فلا يُبعِدَنّ اللهُ قتلى تتابعوا
بـ « مُؤتةَ »، منهم « ذوالجناحَينِ جعفرُ »
« وزيدٌ » و « عبدُالله » حين تتابعوا
جميعاً، وأسبابُ المنيّة تخطرُ
غداةَ مضَوا بالمؤمنينَ يقودُهُم
إلى الموتِ ميمونُ النَّقيبةِ أزهَرُ
أغرُّ كضوءِ البدر مِن آل هاشمٍ
أبيٌّ إذا سِيمَ الظُّلامةَ مُجْسِرُ
فصارَ مع المُستشهَدين ثوابُه
جِنانٌ، وملتفُّ الحدائق أخضر!
هذه الابيات الحزينة من الشعر الرقيق، لحسّان بن ثابت، قالها في قتلى المسلمين في معركة « مُؤتة »، داعياً لهم بالخير وحسن الجزاء. ويأتي في هذه الأبيات على ذكر كل من: « زيد بن حارثة » و « عبدالله بن رَواحة »، بينما نراه يقف طويلاً ليركّز تركيزاً شديداً على « ذي الجناحين جعفر » ويُبرزه لنا فتىً هاشمياً جميلَ الصورة والسيرة، طيّبَ الأُحدوثة، حلو الشمائل، وجهه أغرّ مُزهِر كضوء البدر. وهو ـ إلى ذلك كله ـ أبيُّ الضيم، أنوف، إذا حاق به ظلم انقلب إلى أسدٍ جَسور.
ويشاء اللهُ لهذا الفتى « جعفر » الشهادةَ في معركة « مُؤتة »، ليفوزَ بعدها بجِنانِ الخُلد، حيث الرياض الغَناء، والحدائقُ الخضراء.
فمَن « جعفر » هذا ؟ ولِم لُقِّب بـ « ذي الجناحين » ؟ وما هي سيرته ؟
إنّه جعفر بنُ أبي طالب، كبيرُ إخوةِ الإمام عليّ عليه السّلام، وابنُ عمّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم. كلُّ ما نعرف عن طفولته المبكّرة يتلخّص في نشأته عند عمه العبّاس الذي كَفَله ورعاه.. حتّى أصبح فتى يتحمّل المسؤوليات والمهام.
وعند بزوغ شمس الإسلام، كان جعفرُ بن أبي طالب في طليعة المصدِّقينَ بالرسالةِ الإسلامية، فآمن بما أنزل الله على نبيه، يشجّعه على ذلك أبوه أبوطالب، وقد قَرّت عيناه بولدَيه عليّ وجعفر وهما يحوطان الرسول، ويَتْبعانه كظلّه، فيَشُدّان مِن أزرِه.
ويشتدّ تضييقُ قريش على أتباع الدين الحنيف، فلا يتركون وسيلةً من وسائل الإيذاء والإرهاب، والاضطهاد والتنكيل، إلاّ ولجأوا إليها. عند ذلك، يجمع النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلم أصحابَه، فيدعوهم لمزيدٍ من الصبر والتحمّل. وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا، وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظيمٍ .
ثم يقول لهم ـ « لو خَرَجتُم إلى الحبشة، فإن فيها مَلِكاً لا يُظلَم أحدٌ عنده، حتى يجعلَ اللهُ لكم فرَجاً ومَخرجاً مما أنتم فيه ».
ويأتمر أصحابُ النبي بأمره، والله سبحانه وتعالى يقول: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا .
ويُسرعون إلى الحبشة، فِراراً بدينهم، وحفاظاً على حياتهم.
وهكذا كانت أوّل هجرة في الإسلام.
وتنطلق إلى الحبشة الدفعةُ الأولى من المهاجرين.. وتتبعها دفعةٌ ثانية تضَمّ حواليَ السبعين من المسلمين بقيادة: جعفر بن أبي طالب، رضوان الله عليه.
* * *
وتحاربُ قريش الدينَ الجديد بلا كلَل، ولا ملَل.
وفي اجتماعٍ ضمَّ سادتَها، يذكرون أمر هؤلاء الفارّين إلى الحبشة.
فيقول قائل: لقد أراح اللهُ مكّةَ منهم و من شَغَبِهم..
فيقاطعه آخر بصوته الأجَش متسائلاً: ولكن، ألا تَرَون في الإسلام وهو ينتقل إلى الحبشة أن يُؤلّب عليكم الأحباش، خاصة وأنَّ على رأسِ الحكم هناك النجاشي العظيم؟!
فيهزُّون رؤوسَهُم بالإيجاب، فالأمر ممكن! ويَعجَبون من أنفسهم: لِمَ لَم يلتفوا إلى هذه الفكرة من قبل، إنها لَمفاجاةٌ حقا!
ويرتفع صوتٌ ثالث: مهلاً يا قوم! إن ما يقوله لَحقّ، والرأي كل الرأي أن نعمل وُسْعَنا كي نكسب النجاشي إلى صَفِّنا، فإن تمكّنا من ذلك كان عليه أن ينبذ هؤلاء الطارئين على بلاده، فيسلّمنا إياهم. وبذلك نستريح منهم، وتكونُ نهاية محمدٍ وحزبه. وهكذا نضرب عصفورين بحجرٍ واحد!
