المقدّمة
يعتمد أمر تعليم الصلاة للأطفال والناشئة على جملة من الأسس والمباني لابدّ لمن يتكفّل بأمر التعليم أن يلمّ بها.
وقد حاولنا في هذه المقالة التعرّض لأهم أسس تعليم الصلاة للأطفال والناشئة، وحرصنا على أن تكون هذه الأسس مستقاة من معين القرآن وروايات المعصومين عليهم السّلام وسيرتهم، وأن نشير لنظريات علماء التربية والتعليم في هذا الصدد.
ولا يخفى أن أسس ومباني علم من العلوم هي بمثابة العمود الفقري والهيكل الرئيسيّ الذي يقوم عليه باقي البناء، والذي يلعب دوراً استثنائيّاً في استحكام البناء واستمراره. والحقيقة أنّ جميع النشاطات والأساليب المتّبعة في علمٍ معيّن قائمة على أسس ذلك العلم وأصوله. ونُشير فيما يأتي إلى أهم الأسس التي يقوم عليها تعليم الصلاة للأطفال والناشئة:
1 ـ أساس تطابق المسائل الدينيّة مع الفطرة.
2 ـ أساس كون المسائل الدينيّة اختياريّة لا جبريّة.
3 ـ أساس التدرّج في تعليم المسائل الدينيّة.
4 ـ أساس الاعتدال في تعليم المسائل الدينيّة.
5 ـ أساس التكرار والمداومة في تعليم المسائل الدينيّة.
6 ـ أساس المرونة والليونة في تعليم المسائل الدينيّة.
7 ـ أساس التعاون والانسجام بين البيت والمدرسة والمسجد ووسائل الإعلام وغيرها في تعليم المسائل الدينيّة.
أساس تطابق المسائل الدينيّة مع الفطرة
الحاجة إلى العبادة والدعاء إحدى الحاجات الأساسيّة الضاربة الجذور في أعماق النفس الإنسانيّة، ويتّضح من دراسة التاريخ أنّ أمر العبادة مرتبط بفطرة الإنسان ووجوده، وأنّ الرغبة في العبادة كانت تنحو أحياناً منحىً ايجابيّاً حين تستجيب لتعاليم الأنبياء عليهم السّلام وتتّخذ مسارها الصحيح في عبادة الله عزّوجل، وتنحرف أحياناً أخرى بتأثير من الجهل والعناد، فتنتهي إلى عبادة الأصنام والموجودات المختلفة، أي إلى عبادة ما سوى الله تعالى.
وتبيّن مطالعة تاريخ الأقوام المختلفة على امتداد التاريخ أنّ أحد أقدم تجلّيات الروح البشريّة وأكثر أبعاد الوجود الإنسانيّ أصالةً هي العبادة، فحيثما وُجد البشر وُجد معه الدعاء والعبادة على الرغم من تفاوت صورها وألوانها.
إنّ جميع الأطفال لهم بالفطرة طبيعةُ حبّ الاستطلاع، وهم يحبّون أن يحصلوا على أجوبة عن أسئلتهم واستفساراتهم، كما إنّ لهم ـ بالفطرة ـ نزعة إلى العبادة والدعاء. ونلاحظ أنّ هؤلاء الأطفال ـ على سبيل المثال ـ إذا أحسّوا من الأشخاص الكبار عطفاً وحناناً ومحبّة، فإنّهم ـ على الرغم من عجزهم عن إبداء الشكر والامتنان بصورة واضحة ـ سيُبدون مشاعر شكرهم وامتنانهم عن طريق ابتساماتهم ونظراتهم البريئة المتوهّجة بالسرور والجذل. وتؤيّد التجارب والمشاهدات أنّ الأطفال ذوو قابليّة كبيرة في تعلّم المسائل الدينيّة وتقليد حركات وكلام مَن يَكبرهم في هذا الشأن، قياساً على سائر المظاهر السلوكيّة والموضوعات الأخرى، وهو أمر له دلالة على كَون عبادة الله عزّوجلّ قضيةً فطريّة مركوزة في فطرة الأطفال.
