القصة واقعية (رواها والد الاستشهادي علي أشمر)
.. كانت عائدة من المدرسة، تتمشّى على الدرب الترابيّ بإستئناس، فالشمس قد فرشت منديلها على امتداد القرية المحتلة التي اشتهت أصابع الدفء بعد موسم شتوي شديد البرودة، وهذا هو آخر يوم من أيام الشتاء. «وجميلة» عاشقة كل الفصول، أحبّت أن تودّع الغيمات، وترصد الخطى الأولى للربيع الآتي عليهم.
ها هي كثيرة الفرح، لا تأبه لعيون المترصّدين خطى الصغار والكبار في القرية، بلا حذر تنحني تارة لتلتقط زهرات النرجس البيضاء وتارة أخرى تبحث عن غصون الصعتر الأخضر لتحملها معها إلى البيت. وفيما هي تنقّب إحدى النباتات التي وجدتها، يصل إلى مسمعها صوت شاب يسألها:
لو سمحتِ يا عمّو وين صارت العديسة؟
رفعت رأسها، فبدا أمامها شاب في غاية الجمال.. ردّت عليه قائلة:
هيدي العديسة.
الشاب: شكراً.
ثم أكمل طريقه باتجاه مفترق عادة لا يسلكه الناس في القرية، فهو يؤدي إلى نقطة عبور للصهاينة.
استغربت «جميلة» أمر الشاب وقالت له بشدة: «لوين رايح.. هلاء (بأوسو عليك).. ارجع.. ارجع..».
التفت الشاب نحوها وقال: «ما تخافي أنا بعرف لوين رايح.. عجلي أنتِ روحي عالبيت».
الفتاة لا تتجاوز الثانية عشرة من عمرها، ولدت في قريتها «رب ثلاثين» والزمن احتلال. وكل الصباحات يحدّها الدخان، والقنابل، ولؤم الدوريات الصهيونية، وغدر اللحديين في الحقول، وعند حواجز المرور، وفي مداهماتهم المضجرة، وقهرهم المشين في غرف التحقيق، وعذابات وعذابات، تطول القائمة ولا تُحصى.
منها ما قد رأتها بعينها، ومنها ما تسمعه من أهلها وجيرانها الصامدين في القرية.
ومثلما وعت «جميلة» على الاحتلال، فقد وعت أيضاً أن في القرية ودياناً ومغاور هي مسكن القوافل التي نزحت من بيوتها ومن بين أُسَرِها عن عشقٍ ومعرفة بأن الأرض جوهرة والعدو صهيوني وحاقد، ولا نصر أو تحرير إلاّ بمقاومة.
وهج الشمس يقوى «وجميلة» قد انشغل بالها بالشاب العابر إلى أرضٍ مزروعة بعيون اللحديين وملالات الصهاينة. وفيما هي تتابع المسير، يدوّي صوت انفجار عنيف يتردد صداه في الأودية كالزلزال. لقد اختلج قلبها وسكنتها رهبة من ذاك الصوت الذي تحاول أن تتفحص من أين يأتي قبل أن تصل إلى البيت.
ها هي أمام بوابة المنزل تنده عليها أمها: «جميلة وين بَعْدك اطلعي، مش سامعة شو عم بصير؟».
وتدخل فيما الجميع يراقب من على الشرفة يحاول معرفة الأمر، فالصوت يبدو أنه من مكان قريب جداً. وهذه طرقات «رب ثلاثين» تضج بحركة غير عادية. دوريات صهيونية تملأ المكان، واللحديون ينفذون طوقاً حول كل المنافذ المؤدية إلى الضيعة.
وإن هي إلا ساعات ويأتي النبأ عبر بيانٍ للمقاومة الإسلامية: «شاب في العشرين من عمره، يقتحم بجسده الملتف بالمتفجرات قافلة صهيونية على طريق العديسة رب ثلاثين، مُحْدثاً صدمة أمنية وبشرية في أوساط الكيان الصهيوني.
العملية الاستشهادية هي الأولى من نوعها، والشاب من بلدة «العديسة» اسمه علي منيف أشمر».
أطلقت «جميلة» شهقة عالية فقد هزّها الخبر. ها هي تبكي، ترتجف...
إنه هو.. الشاب القمر. صاحب المحيّا الذي تُزهر فيه حقول من الدفلى، والكفّين المشغولتين من نعناعٍ وحبق.
إنه هو..
حكت لأهلها كيف استوقفها وسألها عن العديسة، ثم غادر. (بين العديسة ورب ثلاثين مسافة قصيرة جداً).
