قلنا ان الحق والحقائق الثابتة امور موجودة ويمكن تعرفها ومشاهدة مصاديقها من اصغرها حتى أكبرها وتطبيق أنفسنا عليها. ويجب ألا نقبل على السلبيات والمواقف الباطلة الكاذبة، وان معرفة الحق والحقيقة أمر ممكن. وهنا أسئلة تبرز بهذا الشأن على النحو الاتي:
لماذا إذاً يعجز الكثيرون عن معرفة الحق؟
لماذا يخطىء أنصار الحق أحياناً في الوصول الى الحقيقة، ولا تثمر مساعيهم؟
لماذا يختلف الناس حول معرفة الحق؟
واذا كانت معرفة الحق أمراً ممكناً، فلماذا ينبغي بذل كل هذه الجهود والمشاق؟ كالذين يتوصلون أحياناً، بعد سنين طوال، الى أن الفرضية أو النظرية الفلانية باطلة ولا حقيقة لها؟
إن الإجابة الصحيحة والشافية عن هذه الأسئلة نصل اليها من دراسة قضيتين أساسين هما:
أولاً: سبل معرفة الحق والباطل، وكيفية التعرف على الحقيقة.
ثانياً: معرفة الموانع التي تحول دون ادراك الحقائق، والتي تجب ازالتها عن طريق البحث.
فلو ادرك الإنسان السبل الصحيحة والمقاييس الضرورية لمعرفة الحق والباطل، وفهم الحقائق فهماً صحيحاً، وقام بدراستها وتقويمها، واجتث من قلبه ونفسه جذور موانع معرفة الحقيقة، وأزال العقبات الخارجية التي تقف في طريق بحثه ومعرفته، لما كان ثمة شك في أنه سيشاهد وجه الحقيقة الناصع ولا يعود يدخل ميادين النزاع والجدل والمعارضة في ذلك مع سائز بني البشر، ويخلص البشرية، بالوحدة والتعاون، من كل أنواع الاعوجاج والانحراف الفكري. يقول الإمام عليعليه السلام بهذا الشأن:
ولكيفية تعرف الحقيقة والاجابة عن الأسئلة المذكورة، علينا الاهتمام اهتماماً كاملاً بعدد من القضايا الأساس، مثل:
1 ضرورة السعي والعمل المستمر:
قال الإمام علي عليه السلام:
»... وَلا يُدرَكُ الحَقُّ إلاّ بالجدِّ« فكثير من الناس يرغبون في بلوغ الحق، ولكن دون سعي أو جهد، لكنهم لا ينجحون.
2 ضرورة الصبر والثبات وتحمل المشاكل في سبيل بلوغ الحق:
ان البحث عن الحق لتعرفه ترافقه بعض المشاكل، وحين نعرف الحق ونريد عرضه وتعريفه للناس تواجهنا مشاكل كثيرة أخرى، وإذا وقفت في الجهة المعارضة للحق ثقافة الباطل والحكومات الباطلة والسلطات الطاغوتية، فسوف نغرق في بحر من المشاكل. ويرى »نهج البلاغة« وجوب تحمل مشاكل البحث وصعابه، بل وحتى تحمل التعذيب والنفي والهجرة من أجل ابلاغ صوت الحق، والقيام بالدفاع والجهاد وتقبل الأسر والسجن، بل واستقبال الشهادة في سبيل الحق.
ومن البديهي أن يقل انصار الحق في مثل هذه الأحوال وتصعب نصرة الحق. وهناك من الناس من يعجزون عن معرفة الحق بغير عناء ومشقة، لذا نراهم يصطبغون بلون ثقافة الباطل. يقول الإمام عليعليه السلام بهذا الشأن:
»... وَاعلَموا رَحِمَكُمُ اللّهُ أَنَّكُم في زَمانٍ القائِلُ فيه بِالحَقِّ قَلِيلٌ، وَاللسانُ عَنِ الصِدقِ كَليلٌ، وَاللازِمُ لِلْحَقِّ ذَلَيلٌ«.
ولهذا السبب نجد أن كثيراً من علماء الشرق ومفكريه، الذين توصلوا الى الحق من خلال بحوثهم العلمية، لا يجرأون على اعلانه وعرضه على الناس، لأنهم لا يودون ان يسجنهم الحكام أو تبلى أجسامهم في معسكرات الأعمال الشاقة.
