يقف مدرس الرياضيات بين طاولة "عصام" و "حسين" و الفصل يطلقون قهقهة عالية، كان "عصام" واضعا رأسه على الطاولة و عندما سمع القهقهة الجماعية رفع رأسه فوجد المدرس يقف أمامه ، فسأله بجرأة:
- خيرا؟ ماذا تريد؟
- لماذا أنت نائم؟
- إذا جلستُ منتبها قلتَ كفّ عن المشاكسة ، و إذا نمتُ أيقضتني ، و إذا هربتُ من الفصل جعلني المدير أوقع تعهدا ، حقيقة يا أستاذ... أنتم قوم لا يعجبكم العجب...
- أنت قليل أدب
- عن الخطأ
- قم.. قم... قف على رجليك
- لن أنهض ! ماذا تريد؟
- هيا هيا... إلى الإدارة...
- لا يهمك يا أستاذ ، سأذهب للإدارة ، ما هي الإدارة يعني؟ شرطة المرور لم تستطع إيذائي فهل تستطيع إدارة مدرسة؟
دفع "عصام" الطاولة و نهض غاضبا وعندما خرج من الفصل أغلق الباب خلفه بالقوة ، ساد الهدوء للحظات في الفصل ، همّ المدرس بالعودة إلى مقدمة الفصل ، فاستوقفه "ممدوح" :
- و أنا أستاذ...
- ماذا عنك؟
- ألا تريد أن أذهب إلى الإدارة...
- و لماذا؟
- لأنني لا أظمن نفسي ، أشعر أني سأنام بعد قليل....
- قم.. قم... هيا... هذه قلة أدب...
خرج "ممدوح" بسعادة يتفحص وجوه الطلاب و عندما أغلق الباب كان المدرس ينظر إلى "حسين" الذي بدا مبتسما و كأنه سيقول شيئا ما ، فعاجله المدرس:
- اتبعهما
- أأنا يا أستاذ؟.
- الجدار الذي خلفك...
نظر "حسين" للجدار و هو يقول:
- لكنه لا يستطيع المشي يا أستاذ
- هيا... تفضل اتبع صاحبيك
- لأجلك يا أستاذ ، لأني أحبك ، لو كان الآمر أستاذا آخر ما أطعته...
- شكرا... هيا... اخرج
نهض يتمشى في الفصل بهدوء و قبل خروجه من الباب ، استدار إلى الطلاب و هو رافع يده:
- إلى اللقاء يا أصدقاء...
لم ينبس المدرس ببنت شفة ، أغلق "حسين" الباب ، و التقى بصاحبيه في الدهليز ، هبطوا جميعا السلالم ، عندما وصلوا إلى غرفة المرشد الطلابي تجاوزوها إلى الباب المفضي إلى ساحة المدرسة ، وقفوا يشاهدون الفصل الذي يلعب كرة القدم ، ثم استداروا خلف المدرسة ، مدّ "عصام" يده إلى إحدى النوافذ ، و استخرج علبة سجائر و قداحة ، و بدأ الثلاثة التدخين ، همس "عصام":
- هؤلاء المدرسون لا يعجبهم العجب العجاب
أردف "ممدوح" :
- صدقت والله.. لكن أفضل يا رجل ، ماذا نريد من هذه الحصة المملة..
أكمل "حسين":
- والله صدقت... ماذا نستفيد حصته... وجع الرأس... أنا صراحة لم أفعل شيء... هو أعطاني إذن بالخروج
عادوا إلى الفصل بعد إعلان الصافرة انتهاء الحصة ، عندما جلسوا في مقاعدهم قال "حسين":
- هذي الحصة لا تفوت....
- أوه... حصة اللغة الإنجليزية..
- حصة "وت دي از ات تو دي؟"
تأهبوا لاستقبال المدرس ، نهض "حسين" من كرسيه ، ذهب إلى السبورة و عاد بعلبة الطباشير ، عندما دخل المدرس الفلسطيني الفصل لم يجد الطباشير ، فسأل بعصبية:
- من الذي أخذ الأقلام
لم يتكلم أحد ، فخرج و عاد بعلبة طباشير جديدة ، أغلق الباب فهتف "عصام" وقد غيّر صوته:
- عاشت فلسطين...
التفت المدرس بعصبية:
- و هل هي ماتت؟
ضحك الطلاب...
جلس المدرس على كرسيه يخطب لمدة خمس دقائق :
- من الذي لم يربه أهله؟ من ابن الـ ... من الوضيع ،أأنتم تأتون المدرسة للدراسة أم؟ أنت رعاع ، شوف لن أبدأالدرس حتى يعتذر السافل الحقير ، و الله العظيم لن أشرحَ شيء ، و لسوف آتي بأسئلة لا يستطيع حتى مدير المدرسة الإجابة عليها...
ثم نهض ليشرح ، فهتف "عصام" :
- يا شباب... حرام الذي يحدث هذا ، لا تعبثوا بأعصاب الأستاذ ، لا تقولوا عاشت فلسطين ، هو لا يقبل أن تتحدثوا عن فلسطين ، انتهوا..
- هل تسخر؟
- حاشاي يا أستاذ ، أنا فقط أعينك
- هل طلبتُ منك المساعدة؟
- أنا آسف ياأستاذ... أنت اهدأ الآن يا أستاذ
- خلاص.. اقعد.. "what day is it today"...
- ساترداي...
- من السافل ابن الحرام الذي لم يحسن أهله تربيته، قسما بالله العظيم، إذا لم يخرج من الفصل خلال خمس دقائق لن أعود إلى الشرح ، و سآتيكم باختبار أصعب من بقية الفصول...
ساد الصمت في الفصل ، جلس المدرس على الكرسي ، مضت خمس دقائق ، هتف المدرس:
- إذا لا شرح بعد اليوم...
