واقصد بالامة المجموعة من المسلمين الذين كانوا يؤمنون برسالته ويعتقدون بنبوته واقصد بالمجتمع تلك المجموعة من الناس التي كانت تمارس حياتها على اساس تلك الرسالة وتنشئ علاقاتها على اساس التنظيم المقرر لهذه الرسالة واقصد بالدولة القيادة التي كانت تتولى، تزعم التجربة في ذلك المجتمع، والاشتغال على تطبيق الاسلام وحمايته مما يهدده من أخطار وانحراف.
الانحراف الذي حصل يوم السقيفة، كان أول ما كان في كيان الدولة، لأن القيادة كانت قد اتخذت طريقاً غير طريقها الطبيعي، وقلنا بأن هذا الانحراف الذي حصل يوم السقيفة، في زعامة التجربة أي الدولة، كان من الطبيعي في منطق الاحداث ان ينمو ويتسع، حتى يحيط بالتجربة نفسها، فتنهار الزعامة التي تشرف على تطبيق الاسلام.
هذه الزعامة باعتبار انحرافها، وعدم كونها قادرة على تحمل المسؤولية، تنهار في حياتها العسكرية والسياسية، وحينما تنهار الدولة، حينما تنهار زعامة التجربة ينهار تبعاً لذلك المجتمع الاسلامي، لانه يتقوم بالعلاقات التي تنشأ
{ 58 }
على أساس الاسلام، فاذا لم تبق زعامة التجربة لترعى هذه العلاقات وتحمي وتقنن قوانين لهذه العلاقات، فلا محالة ستتفتت هذه العلاقات، وتتبدل بعلاقات اُخرى قائمة على أساس آخر غير الاسلام، وهذا معناه زوال المجتمع الاسلامي.
تبقى الامة بعد هذا وهي أبطأ العناصر الثلاثة تصدعاً وزوالاً، بعد ان زالت الدولة الشرعية الصحيحة، وزال المجتمع الاسلامي الصحيح، تبقى الامة، الا ان هذه ايضاً من المحتوم عليها ان تتفتت، وان تنهار، وان تنصهر ببوتقة الغزو الكافر، الذي اطاح بدولتها ومجتمعها. لأن الامة التي عاشت الاسلام زمناً قصيراً، لم تستطع ان تستوعب من الاسلام ما يحصنها، ما يحدد ابعادها ما يقويها، ما يعطيها اصالتها وشخصيتها وروحها العامة وقدرتها على الاجتماع على مقاومة التميع والتسيب والانصهار في البوتقات الاخرى.
هذه الامة بحكم ان الانحراف قصّر عمر التجربة، وبحكم ان الانحراف زوّر معالم الاسلام، بحكم هذين السببين الكمي والكيفي، الأمة غير مستوعبة، الامة تتحصّن بالطاقات التي تمنعها وتحفظها عن الانهيار امام الكافرين وامام ثقافات الكافرين، فتتنازل بالتدريج، عن عقيدتها عن آدابها، عن اهدافها وعن أحكامها، ويخرج الناس من دين اللّه افواجاً، وهذا ما أشارت اليه رواية عن احد الأئمة (ع) يقول فيها بأن أول ما يتعطل من الاسلام هو الحكم بما انزل اللّه سبحانه وتعالى، وآخر ما يتعطل من الاسلام هو الصلاة، هذا هو تعبير بسيط عما قلناه من ان اول ما يتعطل هو الحكم بما انزل اللّه أي ان الزعامة والقيادة للدولة تنحرف، وبانحرافها سوف يتعطل الحكم بما انزل اللّه. وهذا الخط ينتهي حتماً الى أن تتعطل الصلاة، يعني الى تمييع الامة، تعطل الصلاة هو مرحلة ان الامة تتعطل، ان الامة تتنازل عن عقيدتها، ان الامة تضيع عليها رسالتها وآدابها وتعاليمها.
الحكم بغير ما انزل اللّه، معناه ان التجربة تنحرف، ان المجتمع يتميّع...
في مقابل هذا المنطق وقف الأئمة (ع) على خطين كما قلنا:
{ 59 }
الخط الأول: هو خط محاولة تسلم زمام التجربة، زمام الدولة، محو آثار الانحراف، ارجاع القيادة الى موضعها الطبيعي لأجل ان تكتمل العناصر الثلاثة: الامة والمجتمع والدولة.
الخط الثاني: الذي عمل عليه الائمة (ع)، هو خط تحصين الامة ضد الانهيار، بعد سقوط التجربة واعطائها من المقومات، القدر الكافي، لكي تبقى وتقف على قدميها، وتعيش المحنة بعد سقوط التجربة، بقدم راسخة وروح مجاهدة، وبايمان ثابت.
