باتت "عبير" ليلة وردية ، تضع السماعات في أذنيها ، تستمع و لأول مرة لموسيقى هادئة ، تصفحت أحداث اليوم ، لم تكن المعركة تسيطر على شيء من تفكيرها الآن ، فكل ما في قلبها و فكرها هو ذلك الشاب اليوسفي ، كانت ترسم له صورة مشعوذ أو شحاذ ، لم تكن تحسب أن أخا "هدى" يمتلك تلك الوسامة ، حاولت أن تطرد صورته من مخيلتها لكنه كلما طردته عاد يطرق الباب طالبا الدخول بإلحاح، أمعنت في أوصافه ، كان فاتح البشرة ، معتدل القوام ، تتدلى خصلات شعره على جانبي رأسه ، هادئا الملامح إلى درجة الوداعة ، كان هو يوسف الذي أجبرها على قطع أصابعها ، لم تكن رغبتها في الصلح نابعة عن الذات ، كان هو الذي يقول لها بصمت ، أصلحي ذات بينك مع أختي ، كانت تتصرف كأنها مسحورة ، و تحت تأثير ذلك السحر اكتشفت أن من عادتها جميلة كجمال أخيها ، و اكتشفت أنها كانت مدفوعة لعدائها بدافع التسلية فقط ليس إلا ، و تحت تأثير سحره أعلنت صداقتها لـ "هدى" ، و لم تكن تلك الصفقة خاسرة بالنسبة لها ، فهي إن لم تنفعها لن تضرها بقرارة نفسها ، أما أعظم اكتشاف اكتشفته "عبير" و هي على مخدعها هو أنها شغفت حبا بـ"حسن" صديق أخيها و أخو صديقتها في المستقبل ، فقد قررت أن تتقرب من "هدى" ، وأن تبدأ صفحة جديدة معها ، بل أخدت تضحك على نفسها من المواقف التي أحدثتها مع "هدى" ، حاولت أن تتذكر البداية التي جعلت من "هدى" عدوتها الكريهة فلم تجد ما يدعو لذلك ، و قضت ليلتها تتخيل محبوبها الفاتن الذي استحوذ على فؤادها منذ أن وقعت عليه عيناها...
أما "هدى" فقد خلفتها "عبير" في منزلها مستغربة ، فاغرة فمها ، غير مصدقة كأنها في حلم لا تريد أن تستيقض منه ، فأخيرا "عبير" التي طالما تأذت منها أتتها معتذرة و طلبت صداقتها ، تلك الفتاة التي طالما سخرت منها و من شكلها جاءت لتفتح معها صفحة جديدة ، لم تكن تلك الصدمة لتسمح لها بالهروب من شروذها بل ظلت جالسة في غرفتها تتفكر في الأمور الدراماتيكية التي حصلت هذا اليوم ...
عند التاسعة مساء ، أمسكت السماعة و عبثت بأزرار الهاتف ثم انتظرت لتستقبل مكالمتها "أمل":
- ألو...
- أهلا..
- أهلا "هدى"
- أخبار سعيدة جدا جدا
- ما هي؟ هيا أفرحيني معكِ ...
- لابد أنني أحلم يا "أمل" ، أنا أحلم...
- ماذا حصل ؟ هيا...
- لا أستطيع يا "أمل" ... صدقيني الخبر لا يحتمل التصديق...
- هيا! أدخلتي الشوق في قلبي لمعرفة أخباركِ السعيدة جدا...
- لقد جاءت "عبير" إلى المنزل مع أمها و اعتذرت...
- أ هذا هو الخبر السعيد؟ كنتُ أحسب أنكِ قد خُطِبتِ ، لاشك أنها تمثل عليكِ
- هذا مستحيل يا "أمل" ، كانت تتحدث بندم صادق..
- لو أراها بأم عيني لا أصدقها ، هذه المغرورة تأتي و تعتذر ، هذا هو المستحيل بعينه..
- إذاً لقد تحقق المستحيل أخيرا ، لقد أتت بصحبة أمها و اعتذرت...