بعد دقيقتين نطق "حسين":
- يا شباب.. ما يحدث في الفصل حرام ،أنتم تدرسون عند مدرسين خصوصيين و لا يهمكم الدرس ، ليعترف الذي رمى الطبشور ، لعلنا نفلح ، ماذا تستفيدون من رسوبنا؟ صدقوني لو رأيت الذي رمى قطعة الطبشور لأخبرت به...
- لن أشرح ، وليحل لكم المدرسون الخصوصيون الاختبار..
و ساد الصمت إلى أن انتهت الحصة ، فخرج المدرس و ساد الصراخ في الفصل ثم في لحظة واحدة صمت الجميع ، كان المرشد الطلابي قد دخل برفقة مدرس اللغة الإنجليزية ، و بدأت خطبة المرشد لمدة خمس دقائق ثم قرر استجواب الطلاب كل شخص على حدة و خرج ، بعد خروجه بلحظات بدأت تهديدات الثلاثي للفصل ، و أي شخص يفتح فمه بكلمة سينال جزاءه ، ثم دخل مدرس مادة التربية الدينية و أمر أول طالب بالخروج إلى المرشد الطلابي...
كان المدرس البريطاني يتحدث في شعبة "سعيد" بينما "سعيد" غارق في كتاب القواعد الإنجليزي يرسم حروف كلمة "حسن" باللغة الإنجليزية ، كان شارد الذهن ، يحيا في عالم لا يمت للواقع بصلة ، يتفكر في محاولاته اليائسة للفت نظر حبيبه الذي لا يعلم عنه ، و فشله الذريع في التوصل لخيط يقربه من "حسن" ، كان "صالح" في كل يوم يأتيه بأنباء و أخبار تقرب له الفرج ، فيعلق آمالا هي غاية حياته في تلك الفترة ، كان آخرها في فترة الغذاء يوم الأربعاء عندما كان جالسا في القاعة الزرقاء من مطعم الجامعة و دخل "حسن" ليجلس في طاولة يستطيع أن يراها "سعيد" ليترك "سعيد" وجبته و يبقى مركزا بصره في محبوبه ، ابتسم "صالح" و قال:
- سوف تتعرف عليه عصر اليوم ، ستزوره في منزله...
- كيف يا "صالح"؟
- ستذهب برفقتي و لن تتحدث... سوف أرتب الأمر..
- شكرا يا صديقي الوفي..
أحس "صالح" بالوخز في قلبه ، كأنه قد سمع "يا كلبي الوفي" ، كان يقول في نفسه ، لو لم أعمل على تقريبك لصاحبك فسوف أكون عدوك اللذوذ ، نهض "صالح" وهو يهتف:
- لم يبق عن الحصة شيء...
************
رسالة و بيان لحشد الحشود يتم تداولها بين البنات في المدرسة الثانوية الأولى ، الإشاعات تنتشر بأن ثمة معركة ستتم بعد انتهاء الدوام ، وصلت الرسالة للفصل الثالث ثانوي علمي أول ، بدت كفسحة من تعب المواد العلمية ، تجمعت الفتيات عند قارئة الرسالة ، حاولن أن ينتزعنها منها ، كادت أن تتمزق بين جذبهم ، ارتفع صوتها :
- دعوها و سأتلوها لكم... قبل أن تدخل المعلمة..
عاد الهدوء للفصل ، انتظمت الطالبات في مقاعدهن ، الآذان صاغية ، بدأت حاملة الرسالة بقراءتها :
- من أراد أن يرى بهدلة الحقيرة هدى ، و يسلم من أذى الزعيم عبير ، فليتجمع في ساحة المدرسة أمام البوابة الكبيرة ، و ستستخدم كل الأسلحة المتاحة لتأديب من تعدت على زعامة أحلى البنات و أفضلهن على الدوام ، الزعيمة عبير تدعوكن للانظمام لحفل المشاهدات و التفرج على شجاعتها و بسالتها في القضاء على الجبانة "هدى" ، التوقيع : بنات أرض المرح و اللعب...
****************
كانت "هدى" تحيا يوما روتينيا في المدرسة لولا بعض الهمس و اللمز الذي تشاهده من بنات ركن البيتزا اللاتي تكاثرن على رصيف الزعتر ، كانت "أمل" الواقفة بجانبها في الفسحة تشعر بالارتياب من الأمر ، قالت بشك :
- الجراد يتواجد بكثرة هنا
- كنت أقول ذلك في نفسي... هؤلاء لا يبذر منهن إلا الشر...
- الله يستر... كثرتهن تبشر بسوء... لنرحل عن هذه البقعة ، لم تعد صالحة للوقوف ، و لنغير الطريق احتياطا...
- لكن لم أنتهِ من تناول شطيرتي
- لن تموتي جوعا، دعينا ننجو بأنفسنا
سلكا طريقا مغايرا ، كانت الأعين تتفحص وجهيهن كفريسة قرب الإنقضاض عليها ، بعض النظرات بها شماتة و الأخرى بها شفقة ، وصلتا لفصل "هدى" فودعتها "أمل" و اتجهت لفصلها فإذا بإحدى الفتيات تريها الرسالة ، تهتف بتحذير يشوبه سخرية :
- يبدو أن صديقتكِ لن تنجو اليوم..
- ماذا جنت صديقتي؟
- لا أعلم... أعلم أن الرسالة موقعة بتوقيع رفيقات "عبير"
عادة "أمل" بسرعة لفصل "هدى" ، وقفت تلتقط أنفاسها لكن أنفاسها تتصاعد أكثر فأكثر ، خرجت لها "هدى" ، انتحتا في ركن قصي ، سألتها "هدى" :
- يكاد قلبي يقف ، ماذا هناك؟
- قليلة الحياء...
- أي واحدة؟
- عبير..
- ماذا بها؟
- تضمر لكِ نية ، تعد لمعركة مع نهاية الدوام...
- هذا تفسير النظرات إذا..
- يقال أن بحوزتها أسلحة..
- و أنا عندي أسلحتي...
- ماذا تقصدين؟
- لا تشغلي بالكِ..
- أنا أقول أن تخبري الإدارة...
- سوف أأدبها بنفسي...
