شمس المدينة , تنحدر قليلا عن وسط السماء بأتجاه الافق .. لاهبة , تلسع راسها المكتظ بالماسي .. انها ابت الا تستظل بظل ابدا , وان لايهنا بقربها رجل قط
فقد عزفت عن كل لذة ودعة في العيش , ولم يبق لها الا صدى الامس , ينقر في اذنيها .. يعشعش في راسها .. يجعلها تركن الى صمت مطبق , فلا فائدة من فتح الفم , واتساع الشفتين .. فلقد مات الكلام .. ورحلت البسمات .. وما عاد لها الا الذكرى , تعيش بها ومن اجلها
الفاجعة التي حلت بها لم تبق لها شيئا تنعم فيه ... ضمت يديها الى صدرها .. راحت تهزهما كمن تهدهد طفلا رضيعا
استمرت هكذا للحظات , ثم نظرت بعينين ذاهلتين الى يديها ... حدقت فيهما جيدا ... لم تجد شيئا ... فبكت .. بكت بحرارة ...
الشمس تنحدر نحو الافق . نظرت مرة اخرى الى يديها المضمومتين .. ولوهلة .. انفرجت شفتاها عن ابتسامة باهتة ... امالت راسها ... قربت يديها الى صدرها .. عصرت ثديها بيمينها , وقربت يدها اليسرى الممدودة افقيا الى صدرها .. لاشئ ... الثدي جاف , ويديها فارغة .. لسعات الشمس ايقظتها من اوهامها . فافلتت يديها , وبكت .. عيون الاهل والاحبة تلراقبها عن بعد ... وحالتها سكاكين تقطع احشاءهم .. ولكن مامن احد يستطيع اقناعها بالركون الى الظل , والعيش بهناء بعيدا عن الماضي الاليم ... رفعت راسها ... حدقت في الشمس باجفان جامدة , تعبت , فاغمضت عينيها
وراحت صور الماساة تمر امامها ... صور عديدة , ازدحم بها راسها ... عطش في كربلاء .. قتل الاحبة .. وقطع الرؤوس , وحملها على الرماح ... سبي النساء ... ولكن ثمة صور لا تفارقها ابدا ... تعذبها .. لاتستطيع محوها من راسها ... صورة طفلها الرضيع , وهو مذبوح من الوريد الى الوريد من اجل جرعة ماء ... صورة زوجها وقد سقط من على فرسه , بعد ان اصبح جسده كغربال من كثرة السهام .. صورة سنابك خيل الاعداء وهي تطأ الجسد الشريف .. .. وصورة الفرس ... ذلك الحيوان الذي رفض الحريمة النكراء , وراح يدعو بالويل والثبور على امة قتلت ابن بنت نبيها
صور رهيبة عاشتها في الطف , وراحت تزور راسها وهي جالسة تحت الشمس اللاهبة ... الدموع تسيل على خديها كشلال , وكذلك عيون من حولها
وبينما كانت الشمس تقترب من الافق , ضمت يديها الى صدرها مرة اخرى .. وراحت تهزهما كمن تهدهد رضيعا .. وتقربهما الى صدرها الجاف .. تقربهما كثيرا , تلصقهما بصدرها .. وتبقى هكذا بلا حركة ... ولا انفاس