أما الشبهة الثانية التي أثيرت ضد سفير الإمام الحسين مسلم بن عقيل هي ما أثير حول موقفه تجاه ابن زياد في بيت هاني بن عروة لما جاء ابن زياد لعيادة شريك بن الأعور واتفق شريك مع مسلم أن يختبئ ثم يغدر به ويخلّص الأمة من شره فتسقط الكوفة بيد مسلم ويستولي على زمام الأمور، لكن مسلماً لم يقتل ابن زياد وبقي شريك يدعوه بأبياته لقتله، حتى أحسّ ابن زياد بالخطر وخرج وفاتهم، ثم قتل مسلم وفشلت النهضة الحسينية وفق المقاييس الظاهرية لأن مسلماً بعث إلى سيد الشهداء يدعوه بالقدوم.
مثل هذه الشبهة تنمّ عن عدم معرفة مقام مسلم بن عقيل أولاً وعدم الدقّة في مطالعة هذه الواقعة التأريخية ثانياً. ولإثبات كلّ من المدَّعيين نقول:
أولاً: ليس من الصحيح أن نلاحظ فعل مسلم بن عقيل ونحمّله كل المسؤولية الضخمة من غير ملاحظة كلّ الدواعي التي حدته إلى عدم الفتك بابن زياد، وكما يقولون في الأصول: إن الفعل أخرس ليس له ظهور إلا إذا اقترن بقرائن.
ولكي نفهم المراد من فعل سفير الإمام الحسين لا بد أن ندقق في جزئيات الحادثة ونلاحظ الأسباب والدواعي التي حدته لاتخاذ موقف كهذا، ومنها:
مبغوضية الفتك: لا يخفى أن الفتك مبغوض في الإسلام إن لم نقل بحرمته حتى لمثل ابن زياد وأهل البدع وغيرهم، وقد دلّت على ذلك أخبار ومنها: أن النبي الأعظم قال: إن الإيمان قيد الفتك. (إعلام الورى ص225).
وعن أبي صباح الكناني قال: قلت لأبي عبدالله : إن لنا جاراً من همدان يقال له الجعد بن عبدالله، وهو يجلس إلينا فيذكر علياً أمير المؤمنين وفضله فيقع فيه، أفتأذن لي فيه؟
فقال لي: يا أبا صالح، أفكنت فاعلاً؟
فقلت: إي والله، لئن أذنت لي فيه لأرصدنّه، فإذا صار فيها اقتحمت عليه بسيفي فخبطته حتى أقتله، قال:
فقال: يا أبا صالح هذا الفتك، وقد نهى رسول الله عن الفتك، يا أبا صالح الإسلام قيد الفتك... (الكافي ج7، ص375).
وعن إسحاق الأنباري، قال: قال لي أبو جعفر الثاني : ما فعل أبو السمهري لعنه الله يكذب علينا، ويزعم أنه وابن أبي الزرقاء دعاة إلينا، أشهدكم أني أتبرأ إلى الله عز وجل منهما، إنهما فتّانان ملعونان، يا إسحاق أرحني منهما يرح الله عز وجل بعيشك في الجنة، فقلت: جعلت فداك يحلّ لي قتلهما؟
فقال : إنهما فتّانان يفتنان الناس ويعملان في خيط رقبتي ورقبة موالي، فدماؤهما هدر للمسلمين، وإياك والفتك فإن الإسلام قيّد الفتك.(رجال الكشي، ص529).
فمن الخبرين الأخيرين يستفاد أنه حتى لو كان الشخص مباح الدم فلا يصحّ الفتك به، وكفى في ذلك دلالة على شدة مبغوضية هذا الفعل عند الشارع المقدس.
وحيث إن مسلم بن عقيل هو سفير سيد الشهداء في نهضته وممثله في الكوفة، فمن البعيد أن يجهل هذا الأمر. وكيف يجهله وقد صرّح بعد خروج ابن زياد عن علّة عدم قتله فقال: إن الإسلام قيد الفتك.
من جانب آخر: لو سلّمنا أن هناك مصلحة أهمّ من مبغوضية الفتك في قتل ابن زياد، لكن كراهة هاني بن عروة أو زوجته على اختلاف التواريخ بقتل ابن زياد في بيتهما عامل آخر حال دون إقدام مسلم على قتله.
أضف إلى ذلك أنّ مسلماً كان مبعوثاً عن سيد الشهداء في أخذ البيعة له من أهل الكوفة لا بالقتال أو الفتك، وما قاتل حينما اقتيد إلا دفاعاً عن نفسه وحفظاً لها.
وعلى فرض أنّ في قتل ابن زياد مصلحة فتعارضها مصلحة أهمّ وهي تلوّث النهضة الحسينية بالفتك، فلو كان مسلم يفتك به لتلوّثت النهضة الحسينية بوصمة الفتك ولضاعت نزاهتها ـ والعياذ بالله ـ خاصة مع ملاحظة شدة مبغوضية الفتك عند العرب الذين كانوا يضربون الأمثال بأهل الغدر ومن ذلك قولهم: أعرق العرب في الغدر آل الأشعث لشدّة غدرهم بالناس.
وبغضّ النظر عن ذلك كلّه، فليس من شيمة القادة النجباء وأهل الشرف أن يفتكوا بالآخرين خاصّة في قضايا كهذه، فمثل مسلم بن عقيل الذي هو من شخصيات آل عقيل ووجهاء آل أبي طالب لا يليق به أن يفتك بظالم مثل ابن زياد.
ثانياً: كما يبدو أن أصحاب هذه الشبهة غير مطّلعين على التواريخ جيداً، فلم يرد في التأريخ أن مسلماً رضي أن يفتك بابن زياد، بل الواقع أنه بينما كان شريك يدعوه للغدر به طرقت الباب فاختبأ مسلم ولم يتّفقا على شيء أصلاً، والأبيات التي كان شريك يردّدها كان ظنّاً منه أن مسلماً قبِل الفتك بابن زياد، ولم يعلم أن الفرصة لم تتح له كي يوضّح له مبغوضية الفتك في الإسلام، ولذا لما ذهب ابن زياد بيّن له مسلم علّة عدم فتكه بابن زياد.
مما قرأت عن مسلم بن عقيل (عليه السلام) ؛ للشيخ قاسم الحائري