ثقل عليها المرض، والإمام لا يفارقها، وأسماء تمرضها، والحسن والحسين وزينب وأمّ كلثوم عندها، وهي تفيق مرة ويغشى عليها أخرى من شدّة المرض، وتجيل بصرها في أولادها ..
يقول الإمام علي : إنّها لمّا حضرتها الوفاة فتحت عينيها وقالت: السلام عليك يا جبريل، السلام عليك يا رسول الله، اللّهم احشرني مع رسولك، اللّهم اسكني جنّتك وفي جوارك.
ثمّ قالت: هؤلاء ملائكة ربي، وجبريل ورسول الله حاضرون عندي، وأبي يقول: القدوم إلينا.
يقول علي : فلما كانت الليلة التي أراد الله أنّ يكرمها ويقبضها إليه أخذت تقول: وعليكم السلام. يا بن عم، هذا جبريل أتاني مسلّماً، وقال: السلام يقرئك السلام يا حبيبة حبيب الله وثمرة فؤاده ـ اليوم تلحقين بالرفيق الأعلى وجنة المأوى ثمّ انصرف عنّي.
ثمّ أخذت تقول: وعليكم السلام، وتقول: يا بن عم، وهذا ميكائيل يقول كقول صاحبه.
ثمّ أخذت ثالثاً تقول: وعليك السلام، ثمّ فتحت عينيها شديداً وقالت: يا بن عم هذا والله الحق، عزرائيل نشر جناحه في المشرق والمغرب، وقد وصفه لي أبي وهذه صفته.
ثمّ قالت: يا قابض الأرواح عجّل بي ولا تعذّبني، ثمّ قالت: إليك ربي لا إلى النار، ثمّ غمضت عينيها، ومدّت يديها ورجليها، وكأنّها لم تكن حيّة قطّ.
وروي عن أسماء أنّ فاطمة لما حضرتها الوفاة قالت لأسماء: إنّ جبريل أتى النبيّ صلّى الله عليه وآله ـ لما حضرته الوفاة ـ بكافور من الجنة فقسّمه أثلاثاً، ثلثاً لنفسه، وثلثاً لعليّ، وثلثا لي، وكان أربعين درهماً، فقالت يا أسماء أتيني ببقية حنوط والدي من موضع كذا وكذا وضعيه عند رأسي، فوضعته ثمّ قالت لأسماء حين توضّأت وضوءها للصلاة: هاتي طيبي الذي أتطيّب به، وهاتي ثيابي التي أصلّي فيها، فتوضّأت ثمّ تسجّت بثوبها ثمّ قالت: انتظريني هنيئة وادعيني، فإن أجبتك وإلاّ فاعلمي أنّي قدمت على أبي فأرسلي إلى علي.
فانتظرت هنيئة ثمّ نادتها، فلم تجبها، فكشفت الثوب عن وجهها فإذا بها قد فارقت الدنيا، فوقعت عليها تقبّلها.
فبينا هي كذلك إذ دخل الحسن والحسين فقالا لها: يا أسماء ما ينيم أمّنا في هذه الساعة، قالت: يا ابني رسول الله. ليست أمكما نائمة، قد فارقت الدنيا، فوقع عليها الحسن يقبّلها مرّة ويقول: يا أماه كلميني قبل أن تفارق روحي بدني، وأقبل الحسين يقبّل رجلها ويقول: أنا ابنك الحسين كلميني قبل أن يتصدّع قلبي فأموت.