والآن، نريد ان نتبين هذين الخطين في حياة امير المؤمنين (ع)، مع استلال العبر في المشي على هذين الخطين.
على الخط الأول خط محاولة تصحيح الانحراف وارجاع الوضع الاجتماعي والدولي في الامة الاسلامية الى خطه الطبيعي، في هذا الخط، عمل (ع) حتى قيل عن علي (ع) انه أشد الناس رغبة في الحكم والولاية، اتهمه معاوية بن أبي سفيان، بانه طالب جاه، وانه طالب سلطان. اتهمه بالحقد على أبي بكر وعمر، اتهمه بكل ما يمكن ان يتهم الشخص المطالب بالجاه وبالسلطان وبالزعامة.
أمير المؤمنين (ع) عمل على هذا الخط خط تسلم زمام الحكم، وتفتيت هذا الانحراف، وكسب الزعامة زعامة التجربة الاسلامية الى شخصه الكريم، بدأ هذا العمل عقيب وفاة رسول اللّه (ص) مباشرة كما قلنا بالأمس، حيث حاول ايجاد تعبئة وتوعية فكرية عامة في صفوف المؤمنين واشعارهم بان الوضع وضع منحرف.
الا ان هذه التعبئة لم تنجح لاسباب ترتبط بشخص علي (ع) استعرضنا بعضها بالامس، ولاسباب أخرى ترتبط بانخفاض وعي المسلمين انفسهم. لأن المسلمين وقتئذ لم يدركوا ان يوم السقيفة كان هو اليوم الذي سوف ينفتح منه كل ما انفتح من بلاء على الخط الطويل لرسالة الاسلام، لم يدركوا هذا، ورأوا ان وجوهاً ظاهرة الصلاح قد تصدّت لزعامة المسلمين ولقياداتهم في هذا المجال، ومن الممكن خلال هذه القيادة، ان ينمو الاسلام وان تنمو الامة.
{ 60 }
لم يكن يفهم من علي (ع) الا ان له حقاً شخصياً يطالب به، وهو مقصر في مطالبته، الا ان المسألة لم تقف عند هذا الحد، فضاقت القصة على أمير المؤمنين (ع) من هذه الناحية، ومن أننا نجد في مراحل متأخرة من حياة امير المؤمنين (ع) المظاهر الاخرى لعمله على هذا الخط، لمحاولة تسلمه او سعيه في سبيل تسلم زعامة التجربة الاسلامية وتفادي الانحراف الذي وقع، الا ان الشيء الذي هو في غاية الوضح، من حياة أمير المؤمنين (ع) انه (ع) في عمله في سبيل تزعم التجربة، وفي سبيل محاربة الانحراف القائم ومواجهته بالقول الحق وبالعمل الحق، وبشرعية حقه في هذا المجال، كان يواجه مشكلة كبيرة جداً، وقد استطاع ان ينتصر على هذه المشكلة انتصاراً كبيراً جداً ايضاً.
هذه المشكلة التي كان يواجهها هي مشكلة الوجه الظاهري لهذا العمل والوجه الواقعي لهذه العمل.
قد يتبادر الى ذهن الانسان الاعتيادي لأول مرة إن العمل في سبيل معارضة زعامة العصر، والعمل في سبيل كسب هذه الزعامة، انه عمل في اطار فكري، انه عمل يعبَّر عن شعور هذا العامل بوجوده، وفي مصالحه، وفي مكاسبه، وبأبعاد شخصيته، هذا هو التفسير التلقائي الذي يتبادر الى الاذهان، من عمل يتمثل فيه الاصرار على معارضته في زعامة العصر على كسب هذه الزعامة، وقد حاول معاوية كما اشرنا ان يستغل هذه البداهة التقليدية في مثل هذا الموقف من أمير المؤمنين (ع).
الا ان الوجه الواقعي لهذا العمل من قبل الامام (ع) لم يكن هذا، الوجه الواقعي هو ان علياً كان يمثل الرسالة وكان هو الامين الاول من قبل رسول اللّه (ص) على التجربة على استقامتها وصلابتها، وعدم تميعها على الخط الطويل، الذي سوف يعيشه الاسلام والمسلمون بعد النبي (ص). فالعمل كان بروح الرسالة ولم يكن بروحه هو، كان عملاً بروح تلك الاهداف الكبيرة، ولم يكن عملاً بروح المصلحة الشخصية، لم يكن يريد ان يبني زعامة لنفسه، وانما كان يريد ان يبني زعامة الاسلام وقيادة الاسلام في المجتمع الاسلامي، وبالتالي في مجموع البشرية على وجه الارض.
