الإمام زين العابدين عليه السلام ودعاء مكارم الأخلاق
بتاريخ : 31-08-2009 الساعة : 06:20 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد
السلام عليك يا سيد الساجدين
وبعد: فقد تميزت حياة الأئمة المعصومين عليهم السلام ومعالجتهم لمسألة الإصلاح باختلاف الأدوار ووحدة الهدف المنشود، فكل إمام عالج الوضع الإجتماعي والسياسي بل والإقتصاد وغيره وفق متطلبات العصر والضروف السائدة، وتميّز عصر الإمام زين العابدين عليه السلام بقلة الأنصار وقسوة النظام وشدته وابتعاد الأمة عن أهل بيت العصمة والنبوة ومختلف الملائكة، فكان لا بد للإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام من إيجاد توافق بين أمرين أولهما إصلاح الأمة ومواصلة النهج النبوي والمدرسة العلوية وبين قلة الأعوان والأنصار في الوقت الذي كان فيه سلام الله عليه تحت رقابة مشددة يتعذر عليه إلقاء المحاظرات والمواعظ وفضلاً عن قيادة الأمة، فتوجه عليه السلام الى سلاح الدعاء فقد ورد في الأثر «أن الدعاء سلاح المؤمن» ومن هنا إنطلق الإمام داعي ومصلح على بصيرة من أمره فجذب الأمة الى الحق وأوقد جذوة الإيمان في القلوب، فكثر المشتاقون مقتربين من آل الرسول صلى الله عليه وآله فهم الأدلاء على الله وهم أبوابه سبحانه وبذلك مهد لدور الإمامين الباقرين عليهما السلام في إنشاء الجامعة الإسلامية الكبرى.
ومن نماذج دعاء إمامنا السجاد عليه السلام دعاء مكارم الأخلاق وقد إستفاد المرجع الديني آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله منه مباحث كثيرة وإفاضات جليلة أوردت في كتاب حلية الصالحين وهو عبارة عن محاضرات ألقاها أتحف مستمعيه بلكنات الخفية والمعارف الدقيقة الكامنة في طيّ كلمات أهل البيت عليهم السلام وسنورد شرح للفقرة الأولى من دعاء مكارم الأخلاق كنموذج لكيفية الإستفادة من دعاء أهل البيت عليهم السلام سيما إمامنا السجاد عليه السلام قال الإمام عليه السلام: (اللهم صلِّ على محمد وآله، وبَلِّغ بإيماني أكمل الإيمان، وأجعل يقيني أفضل اليقين، وأنته بنيتي الى أحسن النيات، وبعملي الى أحسن الأعمال، اللهم وفِّر بلطفك نيَّتي وصحِّح بما عندك يقيني، وأستصلِح بقدرتك ما فسد منّي).
الدعاء والإستعانة بالله:
مهما بلغ الإنسان من المراتب العالية ـ سواء الدينية أو الدنيوية ـ فهو بحاجة الى عون الله تعالى وتسديده.
حتى الذين توفرت فيهم ملكة العدالة بأعلى درجاتها وأصدق معانيها، وأجتنبوا في مقام العمل كلَّ المحرّمات وأتو بكل الواجبات، وكان عندهم فوق ذلك ورعٌ كامل، ليسوا بقادرين على النهوض والإرتقاء من دون أن يعينهم الله تعالى على ذلك ويأخذ بأيديهم؛ لأن الشهوات المختلفة من شأنها أن تحول ـ ولو شيئاً ـ دون ذلك إن الإنسان محاط بالشهوات شاء ام أبى والتفت أو تغافل. فقد يتأمل الإنسان فيلتفت الى شهواته، وقد يغفل فلا يلتفت.
إن الله سبحانه وتعالى أودع فينا الشهوات لكي يختبرنا ويميّز الخبيث من الطيّب.
قد ينجح المرء في كبح بعض شهواته، كالمرتاضين الذين يحقّقون ذلك ببعض الممارسات، ولكن ماذا يفعل الإنسان حيال الشهوات التي لا تعد ولا تحصى؟ وإن إستطاع أن يخفف من غلواء بعضها بالترويض والتمرين فإن هذا وحده لا يكون كفيلاً بكبح بعضها الآخر الذي يمكن أن يثقله ويشده الى الأرض؛ وإليك مثالاً واحداً على تنوّع الشهوات وشدة إبتلاء اللإنسان بها:
يقول بعض الفقهاء: إن الرياء قد يكون بترك الرياء!! مثلاً:قد يطيل البعض ركوعه وسجوده ويحسن القراءة ويتظاهر بالخشوع بسبب وجود شخص آخر ملتفت إليه. فهذا هو الرياء المتعارف.
وقد يعمد الى خلاف ذلك ـ إذا علم أن الملتفت إليه إنسان ذكي يعرف من حاله فيما أطال وحسّن من ظاهر صلاته انها ليست صلاته العادية وأنّه يرائي فيها فيأتي بصلاته عادية لكي لا يقول عنه الناظر أنه مراء. وهذا هو المقصود من قولهم إن الرياء قد يكون في ترك الرياء أي في ترك التظاهر بالخشوع وما شابه.