- إذاً ، لقد أتت بطلب من أمها ، ربما لتجنيبها العقوبة...
- ربما...
- إن غذا ناظره لقريب...
- ماذا تقصدين؟
- إذا كانت صادقة فسترينها يوم السبت تأتي للسلام عليكِ
- لننتظر السبت و نرى ، على كلٍ ... لقد ارتحتُ من مشاكلها على الأقل...
- الحمد لله على هذه النعمة
- الحمد لله
- و كيف انتهى وعيد أمكِ؟
- لقد تحولت إلى خطبة يوم الجمعة بعد مكالمتك
- إذاً كان كذلك..
- نعم يا "أمل"..
- سوف أنام الآن ، تصبحين على خير
- و أنتِ من أهل الخير
- مع السلامة...
- مع السلامة...
الارتباك ظاهرا على حركات "هدى" و هي تستعد للمدرسة ، لم تزعج أخويها كي ينهضوا من النوم ، بل اكتفت بطرق الباب لمرة واحدة ، خرجت من المنزل على أنغام المنبه الذي يهدر في غرفة "حسن" و "حسين" ، كانت تمشي إلى المدرسة و الاحتمالات تتماثل أمامها لتسليها في الطريق ، ماذا لو كان حديث البارحة يمحيه الصباح ، كيف لو تقبلت "عبير" فعلا الصلح ، ربما تتقرب مني كما ادعت ، كيف سأتصرف حينها ، الاستفهامات تتوسع لترسم مستقبلا كاملا ثم يتكسر أمامها تحت وطأة استفهامات و توقعات معاكسة ، وصلت إلى المدرسة ، كانت الأنظار تتوجه إليها بشفقة ، تحاشت النظر في أعين الطالبات ، اتجهت إلى حيث تلتقي بـ "أمل" عند رصيف الزعتر ، لم تكن "أمل" موجودة ، كانت خمس دقائق قبل صفير الصافرة ، وقفت تراقب جهة الباب ، بين اللحظة و اللحظة تدخل الطالبات و تضيق الساحة ، دخلت "عبير" فاعتلت التحايا من بعض الطالبات
- أهلا "عبير"...
- أهلا "زعيم"...
- أهلا "عبير"..
على غير العادة ، لم تكن "عبير" تبادلهن التحايا بنفس الحماس ، كانت تتجه إلى صفها مباشرة ، وقفت أمام طالبة النظام ، أرادت أن تنطق لكن طالبة النظام عاجلتها:
- أهلا "عبير"... تفضلي...
دخلت الزقاق الموصل للفصل ، كانت "هدى" تراقبها من بعد و صدرها يرتفع و ينخفض كمن يخشى أمرا ما يكاد يحصل ، هدأت عندما شاهدت "عبير" تدخل الفصل ، عادت لتراقب الباب ، لم يبق إلا دقيقة عن الجرس ، لا أثر "لأمل" ، أحست باليأس ، لا يجب أن تغيب "أمل" في هذا اليوم بالذات ، الوحشة تعصف بها ، رن الجرس فتحركت ببطء صوب الطابور ، ظهرت "أمل" من جهة الباب أخيرا ، وقفت "هدى" مكانها تنتظر قدوم "أمل" إليها ، سألتها بلهفة:
- لماذا تأخرت؟... خشيتُ أن تتغيبي لتتركيني وحيدة أواجه "عبير"...
- ألم تقولي أنها اعتذرت؟
- بلى...
- إذاً ، اطمئني.. لن تؤذيك..
- لا تنسي أن تأتي إلي الفصل وقت الفسحة..
- إن شاء الله...