قالت لهما أسماء: يا ابني رسول الله، انطلقا إلى أبيكما عليّ فأخبراه بموت أمكما، فخرجا حتى إذا كانا قرب المسجد رفعا أصواتهما بالبكاء، فقالا: قد ماتت أمنا فاطمة عليها السلام فوقع علي على وجهه يقول: بمن العزاء يا بنت محمد، كنت بك أتعزّى فبمن العزاء من بعدك؟
ارتفعت أصوات البكاء من بيت علي فصاح أهل المدينة صيحة واحدة، واجتمعت نساء بني هاشم في دارها، فصرخن صرخة واحدة كادت المدينة تتزعزع لها، وأقبل الناس مثل عرف الفرس إلى علي ، وهو جالس، والحسن والحسين بين يديه يبكيان. وخرجت أمّ كلثوم، وهي تقول: يا أبتاه يا رسول الله، الآن حقّاً فقدناك فقداً لا لقاء بعده أبداً.
واجتمع الناس فجلسوا وهم يضجّون، وينتظرون خروج الجنازة ليصلّوا عليها، وخرج أبو ذر وقال: انصرفوا فإن ابنة رسول الله قد أخر إخراجها في العشية.
وأقبل أبو بكر وعمر يعزّيان عليّاً ، ويقولان له: يا أبا الحسن لا تسبقنا بالصلاة على ابنة رسول الله صلّى الله عليه وآله.
ولكن عليّاً غسّلها وكفّنها هو وأسماء في تلك الليلة ثمّ نادى: يا أم كلثوم، يا زينب، يا حسن، يا حسين، هلمّوا تزوّدوا من أمكم فهذا الفراق واللقاء الجنّة، وبعد قليل نحاهم أمير المؤمنين ، عنها. ثمّ صلّى عليّ على الجنازة، وشيعها والحسن والحسين وعقيل وسلمان وأبو ذر والمقداد وعمّار وبريدة والعباس وابنه الفضل.
فلما هدأت الأصوات ونامت العيون ومضى شطر من الليل أخرجها أمير المؤمنين ودفنها سرّاً وأهال عليها التراب، والمشيعون من حوله يترقّبون لئلا يعرفهم القوم، ويمنعهم المنافقون، فدفنوها وعفّوا تراب قبرها.
وقوف الإمام على قبرها:
انتهت مراسم الدفن بسرعة خوفاً من انكشاف أمرهم وهجوم القوم عليهم، فلمّا نفض الإمام يده من تراب القبر هاج به الحزن لفقد بضعة الرسول التي تذكر به، وزوجته الودود التي عاشت معه الصفاء والطهارة والتضحية، وتحملت من أجله الأهوال والصعاب فواغوثاه .. من هظمها .. من آلامها .. من تصدّع قلبها .. وأغوثاه من كسر ضلعها .. واسوداد عضدها .. وإسقاط جنينها .. ولكن.
وكل الذي دون الممات قليللكلّ اجتماع من خليلين فرقة
دليل على أن لا يدوم خليلوإنّ افتقادي فاطماً بعد أحمد
فأرسل دموعه على خدّيه، وحوّل وجهه إلى قبر رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك من ابنتك وحبيبتك وقرّة عينك وزائرتك، والبائتة في الثرى ببقعتك، المختار الله لها سرعة اللحاق بك، قلّ ـ يا رسول الله ـ عن صفيتك صبري، وضعف عن سيّدة النساء تجلّدي، إلاّ أنّ في التأسّي لي بسنتّك، والحزن الذي حلّ بي لفراقك، موضع التعزّي، ولقد وسدّتك في ملحودة قبرك، بعد أن فاضت نفسك على صدري، وغمضتك بيدي وتوليت أمرك بنفسي.
نعم، وفي كتاب الله أنعم القبول، إنّا لله وإنا إليه راجعون، قد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة، واختلست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء، يا رسول الله.
أمّا حزني فسرمد، وأمّا ليلي فمسهّد، لا يبرح الحزن من قلبي أويختار الله لي دارك التي فيها أنت مقيم، كمد مقيّح، وهمّ مهيّج، سرعان ما فرّق (الله) بيننا، وإلى الله أشكو، وستنبّئك ابنتك بتظافر أمّتك عليّ، وعلى هضمها حقّها، فاستخبرها الحال، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثّه سبيلاً، وستقول، ويحكم الله وهو خير الحاكمين.