- هل هذا يعني؟
- نعم...
- الله يهديكِ ، لقد حذرتكِ
- شكرا لتحذيرك ، لا تقلقي...
تركت "أمل" "هدى" و عادت تتحسب و تدعو بالهداية "لهدى" ، فدخلت "هدى" فصلها و أخذت تجهز للمعركة ببري الأقلام و تجهيز الأقلام الحبر ...
************
كانت "عبير" قد أتت بسكينة و عدد من مفتاح البراغي و وزعتها على رفيقاتها و طلبت منهن أن يبقين في تأهب تام ، و جلست شارذة الذهن تتخيل نصرها على غريمتها ، و ما إن انتهت الحصة الأخيرة حتى تجمهرت الطالبات في الساحة و وقفت "عبير" و رفيقاتهاا تراقبن الباب بانتظار فريستهن المسكينة ، التشجيع و الحماسة تدب في "عبير" و صديقاتها ، خرجت "هدى" تحمل في يدها أسلحتها ، فهتفت "عبير" :
- ههه ، ماهذا؟ رجل في مدرستنا...
قهقهت صديقات "عبير" و انفجرت الجماهير بالضحك...
- هل تعرفين الآيس كريم؟
- لا... بل أعرف الرقص و الاستهتار..
انفجر الجمهور بالضحك مرة أخرى و استشاطت رفيقات "عبير" غضبا :
- تجرؤين على الزعيم..
- لم أطلب منكن أن تتدخلن..
- ما هذه الشجاعة التي تدعين ؟ عشر على واحدة؟
أحست "عبير" بأن الجمهور بدأ يتعاطف مع "هدى" و لابد لها من الاستغناء عن رفيقاتها في هذه اللحظة ، هتفت:
- ياصديقاتي المحترمات ، طلبت العدو طلب و أنا لكرمي ألبي أول طلب لكل عدو ، فلا يتدخل منكن أحد في هذه المعركة ...
- ما شاء الله...
- احترمي حالكِ
- أنا في قمة الاحترام لحالي..
تأهبت الأيدي ، كان في يد "هدى" قلم رصاص و فرجار و في يد "عبير" سكينة صغيرة و مفتاح البراغي ، انقضت "عبير" على "هدى" فرفعت "هدى" مريولها و ركلت " يد "عبير" فانفلت السكين و مفتاح البراغي من يدها ، و تركتها تطلب المدد من أقرب رفيقاتها ، و لم تعد لتهجم إلا و طابور من المعلمات تخرج من الباب و صوت المشرفة يهتف:
- لتقف كل طالبة مكانها
************
في غرفة المديرة مكتب مرتب و رمز سيفين و نخلة معلق على الجدار ، و خلف المكتب تجلس إمرأة ثلاثينية مقطبة الجبين ، يقدح الشرر من جبينها ، لكنها لم تكسر حاجز الصمت الذي التزمته منذ خمس دقائق ، أمام المكتب يتقابل كرسيان جلست "عبير" على أحدهما و هي تحاول أن تبدو لا مبالية متحاشية أن تقع عيناها على عيني المديرة أو غريمتها التي تقابلها على الكرسي الآخر و دموعها تكاد تنهمر من عيونها ، في الممر القريب من الباب المفتوح تتحرك "أمل" بخطوات قلقة فتبعث خطواتها المزيد من التوتر إلى "هدى" ، كأن المديرة تتلذذ بسماع دقات القلوب لا تريد أن تفقد تلك المتعة ، بعد مضي دقائق خرجت من المكتب و تركتهما تنتظران مصيريهما ، تنبأت "هدى" داخلها بعقوبات تتبعها عقوبات ، فالمدرسة لابد من أن تفصلها و تشتهر في قريتها ، و الأهل قد يقترب عقابهم من القتل لكن لا يصل ، و ألسن العجائز لن يرحمها لا محالة ، أما "عبير" فكانت على ثقة من أن نفوذ أمها و تسلط لسانها سيقف سندا و ينتصر لها من "هدى" ، كانت تخدر نفسها بكلمات تقيها من القلق ، جاءت المشرفة لتأخذهما إلى مكتبها ، و في طريقها طلبت من "أمل" أن ترحل إلى منزلها.
كان مكتب المشرفة أقل ترتيبا و أكثر تواضعا ، أذنت لهما بالجلوس ، و بدأت خطبة طويلة تتحدث عن الأخلاق و الطبقات و محاربتها و الإسلام ، و كانت الفتاتان تصغيان لأسلوبها المؤثر ، بعد نصف ساعة من الخطابة تنهدت و سألتهما :
- ما رأيكما الآن ؟
- ...
- أتريدان العقاب أم؟
- ...
- أمهلكما إلى يوم السبت ، لا تذهبا إلى الفصل يوم "السبت" ، أريدكما في مكتبي...
أقلتهما المشرفة معها إلى منزليهما فأنزلت "عبير" أولا ، وعندما خلت بـ "هدى" همست:
- الخطأ لا يقابل بخطأ يا "هدى"...
- إن شاء الله يا معلمة
- إذهبي الآن إلى منزلك فلابد أن أمك في قلق عليكِ ، يوم السبت سأحل المشكلة...
- شكرا يا معلمة..
الصراخ يعتلي في بيت "أبو حسن" ، أصوات أقداح تتناثر ، أم تتوعد و بنت تسترحم و تتعطف ، دخل "حسن" المنزل بخطوات حذرة ، كانت "أم حسن" تعتلي "هدى" ممسكة بيدها اليسرى شعرها و بكفها اليمنى قلم القدو ، و هي تصرخ:
- أين كنتِ حتى هذا الوقت؟؟ بنات المدارس قد عادوا إلى منازلهن و جلسن مع أهلهن، و أنتِ أين ذهبتِ؟؟
- قسما بالله لقد كنتُ في المدرسة ، لم أذهب أي مكانٍ آخر.
- أي مديرة تبقى في المدرسة إلى هذا الوقت ؟ اعترفي قبل أن أدخل النار بسببك... أخبريني أين كنتِ.
