرح شعره تسريحة جديدة تناسب بشرته السمراء الداكنة ، كان يبتسم كلما التفت "حسن" باحثا في السيارة و هو يقول:
- أنا متأكد أن ثمة أمر مختلف في السيارة..
عندما وصل "مصطفى" شارع الملك عبد العزيز انعطف إلى اليسار ، باتجاه الدمام ثم لم يلبث أن انعطف يمينا عندما قرأ اللوحة المرشدة إلى الجش ، كان الطريق المؤذي إلى الجش طويلا جدا و لا يمكن لأكثر من سيارة المرور في آن واحد ، وبين الفينة و الأخرى يقف الطابور ، و يتذمر "مصطفى":
- يبدو أن علينا أن نخرج عند الخامسة لنتفادى هذا الزحام...
و بعد فترة من الصبر ، أصبح ينتظر خلو الطريق المقابل حتى ينزرق فيه بسرعة ثم يبحث عن فتحة بين السيارات المتراصة ليعود إلى مساره ، كانت مغامرة لا ينقصها الحظ وأصوات الأبواق بين الفينة و الأخرى ، عندما وصل إلى الطريق السريع و انعطف يسارا إلى الطريق القائدة للظهران أصبح يسابق السيارات ، و مرّ بمخرج سيهات ليهتف:
- هذا أول مخرج...
- مبروك على التظليل...
- أخيرا اكتشفت...
- الآن عرفت لماذا لم تفتح النافذة...
و ضحك "مصطفى" ، و لم يكد يتخطى أول مخرج للدمام حتى بدأت الفرام تعمل ، و جمد "حسن" في كرسيه ، فابتسم له "مصطفى"...
- لماذا أنتَ جامد؟
- لا... لستُ جامدا.. أفكر في الجامعة..
- لا عليك... مثلك لا يُخاف عليه...
و اشتد الزحام و بدأت السيارات تتراصص ، أصبحت السرعة القصوى تتراوح بين الثمانين و المائة كيلومتر في الساعة ، لم يتخطَ "مصطفى" مخرج الدمام الثاني حتى لحق بركب الطابور الذي يمشي على يسار الخط الأصفر ، و ازداد "حسن" جمودا ، ولم يكد "مصطفى" يتسارع ليصل لمائة و عشرين كيلومترا في الساعة حتى فرمل الذي أمامه و ضغط على المكابح بقوة ، بينما تشهد "حسن" بصوت عالي ، ثم توقفت السيارات توقفا شبه تام ، كان العرق يتصبب من "مصطفى" و أوصاله ترتعد ، هتف "حسن":
- لماذا العجلة؟ تكاد تخطف أرواحنا...
- لم يحدث شيء..
- أتنتظر حتى يحدث؟
- ...
- لن أركب معك إذا لم تغير طريقة قيادتك...-
هههه
بعد ربع ساعة من الدبيب مرّا بحادث شمل أربع سيارات و بينما "حسن" يهتف:
- يا دافع البلا يا الله..
كان مصطفى يتأسف لصاحب السيارة الغراندي المصدومة:
- مسكين... تبدو نظيفة... الله يعوض عليه... لا يستحق...
عندما وصلا إلى مخرج "ميناء الملك عبدالعزيز ، انعطفا معه ثم لم يلبثا أن دخلا في مخرج آخر يصحح مسارهما ، ليجد "مصطفى" فسحة من الطريق يمارس لعبة السرعة فيها و لم يكد صوت الجرس يدق منبها بالسرعة حتى صرخ "حسن":
- هذه آخر مرة أركب معك فيها...
هدأ "مصطفى" سرعة سيارته و اعتذر ، كانا قد وصلا مخرج البوابة الرئيسة و لم تمضِ دقيقة أخرى حتى وصلا إلى مبنى السنة التحضيرية ، و ترجل "حسن" و هو يتنفس الصعداء...
دخلا بوفيه السنة التحضيرية فوجدا ورقة معلقة بأرقام الطلاب و موقع استلام الجداول مع وقت الاستلام ، بحث "مصطفى" في الورقة ثم هتف:
- أنا جدولي في غرفة 103 بعد عشر دقائق..