سلام عليك يا رسول الله، سلام مودّع لا سئم ولا قالٍ، فإن أنصرف فلا عن ملالة وإن أقم فلا عن سوء ظني بما وعد الله الصابرين، الصبر أيمن وأجمل.
ولولا غلبة المستولين علينا، لجعلت المقام عند قبرك لزاماً، وللبثت عنده معكوفاً، ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزّية، فبعين الله تدفن بنتك سرّاً، ويهتضم حقّها قهراً، ويمنع إرثها جهراً، ولم يطل العهد، ولم يخلق منك الذكر، فإلى الله ـ يا رسول الله ـ المشتكى، وفيك أجمل العزاء، فصلوات الله عليها ورحمة الله وبركاته.
وروي أنّ عليّاً سوّى قبرها مع الأرض مستوياً، وقيل: سوّى حواليها قبوراً مزوّرة سبعة حتى لا يعرف قبرها، وروي أنّه رشّ أربعين قبراً حتى لا يبيّن قربها من غيره من القبور خوفاً من الأعداء.
فلمّا أصبح الناس أقبل عمر وأبو بكر والناس يريدون الصلاة على فاطمة عليها السلام.
فقال المقداد: قد دفنّا فاطمة عليها السلام البارحة.
فالتفت عمر إلى أبي بكر فقال: ألم أقل لك، إنّهم سيفعلون؟
قال العباس: إنّها أوصت أن لا تصلّيا عليها.
فقال عمر: لا تتركون ـ با بني هاشم ـ حسدكم القديم لنا أبداً، إنّ هذه الضغائن التي في صدوركم لن تذهب، والله لقد هممت أن أنبشها فأصلّي عليها.
فقال علي : والله لو رمت ذاك لأرجعت إليك يمينك، لئن سللت سيفي لا أغمدته دون إزهاق روحك.
فانكسر عمر وسكت وعلم أن علياً إذا حلف صدق..
لا شك أنّ وفاتها عليها السلام كانت في السنة الحادية عشرة من الهجرة ـ ظاهراً ـ لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله حجة الوداع في السنة العاشرة، وتوفيّ في أوائل السنة الحادية عشرة، واتفق المؤرخون والكتّاب على أنّ فاطمة عليها السلام عاشت بعد أبيها أقلّ من سنة، إلاّ أنّهم اختلفوا في يوم وشهر وفاتها اختلافاً شديداً.
فصاحب دلائل الإمامة، والكفعمي في المصباح، والسيّد في الإقبال، والمحدّث القمي في منتهى الآمال، قالوا: إنّ وفاتها كانت في الثالث من جمادى الآخرة.
وذكر ابن شهر آشوب في المناقب أنّه في يوم 13 ربيع الآخر.
وقال ابن الجوزي في كتاب تذكرة الخواص،و الطبري في تاريخه: إنّ الزهراء عليها السلام توفّيت في الثالث من شهر رمضان، وروى المجلسي ذلك أيضاً عن محمد بن عمر.
وروى المجلسي عن محمد بن ميثم ان وفاتها كانت في 20 من جمادي الآخرة.
واختار محمد تقي سپهر في ناسخ التواريخ يوم السابع والعشرين من جمادى الأولى.
وأساس الاختلاف راجع إلى معرفة المدة التي عاشتها عليها السلام بعد أبيها صلّى الله عليه وآله.
75 يوماً ـ ذكر ذلك الكليني في الكافي، وصاحب كتاب دلائل الإمامة، واختاره السيّد المرتضى في عيون المعجزات، واستندوا في ذلك إلى ما روي عن الصادق عليه السلام: عاشت فاطمة عليها السلام 75 يوماً بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله.
72 يوماً ـ ذكر ذلك ابن شهر آشوب.
