مقدمة التحقيق
الحمد لله حمداً حمده به الأنبياء والأولياء والعباد الصالحون والصلاة والتسليم على أنبياء الله ورسله أجمعين ، بالأخص خاتمهم وأفضلهم محمّد المصطفى وأهل بيته الذين طهّرهم وأذهب عنهم الرجس وجعلهم القدوة للناس إلى يوم الدين .
في طريق تحقيق نهج البلاغة :
إنّ كتاباً ككتاب نهج البلاغة ، الذي جمع بين دفتيه من خطب ومواعظ وحكم ورسائل لسيّد الفصحاء والبلغاء الذي تربّى منذ نعومة أظافره في حجر الرسالة وغذي بلبان النبوّة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( صلوات الله عليه ) الذي اتبع الرسول ( صلى الله عليه وآله ) اتباع الفصيل اثر أمّه وكان منه كالصنو من الصنو والذراع من العضد .
لمن المؤسف عليه أن يقع تصحيحه وضبط نصّه وشرح ألفاظه بأيد غير أمينة على تراثنا الخالد العريق ، أمثال محمّد عبده ومحيي الدين الخياط وصبحي الصالح !!! الذين جعلوا كل اهتمامهم في تحقيقه جهة البلاغة والفصاحة فيه ، غاضّين طرفهم عمّا فيه من مسائل مهمّة ، بالأخص تلك المباني التي تختلف مع مذهبهم اختلافاً جوهرياً ، فحاولوا وبشتّى الطرق تحريفها وتغييرها عن معناها لتتلائم وما يعتقدونه ويذهبون إليه !! .
ومن هذا المنطلق كانت تدور في خلدي فكرة تحقيق نهج البلاغة تحقيقاً يتناسب مع شأنه ، ولكن خطورة الخوض في أعماقه كانت تردّدني كثيراً في الشروع به ، إلى أن رفع تردّدي بعض أصحاب الخبرة ومن عليه المعوّل في هذا المجال وشجعني وبعث اطمئناناً في قلبي ، فعزمت على تحقيقه واضعاً خطّة بدائية لهذا العمل تتكوّن من :
1ـ مقابلة الكتاب على أهم نسخه المعتبرة التي تمتاز بالقدم والقراءة والبلاغ ، وكذا مقابلته على أقدم شروحه المعتبرة .
2ـ تثبيت أهم الاختلافات بين النسخ في الهامش .
3ـ ذكر أسانيد ما ورد في نهج البلاغة من خطب وحكم ورسائل متصلة إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، مع ذكر المصادر المتقدّمة على زمن الشريف الرضي .
4ـ عرض ما جاء في متن الكتاب من خطب ورسائل وحكم وكلمات قصار على المصادر القديمة والإشارة إلى ما وقع من اختلافات بينها .
5ـ ذكر مصادر الروايات الواردة في الكتاب عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبالاعتماد على أهم الكتب عند الفريقين .
6ـ الأبيات الشعرية التي استشهد بها أمير المؤمنين ( صلوات الله عليه ) ، تشرح وتذكر أقدم مصادرها .
7ـ الأمثال والحكم التي استشهد بها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في كلامه ، تشرح ويذكر قائلها .
8ـ أسماء البلدان ، تشرح بالاعتماد على أقدم المصادر .
9ـ أسماء الحيوان والنبات ، تشرح بصورة مختصرة .
10ـ وضع ترجمة للأعلام المذكورين في نهج البلاغة .
11ـ شرح الكلمات اللغوية الصعبة الفهم على عامّة الناس ، بالاعتماد على كتب اللغة وشروح نهج البلاغة القديمة .
12ـ رد الشبهات الواردة حول نهج البلاغة ، كل في محلّه في أثناء الخطب والرسائل والحكم .
13ـ التعريف ببعض المبهمات والإشارات في نهج البلاغة ، كذكر الأسماء التي أشار إليها ( عليه السلام ) في كلامه أو البلدان والوقائع ، أو ما ذكره بالكنية ، كل ذلك وبالاعتماد على شروح نهج البلاغة المعتبرة والمصادر الأُمّ في التاريخ والحديث والرجال و . . .
14ـ ومسائل أخرى كثيرة تستجد أثناء العمل .
وفي أثناء وضعي خطّة العمل وفي بدايات الدخول في هذا المشروع الجبّار ، حصل لي لقاء مع سماحة الشيخ محمّد النقدي حفظه الله ، وأطلعني على عزمه لتجديد طبع نهج البلاغة بصف حروفه وإخراجه بحله قشيبة من الناحية الفنية ، ذلك وبالاعتماد على طبعة صبحي الصالح .
فأخبرته بما في هذه الطبعة من تحريفات وأخطاء كثيرة !
