السلام عليكم
اللهم صلٍ على محمد وال محمد وعجل فرجهم الشريف ....
أننا نشترط في العصمة أنْ يكون المعصوم منزّهاً عن السهو والخطأ والنسيان أيضاً، ولا منزهاً عن المعاصي والذنوب فقط .
كانت آية التطهير تدلّنا على عصمة الأئمة أو على عصمة أهل البيت (عليهم السلام) من الرجس، وكلمة الرجس نستبعد أنْ تطلق وتستعمل ويراد منها الخطأ والنسيان والسهو، إذن، لابد من دليل آخر، فما ذلك الدليل على أن الإمام والنبي معصومان ومنزّهان حتى عن السهو والخطأ والنسيان وما شابه ذلك ؟
الدليل على ذلك : كل ما دلّ من الكتاب والسنّة والعقل والإجماع على وجوب الإنقياد للإمام أو النبي، على وجوب إطاعته إطاعةً مطلقة غير مقيدة .
تارةً نقول لأحد : عليك بإطاعة زيد في الفعل الكذائي، عليك بإطاعة زيد في الوقت الكذائي، عليك بإطاعة زيد إنْ قال لك كذا .
أما إذا قيل للشخص : يجب عليك إطاعة زيد إطاعةً مطلقة غير مقيدة بقيد، غير مقيدة بحالة، غير مقيدة بوقت، فالأمر يختلف .
وبعبارة أُخرى : الإمام حجةٌ لله سبحانه وتعالى على خلقه، والخلق أيضاً إنْ انقادوا لهذا الإمام، وامتثلوا أوامره، وطبّقوا أحكامه وأخذوا بهديه وسيرته، سوف يحتجّون على الله سبحانه وتعالى بهذا الإمام .
إذن، الإمام يكون حجة الله على الخلائق، وحجة للخلائق إذا كانوا مطيعين له عند لله سبحانه وتعالى، ولذا يكون قول المعصوم حجة، فعل المعصوم حجة، وتقرير المعصوم حجة .
عندما يعرّفون السُنّة يقولون : السنّة قول المعصوم أو فعله أو تقريره، والسنّة حجة .
ولماذا ؟ لأنّ جميع حركات المعصوم وأفعاله وتروكه وحالاته يجب أن تكون بحيث لو أنّ أحداً اقتدى به في تلك الحالات، في تلك الأقوال، وفي تلك الأفعال، يمكنه أنْ يحتجّ عند الله سبحانه وتعالى عندما يُسأل لماذا فعلت ؟ لماذا تركت ؟ عندما يسأل لماذا كنت كذا ؟ لماذا لم تكن كذا ؟ فالملاك نفس الملاك بالنسبة إلى المعصية .
ولو أنك راجعت كتب الكلام من السنّة والشيعة، عندما ينزّهون النبي عن المعصية وعن ارتكاب الخطأ يقولون : بأن ذلك منفّر، ويجب أنْ يكون النبي منزّهاً عن المنفّر، لأن الله سبحانه وتعالى قد نصب هذا الشخص لأن تكون جميع أعماله حجة، ولأن يكون أُسوة وقدوة في جميع أعماله وحالاته وسيرته وهديه، فإذا جاء الأمر بالانقياد مطلقاً، جاء الأمر بالطاعة المطلقة، لابد وأنْ يكون المطاع والمنقاد له معصوماً حتى من الخطأ والنسيان .
لو أنك طلبت من أُستاذ أنْ يدرّس ولدك درساً معيّناً، فجاء في يوم من الأيام وقال : بأني نسيت درس اليوم، أو درّس هذا التلميذ درساً غير ما كان يجب عليه أنْ يدرّس، أو أخطأ في التدريس، لربما في اليوم الأول تسامحه ويكون معذوراً عندك، ولو جاء في اليوم الثاني، وأيضاً أخطأ في التدريس أو نسي الدرس، ثم جاء في اليوم الثالث وكرّر تلك القضية أيضاً، لاشك أنك ستعترض عليه ، وستعوّضه بأُستاذ آخر .