3 أشهر ـ قال أبو الفرج في مقاتل الطالبين: وكان وفاة فاطمة بعد وفاة النبيّ صلّى الله عليه وآله بمدّة يختلف في مبلغها فالمكثر يقول: ستة أشهر، والمقلل يقول: أربعين يوماً، إلاّ أنّ الثابت في ذلك ما روي عن أبي جعفر محمد بن علي. على أنها توفيت بعده بثلاث أشهر.
ورواه صاحب كشف الغمة عن الدولابي، وابن الجوزي عن عمر بن دينار.
40 يوماً ـ رواه المجلسي عن فضة خادمة فاطمة عليها السلام، وعن كتاب روضة الواعظين، وعن ابن عباس. ورواه أيضاً ابن شهر آشوب في المناقب عن القرباني.
6 أشهر ـ رواه المجلسي في البحار عن الإمام محمد الباقر عليه السلام ورواه ـ أيضاً صاحب كشف الغمة عن ابن شهاب والزهري، وعائشة، وعروة بن الزبير.
وعدّ ابن الجوزي في تذكرة الخواص ـ في الأقوال ـ الستة أشهر إلاّ عشرة.
95 يوماً ـ روي ذلك عن الإمام الباقر عليه السلام. 70 يوم ـ رواه ابن الجوزي في تذكرة الخواص عن جعفر بن محمد عليه السلام.
شهران، 8 أشهر، 100 يوماً ـ رواها المجلسي في البحار.
واختلفوا في تاريخ وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله أيضاً، والمشهور بين علماء الإمامية أنّه في 28 صفر، وقال أكثر علماء السنة: إنّه في 12 ربيع الأول، وقالوا أيضاً: إنّه توفّي في الثاني من ربيع الأول.
إذن فالأقوال في وفاة الزهراء 13 قول تقريباً، فإذا قسناها إلى الأقوال في وفاة النبيّ صلّى الله عليه وآله تكون الاحتمالات في وفاة الزهراء عليها السلام ـ باليوم والشهر ـ كثيرة، أي حاصل ضرب 13 في 3 وهو 39.
ولكن لا يخفى على العلماء أنّ رأي الأئمة عليهم السلام والروايات الواردة عنهم مقدّمة على أقوال الآخرين؛ لأنّهم أبناء فاطمة وأعرف بتاريخ أمّهم وحياتها. إلاّ أنّ الروايات ـ كما لا حظتم ـ اختلفت أيضاً بين 75 و 95 و 70 يوماً و3 و 6 أشهر.
فإذا كانت وفاة النبيّ صلّى الله عليه وآله في 28 صفر، وأخذنا برواية (75 يوماً) ستكون وفاتها عليها السلام في 13 ـ 15 جمادي الأولى، وإذا أخذنا برواية (95 يوماً) تكون في 3 ـ 5 جمادي الآخرة، وهكذا يمكن للقاريء العزيز أن يحسب الاحتمالات بهذه الطريقة.
واختلفوا في عمر مولاتنا فاطمة عليها السلام بين 18 و 28 و 29 و 30 و 35 سنة، ونكتفي بما أشرنا إليه سابقاً في هذا الحال.
ذكرنا ـ سابقاً ـ أنّ فاطمة عليها السلام أوصت أن يعفى تراب قبرها، ويبقى مجهولاً، فسوّى عليّ القبر بمستوى الأرض، ورشّ أربعين قبراً ليشتبه الأمر على القوم، وإن كان هو عليه السلام يعرف مكانه وكذا خواص أصحابه وقرابته،ولكنّهم سمعوا وصايا فاطمة عليها السلام ووعوها فلم يفشوا السرّ، ولم يفعلوا ما يستفيد منه ـ العدوّ ـ كقرائن واحتمالات لتحديد مكان القبر الشريف.
ومع هذا لم يصرف المحقّقون نظرهم عن المسألة وحاولوا البحث والتحقيق فيها، وتعيين بعض المواضع المحتملة من القرائن والاحتمالات الواردة.