- إلى اللقاء
- إلى اللقاء
بعد خمس دقائق من بداية الحصة الأولى تم استدعاء "هدى" من قبل الإدارة ، نهضت "هدى" من مقعدها و هي وجلة تترقب المجهول ، هبطت تقدم رجل و تسحب أخرى ، كانت "عبير" تجلس على الكرسي ، و تنظر إلى الأرض و تحرك رجلها اليمنى بتوتر ، كانت المشرفة صامتة ، تقبع في كرسيها كمن يجهز لحدث ما ، طرقت "هدى" الباب المفتوح ، رفعت المشرفة و "عبير" رأسيهما ، أومأت المشرفة لـ"هدى" بالدخول ، وقفت "عبير" بارتباك ، مدت يدها إلى "هدى" ، صافحتها "هدى" ، قالت "عبير" بتردد:
- كيف الأحوال..
- أهلا وسهلا يا "عبير"...
و عاد الصمت ، لم تلبث المشرفة أن بددته:
- هل انتهت المشكلة يا "هدى"؟؟
- نعم يا معلمة...
- هل انتهت يا عبير؟؟
- بالتأكيد معلمة...
- لا أريد أن أركما هنا في المستقبل...
قالت "عبير":
- اطمئني يا معلمة... فقد أصبحنا صديقتين ، أليس كذلك يا "هدى"؟
- بلى...
أعطت المشرفة ورقة و قلم لكل من "عبير" و "هدى" و قالت :
- اكتبا...
"نتعهد نحن الطالبتان "عبير... " و "هدى... " بأن نصبح صديقتين ، و أن نترك الشجار بيننا ، و أن نلتزم بقوانين المدرسة ، و على ذلك نوقع"
وقعت كل من "عبير" و "هدى" على الورقتين و سلمتاهما للمشرفة ثم مدّت "عبير" يدها و أمسكت بيد "هدى" و خرجتا متشابكتي الأيدي ، أوصلت "عبير" "هدى" إلى فصلها و قبل أن تتركها طلبت منها أن تراها في الفسحة ، فقبلت "هدى" بعد تردد ، ثم تركتها و دخلت الصف...
عندما خرجت "عبير" بصحبة "هدى" و "أمل" في الفسحة ، كان الهمس بين الطالبات قد كثر ، لم تتجرأ سوى "سهى" على مواجهة "عبير" ، طلبت "سهى" من "عبير" أن تحدثها على انفراد و عندما أصبحتا منفردتين ، سألتها:
- أراكِ تمشين مع العدو...
- أي عدو؟
- "هدى" و صاحبتها...
- هما الآن صديقتان...
- أين عقلكِ..
- أنا عقلي في رأسي ، لكن يبدو أن بعض العقول مفقودة...
- ليكن في علمكِ أننا من صنعناكِ و جعلناكِ زعيما ، أما إذا قررتِ أن تصحبي هؤلاء فسنضعكِ معهن في القائمة السوداء...
- لقد خفت ، أنقذوني ، أنا على فكرة نسيت قصة الزعيم هذه ، و إذا أردتِ أن تصبحي الزعيم فهنيئا مريئا...
- سنرى يا "عبير"...
- و ماذا ستصنعين؟
- لا شيء...
وعادت "عبير" إلى "هدى" و "أمل" و أكملن تفسحهن و لأول مرة اشترت "عبير" شطيرة زعتر رغبة منها في محاباة صديقتها الجديدة "هدى"...
عند الساعة التاسعة صباحامن يوم السبت ، كان "حسين" يجلس مع "عصام" و "ممدوح" في بوفية شباب الترجي ، كان وجهي "عصام" و "ممدوح" تنم عن لا مبالاة ، يلقيان النكات حول المدرسين والمدرسة والطلاب ، يحلفان بأنهما يعلمان الواشي و سوف ينكلان به ، كان مدير المدرسة قد سلمهم أوراق استدعاء أولياء الأمور و أخبرهم بأن دخول المدرسة مرهون بمجيء ولي الأمر ، يقضم "حسين" شطيرة الكبدة و يتفكر في أمره ، كيف سيحل هذه المشكلة ، لأول مرة تصل الأمور لهذا السوء ، لا شك أن والده سيعمل سكين الأسماك في جسده ، كانت أجراس الخوف تعبث به ، ربت "ممدوح" على كتفه:
- لا تخف ، ماذا سيحدث في الحياة ؟ لن تموت..
