[مسلم جميل جبر]

اوراق تحترق بحب الولي الطاهر... قصة قصيرةفيالبساتين والحقول والحدائق المزروعة بالأشجار ذوات الثمار الزهرية والأزهار المختلفالأنواع والألوان ، يكثر الفراش و الدبابير . ليس مصادفة ان يجتمع النقيضان ، بل هيالطبيعة هكذا ، حيث تجد الفراش يكثر الدبابير . يعتقد والدي ان الفراش تلك الحشراتالرقيقة الجميلة الشفافة ، أرواح طاهرة متحولة حتى يوم القيامة . أما الدبابير فتلكأرواح شريرة عالقة الى يوم القيامة . يؤمن بذلك جداً ، كنت آخذ أفكار أبي مأخذ جدواصدقها، وكنت من هواة جمع الفراش وتحنيطه حتى اصبح لديَّ مجموعة رائعة منها . عكسذلك تماماً، كنت أشعل النار في مستعمرات الدبابير أينما أجدها ، أطارد بلا رحمة كلدبور يمرق فوق رأسي أو يحوم كألحوامه حول ثمرة أو يقطع الطريق على فراشة أو نحلةعابرة .
لا أنكر أبداً ، أني نلت جراء ذلك الصراع جزائي من اللسعات المستمرةوالمؤلمة . مع الوقت ، فقدت افكار ابي بعض جذوتها ، خاصة ، عندما قام مدرس مادةالاحياء في موضوع الحشرات بشرح كل ما يتعلق بتلك الكائنات الصغيرة . افهمنا انالفراش والدبابير من فصيلة واحدة تدعى الحشرات وعدد انواعا كثيرة واضاف للدرس شرحاًوافياً عن بقية الحشرات النافعة كالنحل والضارة كالصرصار والبعوض .
كان يترددعلى مزرعتنا مجموعة من الاصدقاء للعائلة والاقارب ويطلعوننا على اخر تجارب تربيةالنحل وفائدة الفراش في تكثيره لتلقيح الثمار .كذلك يتردد على المزرعة بعض اصدقاءابي من كبار السن ذوي الخبرة الواسعة في المناحل ولأنني لازلت صغير السن ، اميلدائما الى سماع الحكايات واصغي بلهفة لسماع الشيوخ وهم يتحدثون عن تجاربهم ومعارفهم .
لكن المثير ان احدهم وهو يروي حكاية جد غريبة عن حياة الفراش ، حكاية لا تخلومن الخيال لكنها قابلة للتصديق . قلت من الحكمة ان ارويها للقراء ، عسى ان يكتشفواالحكمة التي اراد العجوز ان يعلمني اياها ، لا اعتقد ان الصدفة لعبت دوراً في صنعهذه الحكمة ، لابد ان العجوز قد سعى وراءها سنين طويلة لذلك تمسّك بها حتى صارتجزءأ منه .
قال بصوت هادئ : لم يخلق الله تعالى الكائنات ألا بحكمة ارادها جلجلاله ، ونحن نتعلم تلك الحكمة ، لنطبقها في حياتنا وننتفع بها . لا أريد ان اجعلكتعتقد ان الفراش له طقوس عبادية لكن افهم الحكاية واستنتج ذلك .
هذه الفراشاتتقوم سنوياُ برحلة من اماكن متفرقة في الارض ، تقطع مسافات طويلة جداً . آلافالاميال باتجاه الغرب . لارض تدعى (ارض كربلاء) ، في بداية كل عام هجري ، بأعدادهائلة - ملايين -مغادرةً الحقول والبساتين والحدائق مخلفة وراءها كل شيء . تطيرليلا ونهاراً ، لاتكل ولاتمل . تتعرض اعداد كبيرة للهلاك بالاضافة لاعداد اخرى تفتكبها الدبابير . تجاهد للوصول الى (ارض كربلاء) في الوقت المحدد ، حيث يقوم اعظمقداس قبيل طلوع الفجر ويستمر الى ضحى اليوم نفسه .
قلت : يهلك الكثير من الفراش . انها رحلة شاقة وتستغرق وقتاً طويلا . كذلك يقطع الطريق صيادوا الفراش بشباكهمالصغيرة اضافة لمستعمرات الدبابير المتخندقة على طول الطريق كالكلاب المسعورة تتنصتملتقطة صوت رفرفة الاجنحة ومنطلقة نحوها باعداد هائلة معترضة اسراب الفراش المستظلبالنخيل واوراق الاشجار .