- أين سأكون! أقسمتُ لكِ بالله أنني كنتُ في المدرسة ، لقد احتجزتنا المديرة ، اسألي "أمل".
- هيا! اتصلي إلى أمل قبل أن أقضي عليكِ
- دعيني كي أتصل..
- اتصلي قبل أن أقبرك الساعة..
ساد الهدوء في المنزل ، الأم تترقب و "هدى" تطلق الآهات، و تجري الدموع و تمسك سماعة الهاتف ، "حسن" مشلول الحركة لا يدري ما يعمل ، نهبت "أم حسن" السماعة من يد "هدى":
- ألو..
- ...
- أهلا... كيف حالكِ يا"أمل"؟
- ...
- أين ذهبت "هدى" بعد الانتهاء من الدراسة؟
- ...
- إذا كلامها صحيح ، لماذا لم تأتِ لتخبريني ، كنتُ أضرب أخماسا بأسداس..
- ...
- لا... لقد وصلت للتو..
- ...
- شكرا يا "أمل" ، مع السلامة.
************
كان الوضع هادئا في منزل "عبير" ، تجلس أم "عبد الله" تتابع برنامجا ثقافيا في راحة بال تامة ، ترتمي "عبير" منفجرة في بكاء الفاقدين ، تفزع الأم تكيل للمعلمات الظنون ، تحتظن ابنتها:
- أي معلمة هذه المرة التي تعرضت لكِ؟ لابد أن أذهب للمديرة يوم السبت و أوقفهن جميعا عند حدودهن...
- لا.. يا أماه ، المعلمات لم يفعلن شيء.
- إذاً ، مالأمر؟
- ابنة الفلاحين.. "هدى"
- هؤلاء البنات تربية شوارع ، و لابد أن يتجبرن عليكن ، ينبغي فصلهن عنكن ، سوف أذهب يوم السبت و أعلمها الأدب.
- لا يا أمي ، أرجوكِ لا تذهبي.
- ماذا يخيفكِ ؟ إن لم أوقفها هذه المرة فسوف تتمادى..
- لا يا أمي ، أرجوكِ أن لا تذهبي ، رجاء...
- يبدو أنكِ المخطئة ، ألم أطلب منكِ تجنب المشاكل؟ كيف أواجه المديرة بعد أن وعدتها بالتزامك...
- لا يا أمي ، لقد تم حل المشكلة ، لكن الحل لم يعجبني...
- و ماهو الحل؟
- أن نسامح بعضنا البعض يوم السبت ، أو سوف تعاقبنا الإدارة بالفصل.
- و لمَ لم يعجبك الحل؟
- ماذا تقولين؟ أتطلبين مني أن أسامح هذه الفلاحة؟
- أ لستِ المخطئة؟
- لكني لا أتأسف.
دخل "عبد الله" المنزل ليرى أخته في حجر أمه في حالة شكوى ، استمع إلى المشكلة ، تأكد من اسم "هدى" ، سأل أخته:
-أمتأكدة أنها "هدى علي"
- كما أنا متأكدة من أنك "عبد الله"
- أين منزلها؟
- في حي الوسادة
تمتم:
- و "حسن" اسمه "حسن علي " من الوسادة...
- ماذا تقول؟
- أقول هلمي معي..
- أين؟
- أنا أعرف عائلة "هدى" ، وهم أناس محترمون و أستطيع أن أحل المشكلة.
- أ تعرفهم، أنت؟ أنت تعرف قرويين؟
- أنا أعرف أخاها ، إنه معي في الجامعة.
- لابد أن يكون قبيح و ثيابه مهملة.
- احترمي حالك
- إن شاء الله
- هيا ، سوف أحل المشكلة
********
تحول الصراخ في بيت "أم حسن" إلى درس من المواعظ و الحكم من قبل "أم حسن" التي تكرر خطبتها و تضيف فيها ، كانت "هدى" مشحونة بعواطف ملتهبة تكاد تكفيها لقضاء يوم كامل من البكاء ، أما "حسن" فقد وجد نفسه مجبورا على البقاء و الاستماع لحديث أمه ، و "حسين" الذي استغل ثورة أمه ، و دخل غرفته و تمدد ينصت للعاصفة ، تنهدت "أم حسن" :
- إنّ أباكم يطلب رزقه ، و لا يعلم عنكم شيئا ، و لو يحدث أمرا سيئا أصبح أنا المسؤولة ، و أنا امرأة ضعيفة ، لا أقدر على فعل شيء ، و الزمن مخيف ، هنا بنت مخطوفة ، و هناك أخرى هاربة مع عشيقها ، و أبناء الحرام يملؤن المكان ،ألم تسمعوا بقصة الذين أخذا طفلة يوم العيد الفائت ؟ ألم يعصفوا بأهل الطفلة المسكينة؟ ألم يقلبوا عيدهم إلى مأتم؟ الولد هذه الأيام يخشى عليه فكيف البنت ، و أنا مهما يكن أم ، و لابد أن أخاف ، ماذا تطلب الأم من الدنيا سوى سعادة أولادها و بناتها ، غذا إن شاء الله يأتيكِ ابن الحلال الذي يسعدكِ و تعرفي معنى التربية...
كان الباب قد طرق فانقطعت المواعظ ترقبا لمن يقف على الباب ، خرج "حسن" ليجد شاب يبدو له مألوفا بعض الشيء ، كان يتحرك أمام الباب ذهابا و إيابا في ارتباك واضح ، هتف "حسن":
-أهلا..
رفع الشاب رأسه ، كان يحاول أن يدفع الكلام من فمه:
-أهلا..
- خيرا ، من تريد؟؟
- أنا "صالح" زميلك في الجامعة و هذا "سعيد".
- شعرتُ أنكما مألوفين، خيرا إن شاء الله..
- بالصراحة..
-...
- نحن نعلم أنك صاحب المرحوم
- الله يرحمه..
