الجوادِ عليه السلام حَيثُ لَمْ يَبقَ فِي ذلكَ المكانِ سِواهُ.. فَقالَ لَهُ : ـ لِمَ لَمْ تَهربْ كَما فَعَلَ الصِبيانُ.. ؟!
فَرَدّ عَلَيهِ الاِمامُ الجوادُ عليه السلام : ـ ما لِي ذَنْبٌ فَأَفِرَّ مِنْهُ.. وَلا الطريقُ ضَيّقٌ فَأُوَسِّعَهُ عَلَيكَ.. سِرْ حَيثُ شِئْتَ..
فَقالَ المأمونُ : ـ مَنْ تكونُ أَنتَ.. ؟!
فَرَدّ عَليهِ الاِمامُ الجوادُ عليه السلام : ـ أَنا مُحمّدٌ بنُ عليٍّ بنِ موسى بنِ جَعفرٍ بنِ مُحمّدٍ بنِ عليٍّ بنِ الحُسينِ بنِ علي بنِ أَبي طالبٍ عليهم السلام .. فَقالَ لَهُ المأْمونُ : ـ مَاذا تَعرِفُ مِنَ العُلومِ.. ؟
قالَ الاِمامُ الجَوادُ عليه السلام : سَلْنِي عَنْ أَخبارِ السَماواتِ..
أَطْلَقَ المأْمونُ البازَ مِنْ بَينَ يَديهِ.. فَحَلَّقَ البازُ عالياً في الفَضاءِ.. وَعادَ المأْمون.. فَلَمّا رَجَعَ إِليهِ البازُ.. كانَ يَحْمِلُ إليه بِمِنقارِهِ شَيئاً.. فَأَخْفاهُ المأْمونُ بَينَ يَديهِ وَعادَ لِلاِِمامِ قائِلاً : ـ مَاذا عِنْدَكَ مِنْ أَخبارِ السماءِ.. ؟!
فَأَجابَهُ الاِمامُ عليه السلام : ـ حَدّثَنِي أَبي عَنْ آبائِهِ عَنِ النَبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم عَنْ جبرَئِيلَ عَنْ رَبِّ العالمينَ أَنّهُ قَالَ : بَينَ السماءِ والهَواءِ بَحْرٌ عَجاجٌ.. تَتَلاطَمُ بِهِ الاَمْواجُ فِيهِ حيّاتٌ خُضْرُ البُطونِ.. رُقْطُ الظُهورِ.. تَصيدُها بازاتُ المُلوكِ والخُلفاءِ.. فَيَختَبِرونَ بِها سُلالَةَ أَهلِ بَيتِ النُبُوَّةِ..
تَعَجَّبَ المأْمونُ مِنْ جَوابِ الاِِمامِ الجوادِ عليه السلام فَقالَ لَهُ : ـ أَنْتَ ابنُ الرِضا حَقّاً.. ومِنْ بَيتِ المُصطفى صِدْقاً..
فَابتَسَمْتُ بِوَجْهِ وَلدِي حامدٍ وَأَنا أَقولُ لَهُ : ـ كُنتُ أُفَكِّرُ في أَحداثِ زَمَنٍ بَعيدٍ.. وَكَأَنِّي أَشْهَدُها الآنَ أَمامِي.. يا لَها مِنْ أَحداثٍ يا بُنيَّ حِينَ الْتَقَى المأمونُ
بِشخصِ الاِِمامِ مُحمّدٍ بنِ عليٍّ الجوادِ عليه السلام وَقدْ كانَ عُمْرُ الاِِمامِ الجَوادِ عليه السلام آنَذاكَ ثماني سَنواتٍ..
ـ وأَينَ التَقى المأمونُ بالامامِ الجوادِ عليه السلام يا أَبِي ؟
ـ في بَغْدادَ..
ـ فِي بَغدادَ.. ؟!!
قالَها وَلدِي حامدٌ بِدَهْشَةٍ.. ثُمَّ أَرْدفَ قائِلاً : ـ لكِنَّ الّذي أَعرِفُهُ يا أَبي هُوَ أَنَّ الاِمامَ الجوادُ عليه السلام كانَ يَعِيشُ في المدِينَةِ المنَوَّرَةِ.. لاََِنّها مَدِينَةُ جَدِّهِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم .. .