ومن المسلّم ـ وفقاً للنصوص الإسلاميّة الصريحة ـ أنّ الميل إلى العبادة والدعاء وحبّ الكمال ونشدان الحقيقة، هي قضايا فطريّة في وجدان البشر. حتّى أنّ عبادة الأصنام، وعبادة الشمس والقمر، وعبادة البقر وسوى ذلك من ألوان العبادة، على الرغم من كونها مظاهرَ منحرفة للعبادة، إلاّ أنّها ـ في الوقت نفسه ـ تعبّر عن رغبة أفراد البشر في العبادة، ونشدانهم الإلهَ المعبود، والآيات القرآنيّة والروايات تعضد هذه الحقيقة.
يقول الله تبارك وتعالى في قرآنه الكريم: فَأْقِمْ وَجْهَكَ للدِّينِ حَنيفاً فِطرةَ اللهِ التي فَطَر الناسَ عَلَيها لا تبديلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلكَ الدينُ القَيّمُ ولكنّ أكثرَ الناسِ لا يَعلَمون (1).
وإذا ما لوحظ أنّ بعض الأطفال والناشئة لا يبدون رغبة في تعلّم المسائل الدينيّة، فإنّ ذلك يرجع إلى عوامل محيطيّة سبّبت انحراف فطرة الطفل عن مسارها.
ومن المؤسف أنّ بعض الآباء الذين لا يولون المسائل الدينيّة اهتماماً كافياً، وبعضهم الآخر الذين يتعاملون مع أطفالهم بشدّة، وبعضهم الذين يستخدمون أساليب تعليميّة خاطئة بسبب جهلهم بسيرة المعصومين عليهم السّلام، كلّ هؤلاء سيتسبّبون في تربية أولادهم بطريقة تجعلهم ينفرون من المسائل الدينيّة، أو لا يولونها اهتماماً كافياً.
وممّا يُرثى له أنّ بعض الآباء يهتمّون بالأمور الدنيوية، مثل: التغذية، اللباس، مسائل الدراسة، وغير ذلك، اهتماماً كبيراً، ولا يهتمّون هذا الاهتمام بالمسائل الدينيّة. وهؤلاء الآباء هم الذين قال عنهم الصادق المصدَّق صلّى الله عليه وآله: ويلٌ لأولادِ آخرِ الزمانِ من آبائهم!
قيل: يا رسول الله، مِن آبائهم المشركين ؟
قال: آبائِهم المؤمنين، لا يعلّمونهم شيئاً من الفرائض، وإذا تعلّموا ـ يعني أولادهم ـ مَنَعوهم ورَضُوا عنهم بعوضٍ يسيرٍ من الدنيا، فأنا منهم بريء، وهم منّي بُراء(2).
وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ عبادة الله عزّوجلّ أمر فطريّ مجبول في ذات الإنسان، فإنّ على علماء المسلمين ومفكّري التربية والتعليم أن يتصدّوا لتدوين كتب في تعليم الآباء الطرقَ والوسائل الصحيحة لتنمية هذا الإحساس الفطريّ وتوجيهه في مساره الصحيح.
أساس كون المسائل الدينيّة اختياريّة لا جبريّة
إنّ الإنسان موجود متعدّد الأبعاد، ذو فطرة إلهيّة مودَعة، وذو كرامة وجودية، وهو ـ مِن ثَمّ ـ موجود مختار يمكنه أن يحقّق كرامته من خلال كونه مختاراً. وفي الحقيقة أنّ الإنسان من وجهة نظر الإسلام مخلوق ذو نزعات ورغبات وجوانب معنويّة تفتقر إليها الموجودات الأخرى، فهو قادر على مقاومة رغباته الباطنية وإهمال تلك الرغبات والنزعات، كما أنّه قادر على الاستجابة لبعض تلك النوازع وتحجيم بعضها الآخر والسيطرة عليها وتوجيهها في اتّجاه معيّن. وهذه القابليّة التي يختصّ بها الإنسان بحكم إرادته الخاضعة لعقله، هي التي تجعل الإنسان موجوداً حرّاً مُختاراً.