- و كنا نحاول أن نعزيك في الجامعة لكن خشينا أن لا تتقبل...
- على العكس ، ولماذا لا أتقبل؟
- على كلٍ ، الله يرحمه و عظم الله أجرك..
- و إن أتت متأخرة، لكن أطال الله عمريكما و حرس شبابكما
- كنتَ تذهب إلى الجامعة و تعود منها بصحبته ،أليس كذلك؟
- بلى..
- ماذا بعد موته يرحمه الله؟
- أنا؟؟ أذهب مع صديق يدرس في السنة الثالثة تخصص
- طيب ، لماذا لا تذهب و تعود معنا عوضا عن تأخير الرجال و انتظاره.
- شكرا ، لكني لا أعرفك ، قصدي لم أعرفك إلا للتو..
كانت سيارة "عبدالله" قد مرَت أمامهما ثم توقفت إلى جانب الطريق ، عندما ترجل "عبد الله" من السيارة ، هتف "حسن" بحماسة:
- المؤمن عند ذكره..
- خيرا إن شاء الله..
- لقد كان "صالح" يسألني عمن أذهب معه إلى الجامعة ، فأخبرته أنني أذهب معك ، نسيتُ أن أعرفك ، "صالح" و "سعيد" معي في السنة التحضيرية ،و "عبد الله" سنة ثالثة تخصص هندسة كهربائية..
كان حياء أول لقاء يشل حركة "صالح"و "سعيد" الذي كان يقف صامتا طول الوقت ، أما "عبد الله" فقال:
- إذاً ، ستذهب معي إلى الجامعة و ستعود معهما ، إذ يقارب وقتك و قت انتهائهما...
- إذا كان هذا رأيك فلا مانع
تحرر "صالح" قليلا..
- رأي جيد.
ثم التفت "عبد الله" إلى "حسن" وقال:
- أريدك في أمر خاص
نظر "حسن" إلى "صالح" بحرج ، فتدارك "صالح" الأمر:
- أراك يوم السبت في البوفيه ، مع السلامة..
- مع السلامة ، وشكرا لمساعدتك
- هذا واجب...
عندما أصبح "حسن" مع "عبد الله" وحيدين ، بدت علائم الارتباك في محيا "عبدالله" ، فتساءل "حسن":
- خيرا إن شاء الله ، مالأمر؟؟
- خيرا إن شاء الله ، لكن بين أختي وأختك نشب خلاف
- إذا هي أختك التي...
- نعم ، و أمي وأختي في السيارة و هماآتيتان ليتفاهما، و إن شاء الله تنتهي المشكلة..
- أمك و أختك في السيارة و نحن نتحدث؟؟ لماذا لم تخبرني كي أدخلهما المنزل...
- ....
- تفضلوا ، و إن كان المنزل ليس في المقام ، عن إذنك أخبر أمي...
- إذنك معك..
كانت الصورة التي رسمتها "عبير" في خيالها لـ "حسن" مرسومة وفقا لصورة "هدى" في المدرسة، عندما وقفت السيارة بجانب الطريق ألقت نظرة فوجدت شابين واقفين يتجاذبان أطراف الحديث ، استبعدت أن يكون "حسن" أحدهما إذ لا يوجد من يتطابق مع الصورة الخيالية التي رسمتها في ذهنها ، و عندما هبط "عبد الله" من السيارة ليتجه نحو الشابين ساورها الشك لكنها جزمت بأنه إن كان "حسن" أحدهما فهو ذلك الفتى الأقل وسامة بينهما ، تحطمت جميع الصور أمام صخرة الواقع ، فقد انتحى "عبد الله" بالفتى الأوسم ، و أخذ يحادثه بينما انصرف الشاب الآخر ، لم يلبث أن دخل الشاب أحد البيوت ليعود "عبد الله" إلى السيارة و يطفئ المحرك طالبا من أمه و أخته أن يترجلا ، كانت الصدمة قد أدخلت "عبير" في دوامة تساؤلات و استغراب ، كيف يكون لـ "هدى" أخٌ جميلٌ كهذا؟؟ دخلت مع أمها الصالة لتستقبلهما "أم حسن" بتواضع مجبول ، بادلت "أم عبد الله" "أم حسن" كلمات الترحيب و المجاملات العربية الطويلة ، بينما شرد فكر "هدى" على ملامح "أم حسن" ، بدت لها فائقة الجمال رغم بساطة ما تلبس ، لم تر شعرها لأنها كانت تغطيه بمقدمة رداء يسمى مشمرا ، مضت ربع ساعة قدمت خلالها "أم حسن" ما يتوفر من كرم الضيافة عبارة عن صينية عصائر و مكسرات و بعض التمر ، ثم جلست دقائق لتسأل بعدها إن كانت "أم عبد الله" تدخن فأجابت "أم عبد الله":
- لا شكراً ، ولا أحب التدخين
- في الواقع ، أفضل لكِ ، مالكِ و التدخين
- لا يأتي منه سوى الأمراض الخبيثة...
- أعوذ بالله من شره..
- المهم يا"أم حسن"... هذه ابنتي "عبير" مع ابنتكِ "هدى" في المدرسة... و حدث بينهمااختلاف ، فرأيت أن نحل هذا الخلاف قبل أن يتضخم...
- لا ترهقي نفسكِ معهن يا "أم عبد الله" ، البنات يختلفن مرة و يتفقن أخرى..
- كلامكِ صحيح يا"أم حسن" لكن المشكلة بدأت منذ مدة ، و أرى أن التدخل أصبح واجبا...
- صدقتِ يا "أم عبد الله"...
- عن إذنكِ كي أنادي "هدى" لتأتي
- تفضلي...
ذهبت "أم حسن" إلى غرفة "هدى" ، فبقيت "أم عبد الله" مع ابنتها، فخاطبتها:
- رغم فقرهم ، لكن يبدو عليهم الأصالة و الطيبة
- يبدو أن أمها طيبة ، لكنهم لم يزالوا يحيون في الماضي...