ـ هذا صَحيحٌ يا بُنيَّ.. وَلكِنْ أَنتَ تَعرِفُ مَوقِفَ الاَُمَويّينَ والعبّاسيّينَ مِنْ آلِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم لِذلِكَ أَرسلَ المأمونُ في جَلْبِ الاِِمامِ الجَوادِ عليه السلام مِنَ المدينةِ إِلى بَغدادَ لِيكُونَ عَلى مَقْرُبةٍ مِنْهُ.. وَلْيَتَهَيَّأَ لَهُ الاِِشرافُ بِواسِطَةِ عُيونِهِ وَرُقبائِهِ عَلى مُجْمَلِ تَحرّكاتِهِ واتِّصالاتِهِ.. وَلمّا وَصلَ الاِمامُ الجوادُ عليه السلام إلى بَغدادَ.. لَمْ يَطْلُبْ المأمونُ لِقاءه في بِدايةِ وُصولِهِ.. وإنَّما تَركَهُ حتّى يَلْتقِي بِهِ ذاتَ يومٍ..
ـ وَماذا كانَ يَهدِفُ المأمونُ مِنْ تَأْخِيرِ لِقائِهِ بِالاِِمامِ الجَوادِ عليه السلام ؟
ـ هُناكَ عِدَّةُ أَسبابٍ يَا وَلدِي ، مِنْها : هُوَ أَنَّ المأمونَ كانَ يَهدِفُ إلى ضَبْطِ تَحرُّكاتِ الاِِمامِ عليه السلام وَلقاءاتِهِ مَعَ الناسِ.. والسَبَبُ الآخَرُ : كانَ يُريدُ الاسْتِخْفافَ بِالاِِمامِ عليه السلام وَتِلكَ هِيَ مَواقفُ الحُكّامِ مِنَ الاََئِمةِ عليهم السلام ..
ـ مَعنى هذا يا أَبي إِنَّ المأمونَ كان يَبْحَثُ عَن طَريقةٍ لِقَتلِ الاِمامِ الجوادِ عليه السلام كَما فَعَلَ مَعَ أَبِيهِ الاِِمام الرِضا عليه السلام ..
ـ هذا صَحيحٌ يا بُنَيَّ.. وَلكِنْ هُناكَ أَسبابٌ كثيرةٌ تَمنَعُ المأمونَ مِنِ اتّخاذِ خطةٍ سَرِيعةٍ بَهذا الصَدَدِ.. مَنها أَوّلاً : هُو اَنّ المأمونَ وَجَدَ نَفْسَهُ فِي مَوقِفٍ صَعْبٍ جداً بَعْدَ قَتْلِهِ لَلاِِمامِ عليٍّ بنِ مُوسى الرِضا عليه السلام وذلِكَ لاََنَّ جَميعَ الناسِ أشارُوا إِليهِ بِأَصابِعِ الاتّهامِ.. وافْتُضِحَ أَمرُهُ.. فَأَرادَ إِظهارَ احْتِرامِهِ.. وَتقدِيرِهِ وَمَحَبَّتِهِ لَلاِِمامِ مُحمّدٍ الجَوادِ عليه السلام فَيكُونُ بِذلِكَ قَدْ قَدَّمَ دَلِيلاً لَرُبَّما يَنْطِلي عَلى الكثيرِينَ مِنَ الناسِ.. وَيُثْبِتُ لَهُمْ إِلى حَدٍّ ما حُسْنَ نَواياهُ تِجاهَ أَئِمَّةِ أَهلِ البَيْتِ عليهم السلام وَالسَبَبُ الآخَرُ : هُوَ أَنَّ المأمونَ أَرادَ استِغلالَ عُمْرِ الاِمامِ محمّدٍ الجوادِ عليه السلام كَونُهُ ما يَزالُ صَبيّاً.. وَقَدْ كانَ يَعتَقِدُ أَنَّهُ لا يَمْلِكُ مِنَ العِلمِ مَا يُؤَهِّلُهُ لِلاِِمامَةِ.. فأَراد المأْمونُ بِذلكَ أَنْ يَضعَ الاِمامَ الجوادَ عليه السلام فِي مُناظَرةٍ يَظُنُّ مِنْ نَتيجَتِها أَنَّهُ يَحُطُّ مِنْ مَكانَتِهِ عليه السلام أَمامَ الناسِ..
فَقالَ حامدٌ بِتَعَجُّبٍ شَدِيدٍ : ـ هذا الحاكِمُ يا أَبي يُفَكِّرُ عَلى نحوٍ يَختلِفُ تَماماً عَمّا كانَ يُفَكِّرُ بِهِ حُكّامُ الاَُمَويّينَ والعبّاسيّين.. فَهُوَ يُظهِرُ لاََِئِمّةِ أَهلِ البَيتِ عليهم السلام حُبّاً
وتَعظيماً ويُخْفي مَكْراً شَديداً.. وكَيْداً عظيماً.. يُريدُ بِذلِكَ انْهِيارَ المذهَبِ الشِيعيِّ بِانْهِيارِ فِكْرةِ الاِِمامَةِ فِيهِ.. وَإِطْفاءِ نِجْمِها المتَأَلِّقِ.. وهذا ما يَسعى إِليهِ المأْمونُ الآنَ مَعَ الاِمامِ محمّدٍ الجوادِ عليه السلام ..