وينبغي في أمر دعوة الأطفال والناشئة للقيام بالواجبات الدينيّة أن يكون على نحوٍ يحسّون فيه بحريّتهم في القيام بتلك الواجبات. وإذا أخذنا نصب أعيننا أن الإنسان يميل بفطرته إلى عبادة الله تبارك وتعالى، فإنّ علينا ـ من خلال الأساليب الصائبة ـ أن نوقظ في نفوس الناشئة هذه الفطرة، ونسوقها باتّجاه قبول أوامر الدين. وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يُوصي أصحابه بالرفق واللين في دعوة الناس إلى الإسلام. وثبت بالتجربة أنّ أحداً لا يمكن سَوقه إلى جادّة الهدى بالقوّة والإكراه. يقول الله عزّوجل في قرآنه الكريم: أفأَنتَ تُكرِهُ الناسَ حتّى يكونوا مُؤمنين (3).
وإذا أنعمنا النظر في قوله تعالى لا إكراه في الدّينِ قد تَبَيَّنَ الرُّشدُ مِن الغَيّ (4)، وفي قوله تعالى فإنّما عليكَ البَلاغُ (5)، فإنّنا سنصل إلى نتيجة مُفادها: أنّ وظيفة النبيّ صلّى الله عليه وآله تنحصر في البيان والتوضيح والإنذار ـ أحراراً والبشارة، وأنْ ليس عليه أن يُكره أحداً على الإسلام، بل يترك الناس ـ بعد دعوتهم وإنذارهم في اختيارهم.
ومن الأفضل أن نحترز عن إجبار الأطفال والصبيان على القيام بواجباتهم الدينيّة، ومن الأفضل ـ كذلك ـ أن لا نرغّبهم في القيام بتلك الواجبات بالتلويح لهم بهدايا كبيرة مُغرية؛ لأنّ هذين السلاحين ـ التهديد والتطميع ـ لن يُثمرا في جعلهم عقائديّين متديّنين، لأنّ الإسلام لا يريد مثل هذا الاعتقاد القائم على أساس الخوف والإكراه، ولا الاعتقاد الناشئ من الطمع في استجلاب منفعة دنيويّة عاجلة.
وحين ينشأ الصبيّ في محيط سالم من الانحرافات، وفي محيط يُقدَّم له فيه الدين على نحوٍ منطقيّ مناسب، فإنّ الدين الذي سيتقبّله بفكره الانتزاعيّ سيكون ديناً متيناً غير وراثيّ وغير مشوب بشوائب الرياء والتصنّع.
ونلاحظ أنّ الإسلام قد أكّد ـ وباستمرار ـ على حقيقة أنّ أصول الدين ليست أمراً تقليديّاً يمكن الإيمان به بتقليد الآخرين، بل هي أمر ينبغي الإيمان به عن وعي وحريّة، ومن هنا ينبغي على الآباء والمعلّمين أن يرغّبوا الأطفال والناشئة في الدين بأساليب إيجابيّة منطقيّة، وأن يستعينوا في هذا المجال المهمّ بذوي الخبرة في الأمور العقائدية والفكريّة، آخذين بنظر الاعتبار أنّ الأطفال عامّة والصبيان خاصّة يُبدون مقاومة تجاه من يتعامل معهم بخشونة، ومن يكتفي بإصدار الأوامر الصارمة.
وقد طرق سَمْعَ بعض العلماء أنّ أحد الأشخاص كان يُكره ابنته الصغيرة على النهوض فجراً لأداء صلاة الصبح، فبعث إليه يقول: لا تجعل الطابع الجميل للإسلام يبدو في نظر طفلتك مُنفِّراً! وقد أثّر هذا الكلام بعُمق في نفس الطفلة، فصارت ـ بعد ذلك ـ توصي أبويها أن يوقظاها عند حلول موعد صلاة الصبح.
وهناك جملة من العوامل المؤثّرة في تقبّل الناشئة للدين والإيمان به عن طواعية، نوجزها فيما يلي:
1 ـ ينبغي أن يكون والدا الطفل بذاتهما مؤمنَين بالتعاليم الدينيّة، عاملَين بها من دون رياء.