وهكذا لو أن إماماً نُصب في مسجد، لأنْ يأتمّ به الناس في الصلاة، فسهى في صلاة، وفي اليوم الثاني أيضا سهى، وهكذا تكرّر منه السهو أياماً، لا ريب أن القوم سيجتمعون عليه، وسيطلبون منه مغادرة هذا المسجد، وسيتوجهون إلى شخص آخر وينصبونه إماماً لهم، وهذا شيء طبيعي .
ولو أنك راجعت طبيباً، وأخطأ في تشخيص مرضك، وراجعه مريض آخر وأخطأ أيضاً في تشخيص مرضه، وراجعه مريض ثالث وأخطأ أيضاً في تشخيص مرضه، لاجتمع الناس وأهل البلد كلهم على هذا الطبيب، ولأغلقوا عليه بابه، ولغادر البلد بكل احترام !! وهذا شيء واضح .
الله سبحانه وتعالى يريد أنْ ينصب أحداً بين المجتمع لأنْ تكون جميع أعمال هذا الشخص، وجميع أفعاله، وجميع حالاته حجة، يحتج بها على العباد، يكون قدوة للناس فيها ويكون أُسوة، يتبعونه ويسلكون مسلكه ثم يعتذرون إلى الله ويحتجون عليه بهذا الشخص .
لاحظوا كلام بعض علماء السنّة، أقرأ لكم عبارةً واحدةً فقط تشتمل على بعض الآراء والكلمات :
يقول الزرقاني المالكي في شرح المواهب اللدنيّة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنه معصوم من الذنوب، بعد النبوة وقبلها، كبيرها وصغيرها، وعمدها وسهوها على الأصح [كلمة على الأصح إشارة إلى وجود الخلاف بينهم ] في ظاهره وباطنه، سرّه وجهره، جدّه ومزحه، رضاه وغضبه، كيف ؟ وقد أجمع الصحب على اتّباعه [ هذه هي النقطة ] والتأسي به في كل ما يفعله، وكذلك الأنبياء [ أي : لا يختص هذا بنبيّنا، كل الأنبياء هكذا ] .
قال السبكي : أجمعت الأُمة على عصمة الأنبياء فيما يتعلق بالتبليغ وغيره، من الكبائر والصغائر، الخسّة أو الخسيسة، والمداومة على الصغائر، وفي صغائر لا تحط من رتبتهم خلاف : ذهب المعتزلة وكثير من غيرهم إلى جوازها، والمختار المنع [ لماذا ؟ هذه هي العلة : ] لأنا أُمرنا بالإقتداء بهم في ما يصدر عنهم ، فكيف يقع منهم ما لا ينبغي ؟ ومن جوّزه لم يجوّز بنص ولا دليل( شرح المواهب اللدنية بالمنح المحمديّة 5 / 314 .
) .
أقول : إن قضية شهادة خزيمة بن ثابت الأنصاري، وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقّبه في تلك الواقعة بلقب ذي الشهادتين هي من أحسن الشواهد .
وقضية شهادة خزيمة هي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)اشترى من أعرابي فرساً، ثم إن الأعرابي أنكر البيع، وليس هناك من شاهد، فأقبل خزيمة بن ثابت ففرّج الناس بيده حتى انتهى إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)فقال : أشهد يا رسول الله لقد اشتريته، فقال الأعرابي : أتشهد ولم
تحضرنا ؟ [ سؤال وجيه ، لأن الشهادة تجب أن تكون عن علم ]وقال النبي : « أشهدتنا ؟ » قال : لا يا رسول الله، عندما تبايعتم واشتريت الفرس من الأعرابي لم أكن حاضراً، ولكني علمت أنك قد اشتريت، وإذنْ أشهد عن علم، والشهادة يجب أن تكون عن علم، قال خزيمة : أفنصدّقك بما جئت به من عند الله، ولا أُصدّقك على هذا الأعرابي الخبيث ؟، قال : فعجب رسول الله وقال : « يا خزيمة شهادتك شهادة رجلين »(الكافي 7/400 ) .