ـ نَعَمْ يا بُنيَّ.. لذلك كان أوّلَ مَا اتَّبَعهُ المأْمونُ في خِطَّتِهِ لاِِِبعادِ كُلِّ شُبْهةٍ عَنْهُ أنّهُ أَمَرَ بِتَزويجِ ابْنَتِهِ أُمُّ الفَضْلِ مِنَ الاِمامِ محمّدٍ الجوادِ عليه السلام فَاعْتَرَضَ المُقرَّبُونَ مِنَ المأمونِ.. واجْتَمَعوا حَولَهُ مَعاتِبينَ : ـ أَتُزَوِّجُ ابْنَتَكَ وَقُرَّةَ عَينَيْكَ صَبيّاً لَمْ يَتَفَقَّهْ في دِينِ اللهِ بَعْدُ.. وَلا يَعرِفُ حَلالَهُ مِنْ حَرامِهِ..؟! اصبِرْ عَليهِ حتّى يقرأَ القُرآنَ.. ويَعرِفَ الحلالَ مِنَ الحرامِ..
فقالَ لَهُمْ المأمونُ : ـ إِنّهُ لاَََفْقَهُ مِنْكُمْ.. وأَعْلَمُ بِأَحْكامِ اللهِ تَعالى وسُنّةِ رَسولِهِ صلى الله عليه وآله وسلم .. وأَقْرأُ لِكتابِ اللهِ مِنْكُمْ.. وأَعْلمُ مِنْكُمْ بِمُحْكَمِهِ ومُتَشابِهِهِ.. وناسِخِهِ ومَنْسُوخِهِ.. وظاهِرِهِ وباطِنِهِ.. وخاصِّهِ وعامِّهِ.. وتَنْزِيلِهِ وتأْوِيلِهِ.. اسألُوهُ فَإنْ كانَ الاَمرُ كَما
وَصَفْتُمْ.. قَبِلْتُ مِنْكُمْ..
فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ.. وبَعثُوا إِلى قاضِي القُضاةِ يَحيى بنِ أَكْثَمَ.. وجَعلوا حاجَتَهُمْ إليهِ فَأَطمَعُوهُ بالهدايا مُقابِلَ أنْ يحتالَ عَلى الاِمامِ محمّدٍ الجوادِ عليه السلام في أَسئلَةٍ لايَدرِي مَا الجوابُ عَليها..
ـ فَما كانَ دورُ الاِمامِ محمّدٍ الجوادِ عليه السلام إِزاءَ هذِهِ الُمحاوَلاتِ يا أَبي.. ؟!
ـ اجْتَمَعَ المأمونُ بالاِمامِ الجوادِ عليه السلام ويَحيى بنِ أَكْثَمَ.. أَمامَ جمعٍ غَفيرٍ مِنَ العبّاسيّينَ وغيرِهِمْ.. فَقالَ المأمونُ مُوَجِّهاً كلامِهِ إلى يَحيى بنِ أَكْثَمَ : ـ سَلْهُ يا يَحيى أَوّلاً عن مَسائِلِ الفَقْهِ..
فَوَجَّهَ يَحيى كلامَهُ إِلى الاِمامِ الجَوادِ عليه السلام سائِلاً إيّاهُ : ـ أَصْلَحَكَ اللهُ ، ما تقولُ فِي مُحْرِمٍ قَتَلَ صَيْداً.. ؟
جميلةٌ وَهُوَ يَقولُ : ـ أَمامَ هذا العِلمِ والنُورِ الاِِلهيِّ لاَِلِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم لا يُمْكِنُ لاََِحدٍ إلاّ اَنْ يَعتَرِفَ بِهِمْ رَغماً عَنْهُ..