2 ـ أن يعمد الأبوان إلى إيجاد رابطة أُنس بين ولدهما وبين المجالس الدينيّة. ويلزم في هذا الصدد أن تكون ذكريات الطفل عن هذه المجالس ذكرياتٍ طيّبة، وعلى الوالدين أن يحترزا عن الإجبار والإكراه. ويمكن لهما ـ على سبيل المثال ـ أن يوقظا الصبيّ أو الصبيّة لصلاة الصبح بملاطفته وإبراز مشاعر الحبّ، بحيث يعوّضان لذّة النوم لدى الصبيّ بلذّة الإحساس بالمحبّة والحنان، فذلك أحرى أن يجعل الصلاة والعبادة مستساغة بل لذيذة لدى الولد.
3 ـ على الوالدين أن يُوليا أمر الصلاة وباقي الأمور العقائديّة اهتماماً كبيراً. ولو عَمِل الوالدان بتوصيات الأئمّة الأطهار عليهم السّلام والتزما بسيرتهم في هذا الصدد، فإنّ ولدهما سينشأ ـ بلا ريب ـ مصلّياً مؤمناً مُلتزماً.
أساس التدرّج في تعليم المسائل الدينيّة
ينبغي على الوالدَين والمعلّمين الذين يقومون بتعليم الناشئة المعارفَ والمسائلَ الدينيّة، التوجّه إلى حقيقة أنّ لهذه المعارف درجاتٍ ومَراتبَ مختلفة باختلاف الأفراد في نموّ قابليّاتهم الذهنيّة والروحيّة، وتفاوتهم في المعلومات والتجارب، وفي الظروف الاجتماعية والثقافيّة. ولذلك ينبغي إلقاء الأفكار والمفاهيم التعليميّة والدينيّة بما يتناسب ومستوى إدراك الطلاّب والناشئة، وبما ينسجم وقواهم الذهنية والروحيّة. وعلى الوالدين أن لا ينتظرا من ولدهما أن يصبح بسرعة من أهل العبادة والصلاة. ويجب أن يكون برنامج تعويد الناشئة على الصلاة مبنيّاً على أساس التدرّج والرِّفق، وأن يَحذَر الوالدان من أن يحسّ الطفل بثقل الواجبات الدينيّة الملقاة على عاتقه، وأن يواظبا على تجنيبه الواجبات الثقيلة التي لا تتناسب مع طاقته؛ لأنّ من الممكن أن يؤدّي ذلك إلى الإضرار بعقائد الطفل.
وقد وردت توصيات كثيرة في الإسلام في أمر التدرّج في تعليم المسائل الدينيّة، فقد أوصى الإمام الصادق عليه السّلام أن الطفل إذا بلغ ثلاث سنين أمَرَه والداه أن يقول يوميّاً سبع مرّات عبارة « لا إله إلاّ الله »، ثمّ يُترك لشأنه حتّى يبلغ عمره ثلاث سنين وسبعة أشهر وعشرين يوماً، فيُعلّم قول « محمّد رسول الله » سبع مرّات يوميّاً، ثمّ يُترك وشأنه حتّى يبلغ أربعة سنين، فإذا بلغها عُلّم قول « صلّى الله عليه وآله » سبع مرّات، ثمّ يُترك لشأنه حتّى يبلغ الخامسة من عمره. فإذا ميّز الطفل بين يُمناه ويُسراه، وُجّه إلى القِبلة وعُلّم السجود. فإذا بلغ السادسة عُلّم الركوع والسجود وباقي أجزاء الصلاة. فإذا أتمّ السابعة قيل له أن يغسل وجهه ويديه ( بعد أن يُعلّم الوضوء تدريجاً ) ثمّ يُؤمر بالصلاة، ثمّ يُترك وشأنه إلى أن يبلغ التاسعة، فإذا بلغ التاسعة عُلّم الوضوء الصحيح وأُمر بالصلاة.