قال الرجل موضحاً ما التبس علي من الامر: قل الدبابيرمن يقتل الفراش . يستعر أوار معركة شرسة لا تنجلى الا بمقتلة عظيمة من كلا الطرفين، تتكرر المعارك على طول خط الرحلة . حتى تكتسي الطرق والاراضي بجثث الحشراتوبأعداد ملفتة للنظر . ان القوة الدافعة للفراش لقطع تلك المسافات الطويلة هي القوةنفسها التي يصارع بها الفراش فلول الدبابير المتربصة تحت جنح الظلام والاوراقالظليلة والاغصان .
تعرض الفراش للقتل والاذى العظيمين ؛ لا يمنع ملايين الفراشمن الوصول الى نهاية المطاف عند (ارض كربلاء) .
ثم تلفّت الرجل من حوله ، اطالالنظر الى غصن يتدلى فوق راسه تماماً ثم حرك سبابته بموازاة الغصن وعقفه قليلاً مثلكلاب ساحباً الغصن بهدوء الى الاسفل، وقع بصرنا على فراشة ترقص حول الغصن محاذرةالسقوط من هناك ، ارخى اصبعه قليلا تاركا الغصن يعود الى وضعه السابق لتواصلالفراشة التارجح عليه وأجنحتها ترفرف بانتشاء .
صمت قليلا ثم عاد ليكمل الحكاية؛ بعد منتصف الليل تبدأ الحشود بالتحرك متسللة عبر المحيط النوراني : هالة عظيمةمقدسة سرعان ما تغطي الارض كلها ، ينتشر الضوء المنبعث على شكل دائرة حول مرتفعمتواضع من الارض ، كسنابل القمح وبسرعة ملحوظة ثم تنحني نهايات أعمدة الضوء لتتشابكحول المرتفع مكونة قبة عملاقة لا نظير لها . يدخل أرتال الفراش الخافقة باجنحتهاعبر كوات رائعة مؤطرة باللازورد والياقوت واللؤلؤ فرادىً . عرفت فيما بعد ان الفراشيغتسل بالنور داخل القبة النورانية المقدسة ليخرج من الجهة المقابلة منشرحاُ ،مغتبطاً مترعاً بالأمان والسكينة والحبور، تقطر اطرافه واجنحته بدموع لؤلؤية مضيئةيلتقطها الآخرون فرحين يدلكون أطرافهم بالقطرات لتجف مخلفة خطوطاً فسفورية متوهجةتجعل منظر الحشود اكثر من بهي ورائع . أما إذا سقطت الدموع على الارض فانها تزهر فيالحال ازهاراً ذهبية تزيد (ارض كربلاء) رونقاً والقاً وبهاءً . تبقى الارض هكذا حتىالعام القادم . يهيمن على الحشود نوع من روح الألفة والإخاء والسلام كأنها في روضةمن رياض الجنة متلالئة بهالات نورانية عظيمة من كل مكان .
انتهى الرجل منحكايته وانا لازلت محلقاً مع الفراش حول النور المقدس عسى ان اغتسل معهم لاتخلص منالادران وما علق بروحي من آثام وهواجس مريضة ، أو ارتفع مع الفراش لاطوف حول العالمعسى ان اجد بقعة لازالت بكراً كما خلقها الله تعالى لم تدنس بأعمال البشر الشريرة ،نتمتع ببركاتها المخبوءة بعيداً عن يد الجشعين والطامعين لتكون خاتمة أعمالنا وجوازسفر الى العالم الآخر .
5 جمادي الأولى 1423
هذهالقصة كتبت في زمان نسال الله ان لايعود : كان المشايه يقتلون ويعتقلون ويذوقونالوان العذاب لاجل ان يؤدوا واجبهم وتكليفهم بزيارة الاربعين لسيد الشهداء الامامالحسين عليه افضل الصلاة والسلام .
اجد بقعة لازالت بكراً كما خلقها الله تعالىلم تدنس بأعمال البشر الشريرة ، نتمتع ببركاتها المخبوءة بعيداً عن يد الجشعينوالطامعين لتكون خاتمة أعمالنا وجواز سفر الى العالم الآخر
5 جماديالأولى 1423




هذه القصة كتبت في زمان نسال الله ان لايعود : كانالمشايه يقتلون ويعتقلون ويذوقون الوان العذاب لاجل ان يؤدوا واجبهم وتكليفهمبزيارة الاربعين لسيد الشهداء الامام الحسين عليه افضل الصلاة والسلام .