غاب ليسكن فيها فصوت الانفجار يلازمها كظلها، لم تعد تستطيع أن تكون «جميلة» كما كانت قبل يوم الانفجار. كأن العُمر كُتب لها نصفين، قبل الصوت وبعده.
صحيح أنها كانت في الأصل تواظب على انحناءة عند كفّ أمها واحترام لهمس والدها ولا تستهين بالواجبات الدينية، وقد اتقنت على صغرٍ كيف تتظلل بخجل البنات، كيف تتبسّم وكيف تتكلم. ثم أصبحت بعد سماعها الانفجار تشعر بأن القرية ليست محتلة. فلقد تحسست الحرية والعزة والكرامة من صُنع «علي». وباتت تدرك أن المقاومين ليسوا مجهولين، فإن كل من له هدوء «علي» هو حتماً في القافلة.
وتبصُّر هكذا حقيقة ليس بحاجة إلى مسافة زمنية لا سنين ولا شهوراً ولا حتى أياماً. هي ومضة تخترق بيت النفس في لحظة غامرة.
لم تنمْ «جميلة» في تلك الليلة، ظلّت تسهر مع حادثتها المنعطف، وتستحضر كل همسةٍ من «علي» وكل لفتة.
صغيرة هي «جميلة» على تحليل أبعاد ودلالات العمل الاستشهادي الذي نفّذه «عليّ»، لكن الصغيرة في لحظة ما.. أصبحت مهيأة لذاك الحشد من الضوء الذي هبط عليها في دويّ انفجار.. وفي نهار وليلة.
كان المطلوب فقط أثر لعليّ، لكي تأوي إليه «جميلة» وتبوح بما قد تفجّر في داخلها من تجليّات.. مثل أنها تودّ أن تتحرر سريعاً من ألوان الدنيا.. ومثل أنها تريد أن تعرف كيف تحبّ الله في كل يومٍ أكثر.
السكون في داخلها يكبر ويتسع والأماني من حولها تتحقق دون أن تشعر.
لقد عادت «جميلة» من مركز التحقيق، حيث اقتادوها بعد أن وصلهم كلام بأن شخصاً كان يحادثها على الطريق قبل العملية الاستشهادية.. ساعات في الحجز ثم أفرجوا عنها، بعد أن قوّاها الله.. وغلبتهم بصمتها.. عادت لتجد ضريحاً «لعليّ» على مقربة من منزلهم. (حيث نقطة حصول العملية الاستشهادية).
فلقد سُمح لأحد رجال الدين في «رب ثلاثين» بعد مداولات عدة، بأن يجمع أشلاء عليّ الاستشهادي ليصلي عليها ويدفنها، فيكون له ضريح.
أول ضمة ورد في حياتها هي لعلي.
أول شمعة تضيئها، عند ضريح.
في كل ليلة جمعة تلتفّ بوشاح الغروب، وتمضي إليه تهديه ما تخبئه بين راحتيها ثم تقرأ القرآن.. تناجي.. وتذرف دمعاً وردياً على شاب جاء ليسألها عن مكان تفجّر دمه.
كل البنات تكبر على حلمٍ ليس كحلم جميلة، هي لا تريد في حياتها سوى أن تطمئن على عمرها أنه ينقضي في عبور حبيب إلى الله..
سنة بعد سنة وضريح «علي» هو محرابها تهمس له من فوق التراب: «كيف الوصول كما وصلت»؟
سنة بعد سنة وضريح «عليّ» هو بستانها تبلّه بالماء وتلفّه بالورد.
أربع سنوات، ويظل يتوهّج في بالها هذا الموّال الذي شاء المولى عزَّ وجلَّ وسواعد الكرام الكرام أن لا يضل يتيمها، وأن لا تبقى تتخفّى وهي تجيء إليه.
فقد أزهر الدم. وتجمعت أشلاء الجسد الطهور ودوّى الانفجار عرساً ليس له نهاية.
إنه العام 2000 أيار التحرير والانتصار.. ها هو الحاج أبو عصام والد الاستشهادي «عليّ» ومعه كل العائلة وكل الأحبة.. قادمون.. وأصابعهم فوق الضريح تستحيل شموعاً.. والشموع هي عيونهم المشتاقة إلى عينيه.
وها هي «جميلة» عند الضريح قبل وصولهم.. تغسله، ترشه بالعطر.. تهندمه، كأنما حبيب سيلاقي حبيبه.