{ 61 }
هذان وجهان مختلفان، قد يتعارضا في العامل نفسه، وقد يتعارضان في نفس الاشخاص الآخرين، الذين يريدون ان يفسروا عمل هذا العامل.
هذا العامل قد يتراءى له في لحظة انه يريد ان يبني زعامة الاسلام لا زعامة نفسه، الا انه خلال العمل، اذا لم يكن مزوداً بوعي كامل. اذا لم يكن مزوداً بارادة قوية، اذا لم يكن قد استحضر في كل لحظاته وآنات حياته، انه يعيش هذه الرسالة ولا يعيش نفسه، اذا لم يكن هكذا، فسوف يحصل في نفسه ولولا شعوريا انفصام بين الوجه الظاهري للعمل وبين الوجه الحقيقي للعمل، وبمثل هذا الانفصام سوف تضيع امامه كل الاهداف او جزء كبير من تلك الاهداف سوف ينسى انه لا يعمل لنفسه بل هو يعمل لتلك الرسالة سوف ينسى انه ملك غيره وانه ليس ملكاً لنفسه: كل شخص يحمل هذه الاهداف الكبيرة، يواجه خطر الضياع في نفسه، وخطر ان تنتصر انانيته على هذه الاهداف الكبيرة، فيسقط في اثناء الخط، يسقط في وسط الطريق، وهذا ما كان علي (ع) معه على طرفي نقيض. علي (ع) كان يصّر دائماً على ان يكون زعيماً، يصّر دائماً على ان يكون هو الاحق بالزعامة، علي الذي يتألم، الذي يتحسّر انه لم يصبح زعيماً بعد محمد (ص) الذي يقول: لقد تقصمها ابن ابي قحافة وهو يعلم ان محلي منها محل القطب من الرحى، في غمرة هذا الالم، في غمرة هذه الحساسية، يجب ان لا ننسى ان هذا الالم ليس لنفسه، ان هذه الحساسية ليست لنفسه، ان كل هذا العمل وكل هذا الجهد، ليس لاجل نفسه بل من أجل الاسلام. و كذلك كان يربي اصحابه على انهم اصحاب تلك الاهداف الكبيرة، لا اصحاب زعامته وشخصه، وقد انتصر علي عليه السلام انتصاراً عظيماً في كلتا الناحيتين.
انتصر علي على نفسه، وانتصر في اعطاء عمله اطاره الرسالي وطابعه العقائدي انتصاراً كبيراً.
على ربي اصحابه على انهم اصحاب الاهداف لا اصحاب نفسه. كان يدعو الى ان الانسان يجب ان يكون صاحب الحق، قبل ان يكون صاحب شخص بعينه. علي هو الذي قال: «اعرف الحق تعرف اهله» كان يربي اصحابه، يربى عماراً وأبا ذرّ والمقداد على انكم اعرفوا الحق... ثم احكموا
{ 62 }
على علي في اطار الحق. وهذا غاية ما يمكن ان يقدمه الزعيم من اخلاص في سبيل اهدافه. ان يؤكد دائماً لأصحابه واعوانه - وهذا مما يجب على كل المخلصين - ان المقياس هو الحق وليس هو الشخص. ان المقياس هو الاهداف وليس هو الفرد.
هل يوجد هناك شخص اعظم من علي بن ابي طالب. لا يوجد هناك شخص اعظم من علي الا استاذه، لكن مع هذا جعل المقياس هو الحق لا نفسه.
لما جاءه ذلك الشخص وسأله عن الحق في حرب الجمل هل هو مع هذا الجيش او مع ذلك الجيش، كان يعيش في حالة تردد بين عائشة وعلي، يريد ان يوازن بين عائشة وعلي، أيهما أفضل حتى يحكم بانه هو مع الحق أو عائشة. جهودها للإسلام أفضل أو جهود علي أفضل، قال له: اعرف الحق تعرف اهله.