من هذه القضية نفهم أن الصحابة عرفوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)بأنه لا يكذب، ولا يدّعي مال الغير بلا دليل، هذا صحيح، ولا خلاف في هذا، لكنّ المدّعى أن النبي معصوم عن الخطأ والنسيان، وعن السهو، وعلى ذلك شهد خزيمة بالأمر، أما كان خزيمة يحتمل أن رسول الله مشتبه ؟ ألم يكن هذا الاحتمال ولو واحد بالمائة احتمالاً وارداً ليمنع خزيمة من القيام بهذه الشهادة ؟ لا ريب أنه كان عالما بانّ رسول الله لا يكذب، لا يدّعي مال الناس، هذا واضح، لكنْ أليس كان من المناسب أن يتأمّل ويسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا رسول الله لعلّك سهوت ! لعلّك مشتبه ! لعلّك نسيت ! لعلّ هذا الأعرابي ليس ذلك الأعرابي الذي تعاملت معه، أو لعلّ هذا الفرس غير الفرس الذي اشتريته من الاعرابي . لكنّ كلّ هذه الاحتمالات منتفية عند خزيمة، ويأتي، ويفرّج الناس، ويشهد بأن الحق مع رسول الله، بلا تريّث ولا تأمل أبداً، وهكذا عرفوا رسول الله، ولابد وأنْ يكون كذلك .
قال السبكي : لأنا أُمرنا بالاقتداء بهم فيما يصدر عنهم مطلقاً، فكيف يقع منهم ما لا ينبغي، ومن جوّزه لم يجوّز بنص ولا دليل .
أضف إلى ذلك، هل الخطأ والنسيان والسهو فوق النوم ؟ والحال أن نوم النبي ويقظته واحد، نوم الإمام ويقظته واحد .
إتفق الفريقان على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)كانت تنام عينه ولا ينام قلبه، هذا الحديث في سنن الدارمي وفي صحيح الترمذي على ما رأيت في معجم ألفاظ الحديث النبوي( سنن الترمذي 2/302 رقم 439 )، وهذا المعنى أيضاً وارد في حق أئمّتنا سلام الله عليهم بلا فرق، ففي عدّة من الكتب للشيخ الصدوق في علامات الإمام (عليه السلام)، قال (عليه السلام) : « تنام عينه ولا ينام قلبه »( رواه الشيخ الصدوق القمي في الخصال : 527 رقم 1 و428 رقم 5، ومعاني الأخبار : 102 رقم 4، وعيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1/212 )
وهل السهو والخطأ فوق النوم، الذي في نومه أيضاً يقظان، الذي في حال نومه قلبه غير نائم ، كيف يحتمل في حقه أن يكون في يقظته ساهياً خطئان مشتبهاً أحياناً ؟
أضف إلى ذلك، ألم نقرأ عن أمير المؤمنين سلام الله عليه في الخطبة القاصعة : إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)كان معه ملك أوكله الله سبحانه وتعالى في جميع أدوار حياة رسول الله يسدّده (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ ونفس هذا المعنى موجود في حق أمير المؤمنين سلام الله عليه، قال رسول الله ـ وقد ضرب بيده على صدر علي ـ : « اللهم اهدِ قلبه وسدّد لسانه » . رواه صاحب الاستيعاب وغيره(الاستيعاب 3/1100 . دار الجيل ) .
بل العجيب، أن أهل السنة أنفسهم يروون عن أبي هريرة أنه قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إني سمعت منك حديثاً كثيراً فأنساه [ فإذا كان الحديث كثيراً، الإنسان ينسى ] فقال رسول الله : « ابسط رداءك » فبسطته، فغرف بيديه فيه، ثم قال : « اضممه » فضممته، فما نسيت حديثاً بعده فكل ما يروى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)بواسطة أبي هريرة يكون حقاً عن رسول الله !! وهذا ما يرويه محمد بن سعد في الطبقات(طبقات ابن سعد 2/362 )ويرويه أيضاً الذهبي في سير أعلام النبلاء(سير أعلام النبلاء 2/595)ويرويه الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري(فتح الباري 1/174) ويوجد في غير هذه الكتب، فهل من عاقل مسلم يشك في ثبوت هذه الحالة لرسول الله ولعلي وللأئمة الأطهار ؟! .
