بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
قال الإمام الحسين عليه السلام
"الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون".
في الحياة الإنسانية اتجاهان: (الدين) و(الدنيا) والناس يتوزعون على هذين الاتجاهين. وقد تحدثنا عن بؤرة الدين وعبرنا عنها بالولاء لأن الولاء فيه خصوصية الفرز والوصل، فالولاء له يجذب الموالين لله، ويطرد الموالين للطاغوت وله خاصية (التجميع) و(التفريق) و(الوصل) و(الفصل) هذا هو مفهوم الولاء أو الدين.
وأما الاتجاه الثانيك هو الاتجاه الدنيوي، فهو أيضاً يجمع ويفرق فعلى ساحة الحياة الاجتماعية نسميها الدنيا، وفي داخل النفس نسميها الهوى، والدنيا هي الحالة المصلحية النفعية التي تجذب الناس في مقابل الدين، وفي بؤرة الدنيا الحب والبغض لا يقومان على أساس المبادئ، وإنما على أساس المصالح والمنافع، كما في الكلمة المعروفة لتشرشل: بريطانيا ليس لها اصدقاء دائمون ولكن لها مصالح دائمة وهذا ما يصفه الإمام (ع) بأنه دنيا والناس عبيده، فكأنه يقول: الناس عبيد مصالحهم ومنافعهم وأهوائهم.
إذن الدين والدنيا كل منهما يجمع الناس ويفرقهم فعبيد الدنيا يجتمعون على الدنيا، ومن أجلها يتنازعون ويتفرقون فهم كالذباب على الحلوى أو القمامة، وأولياء الله يجمعهم حب الله ورسوله، والتجميع والتفريق في كليهما له ملاك يختلف عن ملاك الآخر في كل منهما، ولو درسنا صورة مغلقة بيضوية وحاولنا أن نرسم تقاطعاً لكل من البؤرتين نجد أن الدين يجمع المتدينين، وأن الدنيا تجمع بين المتدينين وغير المتدينين على صعيد واحد، وأحياناً تفرق بين المتدينين أنفسهم.
وخلاصة : إن لكل من هاتين البؤرتين نسيجه الحضاري الخاص به، ولكل منهما وجه إيجابي يجلب ووجه سلبي يدفع، كما أن لكل منهما أخلاقية خاصة به، فأخلاقية الدين لها خصوصية هي الحسم والقطع والرحمة واللين والايثار، والأخلاقية الدينوية لها ميزات أخرى كالمراوغة والخداع والتملق.
والدين والدنيا كل منهما يشكل تجمع خاص به فالدنيا لها تجمع خاص بها وكذلك الدين، ولكن كل منهما يريد أن يفتت الآخر، وفي أحيان كثيرة يختلط الولاء لله تعالى بالمصالح التي تشد الإنسان إلى الدنيا حيث يمتزج الولاء الحقيقي بالولاء للدنيا، وتجعل الإنسان يعيش صراعاً داخلياً. والتفتيت يفقد الولاء حالة التمركز فيفقد فاعليته في الحياة الدنيا وبالعكس فإن من يريد أن يوجه ويقوّم محور الدنيا ويجمع الناس حوله، ولكنه يشطر الناس شطرين، شطر موالي لله، وشطر معادي لله، وعمل العناصر الموالية لله هي تصفية الولاء لله من العناصر الغربية عنه التي تمتزج به.
إذن هناك اتجاهان، تكتل حول الدين وتكتل حول الدنيا والأول ينشط في حالة المحنة والشدة والعسر حيث أن المحنة ترجع الإنسان إلى الله تعالى، وأما التكتل الدنيوي فينشط في حالة اليسر والرخاء.
والأمر الأخطر عندما يدخل حب الدنيا باسم الدين أو قل يتخذ الدين وسيلة لتحقيق المأرب الدنيوية فحينئذ تشوش الخارطة التي يريدها الله، فيتداخل أصحاب الدين وأصحاب الدنيا. ونفس هذا التداخل قد يحدث في النفس الإنسانية ويجعلها تعيش الازدواجية والتلون أو التناقض والمفارقات السلوكية.
ومما تجدر الإشارة إليه: أنا لا ندعو إلى رفض الدنيا على طريقة الرهبانية والصوفية، ولا نقول أن الإنسان يجب أن يتخلى عن الدنيا، ولكن نقول أن الدين يجب أن يكون هو الحاكم والموجه لحياة الإنسان الدنيوية، والذي ننكره من الدنيا هو ن تكون هدفاً قائماً بذاتها، وتتحول إلى قطب رحى في حياة الإنسان.
كما أننا لا ننفي فائدة الهوى في داخل النفس، بل نقول أن له فائدة كبيرة شريطة أن يكون محكوماً بسلطان العقل والدين.
لابد أن يختار الإنسان احدهما أما الدين وأما الهوى ولاعادة تنظيم الخارطة السياسية والاجتماعية في واقع الحياة لابد من شطر الناس شطرين متمايزين، ولاعادة تنظيم العوامل التي تكون محركة للنفس لابد من تمحيص ليتبين أي العاملين هو الحاكم في حركة النفس وبعد ذلك نحتاج إلى فرقان بين هذين العاملين.