هذا هو الحال في الشهوات فهي تحيط بنا من كل صوب وجانب.
ولعل أكثر الناس يفهمون هذه الأمور جيداً وإن لم يستطيعوا التعبير عنها بشكل جيد.
إن مثلنا في هذا الطريق مثل الإنسان البدين أو الشخص الذي يحمل أثقالاً كثيرة فهو لا يستطيع تسلق الجبال أو القفز والوثوب بسهولة وربما هوى وسط الطريق.
مهما كان الإنسان ذكياً ونشطاً وواعياً لأطرافه وما يحيط به، غير إنه لا يستطيع أن يصنع شيئاً مع ما عليه من ثقل الشهوات ـ وهو ثقل واقعي غالباً ما يحول دون الإنسان ورقيّه ـ ما لم يعنه الله تعالى ويأخذ بيده وهذا بحاجة الى الدعاء؛ قال سبحانه وتعالى: «قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامَاً» الفرقان:77.
والإمام السجاد عليه السلام يرشدنا في هذا الدعاء (دعاء مكارم الأخلاق) ويعلمنا أن نطلب من الله تعالى أن يأخذ بأيدينا ليبلغ بنا أكمل الإيمان.
لزوم العمل الى جنب الدعاء:
قد يجري الإنسان ألفاظ الدعاء على لسانه فقط، فيكون دعاؤه سطحياً. وقد ينطلق الدعاء من أعماقه، وهذا أفضل من الأول بلا شكّ، ولكنه أيضاً لا يكفي، بل لا بد أن يكون الى جانب الدعاء والخشوع سعي من قبل الإنسان نفسه لتحصيل ما يطلب من الله مستفيداً مما أعده الله سبحانه وتعالى للعباد، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر.
الأدب في الدعاء:
ثمَّ أن هاهنا نكته مهمة تتطلب المزيد من الإلتفات، وهي أن يهتمّ الإنسان بجمال العبارة وصياغتها وصبها في وعاء جميل؛ فإن الإمام لم يغفل عن هذا الجانب حتى حين يدعو الله سبحانه وتعالى بل ثمّة نكات لغوية نجدها في كلام الإمام سلام لله عليه ذات آفاق فوق الإدراك المتعارف، لكن نشير الى نكتة واحدة فيها وهي البلاغة والبراعة في إستعمال الألفاظ؛ فالإمام لم يقل مثلاً: «وبلّغ بإيماني أكمل الإيمان وبيقيني الى أكمل اليقين وبنيتي الى أكمل النيات وبعملي الى أكمل الأعمال» بل أبدل الفعل في كل جملة كما أبدل التفضيل فيها، فاستعمل سلام الله عليه من الأفعال: (اجعل، انته)، ومن صيغ التفضيل: (أفضل، وأحسن) ولم يقتصر على «بلّغ» و «أكمل» في باقي الجمل.
صحيح أن هناك واقعية وراء هذه التعابير والألفاظ، ولكن هذا التغيير تجميل للعبارة أيظاً، والجمال في كل أمر محمود، كما وروي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: «إنَّ الله جميل يحب الجمال».
إن الإمام في حالة تضرع ودعاء ومناجاة مع الله تعالى. إنه في حالة سؤال وطلب من الرب الجليل، وليس في مقام الحديث مع الناس، ومع ذلك نراه لم يغفل ذلك الجانب بل أولاه الأهمية أيضاً، فهو يغيّر التعبير ويقلل من التكرار لملاحظة تستوجب ذلك، فلم يكرر مثلاً كلمة «بلغ» أو الكمال بل إستعمل المترادفات مع ملاحظة الفروق الدقيقة بينها؛ الأمر الذي يدل على أن المطلوب من الإنسان الداعي أن يصب دعاءه في قوالب جميلة حين يسأل الله تعالى.
العلاقة بين الإيمان واليقين والنية والعمل:
ثمة نقطة أخرى تجدر الإشارة إليها قبل االتعرض الى جمل هذه الفقرة والترابط فيما بينها وهي أن ليس كل من كان قريباً من النور يمكن أن يستفيد منه، ما لم يكن أهلاً للإستفادة، كما هو الحال في القريب من البحر الفرات فإما أن ينهل من دوره وعطاياه ويرتوي من عذب مائه أو يغرق فيه ويكون من الهالكين.
وهكذا هو الحال فيمن كانوا قريبين من أهل البيت عليهم السلام والذين عاشوا في عصرهم، حيث قُيّض لكثير منهم أن غنم وفاز في الدارين، حتى جاء في بعضهم المدح والدعاء عن المعصوم بينما تاه البعض الآخر في ضلالته وتردّى في غوايته رغم انه كان قريباً من المعصوم أو معاصراً له.
ونحن اليوم عندما نقرأ أدعيتهم عليهم السلام ونستلهم العبر من أقوالهم فهذا يعني إننا قريبون منهم وإن كنا لا نرى أشخاصهم ونعيش في غير عصرهم، أما من لم يطلع على أدعيتهم ولم ينهل من معين علومهم فليس بمستوى أن يوفق الى خير لأنه لم يتعرف عليهم ولم يعرف قدرهم وعظمتهم التي يقصر البيان عن وصفها.