ثم إن عليّاً (عليه السلام) يقول : « وإني لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم، سيماهم سيما الصدّيقين، وكلامهم كلام الأبرار، عمّار الليل ومنار النهار، مستمسكون بحبل الله، يحيون سنن الله وسنن رسوله ، لا يستكبرون ولا يغلون ولا يفسدون، قلوبهم [ لاحظوا هذه الكلمة بعد الكلمات السابقة، وكل كلمة تدل على مقام ] في الجنان وأجسادهم في العمل »( نهج البلاغة 2/184 شرح محمد عبده ) وإني لمن قوم [ فمن قومه ؟ لابدْ الأئمة الأطهار من ذريته ]قلوبهم في الجنان وأجسادهم في العمل، ومن كان قلبه في الجنة وهو في هذا العالم، أتراه يشك، أتراه يسهو، أتراه يلهو، أتراه ينسى .
هذا بالنسبة إلى أمير المؤمنين سلام الله عليه .
عصمة الأئمة (عليهم السلام) :
وبالنسبة إلى جميع الأئمة، لاحظوا هذه الرواية في الكافي يقول (عليه السلام) : « إن الله خلقنا فأحسن خلقنا، وصوّرنا فأحسن صورنا، وجعلنا عينه في عباده، ولسانه الناطق في خلقه، ويده المبسوطة على عباده بالرأفة والرحمة، ووجهه الذي يؤتى منه، وبابه الذي يدل عليه، وخزّانه في سمائه وأرضه، بنا أثمرت الأشجار وأينعت الثمار وجرت الأنهار، وبنا ينزل غيث السماء ونبت عشب الأرض ، وبعبادتنا عبد الله، ولولا نحن ما عبدالله »(الكافي 1/144 رقم 5 و193 رقم 6).فمن يكون عين الله في عباده ولسانه الناطق في خلقه ويده المبسوطة على عباده، يشتبه ويسهو وينسى ؟!
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة : « ولولا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه، لذكر ذاكر فضائل جمّة تعرفها قلوب المؤمنين، ولا تمجّها آذان السامعين، فدع عنك من مالت به الرمية ، فإنّا صنايع ربّنا والناس بعد صنايع لنا »(نهج البلاغة 3/35 ـ 36 .
) .
وعليكم بمراجعة ما قاله ابن أبي الحديد في شرح هذه الكلمة ، وما أجلّها وأعلاها من كلمة، إنه فهم مغزى هذا الكلام(شرح نهج البلاغة 15/181).
تأويل ما ينافي العصمة في الكتاب والسنة :
وحينئذ، لابد من تأويل كلّ ما يخالف هذه القاعدة العقلية المستندة إلى الكتاب والسنّة والإجماع، كلما يخالف هذه القاعدة في القرآن الكريم بالنسبة إلى أنبياء الله سبحانه وتعالى، وكذلك الأمر في كل آية في القرآن هناك أدلة قطعية على خلاف ظاهرها من العقل أو النقل، لابد من تأويل ظاهر تلك الكلمة، وإلاّ فالآيات الدالة بظاهرها على التجسيم ـ مثلاً ـ موجودة في القرآن الكريم .
اذن، لابد من حمل كلّ ما يخالف بظاهره عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، لاحظوا عبارة السيد المرتضى رحمه الله في كتاب الذخيرة يقول : ولا يجوز أن يبعث من يوجب علينا اتّباعه وتصديقه وهو على صفة تنفّر عنهم، وقد جنّب الأنبياء (عليهم السلام)الفظاظة والغظلة والغلظة الشنيعة وكثيراً من الأمراض، لأجل التنفير ( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) .
لماذا الله سبحانه وتعالى يمدح نبيّه بأنه ليس فظّاً غليظ القلب ؟ لأن هذه الحالة تنفّر الناس، لانفضّوا من حولك، فإذا كان ساهياً، كان ناسياً، أو كان لاهياً وغير ذلك، لانفضّوا من حوله .
يقول (رحمه الله) : وقد تكلّمنا على الآيات التي يتعلق بها المبطلون في جواز المعاصي من الأنبياء، وبيّنا الصحيح في تأويلها في كتابنا المفرد تنزيه الأنبياء والأئمة(الذخيرة في علم الكلام : 338 .
) .