ـ نَعمْ يا بُنيَّ.. فَقدْ ذُهِلَ المأمونُ من إِجابَةِ الاِِمامِ الجوادِ عليه السلام وكَذلِكَ ذُهِلَ الحاضِرونَ لاسيّما يحيى بنُ أَكَثَمَ.. فَقَدْ وَجَدَ نَفْسَهُ في أَشَدِّ حالاتِ الرُعْبِ والارْتِباكِ والحِيرَةِ مِنْ أَمْرِهِ.. لا يَعرفُ مَاذا يَفْعَلُ.. فراحَ يَسألُ الاِمامَ الجوادَ عليه السلام أَسئلةً أُخرى لَعَلَّهُ يُفْلِحُ مِنْهُ شيءٍ : ـ مَا تقولُ يا ابنَ رَسولِ اللهِ في هذا الخَبَرِ : رُوِيَ أَنَّه نَزَلَ جبرئِيلُ عليه السلام عَلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فقالَ لَهُ : ـ يا محمّدُ إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يُقْرِئُكَ السلامُ.. ويَقُولُ لَكَ : سَلْ أَبا بَكرٍ هَلْ هُو راضٍ عَنّي ؛ فَإنّي راضٍ
عَنهُ.. فَردَّ عَليهِ الاِمامُ الجوادُ عليه السلام : ـ يَجِبُ عَلى صاحِبِ هذا الخَبرِ اَنْ يَأْخُذَ مِثالَ الخَبَرِ الّذِي قالِهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم في حَجّةِ الوَداعِ : ـ (قَدْ كَثُرتْ علَيَّ الكِذابةُ وَسَتكْثُرُ بَعدي.. فَمَنْ كَذَّبَ عَلَيَّ مُتَعمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النارِ.. فَإذا أَتاكُمْ الحديثُ عَنّي فَاعرِضُوهُ عَلى كتابِ اللهِ فَما وافَقَ كِتابَ اللهِ فَخُذُوا بِهِ وَمَا خالَفَ كتابَ اللهِ فَلا تَأْخُذوا بِهِ).. وَلا يُوافِقُ هذا الخبرُ كِتابَ اللهِ.. فَقَدْ قالَ اللهُ تَعالى : ( ولَقدْ خلقنا الاِنسانَ ونَعلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُه ونَحْنُ أَقربُ إِليه مِنْ حَبلِ الوَريد) (1) فَهَلِ اللهُ تَعالى خَفيَ عَليهِ رِضاءَ أَبي بكرٍ مِنْ سَخَطِهِ.. حتى سأَلَ عن مكنونِ سِرِّهِ.. ؟! هذا مُستَحِيلٌ في العُقولِ..
فقالَ يحيى سائِلاً الاِمامَ عليه السلام مرّةً أُخرى: ـ وَقدْ رُوي أَنَّ مَثَلَ أَبي بكرٍ وعُمرَ فِي الاََرضِ ، كَمَثلِ جبرَئيلَ ومِيكائيلَ في السماءِ .. ؟
____________
(1) ق 50 : 16 .
فَأَجابَهُ الاِمامُ الجوادُ عليه السلام : ـ وهذا أَيضاً يَجِبُ أنْ يُنظَرَ فِيهِ ، لاََنَّ جبرَئيلَ وميكائيلَ مَلَكانِ للهِ مُقرَّبان.. لم يَعصيا اللهَ قَطٌ.. ولَمْ يُفارِقا طاعَتَهُ لَحظةً واحدةً.. وعُمَرُ وأبو بكرٍ قَدْ أَشرَكا باللهِ عَزَّ وجَلَّ ، وإِنْ أَسْلَما بَعدَ الشِرْكِ ، إلاّ أَنَّ اَيّامَهُما كانَتْ أكثرُها شِرْكاً.. فَمِنَ الُمحالِ أَنْ يُشَبَّها بجبرَئيلَ وميكائيلَ.. فَلَمْ يَكْفِ يَحيى بنَ أَكْثَمَ وراحَ يَسأَلُ الاِمامَ عليه السلام سُؤالاً آخَرَ: ـ رُوي أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطّابِ سِراجُ أَهلِ الجَنَّةِ.. ؟
فَردَّ عَليهِ الاِمامُ الجوادُ عليه السلام : ـ وهذا أيضاً مُحالٌ ، لاََِنَّ في الجَنَّةِ ملائِكةُ اللهِ المقَرَّبِينَ ، وآدمُ ، ومحمّدُ عليه السلام وجميعُ الاََنبياءِ والمُرسلينَ ، أفَلا تُضِيءُ الجَنّةُ بِأَنوارِهِمْ.. ؟ حتّى تُضيءَ بِنورِ عُمَرَ.. !!
فعادَ يَحيى إلى السؤالِ مَرّةً أُخرى : وَقدْ رُوِيَ أَنَّ النَبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قالَ : لَو لَمْ أُبْعَثْ لَبُعثَ عُمَرُ..