ففي هذه الفقرة من دعاء مكارم الأخلاق وحدها ـ على سبيل المثال لا الحصر يكمن مفتاح كل خير؛ فالإمام يطلب من الله تعالى من الخير أكمله ومن اليقين أفضله ومن النيات والأعمال أحسنها ولاشك أن هذه الصفات صنعت عظماء كأبي ذر وسلمان وحبيب بن مظاهر والشيخ المفيد والسيد بحر العلوم والمقدس الأردبيلي وأمثالهم.
بعد هذه المقدمة نقول:
لعل هذا الترتيب الوارد في هذه الفقرة من دعاء الإمام عليه السلام (الإيمان، اليقين، النية الحسنة ثم العمل الحسن) يبيّن نوعاً من التسبيب الواقعي الخارجي. فبنسبة درجات الإيمان يكون المجال مفتوحاً أمام النسبة المناسبة من اليقين وبنسبة درجات اليقين يكون المجال مفتوحاً أمام النسبة المناسبة من النية الحسنة، وبنسبة درجات النية الحسنة يكون المجال مفتوحاً للنسبة المناسبة من العمل الحسن.
ومن دون إكمال هذه الحلقات الأربع لا يتحقق التكامل. فالإيمان وحده غير كاف بل لا بد له من اليقين، واليقين وحده غير مجد من دون النية الحسنة، والنية الحسنة لا معنى لها إن لم تترجم الى عمل حسن.
فهذه العناصر الأربع تكمل بعضها بعضاً ويدعو بعضها لبعض. فالإيمان يدعوا الى اليقين واليقين يدعو الى النية الحسنة والنية الحسنة تدعو الى العمل الحسن. ولكن حيث أن هناك جواذب ومؤثرات ضخمة وقوية تثقل من حركة الإنسان نحو التكامل وتبطئه، إقتضى الأمر أن يُعمل الإنسان كل قدراته وطاقاته من أجل أن يجمع بين هذه العناصر كلها.
ومن هنا يجب أن نفهم موقف مسلم بن عقيل رضوان الله عليه وعدم إقدامه عندما عرض عليه أن يفتك بابن زياد، مبيناً ذلك بقوله: لحديث حدثنيه الناس عن النبي صلى الله عليه وآله: «الإيمان قيّد الفتك».
وعلى النقيض من ذلك ما حكاه الكتاب العزيز عن بعض الكافرين الذين لم يردعهم يقينهم عن الجحود والإنكار للحق، كما في قوله سبحانه: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ»، وهو ما يعني أن يقين بعض الكافرين في أمر ما قد يفوق يقين بعض المؤمنين ولكنهم يجحدونه فلا يعملون به ومن ثم فلا قيمة ليقينهم هذا.
ولا ينصرف الى ذهن أحد منكم أن اليقين المشار إليه في الآية الكريمة إنّما هو مجاز. بل هي كلمة مستعملة في معناها الحقيقي ولكنه يقين أبتر لا يتبعه نية ولا عمل ولذلك يؤول الى الجحود والكفر.
إنَّ العلاقة بين العناصر الواردة في هذه الفقرة من الدعاء تشبه ما يصطلح عليه أهل العلم بالعلاقة بين أجزاء المركب الإرتباطي أي بعضها مرتبط ببعض فإذا فقد جزء منها فقد الكل وإذا عرض لبعضها العارض فكأنما عرض للكل. فإذا وجدت في النفس نيّة صدَّقتها الجوارح ويكون التصديق هذا متناسباً مع النية قوّة وضعفاً.
ولتقريب المطلوب أذكر هذا المثال:
أتذكّر مولد الكهرباء القديم في مدينة سامراء ـ وفقنا الله جميعاً لزيارة مشاهد الأئمة سلام الله عليهم فيها وفي غيرها ـ وكيف إنها كانت ضعيفة فكان الزوار الذين يفدون الى سامراء لا يشاهدون حتى المنارة أثناء الليل، وكانوا يقولون عن المصابيح التي تعمل على المولدة إنها لا تُري إلا نفسها!!
فكلما كانت المولدة قوية كانت الإضاءة الصادرة منها مثلها، أما إذا كانت ضعيفة فلا يمكن أن نتوقع منها إلا النور الضعيف الذي لا يكاد يبين ما حوله.
وهكذا الحال بالنسبة لإنعكاس الإيمان والحالات النفسية للإنسان على أعماله وتصرفاته.
فذو النفس الكريمة لا تبخل يده ومن كان شجاع النفس لا يصفر وجهه وصاحب اليقين لا تحطم المشكلات أعصابه ومن كانت نيته خالصة لله لا يعير لمدح الناس أو ذمهم أدنى أهمية.
ولئن خفيت عنا بعض الآثار فإنها لا تخفى عن الله تعالى فإنه يعلم ما في نفوسنا، كما يعلم كلٌّ منا ما في نفسه؛ «بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ» القيامة:14و15.