علي كان دائماً مصرّاً على ان يعطي العمل الشخصي طابعه الرسالي، لا طابع المكاسب الشخصية بالنسبة اليه، وهذا هو الذي يفّسر لنا كيف ان علياً (ع)، بعد ان فشل في تعبئته الفكرية عقيب وفاة رسول اللّه (ص)، لم يعارض ابا بكر وعمر معارضة واضحة سافرة طيلة حياة ابي بكر وعمر، وذلك ان اول موقف اعتزل فيه علي المعارضة بعد تلك التعبئة الفكرية واعطائها شكلاً واضحاً صريحاً كان عقيب وفاة عمر، يوم الشورى حينما خالف ابا بكر وعمر، هذا عندما حاول عبد الرحمن بن عوف حينما اقترح عليه المبايعة ان يبايعه على كتاب اللّه وسنة رسول وسنة الشيخين، قال عليه السلام: بل على كتاب اللّه وسنة نبيه واجتهادي. هنا فقط اعلن عن معارضة عمر، في حياة ابي بكر وعمر بعد تلك التعبئة، لم يبد موقفاً ايجابياً واضحاً في معارضتهما، والوجه في هذا، هو ان علياً (ع) كان يريد ان تكون المعارضة في اطارها الرسالي، وان ينعكس هذا الاطار على المسلمين، ان يفهموا ان المعارضة ليست لنفسه، وانما هي للرسالة، وحيث ان ابا بكر وعمر كانا قد بدآ الانحراف، ولكن الانحراف لم يكن قد تعمق بعد والمسلمون القصير والنظر، الذين قدموا ابا بكر على علي (ع) ثم قدموا عمر على علي (ع)، هؤلاء
{ 63 }
المسلمون القصيرو النظر لم يكونوا يستطيعون ان يعمقوا النظر الى هذه الجذور، التي نشأت في ايام ابي بكر وعمر فكان معنى مواصلة المعارضة بشكل جديد ان يفسر من أكثر المسلمين، بأنه عمل شخصي، وانها منافسة شخصية مع ابي بكر وعمر وان بدأت بهم بذور الانحراف في عهدهما الا انه حتى هذه البذور كانت الاغلب مصبوغة بالصبغة الايمانية، كانا يربطانها بالحرارة الايمانية الموجودة عند الامة، وحيث انها حرارة ايمانية بلا وعي، ولهذا لم تكن الامة تميز هذا الانحراف.
عمر ميز بين الطبقات، الا انه حينما ميز بين الطبقات، حينما اثرى قبيلة بعينها دون غيرها من القبائل...؟ أتعرفون أي قبيلة هي التي اثراها، هي قبيلة النبي (ص)، عمر أغنى قبيلة النبي محمد (ص) اغنى عم محمد (ص) اعطى زوجات النبي عشرة آلاف، كان يعطي للعباس اثني عشر الفا، كان يقسم الاموال الضخمة على هذه الأسرة، هذا الانحراف لا يختلف في جوهره عن انحراف عثمان بعد ذلك، عثمان حينما ميز، الا ان عمر فقط ربط هذا الانحراف بالحرارة الايمانية عند الامة، لان الحرارة الايمانية عند الامة كانت تقبل مثل هذا الانحراف. هؤلاء أهل بيت النبي (ص)، هذا عم النبي (ص)، هذه زوجة النبي (ص)، اذن هؤلاء يمكن ان يعطوا يمكن ان يثروا على حساب النبي (ص)، لكن عثمان حينما جاء لم يرد على هذا الانحراف شيئاً، الا انه لم يرتبط بالحرارة الايمانية، بدّل عشيرة النبي (ص) بعشيرته هو، وهذا ايضاً انحراف مستمر لذلك الانحراف، الا انه انحراف مكشوف. ذاك انحراف مقنّع، ذاك انحراف مرتبط بالحرارة الايمانية عند الأمة، وهذا انحراف يتحدى مصالح الامة، والمصالح الشخصية للأمة، ولهذا استطاعت الامة ان تلتفت الى انحراف عثمان بينما لم تلتفت بوضوح الى انحراف أبي بكر وعمر، وبهذا بدأ علي بن أبي طالب (ع) معارضته لأبي بكر وعمر في الحكم بشكل واضح، بعد ان مات ابو بكر وعمر، لم يكن من المعقول تفسير هذه المعارضة على انها معارضة شخصية بسبب طمع في سلطان، بدأ هذه المعارضة واعطى رأيه بأبي بكر وعمر.
علي بن ابي طالب (ع) بعد ان تم الامر لعثمان، بعد ان بويع عثمان يوم
{ 64 }
الشورى، قال: ان سوف اسكت ما سلمت مصالح المسلمين وامور المسلمين، وما دام الغبن علي وحدي، وما دمت انا المظلوم وحدي، وما دام حقي هو الضائع وحدي. انا سوف اسكت سوف أبايع سوف اطيع عثمان، هذا هو الشعار الذي اعطاه بصراحة مع ابي بكر وعمر وعثمان، وبهذا الشعار اصبح في عمله رسالياً، وانعكست هذه الرسالة على عهد امير المؤمنين، وبقي (ع) ملتزماً بما تعهّد به من السكوت الى ان بدأ الانحراف في حياة عثمان بشكل مفضوح، حيث لم يرتبط بلون من الوان الحرارة الايمانية التي ارتبط بها الانحراف في ايام الخليفة الاول وفي ايام الخليفة الثاني، بل اسفر الانحراف، ولهذا اسفر علي (ع) عن المعارضة وواجه عثمان بما سوف نتحدث عنه بعد ذلك.