بينما أخرج "حسن" بطاقته الجامعية ليقارن بين الأرقام فخطفها "مصطفى":
- أنت في غرفة 110 و كذلك بعد عشر دقائق...
- أين غرفة 110؟
رفعا رأسيهما ، لم يكن في البوفيه سوى بعض الطلاب الذين يبدو عليهم أنهم من خارج القطيف ، جميعهم يرتدون الثياب البيضاء و الشمغ الحمراء و بعضهم يرتدون العقال بينما البعض الآخر يمسك في يده سواك ، ذهب "مصطفى" للبائع في البوفيه يسأله:
- أين نستلم الجداول؟
- في الفصول الدراسية..
- أين الفصول الدراسية؟
- اخرج من هذا الباب ، ستجد مصعدا أمامك لكن لا تطلبه بل أخرج من الباب الذي على يمينك ، ستجد مبنى أمامك ، هناك ستجد الفصول الدراسية...
- رحم الله والديك..
[color="navy"]- و والديك... من أين الأخ؟[/COLOR
]- من القطيف.. و أنت؟
- من سيهات
- تشرفنا...
- أهلا و مرحبا..
خرج "مصطفى" يتبعه "حسن" إلى حيث أرشدهما البائع ، و هناك توقفا بين مبنيين ، رغم أن البائع قد وصف المبنى بوضوح إلا أنه لا يعلم أنه يوجد مبنى آخر لمادة الاستماع ، فوقفا حائرين ثم وجدا أكثر من طالب يدخل المبنى الكبير فدخلاه ، لم يبق أكثر من ثلاث دقائق على تسليم الجداول ، و بقي عليهما معرفة أين فصولهما ، وجد "حسن" فصله بسرعة إذ كان الفصل رقم 110 على يمين المدخل تماما ، ثم أصبح الرقم يتزايد فعاد "مصطفى" أدراجه يبحث عن فصله حتى وجده قريبا من الباب المؤذي للشارع المسمى بالحزام...
تتكون مباني السنة التحضيرية من مبنى الإدارة حيث البوفيه في الطابق الأول و مكاتب المدرسين في الطابق الثاني و الثالث و مكتب العميد في الطابق الثالث و قاعة المذاكرة و المصلى في الطابق الرابع ، و مبنى الفصول الدراسية كما وصفها البائع ، تقع إلى الشمال من مبنى الإدارة ، و يحدها من الجنوب مواقف المدرسين و من الشمال الصحراء التي يقف فيها الطلاب و إلى غربها الحزام ثم بقعة جرذاء و إلى شرقها مبنى الورش حيث تخصص ساعتين في الأسبوع لكل طالب كي يتعلم بدائيات حرفة ، و أمام المبنى الرئيس للفصول يربض كالكلب مبنى المختبرات السمعية أو مبنى مادة الاستماع ، أما إلى شرق مبنى الإدارة فتقع عدة مباني مؤقتة "بورتبلات" آخرها قبل السور مبنى الكمبيوترات أما إلى جنوب مبنى الإدارة فتقع مواقف مدرسين و موظفين بينما جنوب المباني المؤقتة يتقسم الطلاب تلك المواقف مع المدرسين و هناك أوقف "مصطفى" سيارته
بعد أن استلم "حسن" جدوله انضم إلى طابور طويل يقود إلى مكتب توزيع الكتب الدراسية عبر قاعة المحاضرات الكبيرة ، كان عليه أن يسلك درب الأفعى كي يصل بعد ربع ساعة إلى المرشدين الذين يقدمون التقويم الدراسي و مفكرة بها أرقام مهمة و بعض الإرشادات ، ثم وقف أمام موزع الكتب الذي يتأكد من عدد الكتب فيسلمها لـ "حسن" ويختم جدوله ، و انتهي "حسن" عند آخر المطاف بشخص آخر يتأكد من تطابق الكتب مع الجدول ، خرج "حسن" من الباب ليجد نفسه أمام البوفيه ، كان "مصطفى" يجلس أمام طاولة يقلب الكتب الإنجليزية باهتمام عندما وضع "حسن" رزمة الكتب على الطاولة و هو يهتف:
- هل سنحمل هذا الكتاب الأزرق الثقيل كل يوم؟
- ربما...