والأمر كذلك بالنسبة إلى الصوم، حيث روى الكلينيّ في كتابه ( الكافي ) عن الإمام الصادق عليه السّلام، قال: إنّا نأمر صبياننا بالصلاة إذا كانوا بني خمس سنين، فمُروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا أبناء سبع سنين. ونحن نأمر صبياننا بالصوم إذا كانوا بني سبع سنين بما أطاقوا من صيام، إن كان إلى نصف النهار أو أكثر من ذلك أو أقلّ، فإذا غلب عليهم العطش والغرث أفطروا، حتّى يتعوّدوا الصوم ويُطيقوه؛ فمُروا صبيانكم إذا كانوا بني تسع سنين بالصوم ما استطاعوا من صيام اليوم، فإذا غلبهم العطش أفطروا (6).
ونلاحظ تاريخيّاً حقيقة أنّ التعاليم الإسلاميّة نزلت بالتدريج، وأنّ القرآن أُنزل تدريجاً، في حين يُشاهد ـ وهذا ممّا يؤسف له ـ أن بعض الآباء والمربّين يحاولون إيصال المتعلّمين إلى الصورة التي يرسمونها في أذهانهم بسرعة ومن دون تريّث ولا تدرّج، مع أنّ المختصّين بأمور التربية والتعليم يؤكّدون على أنّ أيّ رسالة تربويّة إذا ما نُقلت إلى الطفل بسرعة وعجلة ومن دون ترك فرصة للطفل للتلقّي الصحيح، فإنّ الاستجابة لتلك الرسالة التربويّة ستكون ظاهريّة فقط وغير دائمة. ومن هنا كان من الأفضل أن يُترك للطفل فرصة ـ ولو يسيرة ـ لهضم واستيعاب ما تلقّاه، وإلاّ صار ما يتلقّاه سطحيّاً سريع الزوال.
وفي الحقيقة أنّ الانسجام والتعاون المشترك بين قابليّة الطفل المتعلّم من جهة، والإمكانات التربويّة المناسبة من جهة أخرى يتطلّبان سرعة معيّنة يؤدّي زيادتها أو تقليلها إلى اختلال العملية التربويّة، بل إلى اختلال التعادل في شخصيّة المتعلّم.
أساس الاعتدال في تعليم المسائل الدينيّة
الاعتدال هو الحجر الأساس الذي تقوم عليه التعاليم الإسلاميّة، بحيث أكّدت جميع تلك التعاليم على رعاية الاعتدال وعلى اجتناب الإفراط والتفريط.
وأساس الاعتدال من جملة الأسس التي عُني بها القرآن الكريم، حيث يقول الله تبارك وتعالى: وكذلكَ جَعَلناكُم أُمّةً وَسَطاً (7).
ويمكن ملاحظة هذا الأساس في جميع أعمال وسيرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وأئمّة الهدى عليهم السّلام، يقول أمير المؤمنين عليه السّلام في صفة رسول الله صلّى الله عليه وآله: « سِيرتُه القَصْد » (8).
ولمّا كان الإنسان موجوداً ذا أبعاد متعدّدة وجوانب مختلفة، وكان الإسلام ديناً كاملاً يُعنى بجميع أبعاد الإنسان الوجوديّة، فإنّ جميع أبعاد الإنسان ينبغي ملاحظتها ورعايتها وتنميتها بصورة متعادلة ومتكاملة من أجل أن يصل البشر إلى كماله الحقيقيّ؛ وإنّ الاهتمام بأحد أبعاد الإنسان أو ببعض أبعاده الوجوديّة دون البعض الآخر سيجعل منه فرداً شاذّاً غير متوازن، وسيؤدّي إلى القضاء على الشخصيّة الإنسانيّة لذلك الفرد.
إنّ أغلب الانحرافات الفرديّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة والروحيّة التي تعاني منها المجتمعات البشريّة في العصر الحاضر يرجع إلى الإفراط أو التفريط في تنمية الأبعاد الوجوديّة للبشر. يقول النبيّ الكريم صلّى الله عليه وآله: « إنّ هذا الدين متين، فأوغِلُوا فيه بِرِفق، ولا تُكرّهوا عبادةَ الله إلى عِبادِ الله، فتكونوا كالراكب المُنْبَتّ (9) الذي لا سَفراً قَطَع ولا ظَهْراً أبقى » (10).