- ماذا تقصد بماذا سيحدث؟
- أقصد أن المدرسة هي الخاسرة بفصلنا...
- هذا جزاء فعلنا و لا نحمل المدرسة أخطاءنا...
يتدخل "عصام"
- و ماذا سنجني من المدرسة سوى الهم و الغم ، سنتخرج من أي مرحلة ثم مصيرنا الجلوس عاطلين ، لنتركها من الآن أفضل..
عزز "ممدوح":
- كلامك صحيح ، ابن جارنا تخرج منذ أعوام ، و أخيرا توظف في شركة في الدمام بألف ريال...
رفض "حسين" هذه الطريقة من التفكير..
- أما أنا فلا أريد أن أخسر دراستي...
سخر "عصام" من كلامه:
-- "لا أريد أن أخسر دراستي"... من يسمعك على أبواب التخرج من كلية الطب ، دكتور "حسين".
- نعم دكتور "حسين" ماذا يزعجك في الأمر...
- أحذرك... أكمل دراستك و ستندم على ذلك...
- أنا أطلب الندم في الدراسة... دعني أندم..
هتف "ممدوح":
- دعه يا "عصام" ، لم يزل طفلا يخشى من أمه ، يبدو أن أمه تنتظره بالعصا...
- التزم حدودك...
- آسف...
- المهم.. أنا ذاهب إلى أبي...
- أوصلك...
- لا... شكرا..
رمى بقايا الشطائر و المشروب الغازي و دفع حسابه ثم خرج يمشي إلى سوق الأسماك...
كان "أبو حسن" منهمكا في تنظيف سمك لزبون عندما تقدم "حسين" مرتبكا فرآه و توقف عن العمل ، سأل مستغربا:
يجذب "حسين" الكلمات من داخله ، يتوقع أسوأ الأحداث و ردة الفعل ، يحاول أن يوضح شيئا لا يستطيع إيضاحه ، تحدرت الدموع على خديه خده ، سأله "أبو حسن" بشفقة:
- ما الأمر؟
أحس أن أباه قد تعاطف معه ، قال:
- لقد أخطأت ، و لا أعرف كيف أصلح خطأي..
- ماذا فعلت؟
- لقد رافقت شخصين ، و تبدل حالي ، أصبحتُ مشاغبا في المدرسة ، و أنا الآن مهدد بالفصل إن لم تأتِ ، أرجوك أبي ساعدني....
- ألم ننصحك مرارا يا "حسين"؟
- أرجوك أبي..
-- دعني أنتهي من خدمة هذا الزبون و سآتي معك..
شرح المدير مسيرة "حسين" لأبيه ، أخبره عن سجله الحافل بشغبه و عناده للمدرسين و نصحه بإبعاده عن رفيقيه ، ثم وعد "أبو حسن" المدير بتغير سلوك "حسين" و طلب منه أن يخبر المدرسين بذلك ، قبل المدير بعد رجاء "أبي حسن" أن يعيد "حسين" للمدرسة بشرط أن يقدم "حسين" اعتذاره للمدرسين و أن يتعهد بأن لا يصدر منه أي فعل مسيء للمدرسين أو الطلاب و أن أي فعل يصدر منه سيعرضه للفصل النهائي...
خلا "أبو حسن" مع ابنه "حسين":
- هل سمعت كلام المدير يا ولدي؟
- نعم ، لقد سمعت...
- و ماذا قررت؟
- أن أعود إلى رشدي...
- و رفيقاك؟
- سأتركهما..
- كيف؟؟
- سوف أطلب منهما تركي و شأني
- بعد الانتهاء من المدرسة ، تعود مباشرة إلى المنزل و تسترجع دروسك ثم تأتي إلي السوق عند الرابعة ، و أن مرّ عليك أي منهما فسأغرس السكين في بطنه...
- إن شاء الله يا أبي...
دخل "حسين" الفصل مع المرشد الطلابي بينما غادر "أبو حسن" المدرسة إلى سوق السمك...