ثم أردف "مصطفى":
- لقد جعت... أتريد شيئا من البوفيه...
- سأذهب معك..
- و الكتب؟؟
- ماذا يبيعون؟
- سأجلب لك فطيرة جبن من مخابز العيد وعصير..
- O.K
أمسك "حسن" جدوله يحاول أن يفك طلاسمه ، و انضم له "مصطفى" بعد أن جلب الفطائر و العصير ، لكن محاولاتهما باءت بالفشل ، فرفع "مصطفى" رأسه بحثا عن شخص يساعده ، كان البوفيه يعكس حالة اللا تجانس بين المجتمع السعودي ، طاولة تحلق حولها مجموعة ترتدي الثياب البيضاء و تسدل الشمغ الحمراء بينما أغلبهم يطلقون اللحية ، طاولة أخرى يجلس عليها شباب يرتدون ثيابا غربية في أحسن هندام و بأيديهم جوالات مستعدة لإطلاق الموسيقى في أقرب لحظة ، و طاولة اختلط فيها الثوب الأبيض الحاسر و البنطلون الفضفاض مع القميص مع الجينز و "البلوزة" ، اللهجة القطيفية تشجع "مصطفى" على التحدث إليهم ، نهض من مكانه و لم يكد يصل حتى صافحهم جميعا و هو يهتف :
- من أي القرى أنتم؟
- أنا "صالح" من القديح... و أنا "سعيد" من القديح أيضا... و أنا "محمد" من العوامية و أنا "حيدر" من العوامية ... أنا من التوبي و اسمي "سيد هاشم"...
[color="navy"]- تشرفنا... أنا "مصطفى" من الوسادة..[/COLOR
]- أهلا بك..
- هل فككتم طلاسم الجدول ياشباب؟
سأل "حيدر" بابتسامة:
- أين جدولك؟
سلم "مصطفى" جدوله لـ "حيدر" الذي لم يلبث أن هتف:
- جدولك ممتاز... فترة صباحية و الرياضيات بين الحصص... لكن عندك الرياضة يومي السبت و الإثنين تنتهي عند الخامسة... الله يعينك... الورشة يوم الأحد بين الحصص كذلك... أنت أفضل جدول حتى الآن..
- لكن كيف عرفت ذلك؟
أمسك "حيدر" الجدول و بدأ يشرح لـ "مصطفى" كيف يقرأ الجدول و معنى الرموز و أرقام الفصول ، فشكره "مصطفى" وعاد ليطبق ما تعلمه على جدول "حسن"...
كان الاختلاف بين جدول "مصطفى" و "حسن" في وقت الورشة و الرياضة ، فرياضة حسن يومي الإثنين و الأربعاء بين حصص اللغة الإنجليزية ومادة الورشة يوم السبت بعد حصص اللغة ، أي أن عليه قضاء يوم الإثنين فقط منتظرا انتهاء "مصطفى" من حصة الرياضة...
كلما تقدمت الأيام في السنة التحضيرية كلما طرأ تغييرا في بعض الأمور ، فالمجتمع الذي أتى فرادى أو جماعات صغيرة أصبح تكتلات وفقا للمدينة ، و الشباب المرح الذي جاء بنشوة الثانوي بدأ يركد و يسأم من طول اليوم الدراسي ، الأشكال بدورها قد تصرفت جذريا مع أول مكافأة طلابية ، و هذا ما حدث لـ"حسن" ، لم يكن "حسن" يتحدث مع أحد سوى "مصطفى" أو يرد على التحايا دون التعمق ، يجلس متى استطاع وحيدا كأنه يخشى التعرف على الآخرين ، و يبقى صامتا عندما يضطر للجلوس مع مجموعة من الشباب ، أما ثيابه فقد تغيرت بعد أول مكافأة وكذلك قصة شعره التي أعطته مظهرا جذابا...