إنه وقت الظهيرة ويجيئون.. الدموع تتلاقى بالدموع، والتنهّدات تعانق تكبيرات العزّ والكرامة.. هنا تشظى الجسد الأخضر
وتفجّر التراب ريحاناً ساعة لامس دمه وعبر.. وهنا دَوَّى انفجار ليكتب حكاية لفتاةٍ هي «جميلة».. أقبلت نحوهم.. تخبرهم..
وبعد..
صارت ليلة الجُمعة هي ليلة أُنسٍ وجَمعة..
الورد والشموع ودعاء كميل.. وتلاوة القرآن.. مرّت سنوات ست والمشهد عند الضريح لم يتغيّر.
فالمسألة بالنسبة لوالد «علي» هي أُمنية، وأما بالنسبة إلى «جميلة»، فهي الباب الذي من خلاله سوف تعبر إلى النور الأعظم.
في كل ليلة جُمعة في يدها وردة وشمعة.. وفي عينيها صلوات خافتة وابتسامة ودمعة. مع كل زيارة للضريح إشراقة.. ومع كل إشراقة جذبة من ناحية السماء.
هذي «جميلة» قد أصبحت خالصة في عين الله.. أمس، كان شهر رمضان المبارك.. وكانت الأيام الأولى التي تلت ليالي القدر المباركة..
أنهت الصبية إفطارها. ثم قامت للوقت المحبب لديها: الصلاة والدعاء.. ثم غفت عيناها على كثير من الأمان، فحلّقت روحها في غابات الضوء، لتلتقي بقمر الاستشهاديين «علي».. إذ يأتيها في الرؤيا يمدّ يده نحوها ويقول لها: «تعالي يا جميلة».
فتتبسّم «جميلة» وتخبره بأن يُمهلها لكي تذهب وتخبر رفيقتها لكي تأتي معها..
أيام ثلاثة.. وفي منزل أهل «جميلة» تلاوة من القرآن، وثياب سود ومعزّون.. وصور هناك وهناك «لجميلة» قد لُفّت بالشارات السوداء.
لقد ماتت جميلة هي ورفيقتها، بعد أيام ثلاثة فقط من الرؤيا.. إثر حادث سير عند نزلة «رب ثلاثين».
وأصبحت جارة الضريح تنام جنبه في ضريحٍ مثله.
فلقد كتبت «جميلة» وصية تقول فيها: «إذا متُّ اجعلوا ضريحي جنب ضريح عليّ».
ليس من السهل علي ان اقرا مثل هذه القصة ...
ولقد تأثرت جدا ولم استطع إخفاء الدموع ,فهنيئا لهما الشهادة والفوز بالخلود الابدي ...
اختى ام الجواد سلمت يمينك وبارك الله فيك .
السائرون الى الله لا يخطئون الطريق - تجاب دعواتهم تتحقق أمانيهم وتختم عواقبهم بخير
علي أشمر كان من الفاتحين الأوائل والمؤسسين لقوائم كرماء هذا العصر ( الشهداء ) فالجود بالنفس غاية الجود
فكيف اذا كان هذا الجود لوجه الله ونصرة لله وفتكا بعدو الله ومن أجل حريه أهله وأرضه والحفاظ على دينه وكل المكتسبات التي تحققت
لجيله المجاهد الذي أصبح فيما بعد مثلا يحتذى به ومدعاة للفخر لنا جميعا - لقد رسم لهم الطريق فتبعه السالكون الى الله بالآلاف
أما جميله فهي الأخرى ذابت في حب الله وسارت اليه بكل وعي وبصيرة وأختارت المكان المناسب لمناجاة
خالقها بارئها ومعبودها من خلال تواجدها بالقرب من المكان الذي ضم رفات الشهيد الذي سبق وأن مر بها وأنار لها طريق الحق والحرية والكرامة طريق الأولياء والصالحين -
ومن شدة عشقها لكل ما يقربها من الله وأخلاصها اليه - فاضت روحها الطاهرة لتلتقى مع ارواح الشهداء والصادقين والمخلصين
وأوصت أن يدفن جسدها بالقرب من رفات الشهيد لتبعث معه من جديد -
اللهم أرحمهما برحمتك وأحسن أليهما يا خير المحسنين وأسكنهما فسيح جناتك وأقربها غرفا من أحبائك محمد وآل محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين -----
قصة واقعية غايه في الروعة والسبك كان لها تأثيرها المباشر بنفسي فكتبت تلك الكلمات المتواضعة أهديهما الى روح الشهيد السعيد علي أشمر و العابدة الطاهرة جميلة أحباء الله وأودائه رحمة الله عليهما ------ ابو يوسف التميمي