وتعلو الأصوات، وتختلط فيما بينها، ممتزجةً بالقهقهات:
ـ هذا هو الرأي الصواب، ولكن كيف ؟ هات ما عندك هات، حمَاكَ هُبَل!
فيرفع الشيخُ يده وهو يقول: مهلاً، مهلاً! يا قوم لا تتعجّلوا الأمور، فالموقف خطير، ليس لديّ من مزيدٍ لقوله، ولكن فكّروا في الأمر مَليّاً، وعميقاً! والرأي أن نعاودَ اجتماعَنا في هذا المكان وفي مثل هذا الوقت من الليل غداً، وليحاول كل منّا الاهتداءَ إلى خطةٍ محكمة تنقذنا من هذا الشر الوبيل. هيّا يا حكماءَ قريش، ودُهاةَ العرب، إلى اللقاء غداً.
وترتفع الأصوات: إلى اللقاء.. ويتفرقون.
وتكونُ اجتماعاتٌ واجتماعات.. تُطرَح خلالها اقتراحاتٌ، واقتراحات..
وأخيراً، تُحبَك المؤامرة جيداً، فالويل للخارجين على شريعة « اللاّت » و « العُزّى »!.. وتُنفَّذ بعد أيام قليلةٍ.. وإذا بعمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعةَ يتّجهان، مُحمّلين بالهدايا إلى الحبشة، فتنكشف النّوايا، وتتّضح الغايات!
ويتّصلُ المُوفدان ببلاط الملك، ويقدّمان لأعيانِ أصحاب النَّجاشي كلّ نادرٍ فاخر، وهُما يقولانِ: نحن وفد قريش إلى الملك، نحمل إليه منها هديةً، ونريدُ أن نقف على رأيه في شأن هؤلاء الناس من سُفَهاء قومنا، الذين فارقوا دينَ قومهم ولم يدخلوا في دين الملك، وجاؤوا بدينٍ مُبتدَعٍ لا نعرفه نحن ولا أنتم. وقد أرسَلَنا أشرافُ قومهم إلى الملك ليردّهم إليهم.
وبالتّلميح الذي يقرب إلى التصريح، طلب المُوفَدان من أصحاب الملك مؤازرتهما على ما من أجله أتَيا، فيُجابان إلى ذلك.
وعلى عَجَلٍ يُهيىّ لهما رجالُ القصر مع الملك موعداً، فاجتماعاً!
ويستمعُ الملكُ باهتمام إلى رسولَي قريشٍ وهما يَعرُضان له رأيَ قريشٍ في الذين عنده من أبنائها، طالبين باسمها تسليمَهُم لها.
وهنا ينتفضُ الملك.. فيا لَلعار! إنّهما يطلبان منهُ الغدرَ بمن لجأ إليه. وبصوتٍ غاضب يجيب:
ـ لا والله، لا أسلّم قوماً جاوَروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على مَن سواي.. حتى أدعوَهم وأسألهم عمّا يقول هذان، فإن كانا صادقَين سلَّمتُهم إليهما، وإن كانوا على غير ما يذكر هذان منعتهم وأحسَنتُ جوارَهُم.
ويطلب النجاشي من بعض رجاله أن يأتيه بأصحاب محمّد هؤلاء، فبالمواجهة يسطع نور الحق، ويندحر ظلام الباطل!
* * *
ويقدم المسلمون إلى قصر الملك.. وتغصُّ بهم وبمن حضر قاعةُ القصر، فاليوم يومٌ مشهود.
ويسألهُم الملكُ عن سبب مجيئهم إلى بلاده، وعن دينهم الجديد.
وينظُرُ المسلمون بعضهم إلى بعض، ويرمقون ابنَ العاص وابن أبي ربيعة، وكأنَّهم يقولون: أإلى بلاط المليك، وصلَ كيدُ قريش ؟!
ويتقدّم جعفرُ بن أبي طالب بقدمٍ ثابتة ووجهٍ مشرقٍ، متوجّهاً بخطابه إلى الملك.. فتشرئبّ إليه الأعناق. ويستمع الناس إلى ابن عمِّ النبي خطيباً:
ـ « أيها الملك، كنّا أهلَ جاهليّة نعبدُ الأصنام، ونأكل المِيتة، ونأتي بالفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسيءُ الجوار، ويأكُلُ القويُّ منّا الضعيف.. حتّى بَعثَ اللهُ إلينا رسولاً منّا نعرف نسبَه، وصدقَه، وأمانته، وعفافَه، فدعانا لتوحيد الله وأن لانشرك به شيئاً، ونخلع ما كنّا نعبد من الأصنام، وأمَرَنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرَّحم، وحُسن الجار، والكفِّ عن المحارم والدماء. ونهانا عن الفواحش، وقول الزّور، وأكلِ مال اليتيم، وأمَرنا بالصّلاة والصّيام.