فعلي (ع) في محاولته لتسلم زمام التجربة وزعامة القضية الاسلامية كان يريد ان يوفق بين هذا الوجه الظاهري للعمل، و بين الوجه الواقعي للعمل، واستطاع ان يوفق بينهما توفيقاً كاملاً، استطاع هذا في توقيت العمل، واستطاع هذا في تربيته لأصحابه، على انهم اصحاب الاهداف لا اصحاب الاشخاص، واستطاع في كل هذه الشعارات التي طرحها، ان يثبت انه بالرغم من كونه في قمة الرغبة لأن يصبح حاكماً، لم يكن مستعداً ابداً لان يصبح حاكماً مع اختيار أي شرط من الشروط المطلوبة التي تنال من تلك الرسالة.
ألم تعرض عليه الحاكمية والرسالة بعد موت عمر بشرط ان يسير سيرته؟ فرفض الحاكمية برفض هذا الشرط.
علي بن ابي طالب (ع) بالرغم من انه كان في اشد ما يكون سعياً وراء الحكم، جاءه المسلمون بعد ان قتل عثمان، عرضوا عليه ان يكون حاكماً، قال لهم بايعوا غيري وأنا أكون كأحدكم، بل اكون أطوعكم لهذا الحاكم، الذي تبايعونه، ما سلمت أمور المسلمين في عدله وعمله، يقول ذلك، لان الحقد الذي تواجهه الامة الاسلامية كبير جداً، تتمادى بذرة الانحراف، الذي عاشه المسلمون بعد النبي (ص) الى ان قتل عثمان، هذا الانحراف الذي تعمق، الذي ارتفع، هذا الانحراف الذي طغى والذي استكبر، الذي خلق تناقضات في الامة الاسلامية، هذا عبء كبير جداً.
{ 65 }
ماذا يريد ان يقول، يريد ان يقول: لأني انا لا اقبل شيئاً الا على ان تصفّوا الانحراف، انا لا اقبل الحكم الذي لا يصفى هذا الانحراف لا الحكم الذي يصفّيه، هذه الاحجامات عن قبول الحكم في مثل هذه اللحظات كانت تؤكد الطابع الرسالي، بحرقته بلوعته، لألمه لرغبته ان يكون حاكماً، استطاع ان ينتصر على نفسه، ويعيش دائماً لأهدافه، واستطاع ان يربي اصحابه ايضاً على هذا المنوال.
هذا هو الخط الاول وهو خط محاولة تسلمه لزمام التجربة الاسلامية.
أما على الخط الثاني:
وهو خط تحصين الامة لقد كانت الامة تواجه خطراً، وحاصل هذا الخطر هو ان العامل الكمي والعامل الكيفي، سوف يجعلان هذه الامة لاتعيش الاسلام، الا زمنا قصيراً.
بحكم العامل الكمي الذي سوف يسرع، في افناء التجربة وسوف لن تعيش الا مشوهة بحكم العامل الكيفي، الذي يتحكم في هذه التجربة، ولذا بدأ الامام بتحصين الامة، وبالتغلب على العاملين: العامل الكمي والعامل الكيفي.
اما التغلب على العامل الكمي فكان في محاولة تحطيم التجربة المنحرفة وتحجيمها وافساح المجال للتجربة الاسلامية لتثبت جدارتها وذلك بأسلوبين:
الاسلوب الاول: هو التدخل الايجابي الموجه في حياة هذه التجربة بلحاظ قيادتها.
القادة والزعماء الذين كانوا يتولون هذه التجربة، كانوا يواجهون قضايا كثيرة لا يحسنون مواجهتها، كان يواجههم مشاكل كثيرة لا يحسنون حلّها، ولو حاولوا لوقعوا في أشد الاضرار والاخطار، لأوقعوا المسلمين في أشد التناقضات، ولأصبحت النتيجة محتومة اكثر، ولأصبحت التجربة أقرب الى الموت، وأقرب الى الفناء واسرع الى الهلاك، هنا كان يتدخل الامام (ع) وهذا خط عام سار الائمة (ع) كلهم عليه كما قلنا، كما سوف نقول، فكان الامام (ع) يتدخل تدخلاً ايجابياً، موجهاً في سبيل ان ينقذ التجربة من المزيد
{ 66 }
من الضياع ومن المزيد من الانحراف، ومن المزيد من السير في الضلال.
