الصراخ يعتلي في بيت "أبو حسن" ، أصوات أقداح تتناثر ، أم تتوعد و بنت تسترحم و تتعطف ، دخل "حسن" المنزل بخطوات حذرة ، كانت "أم حسن" تعتلي "هدى" ممسكة بيدها اليسرى شعرها و بكفها اليمنى قلم القدو ، و هي تصرخ:
- أين كنتِ حتى هذا الوقت؟؟ بنات المدارس قد عادوا إلى منازلهن و جلسن مع أهلهن، و أنتِ أين ذهبتِ؟؟
- قسما بالله لقد كنتُ في المدرسة ، لم أذهب أي مكانٍ آخر.
- أي مديرة تبقى في المدرسة إلى هذا الوقت ؟ اعترفي قبل أن أدخل النار بسببك... أخبريني أين كنتِ.
- أين سأكون! أقسمتُ لكِ بالله أنني كنتُ في المدرسة ، لقد احتجزتنا المديرة ، اسألي "أمل".
- هيا! اتصلي إلى أمل قبل أن أقضي عليكِ
- دعيني كي أتصل..
- اتصلي قبل أن أقبرك الساعة..
ساد الهدوء في المنزل ، الأم تترقب و "هدى" تطلق الآهات، و تجري الدموع و تمسك سماعة الهاتف ، "حسن" مشلول الحركة لا يدري ما يعمل ، نهبت "أم حسن" السماعة من يد "هدى":
- ألو..
- ...
- أهلا... كيف حالكِ يا"أمل"؟
- ...
- أين ذهبت "هدى" بعد الانتهاء من الدراسة؟
- ...
- إذا كلامها صحيح ، لماذا لم تأتِ لتخبريني ، كنتُ أضرب أخماسا بأسداس..
- ...
- لا... لقد وصلت للتو..
- ...
- شكرا يا "أمل" ، مع السلامة.
************
كان الوضع هادئا في منزل "عبير" ، تجلس أم "عبد الله" تتابع برنامجا ثقافيا في راحة بال تامة ، ترتمي "عبير" منفجرة في بكاء الفاقدين ، تفزع الأم تكيل للمعلمات الظنون ، تحتظن ابنتها:
- أي معلمة هذه المرة التي تعرضت لكِ؟ لابد أن أذهب للمديرة يوم السبت و أوقفهن جميعا عند حدودهن...
- لا.. يا أماه ، المعلمات لم يفعلن شيء.
- إذاً ، مالأمر؟
- ابنة الفلاحين.. "هدى"
- هؤلاء البنات تربية شوارع ، و لابد أن يتجبرن عليكن ، ينبغي فصلهن عنكن ، سوف أذهب يوم السبت و أعلمها الأدب.
- لا يا أمي ، أرجوكِ لا تذهبي.
- ماذا يخيفكِ ؟ إن لم أوقفها هذه المرة فسوف تتمادى..
- لا يا أمي ، أرجوكِ أن لا تذهبي ، رجاء...
- يبدو أنكِ المخطئة ، ألم أطلب منكِ تجنب المشاكل؟ كيف أواجه المديرة بعد أن وعدتها بالتزامك...
- لا يا أمي ، لقد تم حل المشكلة ، لكن الحل لم يعجبني...
- و ماهو الحل؟
- أن نسامح بعضنا البعض يوم السبت ، أو سوف تعاقبنا الإدارة بالفصل.
- و لمَ لم يعجبك الحل؟
- ماذا تقولين؟ أتطلبين مني أن أسامح هذه الفلاحة؟
- أ لستِ المخطئة؟
- لكني لا أتأسف.
دخل "عبد الله" المنزل ليرى أخته في حجر أمه في حالة شكوى ، استمع إلى المشكلة ، تأكد من اسم "هدى" ، سأل أخته:
-أمتأكدة أنها "هدى علي"
- كما أنا متأكدة من أنك "عبد الله"
- أين منزلها؟
- في حي الوسادة
تمتم:
- و "حسن" اسمه "حسن علي " من الوسادة...
- ماذا تقول؟
- أقول هلمي معي..
- أين؟
- أنا أعرف عائلة "هدى" ، وهم أناس محترمون و أستطيع أن أحل المشكلة.
- أ تعرفهم، أنت؟ أنت تعرف قرويين؟
- أنا أعرف أخاها ، إنه معي في الجامعة.
- لابد أن يكون قبيح و ثيابه مهملة.