وكما كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يحذّر أصحابه من الانهماك في المسائل الماديّة والشهوانيّة، فإنّه ـ كذلك ـ كان يحذّرهم من الانهماك في الرهبانيّة والإفراط الزائد في العبادات، وكان ينبّههم إلى حقيقة أنّ لأبدانهم وأزواجهم وأصحابهم عليهم حقّاً، وأنّ عليهم رعاية تلك الحقوق وعدم تضييعها.
من ذلك قوله صلّى الله عليه وآله ـ وقد بَلَغه أنّ عُثمانَ بنَ مَظعون تَرَهّب ولَبِس المُسوحَ واعتزل زوجتَه ـ: ما بالُ أقوامٍ يُحرِّمون على أنفسهم الطيّبات ؟! ألاَ إنّي أنامُ الليلَ وأنكحُ وأُفطِرُ بالنهار، فمن رَغِب عن سُنّتي فليس منّي (11).
ومن ذلك قول أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام لعاصم بن زياد ـ وقد بَلَغه أنّه لبس الخشنَ من أثواب الصوف وتخلّى عن الدنيا ـ: يا عُدَيَّ نفسِه، لقد استهام بك الخبيثُ ( يعني الشيطان )، أمَا رَحِمتَ أهلَك وولدَك ؟! أترى اللهَ أحلّ لك الطيّباتِ وهو يَكرَهُ أن تأخُذَها ؟ أنت أهوَنُ على الله مِن ذلك. قال عاصم: يا أمير المؤمنين، هذا أنتَ في خُشونةِ مَلبسِك وجُشوبة مأكلك!
قال عليه السّلام: وَيْحكَ! إنّي لستُ كأنت. إنّ الله تعالى فرض على أئمّة الحقّ أن يُقدّروا أنفسَهُم بِضَعَفَةِ الناسِ كي لا يَتَبَيّغ (12) بالفقيرِ فَقرُه (13).
وروى الكلينيّ عن الإمام الصادق عليه السّلام، قال: اجتهدتُ في العبادة وأنا شابّ، فقال لي أبي: يا بُنيّ، دون ما أراك تصنع، فإنّ اللهَ عزّوجلّ إذا أحبَّ عبداً رضي عنه باليسير (14).
وروى عن أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السّلام، قال: مرّ بي أبي وأنا بالطواف وأنا حَدَثٌ وقد اجتهدتُ في العبادة، فرآني وأنا أتصابّ عَرَقاً، فقال لي: يا جعفر يا بُنيّ، إنّ الله إذا أحبّ عبداً أدخله الجنّةَ ورضي عنه باليسير (15).
ويُلاحظ ـ مع الأسف ـ أنّ بعض الآباء والمربّين الذين يفتقرون إلى الاطّلاع على سيرة أهل البيت عليهم السّلام ووصاياهم وتعاليمهم في مجال التربية، يرتكبون بعض الأعمال التي تضرّ بعقائد الأطفال والناشئة. ويُشاهَد أنّ الاهتمام الزائد لبعض الآباء في تنشئة أبنائهم نشأة دينيّة من دون رعاية لقابليّات أبنائهم واحتياجاتهم الروحيّة والفكريّة، ومن دون رعاية لحدّ الاعتدال في التربية، يؤدّي إلى عواقب وخيمة، ويكرّه لدى هؤلاء الأبناء واجباتهم الدينيّة.
6 ـ الكافي للكليني 309:3.
7 ـ البقرة:143.
8 ـ بحار الأنوار 379:16 ـ نقلاً عن نهج البلاغة.
9 ـ المنبتّ: الراكب الذي عَطَبت راحلتُه وانقطع به في سفره.
10 ـ الكافي للكلينيّ 86:2 ـ 87.
11 ـ بحار الأنوار للمجلسي 116:67 ـ نقلاً عن تفسير القمّي، ذيل قوله تعالى « يا أيّها الذين آمنوا لا تُحرّموا طيّبات ما أحلّ اللهُ لكم ».
12 ـ يتبيّغ: يثور ويهيج.
13 ـ نهج البلاغة: الخطبة رقم 207؛ بحار الأنوار 118:67.
14 ـ الكافي للكلينيّ 87:2/ ح 5.
15 ـ الكافي 86:2 / ح 4