في مقتل إبليس .
وهو ما دل عليه بعض الروايات ، منها ما نقلناه فيما سبق.
الأطروحة الأولى : الأطروحة الصريحة (غير الرمزية) لهذا الحادث الطريف.
وتبدأ هذه الأطروحة من زاوية ظهور القرآن الكريم بأن ابليس مخلوق معين ذو شخصية محددة، وهو الذي أصبح منذ عصيانه الأمر الإلهي بالسجود لآدم (ع) مصدر الشر والخطايا لآدم وذريته .وقد دعا إبليس ربه في ذلك الحين أن يرزقه العمر الطويل ليقوم بمهمته خير قيام ...وقد أجابه إلى ذلك .ومن هنا كان أي كفر أو إنحراف أو عصيان في البشرية منسوباً إلى إبليس أو الشيطان.
غير أن إبليس دعا ربه أن يهبه العمر إلى نهاية البشرية (إلى يوم يبعثون) فاستجاب له قسماً من هذا الدعاء ورفض الآخر ، بأن أعطاه قسماً من العمر المطلوب....
" قال إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم "(1)
وهو يوم الظهور وتأسيس الدولة العالمية حيث يقوم الإمام المهدي بقتله ، وتبقى البشرية بدون شيطان، فتكون تربيتها أسهل وتكاملها أسرع ، وربما تكون هذه السرعة أضعاف ما هي عليه في حياة إبليس.
فبينما كان إبليس ، أعني طاعته والإنحراف باتجاهه ، محكاً للتمحيص منذ أول البشرية إلى عهد الظهور، لما عرفناه من وجود اختلافات أساسية في الأسلوب والنتائج بين التخطيط السابق والتخطيط اللاحق على الظهور.
وهذه الأطروحة وكذلك الثانية ، تصدق بغض النظر عن بعض المناقشات الجانبية في مضمون الخبر ، الذي سمعناه بهذ الخصوص ،والذي يطول بنا المقام في سردها.
غير أن أهم مناقشة تواجهها هذه الأطروحة ، بعد التسليم بأن ذاك الخبر وحده غير كاف في الإثبات التاريخي ... هي جهلنا بمقصود القرآن الكريم من (الوقت المعلوم).
فإن القرآن ظاهر فعلاً بأن الوقت المعلوم أقصر مدة وأقرب زماناً من (يوم يبعثون).
إلا أنه لم يحدد هذا الوقت المعلوم ...فلعل المراد به يوم موت إبليس نفسه ، فكأنه قال كإنك من المنظرين إلى حين موتك .ولعل المراد به يوم ظهور المهدي كما هو مبين في هذا الخبر. ولعل المراد به يوم وجود المجتمع المعصوم .كما سنسمع في الأطروحة التالية ، كما لعل المراد الإشارة إلى وجود حادث كوني معين يودي بحياة الشيطان ، أو يجعل حياة الشياطين متعذرة.
وحيث لا معين لأحد هذه الإحتمالات من ظاهر القرآن الكريم ،وهذا الخبر وحده غير كاف للإثبات .إذن فلا يمكن التأكد من صحة الطروحة الأولى.
الأطروحة الثانية : الأطروحة الزمنية وهي ان نفهم من مقتل إبليس مقتله في نفوس البشر ، بحيث أنه مهما كان في ذاته – لايبقى له أي اثر أو وجود عملي على سلوك البشر إطلاقاً ،وذلك حين تجتث الدولة الإسلامية العالمية العادلة، عناصر السوء والفساد من الأرض وتبدلها إلى جو الخير والصلاح ، في نفوس وعقول الأفراد أجمعين فحينئذ لا يبقى لوجود إبليس أية قيمة من الناحية العملية ،وأما بقاؤه حياً في عالمه أوموته هناك، فهذا غير مهم بالنسبة إلينا.
وحيث كان وجود الخير والصلاح في البشرية كلها ناتجاً من جهود الإمام المهدي (ع) وتعايمه وقوانينه ، كان نسبة مقتل إبليس إليه أمراً صحيحاً ،وإنما كان مقتله في مسجد الكوفة على ما نطق به الخبر- لأن هذا المسجد بصفته أحد المراكز المهمة في العاصمة العالمية الكوفة ، سيكون هو منطلق تعاليم المهدي (ع) ونشر هدايته على العالم ، ومن الواضح عندئذ كيف يتأسف الشيطان لذلك ويجزع .كما سمعنا من الخبر – ويكون مقتولا ًفي النفوس بسيف المهدي(ع) وسلاحه المعنوي.
إن هذه الأطروحة تنطلق من آيات القرآن الكريم أيضاً، فإن مجموعة منها صريحة في إن إبليس ليس متسلطاً على كل البشر ولا نافذ الأمر فيهم جميعاً . بل هناك جماعة مؤمنة خارجة عن نطاقه، وإن الإنسان إذا وصل في إيمانه درجة معينة، فإنه يكون في منجاة كاملة من أضاليل إبليس وشبهاته.
