استشارة العاقل والمجنون *
كان البهلول وعلى عادته يمشي يومًا في أزقة بغداد، فلقيه رجل تاجر، فقال لبهلول : أريد استشارتك في أمر التجارة.
قال بهلول - وكان بيده خيزران، ضرب بها كفه الأخرى بهدوء -: ومالذي عدل بك عن العقلاء حتى اخترتني دونهم؟.. ثم مكث هنيئة : حسنا، ما الذي أردت استشارتي فيه؟..
قال التاجر - ولم يزل يرفع عينيه من يدي بهلول -: إن عملي التجارة، فأردت شراء متاع أحتكره، ثم أبيعه لمن يدفع لي فيه ثمنًا باهظاً..
ضحك بهلول حتى بان ضرساه وقال : إن أردت الربح في تجارتك، فاشتر حديدًا وفحمًا.
شكره التاجر على ذلك، وانطلق إلى السوق.. ثم فكر في كلام بهلول جيدًا، فرأى أن من الأفضل أن يأخذ بكلامه، فاشترى حديدًا وفحمًا وأودعهما في المخزن، حتى مضت عليها مدة مديدة، ولا زالا على حاليهما في الخزن.. ولما احتاج التاجر إلى ثمنهما، وكان قد ارتفع تلك الأيام سعرهما، باعهما بأفضل الثمن، وربح عليهما ربحًا كثيرا.
لكن وللأسف أيها الأصدقاء الأعزاء، أثرت هذه الثروة على سلوك رجل قصتنا التاجر، كما تؤثر غالبا على سلوك الكثيرين من الناس عند ثراء هم.. حيث تجدهم يفقدون صوابهم، ويتغير منطقهم وسلوكهم، فتراهم ينقلبون من هذا الوجه إلى ذاك الوجه.
وهكذا كان التاجر فقد اغتر بنفسه غرورًا عجيبًا، حتى لم يكن يعدّ للناس وزنا، وأخذ يتحدث هنا وهناك عن عقله وذكائه وفطنته.
وذات يوم مر التاجر ببهلول، لكن التاجر لم يعر هذه المرة لبهلول أهمية، ولم يشكره على ما أشار إليه سابقًا، بل أثار بوجه بهلول الغبار وسخر منه وقال : أيها المجنون، ما الذي أشتري وأحتكر، ليعود علي بالربح؟..
ضحك بهلول وقال : اشتر ثوما وبصلا، وأودعهما في المخزن..
خطا التاجر خطوات، ثم رجع إلى بهلول وقال بلغة الغرور والعجب : عليك أن تفتخر بمشورة تاجر موفق وشهير مثلي إياك!..
لم يجبه بهلول بشيء، وبهت لجهل التاجر وغروره.
رصد التاجر لشراء الثوم والبصل كل ما يملك من أموال، وذهب صباح الغد إلى السوق لشرائهما على أمل ربح الكثير ببيعهما.. وبعد أن مضت أشهر على البصل والثوم وهما في المخزن، جاء التاجر وفتح أبواب المخزن، وهو لايعلم ما ينتظره من خسران مبين، فوجد الثوم والبصل قد تعفنا ونتنا.. حينها ضرب التاجر على أم رأسه وصاح : ياللخيبة!.. ياللخسران!..
لم يكن أحد يرغب في شراء مثل ذلك البصل والثوم المتعفنين، بلا لابد من رميه في المزابل لأن رائحته النتنة انتشرت في كل مكان، مما اضطر التاجر أن يستاجر عدة نفر ليحملوا هذا المتاع الفاسد إلى خارج المدينة، ويدفنوه في الأرض.
امتعض التاجر من بهلول، وزاد حنقا عليه وغضبا ؛ لأنه فقد رأس ماله بسبب بهلول.. وأخذ يبحث عنه في كل مكان حتى عثر عليه، فلمآ رآه أخذه التاجر بتلابيه وقال : أيها المجنون!.. ما هذا الذي أشرت به علي، لقد أجلستني بساط الذل والمسكنة؟..
خلص بهلول نفسه من التاجر وقال : ماذا حدث؟..
قص التاجر على بهلول - وصوته يرتعش من شدة الغضب - ماجرى له.
سكت بهلول عن التاجر هنيئة ثم قال له : لقد استشرتني أولا، فخاطبتني بخطاب العقلاء ؛ فأشرت عليك بما يشيرون.. لكنك لما أردت اشتشارتي ثانيا، خاطبتني بخطاب المجانين ؛ فأشرت عليك بمشورتهم.. فاعلم أن ضرك ونفعك مخبوئان تحت لسانك : إن خيرُا فخير، وإن شرًا فشر.
أطرق التاجر إلى الأرض وهو لم يحر جوابا، فتركه بهلول وانصرف عنه.