فطلب منّي تصحيح الكتاب وضبط نصّه ورفع ما وقع فيه من تحريف ، من دون إطالة أو تعليق .
فانتهزت الفرصة لكي أقدم عملي هذا بصورة بدائية ، وذلك بمقابلته على أقدم نسختين وضبط نصّه من دون الإشارة إلى الاختلافات .
وكلّي أمل من العلماء وأصحاب النظر في أن يمدّوني بنظراتهم العلمية ، لتطوير العمل ، ورفع جميع الإشكالات عنه ، وإخراجه بصورة يكون مفخرة لمذهبنا وتراثنا الغني الخالد .
صبحي الصالح وعمله في نهج البلاغة :
لم يبتكر صبحي الصالح في تحقيقه لنهج البلاغة شيئاً يذكر ويقدّر ، سوى ما صنعه من فهارس فنّية للكتاب لم يسبقه بها أحد ، وفي الفهرس الأوّل منها الذي خصّصه للألفاظ المشروحة ، يندهش القارئ عند مطابقتها مع ما شرحه محمّد عبده ، فيرى أكثرها أن لم نقل كلّها منقولة نصّاً من شرح محمّد عبده ، نعم محمّد عبده شرح كل عدّة كلمات في هامش واحد وصبحي الصالح أفرد لكل كلمة هامشاً على حدة !! ونوّه صبحي الصالح في مقدّمته إلى هذا المطلب ، واعتذر عن هذا بأنّ محمّد عبده عوّل في شرحه على شرح ابن أبي الحديد وأخذه منه حرفياً ، وهو أيضاً عوّل على شرح ابن أبي الحديد وأخذه منه حرفياً !! .
وأمّا تقويم نص الكتاب فتشاهد صبحي الصالح في مقدّمته ينقد محمّد عبده بعدم اعتماده على مخطوطات نهج البلاغة في التصحيح ، وأنّه اكتفى بنسخة واحدة ، ولم يجشم نفسه عناء البحث عن النسخ المختلفة ومقابلة بعضها ببعض ضبطاً للنص وتصحيحاً للأصل واختياراً للأدق الأكمل وانسجاماً مع أمانة العلم ومنهجية التحقيق .
وبعد كلام صبحي الصالح هذا نوجّه له سؤالاً ونستفهم منه عن النسخ التي اعتمدها وجشم نفسه عناء البحث عنها و ... ؟!!
فلم يذكر لنا وصف نسخة اعتمدها في تحقيقه ، واعتمد في ضبط النص على ما ضبطه محمّد عبده ، حتّى أنّه تابعه في الأقواس والتنصيص وتقطيع النص ، وفي بعض الموارد التي خالف فيها محمّد عبده ، كان الحق مع محمّد عبده ، نعم يحتمل أن يكون قد قابل الكتاب مع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد الذي حقّقه محمّد أبو الفضل إبراهيم .
ولو كان صبحي الصالح اعتمد في تحقيقه على مخطوطات لنهج البلاغة ، لما وقع في اشتباهات كثيرة ستأتي الإشارة إليها .
وأمّا ما كتبه صبحي الصالح في مقدّمته لنهج البلاغة والتي عنونها ( لمحة خاطفة عن سيرة الإمام علي ( عليه السلام ) فتراه يراوغ فيها بين مدح وذم دفين يجعل القارئ مصدقاً بما يقوله ويحرّف ذهنه عن الواقع من دون أن يشعر به .
فمثلاً تراه يمدح أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بأنّه كان : ثاقب الفكر ، راجح العقل ، بصيراً بمرامي الأمور ، له سياسة وحكمة وقيادة رشيدة .
ولكن سرعان ما تراه يعقّب على كلامه هذا ويهدم كل ما بناه ويلقي بسمّه ، وذلك عندما يقول : لكن مثله العليا تحكّمت في حياته ، فحالت دون تقبّله للواقع !! ورضاه بأنصاف الحلول !! بينما تجسّدت تلك الواقعية في خلفه معاوية !! وكانت قبل متجسّدة على سمو ونبل في الخليفة العظيم عمر بن الخطاب !!
الفوارق بين هذه الطبعة وطبعة صبحي الصالح :
تبلغ الفوارق بين هذه الطبعة وطبعة صبحي صالح المئات ، فتجد في كل صفحة فوارق كثيرة ، بل في كل سطر ، وهذا ما يدل على أنّ صبحي الصالح لم يعتمد على أي أصل أو مخطوط ، بل حاول في بعض الموارد تحريف النص عن معناه الأصلي ، ولو أردنا استقصاء جميع الفوارق وبحثها لطال بنا المقام ، فنقتصر هنا على الإشارة إلى بعض الفوارق ونترك الاستقصاء بمطابقة هذه الطبعة مع طبعة صبحي الصالح إلى القارئ الكريم
م\ن
نسالكم الدعاء