قال الله تعالى:
" قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين"(1)
وقال تعالى : " قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين"(2)
وهذا النص ملحق بقوله:
" قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ، قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم "(3)
وقال عز وجل :
"إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين "(4)
وقال عز وجل :
" إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ، إنما سلطانه على الذين يتولونه، والذين هم به مشركون"(5)
إلى غير ذلك من الآيات وهي واضحة في أن مستوى معين من الإيمان يكون دافعاً لسلطان إبليس وإغوائه، باعتراف إبليس نفسه ، كما دلت عليه الآيتان الأوليان ،ويقول الله عز وجل في الآيتين الأخيرتين.
وهذا المستوى من الإيمان يوجده المهدي (ع) في البشرية خلال حياته ،ومن ثم يكون هو القاتل لإبليس مباشرة بسيفه المعنوي .ولا أقل من انه يضع المنهج العام لتربية البشرية على الخط الطويل لكي تصل إلى عصر(المجتمع المعصوم) وعنئذ يكون مقتل إبليس في نفوس البشر أكيداً وواضحاً ،لوجود التنافي الأساسي والأكيد بين العصمة والمعصية.
وسيكون هذا المجتمع آخر نهاية محتملة له ، نعلم من خلاله بموت إبليس أو انفصاله عن البشرية نهائياً . لأنه إما أن يموت يومئذ ، أو يموت في حياة المهدي (ع) فيكون عند حصول المجتمع معصوماً ميت، أو يموت – كما قلنا – بحادث كوني يجعل حياته متعذرة ،وليس ذلك إلى صفة العصمة التي يتحلى بها المجتمع يومئذ ، فإنها تقتله أو تجعله منفصلاً عن البشرية بشكل نهائي ، طبقاً للأطروحة الثانية.
بقيت آية واحدة قد يخطر على البال منافاتها لما قلناه ،وهي قوله تعالى:
" قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي ، لئن أخرتن إلى يوم القيامة ’لأحتنكن ذريته إلا قليلاً "(1)
فقد يبدو أنها دالة على بقاء الشيطان إلى يوم القيامة ،كما أنها دالة على أن اتباع الشيطان هم أغلب البشرية على طول الخط ،وإلى نهايتها ،وهذا ينافي مع وجود المجتمع المعصوم الباقي إلى نهاية البشرية.
والصحيح إنها لا تدل على كلا الأمرين ،وإنما تدل على أمور أخرى نذكر منها:
الأمر الأول: توقع الشيطان البقاء إلى يوم القيامة ،وهو توقع لم يكن يلق قبولاً من قبل الله عز وجل، كماعرفنا في قوله تعالى " إلى يوم الوقت المعلوم " .
الأمر الثاني : أن الشيطان لو بقي إلى نهاية البشرية فإن أتباعه سيكونون هم الأغلب من البشر. وهذا صحيح، إلا أن بقاءه سوف لن يحدث ،وهذه الآية غير دالة عليه ،لأنه يقول : لئن أخرتني إلى يوم القيامة ، لا أنك ستؤخرني فعلاً.
الأمرالثالث: إن الشيطان مادام موجوداً ،فإن أغلب البشر من اتباعه ،وهذا صحيح ، وسيبقى موجوداً إلى" يوم الوقت المعلوم" ،وعندئذ تنتهي حياته فيسود الصلاح والعدل الكامل ربوع البشرية
وهذا يصلح برهاناً على نقطتين ، نضمهما إلى استنتاجاتنا السابقة :
النقطة الأولى : إن الشيطان مادام موجوداً في الواقع، فإنه متسلط على البشرية ،ولا يعقل انفكاكه عن ذلك إلا بموته .وهذا يبرهن على عدم صحة الأطروحة الرمزية .بل يمكن أنما الخلاص منه بقتله الحقيقي فقط .
النقطة الثانية : أن تطبيق العدل الكامل متوقف على قتل الشيطان ، لأنه يتوقف على شيوع الإيمان بين البشر، وهذا لا يكون في حياة إبليس، إذاً فلا بد من قتله من أجل ذلك، فيكون قتله خطوة أولى لصلاح البشرية وتطبيق العدل الكامل فيها، ومن هنا يمكننا أن نفهم من الوقت المعلوم الذي هو نهاية عمر إبليس يوم قتل المهدي (ع) إياه ،فإنه لا بد له أن يقتله من أجل فسح المجال لتطبيق الأطروحة العادلة الكاملة ،وإنجاح تخطيط التكامل في عصر ما بعد الظهور.
ولا ينبغي أن نتحدث عن إبليس أكثر من ذلك.