نعم، لابد من تأويل كلّ ما جاء مخالفاً بظاهره لما قرّره العقل والعلم وأجمع عليه العلماء مع الشيخ الصدوق في مسألة سهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) :
إن علماءنا رحمهم الله لم يوافقوا الشيخ الصدوق(من لا يحضره الفقيه 1/234 ) (رحمه الله)
الذي ذهب تبعاً لشيخه في مسألة سهو النبي إلى مذهب لم يوافقه عليه من أكابر الطائفة أحد، لا من قبله ولا من بعده، إنه استند إلى رواية ذي الشمالين، أما سائر علمائنا فقد أخذوا بالرواية القائلة بأن رسول الله لم يسجد سجدتي السهو قط، وكيف يسهو ويسجد سجدتي السهو من كان قلبه في الجنان وجسده في العمل كما عبّر الإمام أمير المؤمنين ؟
بل يقول الشيخ الطوسي رحمه الله في كتاب التهذيب : إن ما اشتمل عليه حديث ذو الشمالين من سهو النبي تمتنع العقول منه(التهذيب 2/181 ).
وفي الاستبصار يقول : ذلك مما تمنع من الأدلة القاطعة في أنه لا يجوز عليه السهو والغلط( الاستبصار 1/371 / ذيل ح6 ) .
وإنّا نستميح الشيخ الصدوق عذراً فيما إذا أردنا أنْ نقول له : أنت الذي سهوت، وإن نسبة السهو إلى الشيخ الصدوق في هذا القول أولى من نسبة السهو إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، نظير ما قاله الفخر الرازي في تفسيره فيما روي في الصحيحين وغيرهما من أن إبراهيم (عليه السلام)كذب ثلاث كذبات، قال الفخر الرازي : نسبة الكذب إلى الراوي أولى من نسبة الكذب إلى إبراهيم(التفسير الكبير 22/185، وفيه : فلأن يضاف الكذب إلى رواته أولى من أن يضاف إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ) .
وأيضاً، نرى أهل السنّة يضطربون أمام حديث الغرانيق وتتضارب كلماتهم بشدّة، ويتحيّرون ماذا يقولون، لأن حديث الغرانيق يدل على جواز السهو على الأنبياء بصراحة، وهذا ما نصّ عليه بعض المفسرين كأبي السعود العمادي في تفسير سورة الحج( تفسير أبي السعود 6 / 114 .
)، وتحيّروا ماذا يفعلون، لأن طرق هذا الحديث بعضها صحيح، ودافع عن صحته ابن حجر العسقلاني وغيره(فتح الباري بشرح البخاري 8 / 355 .
)، لكن الحافظ القاضي عياض صاحب كتاب الشفاء في حقوق المصطفى(الشفاء بتعريف حقوق المصطفى 2 / 118، فتح الباري 8 / 355 ) وأيضاً القاضي ابن العربي المالكي(فتح الباري بشرح البخاري 8 / 355 .
) وأيضاً الفخر الرازي(تفسير الرازي 23 / 50)، هؤلاء يكذّبون هذا الحديث على صحته سنداً عندهم، لأنه يصادم الأدلة القطعية من العقل والنقل .
لاحظوا عبارة القاضي عياض في كتاب الشفاء يقول : لا شك في إدخال بعض شياطين الإنس والجن هذا الحديث على بعض مغفلّي المحدّثين ليلبّس به على ضعفاء المسلمين .
وهذا الكلام يفتح لنا باباً واسعاً يفيدنا في مباحث كثيرة، ولذلك يأبى مثل العسقلاني أن يقبل هذا التصريح من القاضي عياض ولا يوافق عليه .العودة إلى بحث عصمة الأئمة (عليهم السلام) :
والآن نعود الى بحثنا عن عصمة الأئمة من أهل البيت
سلام الله عليهم، وقد رأينا أن جميع ما يدل على عصمة رسول الله يدل على عصمة الائمة الأطهار، وكلّ دليل يدل على وجوب الإنقياد والطاعة له يدل على وجوب الإطاعة للأئمة، وأمثال هذه الأدلة تدل على عصمة أئمتنا حتى من السهو والنسيان والخطأ والغلط، كما بينّا : إن كل الأدلة الدالة على إمامة أئمتنا، وأنهم القائمون مقام نبيّنا، وأنهم الذين يملؤون الفراغ الحاصل من رحيله عن هذه الدنيا ، كل تلك الأدلة تدل على أنهم معصومون حتى من الخطأ والنسيان .