كما أن الباحثين الغربيين قد فهموا، في عصر الابتذال والفساد والأمراض النفسية، بطلان القيم الغربية، وادركوا الحقيقة من خلال دراستهم، لكنهم لا يجرأون على ابلاغها للناس.
من الفوارق الرئيسة بين المصلحين المفكرين من البشر العاديين، وأنبياء الله وأوليائه والأحرار من الناس، أن الأنبياء وتلاميذ الرسالة الإسلامية وعلماء الدين الواعين وقفوا كل ما يملكون لمعرفة الحق وسيادته، ولم يخشوا في ذلك لومة لائم، وانما عشقوا الشهادة فحملوا أرواحهم على الأكف من أجل بلوغ الحق وتعريفه. يقول الإمام عليعليه السلام في وصيته لولده الإمام الحسن المجتبى عليه السلام عن ضرورة تحمل المشاكل والصعاب:
»... وَخُضِ الغَمَراتِ لِلحَقِّ حَيثُ كَانَ، وَتَفَقَّه في الدِّينِ، وَعَوِّد نَفسَكَ التَّصَبُّرَ على المَكرُوهِ، وَنِعمَ الخُلُقُ التَّصًبُّرُ في الحَقِّ«.
3 ضرورة البحث والتنقيب:
ان الحق والحقيقة لا يظهران من تلقاء نفسيهما في كل زمان ومكان وفي مختلف الظروف والأحوال، بل ينبغي التوصل إليهما بالبحث والتنقيب وبالطرق الخاصة لمعرفتهما، وعدم ابعاد دلائلهما الأصيلة عن النظر، بل بلوغهما بالسعي المستمر، لكي نشاهد بأم أعيننا الوجه الحقيقي للحقيقة.
وتزداد أهمية هذا السعي بشكل خاص حين يلبس الباطل لبوس الحق ويصطف الى جانبه، وحين تطرح صنوف الباطل عند التحولات السياسية وفي الحكومات الطاغوتية والتسلط الاجنبي باسم الحق والحقيقة وفي لبوسهما وعلى هيئتيهما، يقول الإمام علي عليه السلام بهذا الشأن:
بعد الاحساس بالحقيقة وادراكها ومشاهدتها متمثلة في: النظام العام، والهدفية في خلق المخلوقات، والقوانين التكاملية الدائمة والشاملة، وتناسق كل أجزاء النظام، يأتي دور الاستخدام الصحيح للعقل والفكر، فقد قال الإمام عليه السلام:
»... وَلَوْ فكَّرُوا في عَظِيمِ القُدرَهِ، وَجَسيمِ النِّعمَةِ، لَرَجَعُوا الى الطَّرِيقِ«.
ويقول عن دور العقل في تشخيص الحق والباطل:
»كَفاكَ مِنْ عَقْلِكَ ما أوْضَحَ لَكَ سُبُلَ غَيّكَ مِن رُشْدِكَ«.
5 علم الغيب:
ان علم الغيب الذي اختص به الأنبياء والأئمة المعصومون )سلام الله عليهم( يعد أحد القنوات الأخرى لمعرفة الحقيقة.
فنبي الإسلام الأكرم، وأئمة الحق، كشفوا، بعلم الغيب، الكثير من الأسرار الكامنة، وعلَّموا البشرية علوماً مختلفة، وحولوا كثيراً من مجهولات البشر الفكرية والعقائدية والعلمية الى معرفة صحيحة ويقين، وأوضحوا ماهية المستقبل والتفكير فيه، وتحدثوا عن الماضي بالقدر الذي ينفع في نضج الإنسان وتكامله، وفسروا القران، كلام الله، بما يلبي حاجات كل عصر وزمان، وشرحوا المبادىء والخطوط العامة التي يحتاج اليها الانسان مع الاجابات الشافية لكل التساؤلات بوضوح ويسر.
والدور القيم الاخر الذي يؤديه علم الغيب يتمثل في تصحيح معطيات الحواس والعقل البشري، أي اننا محتاجون الى علم الغيب في استخدام قنوات معرفة الحقيقة وتوظيف الحواس والعقل، وذلك لكي نستطيع التقويم بشكل صحيح، ونفكر بصورة سليمة، ونتعرف على الحق، إذ يقول الإمام علي عليه السلام:
فحين يكون الإمام العالم بالغيب وبالأسرار الكامنة في الكون، الى جانب الانسان ليأخذ بيده ويطلعه على حقائق نظام الوجود، لن يكون هناك أي انحراف أو اعوجاج فكري.