فتعدّى علينا قومُنا، فعذّبونا وفتنونا عن ديننا، ليردّونا إلى عبادة الأوثان. فلمّا قَهَرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا.. خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورَجَونا أن لا نُظلَم عندك ».
ويُطرق الجميع، لفصل الخطاب، وكأنّ على رؤوسهم الطّير!
وبوجهٍ يشيع فيه الهدوءُ، يلتفت النجاشي إلى جعفر، قائلاً:
ـ هل معك مما جاء به عن الله شيء.
ـ نعم.
ـ هات أسمِعْني بعضَه..
وينطلق صوتَ جعفر: « بِسْمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيم، كهيعص... » ويتلو على الجمع آياتٍ من سورة مريم فيخشعُ الملك، وتعلو وجهَه حُمرةٌ طفيفة.
ويتعجّب الجمع لهذه النّداوة العذبة الرّقيقة يتلألأُ بها وجهُ الملك. ويزداد عَجَبُهم وهم يلحظون.. وكأنّ دمعتين في عينَي الملك تَتَرقرقان.
وُيعلن الملك رأيه بما سمع:
ـ إنّ هذا والذي جاءَ به عيسى يخرج من مَعدِنٍ واحدٍ.
انطلِقا، يا هذين! والله لا أُسْلِمهُم إليكما أبداً.
وينقلب السحرُ على الساحر!..
* * *
ويخرج عمرو وعبدالله يجرّان ذيلَ خيبةٍ وفشلٍ، وقد عَقدت لسانَيهما الدّهشة.. وينفضّ الاجتماع!
ويفكّر ابن العاص، داهية العرب، بمخرجٍ من هذا المأزق.
ولا يلبثُ أن يعود مع صاحبِهِ في اليوم التّالي إلى الملك في قصره حاملاً موضوعاً جديداً، لعلّه بذلك يثير حساسيةَ الملك وأتْباعه. ويسألهُ الملك عن ذلك، فيقول عمرو:
ـ ولكنَّ هؤلاء لايقولون في عيسى وأمّه كما تقولون.
ويستدعي الملكُ المسلمين إلى قصره ثانية، قائلاً:
ـ ماذا يقول نبيّكم الجديد بشأن عيسى وأمّه ؟
ويبتدئ جعفر القول: إنّه عبدُالله ورسوله، وروحُه وكلمتُه ألقاها إلى مريم العذراء.
فيعتدل الملك في جلسته، وتطيب نفسه بذلك، ويلتفت إلى المسلمين أمامه قائلاً:
ـ إذهبوا فأنتم آمنون..
أما أنتما يا رسولَي قريشٍ فعودا مع هديّتكما إلى بلدكما، فليس لنا أن نقبل الرَّشوة، وليس من عادتنا أن نكون من الغادرين!..
* * *
ويبقى المسلمون في الحبشة ما شاء الله لهم ذلك.
وتكون الحبشة مسقط رأس بعض أولاد المسلمين.. وفيها يرزق اللهُ جعفراً أولاده من زوجته « أسماء بنت عُميس »: عبدالله وعَوناً، و محمداً..
وتتوالى أخبار المسلمين في مكة والمدينة على إخوتهم في الحبشة، فيفرحون بالمدّ الإسلامي المنتشر شيئاً فشيئاً.
وتصل إليهم أخبارُ « بدر » و « أُحد » فيحزنون، وقد حُرِموا في هاتينِ الموقعتين فضلَ الجهاد في سبيل الله ورسوله.
ويكونُ جعفرُ بن أبي طالبٍ من أشدِّهم حزناً.. أيجري ذلك كلّه وهو بعيد ؟!
ولكنّ قلبه يفعم بالغبطة والسعادة، وهو يستمع إلى أنباء مآثر أخيه علي عليه السّلام في هاتين الموقعتين وفي غيرهما، وما حقق الله على يديه من إنجازاتٍ عظيمة فيهما، تكاد تُوازي ما حققه المسلمون كلهم مجتمعين! ويقول في نفسه: لاقعودَ بعد اليوم!
ويتّصل جعفر بجماعته من المسلمين داعياً إيّاهم إلى العودة، فالموقف يستدعي وجودَهُم على أرضهم وقد أعزّ الله هناك الإسلام والمسلمين، ويتّصل بالنجاشي شاكراً ومودّعاً، فيمدّه بسفينتين تحملانه وصَحبه.
وعلى بركة الله تكون العودة، وبحفظه يتم الوصول.. والجميع بحمده تعالى سالمون.
وتصل بشائرُ عَودةِ المهاجرين من الحبشة إلى ديارهم سالمين. فيشكر النبيُّ صلّى الله عليه وآله المولى عزّوجلّ على ما هيّأ له ولصحبه من أسباب التوفيق والنجاح. ها هو ذا جعفر وصَحبُه يعودون إليه، وقد منّ الله تعالى على الجميع بالتّيسير والسلامة. وها هي أخبار فتوحات المسلمين تَترى تِباعاً. وكان آخرها فتح « خيبر » على يدَي ابن عمّه النبيّ وأخيه عليّ عليهما الصلاة والسّلام.