1 ـ روى المجلسي عن محمد بن همام أنّ عليّاً دفن فاطمة في روضة النبيّ صلّى الله عليه وآله، ولكنّه عفى تراب قبرها فلم يعرف.
وروى المجلسي أيضاً عن فضة ـ خادمة الزهراء عليها السلام ـ أنّها صُلّي عليها في روضة النبيّ صلّى الله عليه وآله ودفنت هناك.
وقال أبو جعفر الطوسي: الأصوب أنّها مدفونه في دارها، أو في الروضة، ويؤيّد قوله قول النبيّ صلّى الله عليه وآله: إنّ بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة. ويؤيده ـ أيضاً ـ أنّ علياً صلّى عليها في الروضة ثمّ قال مخاطباً النبيّ صلّى الله عليه وآله: السلام عليك يا رسول الله عنّي، والسلام عليك عن ابنتك وزائرتك والبائتة في الثرى ببقعتك.
2 ـ روى المجلسي عن ابن بابويه أنّه قال: صحّ عندي أنّ فاطمة عليها السلام مدفونة في بيتها. فلمّا زاد بنو أمية في المسجد صارت في المسجد.
وروى المجلسي أيضاً ـ عن محمد بن أبي نصر أنه قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن قبر فاطمة عليها السلام فقال: دفنت في بيتها، فلمّا زادت بنو أمية في المسجد صارت في المسجد.
3 ـ ذكر صاحب كشف الغمة أنّ المشهور أنّها دفنت في البقيع، واختاره السيّد المرتضى في عيون المعجزات، وذكر ابن الجوزي أنّه يقال: إنّها مدفونة في البقيع.
ولا يبعد أنّهم استفادوا ذلك ممّا روي أنّ علياً سوّى أربعين قبراً حول قبرها، وهدّدهم بالقتل عندما أرادوا نبشه، فلابدّ أن يكون ـ إذن ـ قبرها في هذه الأربعين.
4 ـ ذكر ابن الجوزي أنّ البعض قالوا: إنّها مدفونة قرب بيت عقيل، وبين قبرها والطريق سبعة أذرع، وكان عبد الله بن جعفر يقول: لا شكّ أنّ قبر الزهراء عليها السلام عند بيت عقيل.
ويترجّح الاحتمال الأوّل والثاني من بين الاحتمالات الأربعة المذكورة.
الســلام عليكِ يافاطمة بنت رسول الله , السلام على روحكِ وبدنكِ أشهدُ أنكِ مضيتِ على بينة من ربك ..
مظاهر من شخصيّة الزهراء (عليها السلام)
الحديث عن الزهراء فاطمة يتجاوز الفسحة التي امتدّت بين ساعة أبصرت فيها النور وساعة انطفأت فيها من عينيها لمعة الحياة.
فإنّها ابنة نبيّ هزّ جذور الفكر في الإنسان وقفز به فوق الأجيال، كما أ نّها زوجة رجل هو ركنٌ من أركان الحقّ وامتداد لأعظم نبيّ في تاريخ الإنسان.
لقد حازت على كمال العقل وجمال الروح وطيب الصفاء وكرم المحتد، وعاشت في جوّ شعّت عليه وامتدّت به وعبّرت عنه فكراً وانتاجاً، وغدت خطّاً في الرسالة التي انطلقت ثورةً، فكانت هي ركناً من أركانها التي لا يمكن فهم تاريخ الرسالة من دون فهم تاريخها.
وقد مثّلت الزهراء (عليها السلام) أشرف ما في المرأة من إنسانية وصيانة وكرامة وقداسة ورعاية وعناية، بالإضافة إلى ما كانت عليه من ذكاء وقّاد وفطنة حادّة وعلم واسع، وكفاها فخراً أنّها تربّت في مدرسة النبوّة وتخرّجت من معهد الرسالة وتلقّت عن أبيها الرسول الأمين (صلى الله عليه وآله) ما تلقّاه عن ربّ العالمين، وممّا لا شك فيه أنّها تعلّمت في دار أبويها ما لم تتعلّمه طفلة غيرها في مكة.