الإمام الحسين (ع) يصور المجتمع الذي عاصره بشكل دقيق حيث اختلط فيه هذان العاملان: الدين والدنيا وفقد الفرقان الفاصل والمميز بينهما وتحول الناس إلى (عبيد الدنيا) أي أن حب الدنيا ملك القلوب وأصبحت الدنيا هي الحاكمة، الناس يقبلون الدين، ولكن السلطان والحاكمية للدنيا، وأما الدين فهو (لعق على ألسنتهم) أي يأخذون منه بمقدار ما يلعق الإنسان بطرف لسانه الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، فلا يغذي الإنسان ولا يشبعه، كذلك عبيد الدنيا نلاحظ عليهم مظاهر التدين من صلاة ودعاء وذكر وصوم، وقد يرضى الناس عنه وهو راض عن نفسه وهذه هي الداهية حيث أن هذه اللعقة تجعله لا يشعر بالحاجة إلى الدين، وأنها حاجة ضرورية في حياة الإنسان وأنه نظام شامل يجب أن يحكم الحياة، فهوي يحب الدين ويشعر بأن له دين، ولكن هذا الدين لا يصنع شيئاً في حياته فهو كاللعقة من العسل على طرف اللسان.
والسبب في ذلك لأن الحاكمية للدنيا وليس للدين، وهذا النمط من المتدينين (يحوطونه ما درت معايشهم) أي ما لم يصطدم بمصالحهم الدنيوية وما لم يضر بها، فمادامت دنياهم سالمة فهم متدينون فإذا تزاحم الدين والدنيا رفضوا الدين وتخلوا عنه وركنوا إلى الدنيا، فهم يلتزمون بالدين ولكن إلى الحد الذي لا يضر معايشهم، ومثل هذا المستوى من التدين لا ينفع ولا يريده الله تعالى، وهذا النمط من التدين عبر عنه القرآن بأنه عبادة الله على حرف فلا يستقر ولا يثبت يقول تعالى (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين) [الحج: 11] وقد ورد في سبب نزول هذه الآية أن "جماعة كانوا يقدمون على رسول الله (ص) المدينة فكان أحدهم إذا صح جسمه ونتجت فرسه وولدت امرأته غلاماً وكثرت ماشيته رضي به واطمأن إليه، وإن أصابه وجع في المدينة وولدت امرأته جارية، قال: ما أصبت من هذا الدين إلا شراً..". [مجمع البيان ح8 ص119]
وفي حالة التمحيص بالبلاء يكتشف الإنسان حقيقة رهيبة تلك الحقيقة هي ضحالة عمق الدين في حياة الكثير من الناس ممن يدعي أنه ملتزم به، وإنما يمكن اكتشاف عمق التدين في حالات التزاحم فقط.. ولا يكتشف التدين في حالات إمكانية الجمع بين الدين والدنيا، فإذا تزاحم الدين والدنيا واختار الإنسان الدين ورفض الدنيا اكتشفنا عمق التزامه وقوة تدينه والعكس صحيح، فالإنسان الذي لا يشكل الدين عمقاً في حياته، وإنما دينه لعق على لسانه ليس بديان ودينهم محكوم لدنياهم.
وهاتان الحقيقتان لا تكتشفان في وقت اليسر والرفاه وإنا يتم اكتشافهما في الهزات النفسية والزلازل الاجتماعية ومعلوم أن الإنسان في حالة الزلازل لا يستطيع أن يتدارك نفسه إذا كان بناؤه النفسي قائم على الخلط بين الدين والدنيا.
إذن لابد من فصل، ولابد من فرز ولابد من فرقان بين الدين والدنيا، لفصل عامل الدين عن عامل الهوى في داخل النفس، فإذا تم الفصل فلا يمكن للإنسان أن يوازن بين الدين والدنيا، ولا يستطيع أن يأخذ الدين بيد، والدنيا باليد الأخرى.
لماذا الفرقان والفصل؟
الفرقان والفصل في الحياة الاجتماعية وفي داخل النفس من سنن الله تعالى في حياة الإنسان. يقول تعالى (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة). [الأنفال: 42]
(ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون). [الأنفال: 37]
(ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أمنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب). [آل عمران: 179]
في داخل النفس وكذلك في داخل المجتمع طيبات وخبائث ولا يمكن أن نتصور طيباً أو خبثاً كل ما في النفس.
فهناك نفوس طيبة فيها مزيج من الخبائث، وبالعكس هناك نفوس خبيثة وفيها مزيج وشوب من الطيب، فلابد من الفصل بين الخبائث والطيبات في النفس والمجتمع وذلك لتحقيق الأمور التالية:
1 ـ لينطلق منهما تياران متميزان تيار من الطيبات إلى الجنة، وتيار من الخبائث إلى النار.
ولا تتصور غاية ومصير هذين التيارين من قبل المثوبات والعقوبات في الدنيا، فلا توجد سنخية بين المثوبات والعمل، وبين العقوبات والعمل، فالذي يعمل عملاً جيداً يعطى جائزة، لكن لا سنخية بين العمل والمثوبة، وبالعكس من يعمل عملاً سيئاً يعاقب بسجن أو يقتل، ولا سنخية بين العقوبة والعمل.
أما في الآخرة فالجنة طيبة تجتذب تيار الطيبات والنار خبيثة تجتذب تيار الخبائث فلا يمكن لتيار الخبائث أن يذهب إلى الجنة فالخبائث غايتها النار والطيبات غايتها الجنة، وبتعبير آخر نتيجة عمل الخبائث النار ونتيجة عمل الطيبات الجنة.
2 ـ لا يتم الانتفاع من الطيبات إلا بعد فرزها من الخبائث، لأن الطيبات إذا وضعت مع قليل من الخبائث فإنها تفسد.
3 ـ لِيُعرّفَ الله الإنسان بنفسه، ويتم الحجة عليه ولا تتم الحجة حتى يعلم المجرم بأنه مجرم (ليهلك من هلك عن بينة..).