كلنا نعلم، بأن المشاكل العقائدية التي كانت تواجهه (ع) والزعامة السياسية بعد النبي (ص). هذه المشاكل العقائدية التي كان يثيرها، وتثيرها القضايا الاخرى التي بدأت تندرج في الامة الاسلامية والاديان الاخرى التي بدأت تعاشر المسلمين، هذه المشاكل العقائدية لم تكن الزعامات السياسية وقتئذ على مستوى حلها كان الامام (ع) يعين تلك الزعامات في التغلب على تلك المشاكل العقائدية.
كلنا نعلم بأن الدولة الاسلامية واجهت في عهد عمر خطراً من أعظم الاخطار، خطر اقامة اقطاع لانظير له في المجتمع الاسلامي، كان من المفروض ان يسرع في دمار الامة الاسلامية، وذلك حينما وقع البحث بين المسلمين بعد فتح العراق، في انه هل توزع اراضي العراق على المجاهدين المقاتلين، او أنها تبقى ملكاً عاماً للمسلمين، وكان هناك اتجاه كبير بينهم الى ان توزع الاراضي على المجاهدين الذين ذهبوا الى العراق وفتحوا العراق، وكان معنى هذا ان يعطى جميع العالم الاسلامي، أي يعطي العراق، وسوريا وايران ومصر وجميع العالم الاسلامي الذي أسلم بالفتح، سوف يوزع بين اربعة او خمسة آلاف او ستة الآف من هؤلاء المسلمين المجاهدين، سوف تستقطع اراضي العالم الاسلامي لهؤلاء، وبالتالي يتشكل اقطاع لانظير له في التاريخ.
هذا الخطر الذي كان يهدد الدولة الاسلامية، وبقي عمر لاجل ذلك اياماً متحيراً لأنه لا يعرف ماذا يصنع، لا يعرف ما هو الأصلح، وكيف يمكن ان يعالج هذه المشكلة.
علي بن ابي طالب (ع) هو الذي تدخل كما تعلمون وحسم الخلاف، وبيّن وجهة النظر الاسلامية في الموضوع، وأخذ عمر بنظر الامام امير المؤمنين (ع) وانقذ بذلك الاسلام من الدمار الكبير.
وكذلك له تدخلات كبيرة وكثيرة، النفير العام الذي اقترح على عمر والذي كان يهدد العاصمة في غزو سافر، كان من الممكن ان يقضي على الدولة الاسلامية، هذا الاقتراح طرح على عمر، كاد عمر ان يأخذ به، جاء
{ 67 }
علي (ع) الى المسجد مسرعاً على ما أتذكر في بعض الروايات تقول: جاء مسرعاً الى عمر، قال له: لا تنفر نفيراً عاماً، كان عمر يريد ان يخرج مع تمام المسلمين الموجودين آنذاك في المدينة، وعندما تفرغ عاصمة السلام مما يحميها من غزو المشركين والكافرين، منعه من النفير العام.
وهكذا كان علي (ع) يتدخل تدخلاً ايجابياً موجهاً في سبيل ان يقاوم المزيد من الانحراف، والمزيد من الضياع، كي يطيل عمر التجربة الاسلامية ويقاوم عامل الكم الذي ذكرناه.
هذا احد اسلوبي مقاومة العامل الكمي.
الاسلوب الثاني: لمقاومة العامل الكمي كان هو المعارضة.
يعني كان تهديد الحكام ومنعهم من المزيد من الانحراف، لا عن سبيل التوجيه، وانما عن سبيل المعارضة والتهديد.
في الاول كنا نفرض ان الحاكم فارغ دينياً، وكان يحتاج الى توجيه، والامام (ع) كان يأتي ويوجه، اما الاسلوب الثاني، فيكون الحاكم فيه منحرفاً ولا يقبل التوجيه، اذن فيحتاج الى معارضة، يحتاج الى حملة ضد الحاكم هذا، لاجل ايقافه عند حده، ولاجل منعه من المزيد من الانحراف.
وكانت هذه هي السياسة العامة للائمة (ع).
ألسنا نعلم بأن عمر صعد على المنبر وقال: ماذا كنتم تعملون لو انا صرفناكم عما تعلمون الى ما تنكرون.
كان يريد ان يقدر الموقف.
وماذا سيكون لو انا صرفناكم مما تعلمون الى ما تنكرون.
لو انحرفنا شيئاً قليلاً عن خط الرسالة ماذا سيكون الموقف.
لم يقم له الا علي (ع) قال له: لو فعلت ذلك لعدّلناك بسيوفنا.
كان هذا هو الشعار العام للامام (ع) بالرغم من انه لم يتنزل في عملية تعديل عمر بالسيف خلال حكم عمر، لظروف ذكرناها، الا انه قاد المعارضة
{ 68 }
لعثمان، واستقطب آمال المسلمين ومشاعر المسلمين، واتجاهات المسلمين، نحو حكم صحيح، ولهذا كان هو المرشح الاساسي بعد ان فشل عثمان، واجتمع عليه المسلمون.