- الاختلاف بين الناس سنة الله في الأرض ، و لذلك أمرنا الله بالتعارف يا بنيتي..
- لقد قبلتُ بما تحكمين يا أماه..
- اسمها "هدى" ، أليس كذلك؟
- نعم يا أماه
************
كانت "هدى" مصممة على أن لا تخرج لأحد ، لكن رجاء أمها أجبرها على النهوض ، مشت خلف أمها إلى الصالون ، رحبت بالضيوف ثم جلست إلى جانب أمها ، كانت تفكر فيما سيحدث في اللحظات القادمة ، بينما كانت "عبير" تحملق بوجهها بنظرات على غير العادة ، كانت "عبير" مشدوهة مما تراه ، بدت "هدى" في عينيها جميلة كذلك ، و كأنها تراها لأول مرة ، كانت خجولة بعض الشيء ، لا ترفع رأسها عن الأرض ، و قد تشرب خدها بحمرة الخوف و الحياء ، سألتها "أم عبد الله":
- ما هي المشكلة يا "هدى"؟
- لا أعلم!
- أخبرينا عن المشكلة كي نستطيع حلها قبل أن يصعب حلها
هتفت "عبير":
- أنا المخطئة يا أمي ، كنت أنظر بنظرة الدون إلى "هدى" ، و هذا كل المشكلة...
ردت "أم عبد الله":
- إذاً ، نحن آسفون يا "أم حسن" ، و عليكِ أن تقدمي اعتذاركِ يا "عبير" ، و ستصبحان صديقتين منذ اليوم..
- لاداعي لاعتذارها يا "أم عبد الله" ، الأصدقاء يخطئون في حق بعضهن و يرجعون..
- لابد من اعتذارها كي لا تعود لخطئها...
نطقت "هدى":
- لقد سامحتها على أن لا تعود لمضايقتي...
تشجعت "عبير":
- أنا آشفة يا "هدى" و أعدكِ أنني لن أتعرض لكِ مجددا بل أعرض عليكِ صداقتي..
- و أنا أتشرف بصداقتكِ يا "عبير"
باتت "عبير" ليلة وردية ، تضع السماعات في أذنيها ، تستمع و لأول مرة لموسيقى هادئة ، تصفحت أحداث اليوم ، لم تكن المعركة تسيطر على شيء من تفكيرها الآن ، فكل ما في قلبها و فكرها هو ذلك الشاب اليوسفي ، كانت ترسم له صورة مشعوذ أو شحاذ ، لم تكن تحسب أن أخا "هدى" يمتلك تلك الوسامة ، حاولت أن تطرد صورته من مخيلتها لكنه كلما طردته عاد يطرق الباب طالبا الدخول بإلحاح، أمعنت في أوصافه ، كان فاتح البشرة ، معتدل القوام ، تتدلى خصلات شعره على جانبي رأسه ، هادئا الملامح إلى درجة الوداعة ، كان هو يوسف الذي أجبرها على قطع أصابعها ، لم تكن رغبتها في الصلح نابعة عن الذات ، كان هو الذي يقول لها بصمت ، أصلحي ذات بينك مع أختي ، كانت تتصرف كأنها مسحورة ، و تحت تأثير ذلك السحر اكتشفت أن من عادتها جميلة كجمال أخيها ، و اكتشفت أنها كانت مدفوعة لعدائها بدافع التسلية فقط ليس إلا ، و تحت تأثير سحره أعلنت صداقتها لـ "هدى" ، و لم تكن تلك الصفقة خاسرة بالنسبة لها ، فهي إن لم تنفعها لن تضرها بقرارة نفسها ، أما أعظم اكتشاف اكتشفته "عبير" و هي على مخدعها هو أنها شغفت حبا بـ"حسن" صديق أخيها و أخو صديقتها في المستقبل ، فقد قررت أن تتقرب من "هدى" ، وأن تبدأ صفحة جديدة معها ، بل أخدت تضحك على نفسها من المواقف التي أحدثتها مع "هدى" ، حاولت أن تتذكر البداية التي جعلت من "هدى" عدوتها الكريهة فلم تجد ما يدعو لذلك ، و قضت ليلتها تتخيل محبوبها الفاتن الذي استحوذ على فؤادها منذ أن وقعت عليه عيناها...
أما "هدى" فقد خلفتها "عبير" في منزلها مستغربة ، فاغرة فمها ، غير مصدقة كأنها في حلم لا تريد أن تستيقض منه ، فأخيرا "عبير" التي طالما تأذت منها أتتها معتذرة و طلبت صداقتها ، تلك الفتاة التي طالما سخرت منها و من شكلها جاءت لتفتح معها صفحة جديدة ، لم تكن تلك الصدمة لتسمح لها بالهروب من شروذها بل ظلت جالسة في غرفتها تتفكر في الأمور الدراماتيكية التي حصلت هذا اليوم ...
عند التاسعة مساء ، أمسكت السماعة و عبثت بأزرار الهاتف ثم انتظرت لتستقبل مكالمتها "أمل":
- ألو...
- أهلا..
- أهلا "هدى"
- أخبار سعيدة جدا جدا
- ما هي؟ هيا أفرحيني معكِ ...
- لابد أنني أحلم يا "أمل" ، أنا أحلم...
- ماذا حصل ؟ هيا...
- لا أستطيع يا "أمل" ... صدقيني الخبر لا يحتمل التصديق...
- هيا! أدخلتي الشوق في قلبي لمعرفة أخباركِ السعيدة جدا...
- لقد جاءت "عبير" إلى المنزل مع أمها و اعتذرت...
- أ هذا هو الخبر السعيد؟ كنتُ أحسب أنكِ قد خُطِبتِ ، لاشك أنها تمثل عليكِ
- هذا مستحيل يا "أمل" ، كانت تتحدث بندم صادق..
- لو أراها بأم عيني لا أصدقها ، هذه المغرورة تأتي و تعتذر ، هذا هو المستحيل بعينه..
- إذاً لقد تحقق المستحيل أخيرا ، لقد أتت بصحبة أمها و اعتذرت...