كان أول أسبوع يرتدي فيه ملابسه الجديدة حافلا بتعليقات "مصطفى" الاستفزازية ، وكان يجيبها بابتسامة أو صمت ، كان آخرها يوم الأربعاء في طريق العودة ، كان "مصطفى" يسأله:
- ماذا مكتوب في الصحيفة؟
- أي صحيفة؟
- الصحيفة التي تلبسها...
- ...
في منتصف الطريق سأل "حسن":
- أين كتابك الرياضيات؟
- أتوقع أنه في المقعد الخلفي... لا... لقد نسيته على الطاولة...
لم تمضِ دقيقة حتى خالف "مصطفى" معاهدته بعدم تجاوز السرعة ، و بدأ يسابق السيارات و ينتقل من مسار إلى مسار ، و "حسن" جامد في مقعده يقرأ الفاتحة و يهلل ويكبر ، و كلما ضغط "مصطفى" مكابحه صرخ "حسن":
- بسم الله الرحمن الرحيم...
فصرخ "مصطفى" في وجهه..
- اصمت... سوف تصل سالما...
وبقي "حسن" صامتا حتى وصل المنزل و هو لا يصدق....
يقف إلى جانب الشجرة الأزلية ، يلبس نفس الثوب الذي ارتداه أول يوم في الجامعة ، ينتظر "مصطفى" لكنه ينتظره هذه المرة و هو يستمع إلى التلاوة ، و صوت الناعي بين الفينة و الأخرى يهتف من مسجد الإمام المهدي "عج":
- من أراد الأجر و الثواب فاليحضر لتشييع المرحوم الشاب...
يغيب ذهنه عندما يسمع اسم "مصطفى" ، يمر طيفه أمام "حسن" ، الفتى الأسمر الذي لا يكاد يعرف سواه في الجامعة ، التويوتا التي نذر لها نصف مكافأته ، السرعة و الهدوء ، ماذا مكتوب في الصحيفة؟ أين كتابك الرياضيات؟
- تركته على الطاولة...
أبناء "الوسادة" يلبسون البياض و يستندون إلى الجدار ، يقف "حسن" إلى جانب الشجرة الأزلية ، ينتظر قدوم "مصطفى" في سيارة مظللة كما يحب "مصطفى" لكنها بيضاء هذه المرة ، و سيفتح الباب لكنه لن يهتف "بسرعة" هذه المرة ، سينزله رجلان يلبسان البياض و سيتدافع الشباب لحمله على الأعناق ، ينتظر "حسن" تحت الشجرة الأزلية ، و تمر سيارة الأسعاف ليقف خلفها طابور من السيارات التي لا تتذمر هذه المرة بل تتحرك شفاه أصحابها في تلاوة لسورة الفاتحة....
لا يختلف توزيع الجداول في الجبل كثيرا ، أرقام معلقة حسب الدفعة على أبواب مبنى الكيمياء أو كما هو مسجل في السجل الأكاديمي "مبنى أربعة" تبين موقع و وقت استلام الجدول لكل طالب ، لكن نظام الجدول في الجبل يختلف اختلافا جذريا عن السنة التحضيرية ، فكل طالب ينظم جدوله كما يتوافق مع طريقته الخاصة إن كان ثمة متسع ، فلا تكاد الساعة الثانية عشر ظهرا من يوم الأربعاء تأتي حتى يقل عدد الطلاب في الجبل تسعين بالمائة...
كان "عبد الله" يدرس في المرحلة الثالثة من مراحل الجبل ، هذه المرحلة التي يصعب بعدها التحول عن التخصص إلى درجة المستحيل ، كان قد سلك طريقه في دراسة الهندسة الكهربائية التطبيقية و وضع جدوله على أن ينتهي عند الثانية ظهرا كل يوم عدا الثلاثاء حيث يقضي ثلاث ساعات في المعمل ، انتهى "عبد الله" من مادة التحكم ثم انطلق بحذر إلى القطيف ، لم تتجاوز سرعته الثمانين امتثالا لحكم المطر الذي أرهب حركة السير بين كر و فر ، قطع الطريق الذي يستغرق خمس و أربعون دقيقة في ساعة و نصف توقف خلالها عدة مرات...
عندما دخل "عبد الله" المنزل كان صوت الموسيقى يهز الأركان ، هتف بحنك:
- أماه...