الامام علي (ع) يتصدى للمعارضة لاجل ان يوقف الانحراف.
هذان اسلوبان كانا هما الاسلوبان المتبعان لمواجهة العامل الجديد.
ثم هذه المعارضة نفسها كانت تعبر من ناحية اخرى عن الخط الثاني، وهو المحافظة على الامة الاسلامية من الانهيار بعد سقوط التجربة حيث ان المسلمين لم يعيشوا التجربة الصحيحة للاسلام، او بعدوا عنها، والتوجيه وحده لا يكفي، لان هذا العمل لا يكفي لان يكسب مناعة. المناعة الحقيقية والحرارة الحقيقية للبقاء والصمود كأمة، اذن كان لا بد من ان يحدد الموقف. من ان يحدد الوجه الحقيقي للاسلام، في سبيل الحفاظ على الاسلام، وهذا الوجه الحقيقي للاسلام قدمه علي بن ابي طالب (ع) من خلال معارضته للزعامات المنحرفة اولاً، ومن خلال حكم الامام بعد أن مارس الحكم بنفسه.
من خلال هذين العملين، ومن خلال العمل السياسي المتمثل في المعارضة، والعمل السياسي المتمثل في رئاسة الدولة بصورة مباشرة، قدم الوجه الحقيقي للاسلام، الاطروحة الصحيحة للحياة الاسلامية الاطروحة الخالية من كل تلك الالوان من الإِنحراف.
طبعاً هذا لا يحتاج الى حديث، ولا يحتاج الى تمثيل لانه واضح لديكم.
امير المؤمنين حينما تولى الحكم، لم يكن يستهدف من تولي الحكم تحصين التجربة او الدولة، بقدر ما كان يستهدف تقديم المثل الاعلى للاسلام، لانه كان يعرف ان التناقضات، في الامة الاسلامية، بلغت الى درجة لايمكن معها ان ينجح عمل اصلاحي ازاء هذا الانحراف مع علمه ان المستقبل لمعاوية، وان معاوية هو الذي يمثل القوى الكبيرة الضخمة في الامة الاسلامية.
كان يعرف ان الصور الضخمة الكبيرة التي خلقها عمر وخلقها عثمان والتي خلقها الانحراف هذه القوى، كلها الى جانب معاوية، وهو ليس الى
جانبه ما يعادل هذه القوى، لكن مع هذا قبل الحكم، ومع هذا بدأ تصفية وتعرية الحكم والانحراف الذي كان قبله، ومع هذا مارس الحكم وضحى في سبيل هذا الحكم بعشرات الآلاف من المسلمين، في سبيل ان يقدم الاطروحة الصحيحة الصريحة للاسلام وللحياة الاسلامية.
وقد قلت بالامس، وأؤكد اليوم مرة اخرى بأن علي بن ابي طالب (ع) في معارضته، وعلي بن ابي طالب في حكمه لم يكن يؤثر على انحراف الشيعة فقط، بل كان يؤثر على مجموع الامة الاسلامية، علي بن ابي طالب ربى المسلمين جميعاً شيعة وسنة، حصن المسلمين جميعاً شيعة وسنة، علي بن ابي طالب اصبح اطروحة ومثلاً اعلى للاسلام الحقيقي، من الذي كان يحارب مع علي بن ابي طالب؟ هؤلاء المسلمون الذين كانوا يحاربون في سبيل هذه الاطروحة العالية في سبيل هذا المثل الاعلى، أكانوا كلهم شيعة بالمعنى الخاص؟ لا، لم يكونوا كلهم شيعة. هذه الجماهير التي انتفضت بعد علي بن ابي طالب علي مر التاريخ، بزعامات اهل البيت بزعامات العلويين الثائرين من اهل البيت، الذين كانوا يرفعون راية علي بن ابي طالب للحكم، هؤلاء كلهم شيعة؟
كان اكثرهم لا يؤمن بعلي بن ابي طالب ايماننا نحن الشيعة، ولكنهم كانوا ينظرون الى علي انه المثل الاعلى، انه الرجل الصحيح الحقيقي للإسلام، حينما اعلن والي عبد اللّه بن الزبير سياسة عبد اللّه بن الزبير، وقال بأننا سوف نحكم بما كان يحكم به عمر وعثمان، وقامت جماهير المسلمين تقول لا بل بما كان يحكم به علي بن ابي طالب، فعلي بن ابي طالب كان يمثل اتجاهاً في مجموع الامة الاسلامية.