- إذاً ، لقد أتت بطلب من أمها ، ربما لتجنيبها العقوبة...
- ربما...
- إن غذا ناظره لقريب...
- ماذا تقصدين؟
- إذا كانت صادقة فسترينها يوم السبت تأتي للسلام عليكِ
- لننتظر السبت و نرى ، على كلٍ ... لقد ارتحتُ من مشاكلها على الأقل...
- الحمد لله على هذه النعمة
- الحمد لله
- و كيف انتهى وعيد أمكِ؟
- لقد تحولت إلى خطبة يوم الجمعة بعد مكالمتك
- إذاً كان كذلك..
- نعم يا "أمل"..
- سوف أنام الآن ، تصبحين على خير
- و أنتِ من أهل الخير
- مع السلامة...
- مع السلامة...
الارتباك ظاهرا على حركات "هدى" و هي تستعد للمدرسة ، لم تزعج أخويها كي ينهضوا من النوم ، بل اكتفت بطرق الباب لمرة واحدة ، خرجت من المنزل على أنغام المنبه الذي يهدر في غرفة "حسن" و "حسين" ، كانت تمشي إلى المدرسة و الاحتمالات تتماثل أمامها لتسليها في الطريق ، ماذا لو كان حديث البارحة يمحيه الصباح ، كيف لو تقبلت "عبير" فعلا الصلح ، ربما تتقرب مني كما ادعت ، كيف سأتصرف حينها ، الاستفهامات تتوسع لترسم مستقبلا كاملا ثم يتكسر أمامها تحت وطأة استفهامات و توقعات معاكسة ، وصلت إلى المدرسة ، كانت الأنظار تتوجه إليها بشفقة ، تحاشت النظر في أعين الطالبات ، اتجهت إلى حيث تلتقي بـ "أمل" عند رصيف الزعتر ، لم تكن "أمل" موجودة ، كانت خمس دقائق قبل صفير الصافرة ، وقفت تراقب جهة الباب ، بين اللحظة و اللحظة تدخل الطالبات و تضيق الساحة ، دخلت "عبير" فاعتلت التحايا من بعض الطالبات
- أهلا "عبير"...
- أهلا "زعيم"...
- أهلا "عبير"..
على غير العادة ، لم تكن "عبير" تبادلهن التحايا بنفس الحماس ، كانت تتجه إلى صفها مباشرة ، وقفت أمام طالبة النظام ، أرادت أن تنطق لكن طالبة النظام عاجلتها:
- أهلا "عبير"... تفضلي...
دخلت الزقاق الموصل للفصل ، كانت "هدى" تراقبها من بعد و صدرها يرتفع و ينخفض كمن يخشى أمرا ما يكاد يحصل ، هدأت عندما شاهدت "عبير" تدخل الفصل ، عادت لتراقب الباب ، لم يبق إلا دقيقة عن الجرس ، لا أثر "لأمل" ، أحست باليأس ، لا يجب أن تغيب "أمل" في هذا اليوم بالذات ، الوحشة تعصف بها ، رن الجرس فتحركت ببطء صوب الطابور ، ظهرت "أمل" من جهة الباب أخيرا ، وقفت "هدى" مكانها تنتظر قدوم "أمل" إليها ، سألتها بلهفة:
- لماذا تأخرت؟... خشيتُ أن تتغيبي لتتركيني وحيدة أواجه "عبير"...
- ألم تقولي أنها اعتذرت؟
- بلى...
- إذاً ، اطمئني.. لن تؤذيك..
- لا تنسي أن تأتي إلي الفصل وقت الفسحة..
- إن شاء الله...
- إلى اللقاء
- إلى اللقاء
بعد خمس دقائق من بداية الحصة الأولى تم استدعاء "هدى" من قبل الإدارة ، نهضت "هدى" من مقعدها و هي وجلة تترقب المجهول ، هبطت تقدم رجل و تسحب أخرى ، كانت "عبير" تجلس على الكرسي ، و تنظر إلى الأرض و تحرك رجلها اليمنى بتوتر ، كانت المشرفة صامتة ، تقبع في كرسيها كمن يجهز لحدث ما ، طرقت "هدى" الباب المفتوح ، رفعت المشرفة و "عبير" رأسيهما ، أومأت المشرفة لـ"هدى" بالدخول ، وقفت "عبير" بارتباك ، مدت يدها إلى "هدى" ، صافحتها "هدى" ، قالت "عبير" بتردد:
- كيف الأحوال..
- أهلا وسهلا يا "عبير"...
و عاد الصمت ، لم تلبث المشرفة أن بددته:
- هل انتهت المشكلة يا "هدى"؟؟
- نعم يا معلمة...
- هل انتهت يا عبير؟؟
- بالتأكيد معلمة...
- لا أريد أن أركما هنا في المستقبل...
قالت "عبير":
- اطمئني يا معلمة... فقد أصبحنا صديقتين ، أليس كذلك يا "هدى"؟
- بلى...
أعطت المشرفة ورقة و قلم لكل من "عبير" و "هدى" و قالت :
- اكتبا...
"نتعهد نحن الطالبتان "عبير... " و "هدى... " بأن نصبح صديقتين ، و أن نترك الشجار بيننا ، و أن نلتزم بقوانين المدرسة ، و على ذلك نوقع"
وقعت كل من "عبير" و "هدى" على الورقتين و سلمتاهما للمشرفة ثم مدّت "عبير" يدها و أمسكت بيد "هدى" و خرجتا متشابكتي الأيدي ، أوصلت "عبير" "هدى" إلى فصلها و قبل أن تتركها طلبت منها أن تراها في الفسحة ، فقبلت "هدى" بعد تردد ، ثم تركتها و دخلت الصف...
عندما خرجت "عبير" بصحبة "هدى" و "أمل" في الفسحة ، كان الهمس بين الطالبات قد كثر ، لم تتجرأ سوى "سهى" على مواجهة "عبير" ، طلبت "سهى" من "عبير" أن تحدثها على انفراد و عندما أصبحتا منفردتين ، سألتها:
- أراكِ تمشين مع العدو...