لقد سمعت القرآن الكريم من النبيّ المصطفى وسمعته من عليّ المرتضى، وصلّت به وعبدت به ربّها بعد أن وعت أحكامه وفرائضه وسننه وعياً لم يحصل عليه غيرها من ذوي الشرف والمكرمات.
ونشأت الزهراء نشأة إيمان ويقين ، نشأة وفاء وإخلاص وزهد ، وعلمت مع السنين أنّها سليلة شرف لا منازع لها فيه من واحدة من بنات حوّاء، فوثقت بكفاية هذه الشرف الذي لا يُدانى، وشبّت بين انطوائها على نفسها واكتفائها بشرفها في دار الرسالة وعهد الايمان.
لقد نشأت الزهراء وهي تحذو حذو أبيها في كلّ كمال، حتى قالت عنها عائشة: ما رأيت أحداً من خلق الله أشبه حديثاً وكلاماً برسول الله (صلى الله عليه وآله) من فاطمة، وكانت إذا دخلت عليه أخذ بيدها فقبّلها ورحّب بها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها
قامت اليه ورحّبت به وأخذت بيده فقبّلتها.
ومن هنا نعرف السرّ أيضاً في ما صرّحت به عائشة من أنّها لم تجد في الأرض امرأة كانت أحبّ الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من فاطمة ، وقد علّلت هي ذلك بقولها: ما رأيت أحداً كان أصدق لهجةً من فاطمة إلاّ أن يكون الذي ولّدها (صلى الله عليه وآله).
وهكذا صارت الزهراء البتول صورة الاُنوثة الكاملة التي يتخشّع بتقديسها المؤمنون.
لم تكتفِ الزهراء فاطمة (عليها السلام) بما هيّأ لها بيت الوحي من معارف وعلوم، ولم تقتصر على الاستنارة العلمية التي كانت تُهيئّها لها شموس العلم والمعرفة المحيطة بها من كلّ جانب.
لقد كانت تحاول في لقاءاتها مع أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبعلها باب مدينة علم النبي أن تكتسبَ من العلوم ما استطاعت، كما كانت ترسل ولديها الحسن والحسين إلى مجلس الرسول (صلى الله عليه وآله) بشكل مستمر ثم تستنطقهما بعد العودة اليها، وهكذا كانت تحرص على طلب العلم كما كانت تحرص على تربية ولديها تربيةً فُضلى، ولقد كانت تبذل ما تكتسبه من العلوم لسائر نساء المسلمين بالرغم من كثرة واجباتها البيتية.
إنّ هذا الجهد المتواصل لها في طلب العلم ونشره قد جعلها من كبريات رواة الحديث ومن حملة السُنّة المطهرة، حتى أصبح كتابها الكبير الذي كانت تعتزّ به أشدّ الاعتزاز يُعرف باسم «مصحف فاطمة» وانتقل إلى أبنائها الأئمة المعصومين يتوارثونه كابراً عن كابر.
ويكفيك دليلاً على ذلك وعلى سموّها فكراً وكمالها علماً ما جادت به قريحتها من خطبتين ألقتهما بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) احداهما بحضور كبار الصحابة في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) والاُخرى في بيتها، وقد تضمّنتا صوراً رائعةً من عمق فكرها وأصالته واتّساع ثقافتها وقوّة منطقها وصدق نبوءاتها فيما ستنتهي اليه الاُ مّة بعد انحراف القيادة، هذا فضلاً عن رفعة أدبها وعظيم جهادها في ذات الله وفي سبيل الحقّ تعالى.
لقد كانت الزهراء (عليها السلام) من أهل بيت اتقوا الله وعلّمهم الله ـ كما صرح بذلك الذكر الحكيم ـ وهكذا فطمها الله بالعلم فسمّيت فاطمة، وانقطعت عن النظير فسمّيت بالبتول.