وها هم شيعة العالم اليوم يستفيدون من المصدر الهائل المتمثل في أحاديث أهل البيت عليهم السلام وهي أساس الفقه والتفقه واستنباط أحكام الله، وقد حرمت سائر المذاهب والطوائف من هذه الثروة العظيمة التي يعد »نهج البلاغة« جزءاً منها.
لقد أشار الإمام في هذه العبارات الرائعة الى عدة نقاط مهمة هي:
أ لما كان أئمتنا معصومين، ولا يعانون من عقبات باطنية، فانهم لا يخالفون الحق، والحق معهم وهم مع الحق أبداً.
ب لما كانوا ينظرون الى الحقائق كما هي، ويقومون بتجربتها وتقويمها بشكل صحيح بمقياس العقل والفكر، لتمتعهم بفطرة سليمة ومتكاملة وبعلم الغيب أيضاً، لذلك لا يشكّون في الحق أبداً »وَلا يَختَلِفُونَ فِيهِ«.
ج وبما ان هؤلاء الأئمة معصومون ويعلمون الغيب، فهم أعمدة الاسلام الراسخة والامثال الحقة والرموز الصادقة لأمة الإسلام.
د كل من اتخذ الأئمة المعصومين مقياساً وأساساً لمعرفة الحق واتبع اقوالهم وأفعالهم فقد بلغ الحق، وهنا يعود الحق الى موقعه الأصلي »بِهًم عَادَ الحَقُّ الى نِصابِهِ« ويرحل الباطل وينحسر عن المجتمع المتنوّر بنور الولاية العلوية.
6 الوحي والقران الكريم:
من المصادر الأخرى لمعرفة الحق والباطل، القران الكريم الذي يعرض المقاييس الصحيحة لمعرفة الحقائق، وهو مقياس تقاس به معلومات البشر وما يتوصلون اليه، فلو أخطأنا في التفكير وسرنا في الطرق المنحرفة، فالقران الكريم هو الذي يدلنا على الطريق القويم، ويهدينا، ويعلمنا سبل بلوغ الحق، ويعرض علينا الحقائق بصراحة ووضوح، وهو الأصل لمعرفة الحقائق. يقول الإمام عليه السلام بهذا الشأن:
»وَعَلَى كِتابِ اللّّهِ تُعرضُ الأَمثالُ«.
فالقران الكريم يرد بالايجاب المطلوب على كل حاجات الإنسان.
يقول تعالى: »وَلا رطبٍ وَلا يابسٍ إلا في كتابٍ مُبين«.
نحن نعلم أن المرء ليس قادراً على استنباط كل شيء من القران الكريم دون الاستعانة بعالم به، وبأحاديث رسول الإسلام الأكرم، وبتفسير الأئمة المعصومين عليهم السلام يقول الإمام عليه السلام:
ومن الواضح أن عامة الناس عاجزون عن الاستفادة من أي كتاب علمي تخصصي دون الاستعانة بخبير من أهل ذلك العلم، لذا فقد قَرنَ رسول الإسلام الأكرم في حديث الثقلين الشهير القران الكريم بالأئمة المعصومين في قوله صلى الله عليه و آله و سلم:
وخلاصة القول: لو أن طلاب الحق والحقيقة، نظروا نظرة صحيحة الى حقائق نظام الخلق الحق ثم قاموا بتقويمها تقويماً صحيحاً في ظل الوحي وعلوم أهل البيت عليهم السلام، بالاستعانة بما منحهم الله من قوة الفكر والعقل، واستفادوا أفضل الاستفادة من سبل المعرفة وقنواتها الأخرى، وأزالوا عن طريقهم العقبات الباطنية والخارجية، لتمكنوا من معرفة الحق والحقيقة، ولم يختلفوا فيهما، ولتجنبوا الوقوع في أي خطأ أو زلل ولم تخل نتائج بحوثهم من ثمرة، ولم يضيعوا سنين طوالاً يؤيدون الفرضيات الباطلة، بل لحثوا الخطى على الطريق القويم.