- أي عدو؟
- "هدى" و صاحبتها...
- هما الآن صديقتان...
- أين عقلكِ..
- أنا عقلي في رأسي ، لكن يبدو أن بعض العقول مفقودة...
- ليكن في علمكِ أننا من صنعناكِ و جعلناكِ زعيما ، أما إذا قررتِ أن تصحبي هؤلاء فسنضعكِ معهن في القائمة السوداء...
- لقد خفت ، أنقذوني ، أنا على فكرة نسيت قصة الزعيم هذه ، و إذا أردتِ أن تصبحي الزعيم فهنيئا مريئا...
- سنرى يا "عبير"...
- و ماذا ستصنعين؟
- لا شيء...
وعادت "عبير" إلى "هدى" و "أمل" و أكملن تفسحهن و لأول مرة اشترت "عبير" شطيرة زعتر رغبة منها في محاباة صديقتها الجديدة "هدى"...
عند الساعة التاسعة صباحامن يوم السبت ، كان "حسين" يجلس مع "عصام" و "ممدوح" في بوفية شباب الترجي ، كان وجهي "عصام" و "ممدوح" تنم عن لا مبالاة ، يلقيان النكات حول المدرسين والمدرسة والطلاب ، يحلفان بأنهما يعلمان الواشي و سوف ينكلان به ، كان مدير المدرسة قد سلمهم أوراق استدعاء أولياء الأمور و أخبرهم بأن دخول المدرسة مرهون بمجيء ولي الأمر ، يقضم "حسين" شطيرة الكبدة و يتفكر في أمره ، كيف سيحل هذه المشكلة ، لأول مرة تصل الأمور لهذا السوء ، لا شك أن والده سيعمل سكين الأسماك في جسده ، كانت أجراس الخوف تعبث به ، ربت "ممدوح" على كتفه:
- لا تخف ، ماذا سيحدث في الحياة ؟ لن تموت..
- ماذا تقصد بماذا سيحدث؟
- أقصد أن المدرسة هي الخاسرة بفصلنا...
- هذا جزاء فعلنا و لا نحمل المدرسة أخطاءنا...
يتدخل "عصام"
- و ماذا سنجني من المدرسة سوى الهم و الغم ، سنتخرج من أي مرحلة ثم مصيرنا الجلوس عاطلين ، لنتركها من الآن أفضل..
عزز "ممدوح":
- كلامك صحيح ، ابن جارنا تخرج منذ أعوام ، و أخيرا توظف في شركة في الدمام بألف ريال...
رفض "حسين" هذه الطريقة من التفكير..
- أما أنا فلا أريد أن أخسر دراستي...
سخر "عصام" من كلامه:
-- "لا أريد أن أخسر دراستي"... من يسمعك على أبواب التخرج من كلية الطب ، دكتور "حسين".
- نعم دكتور "حسين" ماذا يزعجك في الأمر...
- أحذرك... أكمل دراستك و ستندم على ذلك...
- أنا أطلب الندم في الدراسة... دعني أندم..
هتف "ممدوح":
- دعه يا "عصام" ، لم يزل طفلا يخشى من أمه ، يبدو أن أمه تنتظره بالعصا...
- التزم حدودك...
- آسف...
- المهم.. أنا ذاهب إلى أبي...
- أوصلك...
- لا... شكرا..
رمى بقايا الشطائر و المشروب الغازي و دفع حسابه ثم خرج يمشي إلى سوق الأسماك...
كان "أبو حسن" منهمكا في تنظيف سمك لزبون عندما تقدم "حسين" مرتبكا فرآه و توقف عن العمل ، سأل مستغربا:
يجذب "حسين" الكلمات من داخله ، يتوقع أسوأ الأحداث و ردة الفعل ، يحاول أن يوضح شيئا لا يستطيع إيضاحه ، تحدرت الدموع على خديه خده ، سأله "أبو حسن" بشفقة:
- ما الأمر؟
أحس أن أباه قد تعاطف معه ، قال:
- لقد أخطأت ، و لا أعرف كيف أصلح خطأي..
- ماذا فعلت؟
- لقد رافقت شخصين ، و تبدل حالي ، أصبحتُ مشاغبا في المدرسة ، و أنا الآن مهدد بالفصل إن لم تأتِ ، أرجوك أبي ساعدني....
- ألم ننصحك مرارا يا "حسين"؟
- أرجوك أبي..
-- دعني أنتهي من خدمة هذا الزبون و سآتي معك..
شرح المدير مسيرة "حسين" لأبيه ، أخبره عن سجله الحافل بشغبه و عناده للمدرسين و نصحه بإبعاده عن رفيقيه ، ثم وعد "أبو حسن" المدير بتغير سلوك "حسين" و طلب منه أن يخبر المدرسين بذلك ، قبل المدير بعد رجاء "أبي حسن" أن يعيد "حسين" للمدرسة بشرط أن يقدم "حسين" اعتذاره للمدرسين و أن يتعهد بأن لا يصدر منه أي فعل مسيء للمدرسين أو الطلاب و أن أي فعل يصدر منه سيعرضه للفصل النهائي...
خلا "أبو حسن" مع ابنه "حسين":
- هل سمعت كلام المدير يا ولدي؟
- نعم ، لقد سمعت...
- و ماذا قررت؟
- أن أعود إلى رشدي...
- و رفيقاك؟
- سأتركهما..
- كيف؟؟
- سوف أطلب منهما تركي و شأني
- بعد الانتهاء من المدرسة ، تعود مباشرة إلى المنزل و تسترجع دروسك ثم تأتي إلي السوق عند الرابعة ، و أن مرّ عليك أي منهما فسأغرس السكين في بطنه...
- إن شاء الله يا أبي...
دخل "حسين" الفصل مع المرشد الطلابي بينما غادر "أبو حسن" المدرسة إلى سوق السمك...