وأما الأحاديث الواردة في هذا الباب فكثيرة، ألا ترون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : « من أطاعني فقد أطاع الله ومَن عصاني فقد عصى الله، ومَن أطاع عليّاً فقد أطاعني ومن عصى عليّاً فقد عصاني »، هذا الحديث أورده الحاكم في المستدرك وصحّحه ووافقه الذهبي في تلخيص المستدرك( المستدرك على الصحيحين 3/121 ) . وإذا كانت طاعة الله وطاعة الرسول وطاعة علي واحدة، فهل من معصية أو سهو أو خطأ يتصوَّر في رسول الله وعلي والأئمة الأطهار ؟
كما أنكم لو راجعتم التفاسير لوجدتم تصريحهم بدلالة قوله تعالى : ( أطِيعُوا اللهَ وَأَطِيُعوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ )على العصمة، لكنهم لا يريدون أن يعترفوا بأن أُولي الأمر هم الائمة من أهل البيت، فإذا ثبت أن المراد من اُولي الأمر في الآية هم أئمة أهل البيت بالأدلة المتقنة القطعية المقبولة عند الطرفين، فلابد وأنْ تدل الآية على عصمة أئمتنا .
لكن الفخر الرازي لا يريد أنْ يعترف بهذه الحقيقة، إنه يقول بدلالة الآية على العصمة لكن يقول بأن المراد من أولي الأمر هم الأمة( التفسير الكبير 10/144 .
)، أي الأُمة تطيع الأُمة ! أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، أطيعوا الله أيّها الأُمّة، أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أنفسكم، الأُمة تكون مطيعة للأُمة، وهل لهذا معنى ؟ إنه مما تضحك منه الثكلى . ومن الطبيعي أنْ يتّبع مثل ابن تيمية الفخر الرازي في هذه الآية المباركة، هذا واضح، وهذا ديدنهم مع كل دليل يريدون أن يصرفوه عن الدلالة على إمامة أئمتنا وعصمتهم .
يقول ابن تيمية : لا نسلّم أن الحاجة داعية إلى نصب إمام معصوم، لأن عصمة الأُمة مغنية عن عصمته(منهاج السنّة 3 / 173، 270 ) .
وكأنّ ابن تيمية لا يدري بأن أكثر صحابة رسول الله سيذادون عن الحوض، وما أكثر الفتن، وما أكثر الفساد، وما أكثر الويلات والظلم الواقع في هذه الأُمة، وأين عصمة الأُمة ؟
وإني لأكتفي الآن بذكر حديث أو حديثين، لأن الوقت لا يسع أكثر من ذلك .
دلالة حديث السفينة على عصمة الأئمة (عليهم السلام) :
مما يدل على إمامة أئمتنا وعصمتهم بالمعنى الذي يقول به
علماؤنا وعليه مذهبنا حديث السفينة : « مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك » .
والآيات التي قرئت في أول المجلس تنطبق تماماً على واقع حالنا، وحديث السفينة الوارد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ينطبق تماماً على قضية نوح وابنه وما حدث في تلك الواقعة، ولو أردت أنْ أوضّح هذا الانطباق لطال بنا المجلس، فتأمّلوا .
أما حديث السفينة، فمن رواته :
1 ـ محمد بن إدريس، إمام الشافعية .
2 ـ أحمد بن حنبل، إمام الحنابلة( رواه غير واحد منهم عنه، منهم صاحب المشكاة قال رواه أحمد .
قال الألباني في هامشه : كذا في الأُصول، والمراد به عند الاطلاق مسنده، وليس الحديث فيه .
قلت فهل هذا سهو من صاحب المشكاة أو إسقاط من المسند ؟ .
) .
3 ـ مسلم بن الحجّاج(طبعاً هذا الحديث غير موجود في صحيح مسلم إلاّ أننا ننقله من كتاب البراهين القاطعة في ترجمة الصواعق المحرقة، وهو كتاب فارسي ترجم فيه مؤلّفه الصواعق المحرقة قبل قرون، وهناك تصريح بأن الحديث في صحيح مسلم، والعهدة عليه، إلاّ أنه غير موجود الآن في صحيح مسلم ) .