- احترمي حالك
- إن شاء الله
- هيا ، سوف أحل المشكلة
********
تحول الصراخ في بيت "أم حسن" إلى درس من المواعظ و الحكم من قبل "أم حسن" التي تكرر خطبتها و تضيف فيها ، كانت "هدى" مشحونة بعواطف ملتهبة تكاد تكفيها لقضاء يوم كامل من البكاء ، أما "حسن" فقد وجد نفسه مجبورا على البقاء و الاستماع لحديث أمه ، و "حسين" الذي استغل ثورة أمه ، و دخل غرفته و تمدد ينصت للعاصفة ، تنهدت "أم حسن" :
- إنّ أباكم يطلب رزقه ، و لا يعلم عنكم شيئا ، و لو يحدث أمرا سيئا أصبح أنا المسؤولة ، و أنا امرأة ضعيفة ، لا أقدر على فعل شيء ، و الزمن مخيف ، هنا بنت مخطوفة ، و هناك أخرى هاربة مع عشيقها ، و أبناء الحرام يملؤن المكان ،ألم تسمعوا بقصة الذين أخذا طفلة يوم العيد الفائت ؟ ألم يعصفوا بأهل الطفلة المسكينة؟ ألم يقلبوا عيدهم إلى مأتم؟ الولد هذه الأيام يخشى عليه فكيف البنت ، و أنا مهما يكن أم ، و لابد أن أخاف ، ماذا تطلب الأم من الدنيا سوى سعادة أولادها و بناتها ، غذا إن شاء الله يأتيكِ ابن الحلال الذي يسعدكِ و تعرفي معنى التربية...
كان الباب قد طرق فانقطعت المواعظ ترقبا لمن يقف على الباب ، خرج "حسن" ليجد شاب يبدو له مألوفا بعض الشيء ، كان يتحرك أمام الباب ذهابا و إيابا في ارتباك واضح ، هتف "حسن":
-أهلا..
رفع الشاب رأسه ، كان يحاول أن يدفع الكلام من فمه:
-أهلا..
- خيرا ، من تريد؟؟
- أنا "صالح" زميلك في الجامعة و هذا "سعيد".
- شعرتُ أنكما مألوفين، خيرا إن شاء الله..
- بالصراحة..
-...
- نحن نعلم أنك صاحب المرحوم
- الله يرحمه..
- و كنا نحاول أن نعزيك في الجامعة لكن خشينا أن لا تتقبل...
- على العكس ، ولماذا لا أتقبل؟
- على كلٍ ، الله يرحمه و عظم الله أجرك..
- و إن أتت متأخرة، لكن أطال الله عمريكما و حرس شبابكما
- كنتَ تذهب إلى الجامعة و تعود منها بصحبته ،أليس كذلك؟
- بلى..
- ماذا بعد موته يرحمه الله؟
- أنا؟؟ أذهب مع صديق يدرس في السنة الثالثة تخصص
- طيب ، لماذا لا تذهب و تعود معنا عوضا عن تأخير الرجال و انتظاره.
- شكرا ، لكني لا أعرفك ، قصدي لم أعرفك إلا للتو..
كانت سيارة "عبدالله" قد مرَت أمامهما ثم توقفت إلى جانب الطريق ، عندما ترجل "عبد الله" من السيارة ، هتف "حسن" بحماسة:
- المؤمن عند ذكره..
- خيرا إن شاء الله..
- لقد كان "صالح" يسألني عمن أذهب معه إلى الجامعة ، فأخبرته أنني أذهب معك ، نسيتُ أن أعرفك ، "صالح" و "سعيد" معي في السنة التحضيرية ،و "عبد الله" سنة ثالثة تخصص هندسة كهربائية..
كان حياء أول لقاء يشل حركة "صالح"و "سعيد" الذي كان يقف صامتا طول الوقت ، أما "عبد الله" فقال:
- إذاً ، ستذهب معي إلى الجامعة و ستعود معهما ، إذ يقارب وقتك و قت انتهائهما...
- إذا كان هذا رأيك فلا مانع
تحرر "صالح" قليلا..
- رأي جيد.
ثم التفت "عبد الله" إلى "حسن" وقال:
- أريدك في أمر خاص
نظر "حسن" إلى "صالح" بحرج ، فتدارك "صالح" الأمر:
- أراك يوم السبت في البوفيه ، مع السلامة..
- مع السلامة ، وشكرا لمساعدتك
- هذا واجب...
عندما أصبح "حسن" مع "عبد الله" وحيدين ، بدت علائم الارتباك في محيا "عبدالله" ، فتساءل "حسن":
- خيرا إن شاء الله ، مالأمر؟؟
- خيرا إن شاء الله ، لكن بين أختي وأختك نشب خلاف
- إذا هي أختك التي...
- نعم ، و أمي وأختي في السيارة و هماآتيتان ليتفاهما، و إن شاء الله تنتهي المشكلة..
- أمك و أختك في السيارة و نحن نتحدث؟؟ لماذا لم تخبرني كي أدخلهما المنزل...
- ....
- تفضلوا ، و إن كان المنزل ليس في المقام ، عن إذنك أخبر أمي...
- إذنك معك..