والخلافة العباسية كيف قامت؟ كيف نشأت؟ قامت على اساس دعوة كانت تتبنى زعامة الصادق من آل محمد (ص). الحركة السلمية التي على اساسها نشأت الخلافة العباسية كانت تأخذ البيعة للصالح، للامام الصادق من آل محمد (ص)، يعني هذه الحركة استغلت عظمة الاسلام، عظمة هذا الاتجاه، وتجمع المسلمون حول هذا الاتجاه، ولم يكن هؤلاء مسلمين شيعة، اكثر هؤلاء لم يكونوا شيعة، لكن كانوا يعرفون ان الاتجاه الصالح، الاتجاه
{ 70 }
الحقيقي، الاتجاه الصلب العنيف كان يمثله علي بن ابي طالب (ع)، والواعون من اصحاب علي (ع) والواعون من ابناء علي (ع). ولهذا كثير من ابناء العامة، ومن أئمة العامة، من اكابر اصحاب الامام الصادق (ع)، كانوا اناساً عامين يعني كانوا اناساً سنة، ولم يكونوا شيعة.
دائماً كان الأئمة (ع) يفكرون، في ان يقدموا الاسلام لمجموع الامة الاسلامية، ان يكونوا مناراً، ان يكونوا اطروحة، ان يكونوا مثلاً اعلى.
كانوا يعملون على خطين، خط بناء المسلمين الصالحين، وخط ضرب مثل اعلى لهؤلاء المسلمين، بقطع النظر عن كونهم شيعة او سنة.
هناك علماء من اكابر علماء السنة، افتوا بوجوب الجهاد، وبوجوب القتال بين يدي ثوار آل محمد (ص)، وأبو حنيفة قبل ان ينحرف، قبل ان يرشيه السلطان ويصبح من فقهاء عمال السلطان، أبو حنيفة نفسه الذي كان من نواب السنة، ومن زعماء السنة، هو نفسه خرج مقاتلاً ومجاهداً مع راية من رايات آل محمد وآل علي (ع)، وافتى بوجوب الجهاد مع راية من رايات علي (ع)، مع راية تحمل شعار علي بن ابي طالب، قبل أن يتعامل ابو حنيفة مع السلاطين.
اذن فاتجاه علي بن ابي طالب، لم يكن اتجاهاً منفرداً، اتجاهاً محدوداً، كان اتجاهاً واسعاً على مستوى الامة الاسلامية كلها، لاجل ان يعرّف الامة الاسلامية وان يحصن الامة الاسلامية بالاسلام، وبأهداف الاسلام، وكيف يمكن للانسان ان يعيش الحياة الاسلامية في اطار المجتمع الاسلامي.
المهم من هذا الحديث، ان نأخذ العبرة وان نقتدي، حينما نرى ان علي بن ابي طالب (ع) على عظمته يربي اصحابه على انهم اصحاب الهدف، لا اصحاب نفسه. يجب ان لا افكر انا، ويجب ان لا تفكر انت، بأن تربي اصحابك على انهم اصحابك، وانما هم اصحاب الرسالة، أي واحد منكم ليس صاحباً للآخر، ولهذا يجب ان نجعل الهدف دائماً مقياساً، نجعل الرسالة دائماً مقياساً. احكموا علي باللحظة التي انحرف فيها عن الهدف، لأن الهدف هو الاعز والاغلى، هو رب الكون، الذي يجب ان تشعروا بانه يملككم،
{ 71 }
بانه بيده مصيركم، بيده مستقبلكم، انه هو الذي يمكن ان يعطيكم نتائج جهادكم.
هل انا اعطيكم نتائج جهادكم، أو أي انسان على وجه الارض يمكن ان يعطي الانسان نتائج جهاده، نتائج عمله، نتائج اقدامه على صرف شبابه، حياته، عمره، زهده على تحمله آلام الحياة، تحمله للجوع تحمله للظلم، تحمله للضيم، من الذي يعطي أجر كل هذا؟ هل الذي يعطي اجر هذا انا وانت، لا انا ولا انت يعطي اجر هذا، وانما الذي يعطي أجر هذا هو الهدف فقط. هذا هو الذي يعطي النتيجة والتقييم. هو الذي سوف يفتح امامنا ابواب الجنة، هو الذي سوف يغير اعمالنا، هو الذي سوف يصحح درجاتنا.
إذن لا تفكروا في ان أي واحد منكم، في ان أي واحد منا، مرتبط مع أي واحد منا، بل فكروا هكذا: ان أي واحد منا مرتبط كله مع اكبر من أي واحد منا، هذا الشيء الذي هو اكبر، هو اللّه سبحانه هو رضوان اللّه، هو حماية الاسلام، هو العمل في خط الائمة الاطهار (ع).