4 ـ أبو بكر البزّار .
5 ـ أبو يعلى الموصلي .
ـ أبو جعفر الطبري .
7 ـ أبو القاسم الطبراني .
8 ـ الحاكم النيسابوري .
9 ـ ابن عبد البر .
10 ـ الخطيب البغدادي .
11 ـ أبو الحسن الواحدي .
12 ـ الفخر الرازي .
13 ـ ابن الأثير .
14 ـ نظام الدين النيسابوري .
15 ـ ابن حجر العسقلاني .
16 ـ الخطيب التبريزي .
17 ـ نور الدين الهيثمي .
18 ـ السيوطي، في غير واحد من كتبه .
19 ـ ابن حجر المكي، في الصواعق .
20 ـ المتقي الهندي، في كنز العمال .
21 ـ القاري، في المرقاة .
22 ـ الزبيدي، في تاج العروس .
23 ـ الآلوسي، في تفسيره .
وكثيرون غيرهم يروون حديث السفينة وينصّون على صحة بعض أسانيده( مستدرك الحاكم 2/343 و3/151، تاريخ بغداد 12/91 رقم 6507، المطالب العالية 4/75، مجمع الزوائد 9/168، الصواعق المحرقة : 352، مشكاة المصابيح 3 / 1742، المعارف : 86، عيون الأخبار 1 / 211، لابن قتيبة، المعجم الكبير للطبراني 3 / 37، برقم 2636 و2637 و2638، 12 / 34 برقم 12388، المعجم الصغير للطبراني 1 / 139، 2 / 22، السيرة النبوية للملاّ 2 / 234، ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى : 20، لسان العرب . مادة : زخ، تفسير النيسابوري 25 / 28، الدر المنثور في التفسير بالمأثور 3 / 334، كنز العمال 12 / 34151، 34170 .
) .
وأما في كتبنا فرواياته كثيرة كذلك .
ولو أردنا أن نفهم مغزى هذا الحديث، فإن هذا الحديث تشبيه لأهل البيت بسفينة نوح « من ركبها [ واضح أن معنى « من ركبها » يعني الكون مع أهل البيت، من كان مع أهل البيت، من اقتدى بأهل البيت، من تبع أهل البيت ]نجى، ومن تخلّف عنها [ كائناً من كان، سواء كان منكراً لإمامة جميع الأئمة، أو منكراً حتى لواحد منهم ]هلك، ولا فرق حتّى لو كان المتخلِّف ابن رسول الله كابن نوح، ولو أن رسول الله نادى : « يا ربّ أصحابي أصحابي » يجاب : « إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك »، كما يقول نوح : يا رب ابني، فيأتي الجواب : ( إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ )فتدور قضية النجاة من الهلكات مدار الكون مع أهل البيت، وأهل البيت وسيلة النجاة، وكل فعل من أفعالهم وكل حال من أحوالهم حجة، وهم القدوة والأُسوة في جميع الأحوال .
ولو أردنا أنْ نذكر عبارات من بعض شرّاح هذا الحديث الصريحة في هذا المعنى لطال بنا المجلس أيضاً .
دلالة حديث الثقلين على عصمة الأئمة (عليهم السلام) :
ومن الأدلّة القاطعة الدالّة على عصمة أئمتنا بالمعنى الذي
نذهب إليه، وليس فيه أيّ مجال للبحث والنقاش : حديث الثقلين، فإن رسول الله قرن العترة بالقرآن ـ وجعلهما معاً الوسيلة للهداية، وأنهما لن يفترقا ـ بـ « لن » التأبيدية حتى يردا عليه الحوض، قال : « فانظروا بما تخلفوني فيهما »، فكما أن القرآن الكريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كما نص القرآن نفسه، كذلك أهل البيت لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم، هؤلاء كلّهم ـ أي الأئمة سلام الله عليهم ـ عين الله ويده ولسانه وإلى آخره كما في تلك الرواية التي قرأتها
ولا بأس بأن أقرأ لكم عناوين ما جاء في كتاب الكافي :
باب : في فرض طاعة الأئمة .
باب : في أن الأئمة شهداء الله على خلقه .