كانت الصورة التي رسمتها "عبير" في خيالها لـ "حسن" مرسومة وفقا لصورة "هدى" في المدرسة، عندما وقفت السيارة بجانب الطريق ألقت نظرة فوجدت شابين واقفين يتجاذبان أطراف الحديث ، استبعدت أن يكون "حسن" أحدهما إذ لا يوجد من يتطابق مع الصورة الخيالية التي رسمتها في ذهنها ، و عندما هبط "عبد الله" من السيارة ليتجه نحو الشابين ساورها الشك لكنها جزمت بأنه إن كان "حسن" أحدهما فهو ذلك الفتى الأقل وسامة بينهما ، تحطمت جميع الصور أمام صخرة الواقع ، فقد انتحى "عبد الله" بالفتى الأوسم ، و أخذ يحادثه بينما انصرف الشاب الآخر ، لم يلبث أن دخل الشاب أحد البيوت ليعود "عبد الله" إلى السيارة و يطفئ المحرك طالبا من أمه و أخته أن يترجلا ، كانت الصدمة قد أدخلت "عبير" في دوامة تساؤلات و استغراب ، كيف يكون لـ "هدى" أخٌ جميلٌ كهذا؟؟ دخلت مع أمها الصالة لتستقبلهما "أم حسن" بتواضع مجبول ، بادلت "أم عبد الله" "أم حسن" كلمات الترحيب و المجاملات العربية الطويلة ، بينما شرد فكر "هدى" على ملامح "أم حسن" ، بدت لها فائقة الجمال رغم بساطة ما تلبس ، لم تر شعرها لأنها كانت تغطيه بمقدمة رداء يسمى مشمرا ، مضت ربع ساعة قدمت خلالها "أم حسن" ما يتوفر من كرم الضيافة عبارة عن صينية عصائر و مكسرات و بعض التمر ، ثم جلست دقائق لتسأل بعدها إن كانت "أم عبد الله" تدخن فأجابت "أم عبد الله":
- لا شكراً ، ولا أحب التدخين
- في الواقع ، أفضل لكِ ، مالكِ و التدخين
- لا يأتي منه سوى الأمراض الخبيثة...
- أعوذ بالله من شره..
- المهم يا"أم حسن"... هذه ابنتي "عبير" مع ابنتكِ "هدى" في المدرسة... و حدث بينهمااختلاف ، فرأيت أن نحل هذا الخلاف قبل أن يتضخم...
- لا ترهقي نفسكِ معهن يا "أم عبد الله" ، البنات يختلفن مرة و يتفقن أخرى..
- كلامكِ صحيح يا"أم حسن" لكن المشكلة بدأت منذ مدة ، و أرى أن التدخل أصبح واجبا...
- صدقتِ يا "أم عبد الله"...
- عن إذنكِ كي أنادي "هدى" لتأتي
- تفضلي...
ذهبت "أم حسن" إلى غرفة "هدى" ، فبقيت "أم عبد الله" مع ابنتها، فخاطبتها:
- رغم فقرهم ، لكن يبدو عليهم الأصالة و الطيبة
- يبدو أن أمها طيبة ، لكنهم لم يزالوا يحيون في الماضي...
- الاختلاف بين الناس سنة الله في الأرض ، و لذلك أمرنا الله بالتعارف يا بنيتي..
- لقد قبلتُ بما تحكمين يا أماه..
- اسمها "هدى" ، أليس كذلك؟
- نعم يا أماه
************
كانت "هدى" مصممة على أن لا تخرج لأحد ، لكن رجاء أمها أجبرها على النهوض ، مشت خلف أمها إلى الصالون ، رحبت بالضيوف ثم جلست إلى جانب أمها ، كانت تفكر فيما سيحدث في اللحظات القادمة ، بينما كانت "عبير" تحملق بوجهها بنظرات على غير العادة ، كانت "عبير" مشدوهة مما تراه ، بدت "هدى" في عينيها جميلة كذلك ، و كأنها تراها لأول مرة ، كانت خجولة بعض الشيء ، لا ترفع رأسها عن الأرض ، و قد تشرب خدها بحمرة الخوف و الحياء ، سألتها "أم عبد الله":
- ما هي المشكلة يا "هدى"؟
- لا أعلم!
- أخبرينا عن المشكلة كي نستطيع حلها قبل أن يصعب حلها
هتفت "عبير":
- أنا المخطئة يا أمي ، كنت أنظر بنظرة الدون إلى "هدى" ، و هذا كل المشكلة...
ردت "أم عبد الله":
- إذاً ، نحن آسفون يا "أم حسن" ، و عليكِ أن تقدمي اعتذاركِ يا "عبير" ، و ستصبحان صديقتين منذ اليوم..
- لاداعي لاعتذارها يا "أم عبد الله" ، الأصدقاء يخطئون في حق بعضهن و يرجعون..
- لابد من اعتذارها كي لا تعود لخطئها...
نطقت "هدى":
- لقد سامحتها على أن لا تعود لمضايقتي...
تشجعت "عبير":
- أنا آشفة يا "هدى" و أعدكِ أنني لن أتعرض لكِ مجددا بل أعرض عليكِ صداقتي..
- و أنا أتشرف بصداقتكِ يا "عبير"