فَأَجابَهُ الاِمامُ عليه السلام : ـ كتابُ اللهِ أَصدَقُ مِنْ هذا الحديثِ.. إذْ يَقولُ اللهُ تَعالى فِي كتابِهِ : ( وإذْ أَخَذْنا مِنَ النَبِيّينَ مِيثاقَهُمْ ومِنْكَ ومِنْ نُوحٍ )(1) فقدْ أخَذَ اللهُ ميثاقَ النَبيّينَ فكيفَ يُبَدِّلُ ميثاقَهُ.. ؟! وكُلُّ الاَنبياءِ لمْ يُشرِكوا باللهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ.. فكيفَ يَبْعَثُ اللهُ تعالى بالنبوَّةِ مَنْ أشْرَكَ بِهِ ؟! وكانَتْ أكْثَرُ أَيّامِهِ شِرْكاً.. وحَسْبُنا حديثُ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم :« نُبِّئْتُ وآدَمُ بينَ الروحِ والجسدِ».
وَاسْتَمَرَّ يحيى بنُ أَكْثَمَ يَسألُ الاِِمامَ محمّداً الجوادَ عليه السلام .. فَضَحِكَ وَلدِي حامدٌ.. حَتّى دَمِعَتْ عَيناهُ مِنَ الضِحكِ وهو يُرَدِّدُ : ـ عَبَثاً يحاولُ يا أَبي.. وَلَو بقيَ الدَهْرُ كُلُّه عَلى حالِهِ هذا.. فَماذا كانَ سُؤالُهُ بَعدَ ذلِكَ.. ؟
ـ قالَ : رُويَ عَنِ النّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم إنّهُ قَالَ : ما احْتَبَسَ عَنِّي الوحيُ.. إِلاّ ظَنَنْتَهُ قَدْ نَزَلَ على آلِ الخَطّابِ.. ؟
____________
(1) الاحزاب 33 : 7 .
فَرَدَّ الاِمامُ الجوادُ عليه السلام : ـ وهذا مُحالٌ أيضاً.. لاََِنّهُ لا يَجوزُ اَنْ يَشُكُّ النَبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم في نُبُوّتِهِ.. فَقَدْ قالَ اللهُ تَعالى : ( اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الملائِكَةِ رُسُلاً ومِنَ الناسِ) (1).. فَكَيفَ يُمكِنُ اَنْ تَنتَقِلَ النُبُوّةُ مِمَّنِ اصْطَفاهُ اللهُ تَعالى إِلى مَنْ أَشْرَكَ بِهِ ؟ وعادَ يحيى بنُ أَكْثَمَ يَسألُ الاِمامَ عليه السلام مرّةً أُخرى : ـ رُوِي أنّ النَبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قالَ : لَو نَزَلَ العذابُ لَما نَجا مِنْهُ إلاّ عُمَر.. ؟
فَقالَ الاِمامُ الجوادُ عليه السلام : ـ وهذا مُحالٌ أَيضاً.. لاََِنَّ اللهَ تعالى يَقُولُ : (ومَا كانَ اللهُ لِيعَذِّبَهُمْ وأَنْتَ فِيْهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرونَ )(2) فَقدْ أَخبَرَ اللهُ سبحانَهُ أَنَّهُ لا يُعذِّبُ أَحَداً مَادامَ فِيْهِمْ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ومادامُوا يَستَغْفِرونَ..
وهكذا باءَتْ جَميعُ مُحاوَلاتِ يَحيى بنِ أَكْثَمَ بِالفَشَلِ الذَرِيعِ.. فَانْقَطَعَ عَنِ الكَلامِ
____________
(1) الحج 22 : 75 .
(2) الانفال 8 : 33 .
والخيبةُ تَعْصِرُ قَلبَهُ.. وقَدْ تَجَسَّدَتْ أَمامَ المأْمونِ خُطورَةُ الموقِفِ وصَعِقَ لعِظَمِ الهَوْلِ.. وأَدْرَكَ أَنَّهُ لا بُدَّ لَهُ مِنْ مُواجَهَةِ هذا الاََمْرِ بَجديّةٍ أَعْظَمَ.. ومَكْرٍ أَشَدَّ.. إِذا أَرادَ أنْ يَطْمَئِنَّ على مَصِيرِهِ ومُستَقْبَلِهِ في الحُكْمِ.. ومَعَهُ بَنو العبّاسِ.. وهذا ما دَفَعَهُ إلى الاِشادَةِ بِمكانَةِ الاِمامِ عليه السلام وغَزَارةِ عِلْمِهِ.. وكانَ قَد أَعْلَنَ عَقْدَ قِرانِهِ مِنْ ابْنَتِهِ اُمِّ الفَضْلِ فِي ذلِكَ الَمجْلسِ..