باب : في أن الأئمة هم الهداة .
باب : في أن الأئمة ولاة أمر الله وخزنة علمه .
باب : في أن الأئمة خلفاء الله عزوجل في أرضه وأبوابه التي منها يؤتى .
باب : في أن الأئمة نور الله عزوجل .
باب : في أن الأئمة هم أركان الأرض .
باب : في أن الأئمة هم الراسخون في العلم .
باب : في أن الأئمة معدن العلم وشجرة النبوة ومختلف الملائكة .
باب : في أن الأئمة محدّثون مفهّمون .
باب : في أن الائمة لم يفعلوا شيئاً ولا يفعلون إلاّ بعهد عن الله وأمر منه لا يتجاوزون .
العصمة لا تستلزم الغلوّ :
ولا يتوهمنَّ أحدٌ أنّ في هذه الأبواب غلوّاً بحق الأئمة سلام الله عليهم، وإني لأرى ضرورة التأكيد على هذه النقطة، قولنا بأن الأئمة معصومون حتى من السهو والخطأ، والنسيان، هذا ليس غلوّاً في حقهم، إنّهم سلام الله عليهم يبغضون الغالي ويكرهون الغلو ، إنه قد ورد عنهم سلام الله عليهم : « إحذروا على شبابكم الغلاة لا يفسدوهم، فإن الغلاة شرّ خلق الله، يصغّرون عظمة الله، ويدّعون الربوبية لعباد الله، وإن الغلاة لشرّ من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا »( كتاب الأمالي للشيخ أبي جعفر الطوسي) .
ومعنى الغلوّ في الروايات وكلمات العلماء معروف، ولا بأس أن أقرأ لكم هذه الكلمة ولو طال المجلس، لأنّي أرى ضرورة قراءة هذا النص .
يقول الشيخ المجلسي رحمه الله : إعلم أن الغلو في النبي والأئمة (عليهم السلام) إنما يكون بالقول بأُلوهيّتهم، أو بكونهم شركاء لله تعالى في العبودية والخلق والرزق، وأن الله تعالى حلّ فيهم أو اتحد بهم، أو أنّهم يعلمون الغيب بغير وحي وإلهام من الله تعالى، أو بالقول في الأئمة أنهم كانوا أنبياء، والقول بتناسخ أرواح بعضهم إلى بعض، أو القول بأن معرفتهم تغني عن جميع التكاليف، والقول بكلّ هذا إلحاد وكفر وخروج عن الدين، كما دلّت عليه الأدلة العقلية والآيات والأخبار السالفة وغيرها، وقد عرفت أن الأئمة تبرّؤوا منهم وحكموا بكفرهم ـ أي الغلاة ـ وأمروا بقتلهم . قال (رحمه الله) : ولكن أفرط بعض المتكلّمين والمحدّثين في الغلو، لقصورهم عن معرفة الأئمة وعجزهم عن إدراك غرائب أحوالهم وعجائب شؤونهم، فقدحوا في كثير من الرواة الثقات لنقلهم بعض غرائب المعجزات حتى قال بعضهم : من الغلو نفي السهو عنهم، أو القول بأنهم يعلمون ما كان وما يكون وغير ذلك .
قال (رحمه الله) : فلابد للمؤمن المتدين أنْ لا يبادر بردّ ما ورد عنهم من فضائلهم ومعجزاتهم ومعالي أُمورهم، إلاّ إذا ثبت خلافه بضرورة الدين أو بقواطع البراهين أو بالآيات المحكمة أو بالأخبار المتواترة(بحار الانوار 25/346 ـ 347) .
إذن، لابد من التأمل دائماً في العقائد، إنهم كما يكرهون التقصير في حقهم يكرهون أيضاً الغلو في حقهم، إلاّ أنّه لابد من التريّث عند كلّ عقيدة، فلا يرمى القائل بشيء من فضائل أهل البيت بالغلو، وتلك منازل شاءها الله سبحانه وتعالى لهم .
وقد أطلت عليكم في هذه الليلة، لكنّ البحث كان مهمّاً جداً، كان متشعّب الأطراف، فيه جهات عديدة، كان من الضروري الإلمام ببعض تلك الأطراف والجهات،