ثم تتبع الصوت الذي أثار حفيظته ، كان الصوت ينبعث من غرفة أخته "عبير" ، وقف أمام الباب ليوسعه طرقا ، لم يتمالك أعصابه ففتح الباب و وقف مصالبا يديه...
الأغنية الصاخبة تصم أذن "عبير" وهي تمارس رياضة الرقص المفضلة لذيها ، تراقب حركاتها في المرآة المثبتة أمامها ، تبدو راقصة حقيقية ، تغرق في أحلامها ...
" آه... كم أنا رائعة ، أبدو كراقصة بارعة ، لولا قيود هذا المجتمع التافه لأصبحت المفضلة في الساحة الغنائية ، لن أرقص الرقص العربي ، الرقص العربي سيبقى متخلفا كالناطقين به ، أتمنى أن أرقص على أنغام تبعث في نفسي الحرية ، أن أشعر بأنوثتي ... آه لو يصبح اسمي آنا و أختفي من العالم العربي ، أن أصبح نجمة بوب مشهورة ، ليت حلمي يتحقق"
انتبهت على جسد أخيها "عبد الله" المتصلب أمامها ، نزعت سماعة الأذن عن رأسها ، تأملته بغيض ، كان الشرر يتطاير من عينيه ، لم ينبس ببنت شفه ، عاجلته بطريقة متعجرفة :
- خيراً... ألا توجد خصوصيات في المنزل؟... أم أن الجامعة الراقية لم تعلمك أساليب الأدب؟... لماذا لم تطرق الباب؟
- إن كان تضعين لنفسكِ احتراما فالأولى أن تصمتي... كاد الباب أن ينكسر من شديد الطرق لكن العبث الذي في أذنيكِ يصمهما... كأنكِ في مرقص...
- احترم حالك... يبدو أنك أصبحت رجلا... هذه الرجولة لا تحكمني... ستحكم بها تعيسة الحظ في المستقبل...
- أنت الكلام معكِ ضائع...
رفع يده ليضربها ، قاومته فخففت الضربة ، خرجت من الغرفة تستغيث بأمها ، تبعها للصالون ، احتمت خلف أمها و هي تبكي ، الاحترام يلزمه الصمت ، كان صدره يعلو و يهبط من الغضب ، صاحت به أمه :
- نعم؟ ماذا هناك؟
سبقته "عبير" بالشكوى:
- لم أره إلا و قد دخل الغرفة ثائرا... كاد أن يقتلع الباب...
- لقد طرقت الباب حتى تعبت... لكنها كانت مندمجة مع قمة الانحطاط...
- هذه حرية شخصية... إذا أصبحت والدي أو أمي عندها تكلم...
تدخلت الأم:
- دائما أخبرك بأنك لست مسؤولا إلا عن نفسك... أختك مسؤوليتي أنا فقط... هذه شخصيتها و هي حرة في ذلك... إذا لم يعجبك الرقص... فلا ترقص... لن تجبرك على الرقص...
- لكن...
- لكن ماذا؟... انتهى الأمر... ثم إذا طرقت الباب ولم يفتح لك فارجع... أم لم يعلمك الشيخ أن هذا من الأدب؟
- ...
بحث "عبد الله" في جيوبه بعصبية ثم فرّ من المنزل ، و ضاعت مناشدات أمه في الهواء ، كان الخوف يتسلل إلى قلب الأم بصمت ، بدد هواجسها صوت السيارة و هي تبتعد عن الفيلا...
الله" تتأسف على ابنها الشاب ، جلست على الأريكة و علامات الأسى تغتال الهدوء في وجهها ، كانت "عبير" قد سبقتها للجلوس ، ساهمة الفكر تمضغ العلكة ، يبدو أنهما يفكران في قضية ما ، كسرت "عبير" برهة من الصمت عندما قالت:
- ابنكِ هذا رجعي... هذه الحقيقة..
- لا تفتحي الجرح يا "عبير"... إن أمره يؤرقني كل ليلة... أفكاره كأنه ابن خمسين سنة... ما كأنه ابن العشرين..
