*مهداة إلى كل اليتامى الذين قيل لهم أن أباءهم في السماء!.
الدكتور حسن يوسف حطيط
-1-
أرخى الليل أستاره السوداء على البيت الحزين و راح "هادي" يجمع أغراضه و ألعابه بعد خروج الزائرين. قبلته أمه على خديه حرارة بالغة مهنئة بعيد ميلاده و طلبت منه الذهاب للنوم بعد هذا اليوم الطويل....
- حاضر, لكن لا تطفئي الأنوار!.
- حسنا, شرط أن تحاول النوم.... و بسرعة!, فالوقت متأخر!.
- سأحاول!.....
جلس "هادي" في فراشه و عندما اطمأن لدخول والدته غرفتها أخذ دفتره الصغير و راح يتأمله ثم تناول القلم من محفظته و راح يكتب:
والدي العزيز....
السلام عليك أينما ذهبت و حيثما حللت.
صار عمري, اليوم, سبع سنوات و صرت أتقن القراءة و الكتابة جيدا.
منذ زمن بعيد و أنا أحاول تعلم كتابة الرسائل سريعا لكي تكون رسالتي الأولى إليك.
-2-
يحزنني يا والدي العزيز أني لم أرك يوما ما في حياتي, و لم أتعرف عليك بعد....!.
يحز في قلبي أيضا أنه كلما سألت عنك, يقال لي أنك رحلت إلى مكان بعيد و لم تعد.....!.
كنت كلما أصر على السؤال عنك تأتيني أمي بصورة صغيرة تبدو فيها من بعيد و أنت ترفع يديك مودعا.
إلى أين رحلت يا والدي ولماذا ابتعدت كثيرا؟!
تمر الأيام بسرعة و أرى جسمي يكبر بسرعة و أرى نفسي تريد بسرعة أن تعرف كل شيء, كل شيء!.
تتضايق أمي من أسئلتي الكثيرة فأنا لا أتوقف عن السؤال عن كل شيء: عن الخالق, عن المخلوقات, عن سر الخلق, عن أصل الحياة, عن سر الموت, عن الأرض, عن السماء, عن كل ما يدور حولنا, عن كل ما يحدث قربنا و بعيد عنا......و عنك.
-3-
أكثر ما يضايق أمي هو السؤال عنك!
ترى, لماذا!؟....
أي سبب يجعلها تتلعثم و أي أمر هذا الذي يخصك و يدفعها للارتباك!؟
كم من مرة اختنقت بعبرتها و لم تستطع الجواب و كم من مرة أزاحت بوجهها عني حتى لا أراها تبكي ثم غادرت سريعا إلى غرفة أخرى!.
ما أغرب الأجوبة التي أتلقاها من عائلتي و أقربائي حين أسال: أين أنت!!.
قال لي أحدهم يوما أنك في مكان بعيد و قال لي آخر أنك رحلت و لن تعود و أننا سنلحقك يوما ما!.
كان أغرب الأجوبة على أسئلتي ما قاله لي البارحة أحد الزائرين و هو أنك في مكان ما في السماء, وأنك ترانا و تزورنا من حين لآخر, لكننا لا نراك!!....
-4-
والدي العزيز
أصارحك القول أني لم أكن أصدق كثيرا ما كانوا يقولون, بل كنت أشعر أنهم بأجوبتهم تلك كانوا يخفون أمرا ما, لا بل كنت أحاول الإصرار على سؤالي عنك حتى يظهروا لي ما يخفوه و لو بكلمة أو جملة قصيرة.
أعترف إليك أني فكرت كثيرا في الأمر و أمضيت الكثير من الليالي لأصل إلى نتيجة ما: هل أصدقهم؟, و من أصدق منهم؟, هل أذهب لأبحث عنك؟, و أين أبحث عنك؟, هل هنالك من وسيلة لإيجادك؟, أو هل هناك طريق يؤدي إلى معرفة شيء عنك؟!.....
إذا كنت في مكان بعيد, فلماذا لا تكتب لنا!؟...
إذا كنت رحلت و لن تعود إلى أن نلحقك, فلماذا لا نلتحق بك الآن!؟...
أما إذا كنت في السماء فبربك ماذا تفعل هناك؟!...
-5-
والدي...
قلمي بدأ يهتز من النعاس.... و لن أقدر بعد على الكتابة!...
سأختم رسالتي الآن.... وأقول في قلبي كما في كل ليلة أني مشتاق إليك كثيرا....
كم مرة أحببت وتمنيت أن أقول بوجهك: أحبك!!...
كم مرة أحببت و تمنيت لو كنت موجودا حين رحلت لأقول: وداعا!!..
كم مرة!!!...
وداعا و إلى اللقاء...
لكن, إلى أين أرسل الرسالة؟!!..و أين عنوان سكنك!؟
و من سيعطيك الرسالة؟!
مهلا أبي,......هل للسماء عنوان!؟
أخبرني سريعا
فأنا أنتظر الجواب
ولدك....
هادي.
-6-
غط "هادي" بنوم عميق و دخلت عليه أمه لتطفئ النور في غرفته فوجدته يمسك بدفتره الصغير بيد و بالقلم بيده الأخرى.
أخذت أم "هادي" الدفتر و راحت تقرأ ما كتب ابنها على صفحاته ... كانت عيناها تدمعان بين الفينة و الأخرى ثم تتوقف قليلا لتنظر إلى السماء و تعود للقراءة...
لم تتمالك نفسها أخيرا و صارت تنتحب و غطت وجهها بيديها ثم تركت الغرفة و اختفت في عتمة البيت!...
-النهاية-
دخلت تباشير النور من شباك الغرفة و ارتعشت عينا "هادي" الصغيرتان....كانت أمه تقف أمام السرير و بيديها ملابسه و كأنها تأمره بالنهوض....
- أريدك أن تلبس بسرعة للذهاب معي إلى مكان ما!...
- و لم العجلة يا أمي!؟
- أريدك أن ترى شيئا!!...
دخل "هادي" وراء أمه و انتبه لوجود بعض الأشخاص المتفرقين يحيطون بأحجار كبيرة بيضاء عليها علامات...
تقدم قليلا ثم توقف لينظر حوله و يستكشف المكان...كان الموقع غريبا و البناء غريبا و الجو غريبا و الأحاسيس التي تنتابه غريبة!!...
توقفت أم "هادي" في إحدى زوايا المكان و أشارت إلى إحدى العلامات أمامها و قالت "اقرأ"!!...
- ما هذا يا أمي؟!
- هذا العنوان الذي طلبته البارحة!!..
قرأ "هادي" ما كتب على الرخام الأبيض و أعاد القراءة مرات عديدة و أخذ يتأمل المكان و يسترق النظر إلى والدته...
لم يفهم "هادي"كل شيء لكنه فضل هذه المرة عدم السؤال..
.أحس و لأول مرة أنه اكتفى بما سمعه و بما رآه و علقت في بصره و سمعه و ذهنه و فكره ما قرأه في السطر الأول أمامه:
"....أحياء عند ربهم يرزقون"....
ففهم أن للسماء عنوان و أنه يستطيع أن يرسل الرسالة!!!....