صمتت "عبير" ثم أردفت بتردد:
- أقترح... أن ترسلوه للدراسة في الخارج... لن يتقدم مادام يعيش في هذه البيئة المنغلقة...
- أتمنى أن يوافق... كم حدثته في الأمر لكنه يرفض الفكرة من أساسها...
- لا عجب في ذلك... عقله المنغلق يمنعه من السفر للخارج... لا يقبل أن أمارس حريتي في المنزل.. ماذا تتوقعين منه؟ أظنه سيطالبك بتحجب الأمريكيات جميعهن كي يدرس هناك..
- كم أنا خائفة عليه...
- أشعر أنه مسكين... أشك أن أحدا ما قد عبث بفكره...
- ...
نهضت "عبير" تخفي سعادة الانتصار و هي تقول:
- أنا عائدة إلى غرفتي... أريد أن أستمع للموسيقى قبل أن يأتي المفتي... أتأمريني بشيء؟
- اجلبي الصحيفة في طريقك...
************
في سيارة تويوتا كامري بيضاء كان يجلس فتى فاتح البشرة ، حسن الوجه ، تزين وجهه لحية خفيفة منسقة ،يكاد أن يتفجر من الغيض ،و كانت تسير الهوينة جائبة طرق القطيف كأنها تستمتع ببقع الماء التي خلفها المطر ، كان ذلك الفتى "عبد الله" يتنقل بين القرى ، يمرّ على بيوت الكثير من أصحابه و معارفه ، لا يريد إقحام أحد في معاناته ، لم يكف عن الغرق في بحر التفكير :
" كيف يمكن لأمي و أختي أن يتحللا بهذه الدرجة ، لم يبق من فساد البنت شيء ، لم يبق إلا أن تدخل البيت بصحبة أصدقائه و تقيم حفلة طرب يحضرها الجنسان ، أعوذ بالله... لماذا أمي تقف إلى جانبها ؟؟ أحقا هما على حق؟؟ أي رياضة هذه ؟؟ لماذا المجون و الرقص يلحق بالرياضة؟؟ أستغفر الله... "
كان الغضب يتدرج في الهبوط ، بدأ يعود لهدوئه الطبيعي ، كان قد وصل حي "الوسادة" بعد مغيب الشمس، السيارات شبه متوقفة ، ثمة شيء في الطريق ، فتح النافذة و إذا صوت الناعي يهلل الله و يذكر الموت ، ركن سيارته إلى جانب الطريق ، كان الجمع غفيرا جدا ، الشباب يسيرون منكسو الرؤوس ، أسرع للمشاركة في التشييع ، صفّ في أقرب مكان لحمل الجنازة ، أصوات تعتلي بين الفينة و الأخرى تسأل قراءة الفاتحة ، لهج لسانه يتلاوة أم الكتاب ، كان يتصفح بعض الوجوه فيراها مألوفة ، قد لا يعرفها شخصيا لكنه يراها دائما ، لامست يده النعش ، تمتم بخشوع :
- سلم الميت إلى رحمة الله ... سلم الميت إلى عفو الله... رحمك الله يا عبد الله
سمع التلقين بوجدانه ، يشعر أن كل ذرة بجسمه تهتز ، كله آذان صاغية ، المشاعر تختلج داخله ، يشعر برغبة في البكاء ، يردد بين الفقرة و الأخرى " لطفك يا رب... رحمتك الواسعة" ، الموت الشبح المخيف يراه أمامه ، أهيل التراب و أصوات البكاء تفتت الصخر ، صُب الماء على القبر ، تحلق المشيعون حول القبر جماعة بعد جماعة يقرأون الفاتحة و يترحمون على الميت ، وضع يده على تراب القبر الندي ، تلا السورة و انقلب عائدا إلى سيارته ، قريبا من المقبرة كان رجلا يقص على آخر خبر الميت :
- عمره 18 عام... أصله من باب الشمال.. ساكن في الوسادة... يدرس في البترول... الله يرحمه... المطر السبب... الحوادث اليوم لا تحصى...
كان هذا سبب شكه في معرفة تلك الوجوه المشيعة ، إذاً... هو زميل دراسة لم يلتق به سابقا ، رحمه الله ...